المهم أنه في ليلة كان عليه نوبتجية الاستقبال، وكان لا بد أن يسهر الليلة كلها استعدادا لما تتمخض عنه المدينة من أحداث. وكان لا يمكن أن تمر مناسبة كهذه دون أن يستعد لها، ويبالغ في الاستعداد. ودخن عبد المجيد حتى أصبحت عيونه ليست حمراء تماما، ولا هي بيضاء، إنما لها وردية البين بين. وجلس على مكتبه في حجرة الاستقبال، وبدأت أسراب الموجوعين والممغوصين تفد إليه صارخة.
وفي أعقاب هذه الأسراب جاءته إحدى المعضلات؛ إذ دخل ضابط ومعه اثنان من العساكر يحرسان رجلا قصيرا محنيا ذا خدود غائرة. ووضع الضابط أوراقا كثيرة على مكتب الطبيب، وقص عليه الحكاية بالاختصار، وقال له إنهم هاجموا «غرزة» ففر كل من فيها، واستطاعوا إمساك هذا الرجل، وحين فتشوه عثروا معه على قطعة حشيش، وفيما هم مشغولون بمتابعة الهاربين غافلهم وابتلعها، وإنه حاضر إليه ليعمل للرجل غسيلا للمعدة، ويستخرج ما فيها من حشيش.
وأعجبت المعضلة صاحبنا عبد المجيد، وقد وجد فيها لذة ولحلها جدة تختلف كل الاختلاف عما جرت به الليلة من أولها الطويل.
ونظر إلى الرجل الواقف والحديد في يديه، وسأله بلهجة خبير، وبحنكة ناب أزرق: أنت يا واد بلعتها واللا رميتها.
وأجاب الرجل في ذلة ذليلة، وضعف ضعيف، وبراءة دونها براءة الأطفال: أنا يا بيه؟! بلعت إيه؟! والله معرف حتى شكله والنبي مظلوم! يا ناس مظلوم!
ونظر له عبد المجيد وقد كبر في عينه وابتسم وكأنما يقول له: لا والله جدع يا واد! يحميك!
ولم يكفه التشجيع الصامت، فأصر على أن يفك الحديد من يديه. وبعد مناقشة قصيرة اقتنع الضابط ذو الوجه الأحمر والشارب الأصفر والعيون الزرق.
والمفروض أن الطبيب هو الذي يقوم بعملية غسيل المعدة، ولكنها ليست عملية أو شيئا من هذا القبيل، إنما هي إجراء يستطيع أن يقوم به أي ممرض؛ ولذلك أمر الطبيب عبد السلام أن يعد الغسيل. وذهب الرجل وفي صحبته العسكريان إلى الحجرة الأخرى، وبقي الضابط والطبيب وحدهما في المكتب.
وكان من المستحيل أن يظلا ساكتين، وبدأ الحديث بالفتاة المرسومة على مجلة كانت في يد الطبيب، ثم تشعب الحديث واكتشف الاثنان أنهما كانا ذات عام في مدرسة ثانوية واحدة، وأنهما يموتان في أغاني أم كلثوم، وأن الضابط يسكن في العباسية، ولعبد المجيد شلة أصدقاء فيها، وأن الاثنين لم يأخذا بعد إجازتهما الاعتيادية، فالرؤساء يحتجون بزحمة العمل. وقبل أن تمضي سلسلة الاكتشافات إلى نهايتها، قال الضابط: يا أخي حاجة تعكنن بصحيح! داحنا كنا قاعدين حتة قعدة في روف واحد نعرفه في مصر الجديدة، والليلادي كان لنا صاحب لسه جاي معمر من فلسطين، وحليت القعدة وأم كلثوم كانت بتغني هلت ليالي القمر، ولسه يدوبك بنبتدي، والواحد بدأ يتنعنش ويحس انه صح تمام إلا والمخبر جايني ومعاه أمر التفتيش، أعمل إيه؟ رحت قاطع القعدة وقايم معاه، الله يلعن أبو دي عيشة، بذمتك مش حاجة تعكنن؟!
ووافقه الطبيب أن هذا شيء يعكنن، وافقه وهو ينظر إلى عيني الضابط الجميلتين، وقد غرقت حبتاهما الزرقاوان في بحيرة، ليست حمراء تماما، ولا هي بيضاء، إنما لها وردية البين بين.
ناپیژندل شوی مخ