124

ارخص شپې

أرخص ليالي

ژانرونه

وأحسوا جميعا بريقهم يجف وحلوقهم تطلب الكثير من الدخان. ودارت الجوزة التي لا شيء عليها، وراح الرجال يعتصرون صدورهم ويجذبون الأنفاس، وتزدحم عروق رقابهم النحيلة بما في أجسادهم من دم قليل، وهم يجذبون ويجذبون، والجوزة تكركر وتجأر كعربة نقل ينوء محركها بما فوقها من أحمال، وغامت الجلسة بسحابات الدخان الرمادي الرخيص، وهي تنعقد وتنفض فوق الرءوس.

وقال عوف وكلماته تصنعها دفعات الدخان التي ينفثها: عارفين الحرب قامت ليه يا رجالة؟

وانتبهت العقول كلها، وصمت القليلون المتحدثون، فقد كانوا يتوقعون هذا السؤال أو مثله من زمن، ويأملون وقد طال بهم الانتظار أن يتحفهم عوف بحكاية.

ولم يجب عوف مرة واحدة، إنما بكلماته التي كان ينتقيها بخبرة وروية، ثم يقطعها وينغمها ويمثلها، وبملامح وجهه التي يملك زمامها كلها، ويستطيع أن يقول بها ما شاء دون حاجة إلى كلام، وبحنجرته التي تخرج منها الأصوات لها بحة الناي الحزين الذي يضحك حزنه، بهذا كله بدأ عوف في رواية القصة، فتنحنح ثم قال: إنتو عارفين جدكو عامر يا ولاد؟

وضحكوا قبل أن يقول حرفا آخر؛ إذ ما كادوا يتصورون الجد عامر العجوز الذي ترك وراءه التسعين، وبدأ يتطلع إلى المائة، والذي قضى حياته كلها لا يعرف إلا الزرع والصلاة، والذي كانوا أول الأمر يجعلون من كلامه حكما يرددونها في المناسبات، لا لشيء إلا لأنه عجوز وشعره أبيض كله. ما كادوا يتصورون الجد عامر، وعوف يردد نفس حكمه بنفس كلماته، فيدركون مدى سخفها، وكثرة ما فيها وما في حكم الكبار كلهم من تخريف.

ما كادوا يتصورون هذا حتى ضحكوا وأغرقوا في الضحك، واستمر عوف يقول وهو يغالب ابتسامته: كان مرة جدكو عامر هو وأبوكو اسماعين قاعدين يشمسوا في ضهر الزريبة، وانتو عارفين الاتنين ولله الحمد خبراء من الدرجة الأولى في الفقر وقلة البخت، وبعدين السياسة حزقت أبوكو اسماعين قوي، قام قال: إلا بذمتك يا جد مخيمر، وحياة الله يرحمها دنيا وآخرة جدتي أم عاشة، وحق من أماتها يا شيخ، عارفشي الحرب قامت ليه؟ قام جدكو عامر هرش ضهره في الحيطة وقاله: بقى يا ابن أم خرزة ما نتاش عارف ليه؟

قال له: والله أهو أنا عارف كل زقاق في السياسة إلا المدعوقة دي.

قام جدكو عامر اتنهد، وقالوا إيه: أما عقلك فارغ صحيح، دا يا واد الحكاية بسيطة قوي، الألمان قالوا للإنجليز طياييركو ما تمشيش مع طياييرنا في سكة واحدة، الإنجليز قالوا رأسنا وألف سيف، وهب راحت قايمة.

وما كانت تلك أول مرة يرويها، ومع هذا فقد ضحكوا لها، وأسرفوا في الضحك، فالحكاية من فمه كانت لها لذة، وروايته لها وتمثيله إياها كانت تضفي عليها رونقا جديدا.

وانتهت القصة ولم تنته القهقهات التي انبعثت وراءها، والتي كانت تتصاعد حية مليئة بالحياة والرغبة فيها، تتصاعد من أعماق القرية الراقدة كبقعة سوداء كبيرة من الصمت القتيل.

ناپیژندل شوی مخ