آراء نقدية په مشکلاتو کې فکر او کلتور
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
ژانرونه
ذلك لأن العقل البشري لم يكن يستطيع أن يتهيأ لدخول عصر الآلة إلا إذا اقتنع بأن وظيفته ليست هي التحليق في آفاق منفصلة عن عالمه الواقعي، وأيقن بأن مهمته الحقيقية هي كشف أسرار هذا العالم ذاته، ذلك هو الشرط الأول الذي ينبغي أن يفترض مقدما قبل أن يتسنى للبشرية الانتقال إلى عهد الآلية والتصنيع، وقد يبدو هذا الشرط بديهيا بسيطا، ولكن العالم القديم - بكل ما فيه من فلسفات عميقة - لم يستطع أن يحققه، وظل مقتنعا بأن وظيفة العقل هي مفارقة الطبيعة لا التغلغل فيها، ومن هنا لم يظهر كبلر وجاليليو وكبرنك بعد إقليدس وبطليموس مباشرة، بل كان لا بد من مضي ما يقرب من ألفي عام قبل أن تواصل الحركة العلمية مسيرها.
كذلك لم يكن في وسع العقل البشري أن يتقبل فكرة الآلية ويتعمقها لو لم يكن يتخذ من الرياضيات أنموذجا للعلم الدقيق، ويطبق كشوفها في حل مشكلات الطبيعة، ولا يكتفي بأن يجعل منها ترفا عقليا يعينه في سعيه إلى الترفع عن الطبيعة والانفصال عنها؛ فالرياضة علم لا غناء عنه للقيام بتلك الحسابات الدقيقة التي يفترضها كل اختراع آلي، وفضلا عن ذلك فإن تجرد الرياضة وانضباط سيرها بدقة كاملة يعد هو ذاته أنموذجا للانتظام الذي يجب أن تسير عليه الآلة ذاتها.
وأخيرا فلم تكن الآلة لتحتل موقعها في حياة الإنسان لو لم يكن قد تعلم - في فترة انتقال من العصر الإقطاعي إلى العصر التجاري - كيف ينظم حياته تبعا لتوقيت منظم دقيق لا مجال فيه للاختلافات الفردية، ولو لم تكن الكشوف الطبيعية والفلكية والجغرافية والأدوات العلمية الجديدة التي أتاحت هذه الكشوف، قد علمته كيف ينظر إلى المكان المحيط به على أنه امتداد لا نهائي متجانس، تسري عليه نفس القوانين ويخضع كله لمبادئ علمية واحدة.
وعندما أتيح لهذه الشروط الأساسية أن تتحقق، أصبحت الآلية حقيقة ماثلة في الأذهان، وأصبح الفكر الفلسفي - الذي كان يحاربها بلا هوادة في العالم - يعمل من تلقاء ذاته على تقديم المبررات لها وإعطائها المركز الذي تستحقه في مذاهبه النظرية، وهكذا أصبحت فكرة الآلية سائدة حتى قبل أن تظهر الآلات ذاتها في الأفق، وكان من الواضح أن عقل الإنسان يتهيأ لظهور نمط جديد من الحياة، وأسلوب جديد في الإنتاج تقوم فيه الآلة بالدور الأساسي، ولن يتسع المجال هنا للكلام عن كل ما قاله فلاسفة العصر السابق على الثورة الصناعية في موضوع الآلية، بل يكفينا أن نشير إلى المكانة التي احتلها مفهوم الآلة في ذهن واحد أو اثنين من كبار مفكري ذلك العصر، بوصفه أنموذجا للدور الذي أصبحت هذه الفكرة تؤديه في العصر الجديد.
ففي كتابات الفيلسوف الفرنسي الكبير «رينيه ديكارت» تحتل فكرة الآلة مكانة عظيمة الأهمية؛ إذ إن النماذج البسيطة التي شاهدها منها قد أقنعته بإمكانياتها الهائلة، وهو يصف هذه النماذج بقوله: «إننا نرى ساعات ونافورات صناعية وطواحين وما شابهها من الآلات التي صنعها البشر، ومع ذلك فهي لا تعدم القدرة على التحرك بذاتها على شتى الأنحاء.» فإذا كان في وسع الإنسان أن يصنع آلات على هذا القدر من الدقة، أفلا يكون في استطاعة الطبيعة ذاتها أن تصنع آلات أدق؟ أليس من المحتمل أن يكون جسم الحيوان - بل الإنسان ذاته - آلة دقيقة الصنع؟ ألا يجوز أن تكون الطبيعة ذاتها والكون بأسره آلة هائلة عظيمة التعقيد؟ تلك هي الاحتمالات التي بحثتها فلسفة ديكارت بالتفصيل، والتي تعبر عن جو عقلي مغاير تماما للجو الذي ظهرت فيه فلسفة اليونانيين.
وكان الفيلسوف الألماني «ليبنتس» أشد جرأة من ديكارت ذاته في التنبيه إلى مزايا فكرة الآلية في الفلسفة؛ إذ وصل به الأمر إلى حد الكلام عن اختراع «آلة مفكرة»، وكان يعتقد أن التفكير البشري كله يمكن أن يرد إلى مجموعة أفكار أولية بسيطة يمكن تعدادها، وأن هذه الأفكار تكون «أبجدية العقل البشري»، أي إنها أشبه بالحروف التي تتكون بتجمعها كلمات اللغة بأسرها، فإذا أمكن معرفة صفات كل من هذه الأفكار؛ لاستطعنا تصور كل تجمعاتها، والعلم الذي يبحث في هذه التجمعات الممكنة هو الذي يفتح الباب للمعرفة حتى تتسع إلى أبعد الآفاق، وهو الذي يؤدي في النهاية إلى وضع قواعد ثابتة للغة عالمية هي لغة العقل البشري بوجه عام، وقد طبق ليبنتس بدوره فكرة الآلية على تصوره للكائنات الحية وللكون في مجموعه، وكان متحمسا لفكرة الاختراع، وقد أسهم هو ذاته فيها باختراع آلة حاسبة كان يفخر بها كل الفخر.
ولسنا نود أن نعدد الأمثلة؛ إذ إن الاتجاه واضح لا شك فيه، وهو يدل دلالة واضحة قاطعة على أن الفلسفة في بداية العصر الحديث قد تلاءمت مع الأوضاع الاجتماعية الجديدة، وأصبحت متمشية مع الظروف المختلفة التي أخذت تلوح في أفق حياة الإنسان الحديث، وعلى الرغم من أن كثيرا من المشكلات التي عالجتها هذه الفلسفة تبدو مجرد امتداد لطريقة التفكير السائدة في العصور القديمة والوسطى، فمن المؤكد أن تغييرا أساسيا قد طرأ على الأذهان، وأن الحياة الجديدة لم تعد تحتمل الفصل بين مجال الفكر ومجال العمل، أو بين العقل والواقع الطبيعي، وأن زوال الحواجز الاجتماعية بالتدريج قد أدى إلى زوال الفروق بين الميدان النظري والميدان العملي، والقضاء على أرستقراطية العقل وتجرده وترفعه عن مشكلات العالم الطبيعي. وفي ظل هذه الفلسفة التي تؤمن بأن العلم ينبغي أن ينفع الحياة، وبأن غاية المعرفة هي السيطرة على الطبيعة؛ أصبح الجو العقلي في بداية العصر الحديث مهيئا لظهور الآلة وبداية المرحلة الصناعية في التاريخ.
بين الفكر والآلة (3)
العمل ومشكلاته الإنسانية
1
ناپیژندل شوی مخ