اربع رسايل
أربع رسائل لقدماء فلاسفة اليونان وابن العبري
ژانرونه
وكثيرا ما يقدر الناس مصيبة الموت ويكرهونه، وأنا أقول إنما يكره المقتضي من لم يعد وفاء الدين، فأما من أعده فهو أشهى
49
إلى مقتضيه من مقتضيه، ولو تدبر الناس أمر الموت لعلموا أنه محمود غير مذموم؛ لأن الموت تمام طبيعتنا ولو لم يكن موت لم يكن إنسان؛ لأن حد الإنسان وصفته هو الحي الناطق الميت، فإن لم يكن بميت فليس إنسان، ومع ذلك فهو البريد إلى دار الآخرة وإن كانوا يكرهون ذلك ومناله في الحقيقة، ولو عقل الإنسان وهو نطفة ممازج للقوة ثم خير نقله من نفس الطبائع الممازجة له لم يكن يختار غير ما هو عليه. ثم إذا سبقت المشية من بارئه والإرادة من خالقه، فنقله إلى أن صار في الأنثيين فلو خير الانتقال لم يختر ذلك. ثم ينتقل إلى الرحم وهو أوسع مجالا من الأنثيين لو خير لاختار الثبات، ثم ينقل كرها بعد كره إلى الأحشاء والمشيمة لتمام الكمال والكون، فلو خير نقله إلى فسحة العالم لكره ذلك (122) ولاختار مقامه، ثم أنه لو سيم الرجوع إلى ما كان يضيق عليه من الرحم من قبل اختياره ما سواه لما كان يؤثر العودة. ثم إذا قصدت الإرادة إزعاجه من جوف أمه ، وخروجه إلى نسيم هذا العالم إنما ذلك على الكره منه، ثم لو قيل له من بعد مشاهدة فسحة العالم «ترجع إلى جوف أمك وما كنت عليه شحيحا لرد
50
ذلك وأباه، فكذلك أقول من نقل إلى عالم البقاء وفسحته، وإن كرهه لكلفة النقلة وقلة المعرفة بما هو إليه صائر من الاغتباط
51
بدوام البقاء الروحاني لو خير من بعد مشاهدته عالم البقاء الرجوع إلى الدنيا، فتكون له بجميعها كان كمن قيل له ترجع إلى جوف أمك من بعد مشاهدته هذا العالم، وليس الموت مكروها لمن قدم وعقل وتبين، إذ نحن في عالم محدود وفلك محصور ودار زوال وسكنى انتقال.
وقد بينا الآن ما هو الهم والغم على جميع ما في هذا العالم غير ثابتين في الحقيقة، وبينا ما يألفه الطبع إلى أن يصير سلما للهم وسببا للغم، وإن كل ما كثر من الناس طالبيه، فغير طالبي حقيقة بل باطل ومحالة، وبينا أن الموت غير مكروه، ورأس السياسة العقلية هو ترك اتباع الشهوات والهوى وقمع النفس عن باطل الأماني، وكاذب المواعيد، ولا بد من قطع المدة وبلوغ الغاية فمن سامح هواه ونفسه ندم، ومن تدبر بتدبير العقل (123) رشد، ومن سمع الوعظ والحكمة ثم لم يعمل بهما كانا شاهدين عليه، وهو محجوج بهما والسلام. (تمت الرسالة والحمد لله جل الحمد.)
وجاء في آخر الرسالة السابقة قول لفيثاغورس نلحقه بها كما في الأصل:
قال فيثاغورس: إذا ألقيت شهوة الاستغناء فقد استغنيت، وما أكثر من ظن أن الفقير هو الذي لا يملك شيئا، وأن الغني الذي يملك الشيء الكثير، وهذا فقر وغنى بالعرض، فأما الفقير الطبيعي فهو الذي شهواته كثيرة، وأما الغني الطبيعي فهو الذي لا يحتاج إلى أحد؛ أعني الذي قد ملك شهوته وضبط نفسه؛ لأنك إذا ملكت شهوتك فذاك هو الغنى الأكبر؛ لأن من ملك شهوته فقد استغنى عن العالم بأسره (تم والحمد لله).
ناپیژندل شوی مخ