وراحت أفواههم التي عليها بقايا ضحكات وابتسامات ترتشف ما في الأكواب، وأحسوا لأصوات رشفاتهم، وحشرجة شفطهم ترنيمة رائقة تتصاعد في جوف الليل الساكن الساجي، وكان القدح الذي في يد عوف مجمع أنظارهم؛ فقد كان ممسكا إياه بطريقته الرشيقة، ويرتشف منه بفمه الذي ضيقه ودقق من فتحته، بينما لمعت سمرة وجهه بعرق خفيف أشاعه دفء الشاي.
وأخذ واحد منهم رشفة ذات نغم طويل، ثم مصمص حلقه، وقال: إزاي الحال؟
ولم ينتظر ليرد عوف، وإنما مضى يسأله: إزاي الحال دلوقتي؟
سأله وهو يبتسم، وفي تؤدة واتزان قبل عوف باطن يده، ثم قبل ظهرها ونظر إليه بعينيه التائهتين السارحتين، وقد ضيق المثلث الضاحك الذي فيه شاربه، وقال: عال، نحمده، أنضف من الصيني بعد غسيله، والأشيا معدن.
وسخسخ الحاضرون ضاحكين، وتساقط بعض ما في الأكواب على أيديهم فلسعها، وتساقط على أثوابهم فما سألوا فيها، بينما اصطدمت الضحكات الخارجة من أفواههم بالرشفات الداخلة، فاحتقنت الوجوه، وشاعت فيها حمرة غريبة على ما كان فيها من شحوب، ولم يرحمهم عوف، وإنما استطرد: هو طول ما أنت فيها يا أبو وش يملا كنكة إحنا حنشوف طيب؟!
وانهال عليه بلسانه.
وكان المضحوك عليه أول الضاحكين، فما تأثر أو اربد، بل أسعده في الحقيقة أن يتخذه عوف هدفا للذعاته. وما كان أحد يستطيع أن يزعل من عوف أو يتأثر من كلامه، كانوا كلهم قد أجمعوا على حبه رغم أنه كان أفقر رجل في القرية، ورغم أن حياتهم كانت جدباء صعبة لا يستطيع الحب أن يجد له مكانا فيها، ولا يستطيعون العيش إلا إذا كرهوا وحقدوا وتخاطفوا. كانوا ككل من في القرية يودون الحياة، ولا حياة هناك إلا بالصراع، ولا بقاء إلا للأقوى.
وفور فيهم ما احتسوه من قهوة وشاي نشاطا، وتلمظ عوف ووجهه يلمع، وبحث فيهم بعينيه التائهتين، ثم توقفت ابتسامته وقتا غير قليل على واحد منهم، وأشار إليه بطرف ابتسامته، وقد ضيق إحدى عينيه، وقال في أدبه وخجله: إلا معاكشي حتة ألف يا عوبد؟
ولم يملك الرجل يده فامتدت للتو في جيبه، وأخرج علبة صغيرة غمس فيها عود كبريت وقدمه لعوف، وعليه سنة أفيون، وحين كان يرجع العلبة إلى جيبه، وقد عاد ينظر كما كان ينظر إلى الرجال حوله، لمح في عيونهم رغبات، ومرة أخرى لم يستطع أن يملك يده، فاستمر عود الكبريت رائحا غاديا بين العلبة وبين ألسنتهم، وقد أخرجوها من أفواههم ومدوها على قدر ما يستطيعون.
وعلى رشفات الشاي مصمصها عوف والألسن حوله تتحرك في الأفواه المقفلة فتنبعج لحركتها الأشداق. وفي جرعات أخرى من الشاي ابتلعوا ما أذابوه، وبدأ الانسجام.
ناپیژندل شوی مخ