آراء نقدية په مشکلاتو کې فکر او کلتور
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
ژانرونه
فالتجربة الجمالية إذن ليست فردية، ولا تتعلق بما يروقني «أنا» وحدي، ولكن هل هي تتعلق بما يروق جماعة معينة من الناس؟ وهل يكفي لتجاوز الفردية أن نتتبع أذواق الناس الفعلية لنستخلص منها الحكم الصحيح على كل فن؟ ربما رأى البعض أن في هذا كفاية، غير أن «كانت» يؤكد أن الحكم الجمالي يتصف بنوع من الضرورة التي تجعله أكثر من مجرد تلخيص لأذواق الناس الفعلية؛ فنحن حين نحكم على عمل أو شيء بأنه جميل، لا نعني فقط أن مجموع الناس يرونه جميلا، وإنما نعني أن كل من يتأمل هذا الموضوع في نفس الظروف التي نتأمله فيها لا بد أن يراه جميلا، وإذن فالرأي التجريبي - الذي يرتكز على وقائع علم النفس، والذي يكتفي بتسجيل الطريقة التي يحكم بها الناس بالفعل على الأعمال الفنية - ليس كافيا؛ لأنه يغفل عنصر الوجوب والضرورة والشمول في الحكم الجمالي، ويكتفي بإيضاح أصل هذا الحكم في الحياة النفسية للناس فحسب، أما «كانت» فيريد أن يبني الحكم الذوقي على أساس أمتن، هو أساس عقلي ثابت، يتجاوز نطاق الاتفاق المشاهد بين الناس على أحكام معينة إزاء موضوعات جمالية خاصة، وينتقل من مجال الواقع إلى مجال الضرورة والوجوب.
ومن الطبيعي أن يصطدم رأي «كانت» هذا بالرأي الشائع القائل إن الحكم الجمالي فردي وذاتي، أي إن التجربة الجمالية هي تجربتي «أنا»، وليس لها معنى إلا بالنسبة إلى المجرب ذاته فحسب، وهنا نجد أن «كانت» يعترف بعنصر الذاتية في التجربة الجمالية؛ لأن إدراك الجمال «شعور» قبل كل شيء، ونحن في حالة الإحساس بالجمال لا ندرك صفة من الصفات الموجودة في الشيء ذاته، وإنما ندرك قبل كل شيء شعورا ذاتيا بعثه فينا حضور هذا الموضوع أمامنا. ومبعث الإحساس بالجمال هو ذلك الانسجام الذي تشعر به قوانا وملكاتنا الإدراكية عندما نمارسها في حضور موضوعات معينة، ومع ذلك فإن للحكم الجمالي - رغم صفة الذاتية هذه - نوعا من الموضوعية؛ فليس الإحساس بالجمال مشابها لإحساساتنا في حالة الحلم أو التخيل الصرف، وإنما يتمثل كل حكم جمالي نصدره في صورة حكم صحيح يسري على أي شخص آخر يواجه نفس الموضوع في نفس الظروف، صحيح أن هذا الحكم يبدأ بالفرد دائما، ويتعلق بموضوع محدد، ولكن هذا الموضوع ذاته يفرض على ذهني إحساسا غير شخصي، وبالتالي فإنه يفرض مثل هذا الإحساس على أي شخص آخر في موقفي، ومن هنا كان المرء حين يصدر حكما جماليا، يطالب الآخرين ضمنيا بأن يصدروا على الشيء نفسه حكما مماثلا، فإذا سئل عن السبب الذي يحتم على الآخرين الاتفاق معه في حكمه هذا، عجز عن تحديد هذا السبب بدقة، وربما كانت رغبة «كانت» في تقديم تعليل لهذا الاتفاق الموضوعي بين المشاعر الجمالية الذاتية، هي التي دفعته إلى أن يرى في جمال الصورة
Forme
المظهر الأساسي للجمال في كل موضوع؛ ذلك لأن جمال الصورة أو التصميم أو الشكل هو أمر يدركه الناس بطريقة واحدة، على حين أن إدراكاتهم للصفات الأخرى - كاللون أو الصوت - تختلف إلى حد ما حسب ذاتية الأفراد، ومن هنا كان حرص «كانت» على تجريد هذه الصفات الأخرى واستبقاء تناسق الصورة بوصفه العنصر الرئيسي في كل ما هو جميل.
وربما كانت أهم صفة تميزت بها طريقة «كانت» في بحث موضوع الجمال، هي أنه جعل منه وسيلة للتوسط أو التوفيق بين متناقضات أو متقابلات مختلفة تمر بها التجربة البشرية؛ فمن السهل أن نستخلص من العرض السابق أن الحكم الجمالي يحتل موقعا وسطا بين الإدراك الحسي الخالص من جهة، وبين التفكير المجرد من جهة أخرى، فصفة الشمول فيه تميزه عن مجرد الإدراك الحسي، ولكن كونه في أساسه شعورا يجعله مميزا عن الحكم العلمي؛ إذ إن هذا الأخير لا يعتمد على الشعور، وإنما يرتبط بصفات ثابتة في الموضوعات ذاتها، مجردة عن مشاعرنا الذاتية نحوها.
على أن هذه القدرة التي يستطيع بها الفن أن يوفق بين الإحساس وبين التفكير المجرد، ليست في الواقع إلا مظهرا لقدرة أعم على التوفيق بين مجالين أشمل من هذين بكثير، هما مجالا الطبيعة والحرية، وقد فرق «كانت» بين هذين المجالين تفرقة قاطعة في كتابيه: نقد العقل الخالص، ونقد العقل العملي؛ فعالم الطبيعة هو العالم الذي يخضع للضرورة والحتمية وللتسلسل الدقيق بين الأسباب والنتائج، وهو العالم الذي تتناوله العلوم الطبيعية بشتى فروعها، أما عالم الحرية فهو العالم الأخلاقي للإنسان؛ ذلك لأن الإنسان - من حيث هو كائن أخلاقي - لا بد أن يكون حرا في سلوكه، وأن يتخلص من التسلسل الدقيق للعلية الطبيعية، ويكون مشرعا لنفسه، وإلا لما كان لأداء الواجب وللمسئولية عنده معنى. وقد لاحظ «كانت» نفسه ما بين هذين العالمين من تعارض قاطع، وترك للفن مهمة إزالة هذا التعارض؛ فالحكم الجمالي هو نقطة التقاء عالم الطبيعة بعالم الحرية؛ لأن الموضوعات التي تثير هذا الحكم مستمدة من عالم الطبيعة أو مرتبطة به ارتباطا أساسيا، ولكننا نضفي على هذه الموضوعات - بما لدينا من فاعلية حرة - صورة وشكلا ملائما، وننسب إليها في حكمنا الجمالي غرضية وغائية ترضي أذواقنا، وبهذا يجمع الحكم الجمالي بين عالمي الطبيعة والحرية، مثلما رأيناه يجمع من قبل بين المحسوس والمعقول.
وفي وسعنا أن نستخلص من العرض السابق صفة أخرى يوفق فيها الجمال بين مجالين: مجال اللذة الحسية ومجال الخير الأخلاقي؛ فاللذة الجمالية ليست منبعثة من غرض محدد أو موضوع معين نجد رضاءنا في الحصول عليه؛ ذلك لأن هذا النوع المحدود من اللذة مرتبط برغبات وحاجات خاصة، وهو لا يعدو أن يكون جزءا من سلسلة العلل والمعلولات الطبيعية؛ فلذة الأكل نتيجة مباشرة للشعور بالجوع، وهي ترتبط به ارتباطا ضروريا، ومن هنا لم تكن لذة حرة، وإنما كانت لذة مقيدة بغرض معين أو مصلحة معينة، وهي تكتسب بالحصول على موضوعها وامتلاكه. أما اللذة الحرة - المنزهة عن مثل هذه الأغراض، كما هي الحال في اللذة الجمالية - فيكفي فيها أن يتأمل المرء موضوعها عن بعد دون أن يسعى إلى امتلاكه، صحيح أن كثيرا من محبي الفنون يشعرون بالرغبة في تملك الصور الجميلة التي يشاهدونها في أي معرض يزورونه مثلا، غير أن هذا الشعور - في ذاته - ليس لذة جمالية، وإنما هو شيء آخر أضيف إليها، أما اللذة الجمالية بمعناها الصحيح فهي تلك التي يحسون بها لحظة الاستمتاع بالصورة دون أن تشوب هذا الإحساس أية رغبة في التملك، وإلى هذا الحد نرى اللذة الجمالية تتشابه مع الاتجاه إلى الخير الأخلاقي، ولكنها تعود فتتميز عنه بطابعها الذاتي الذي يجعلها - كما قلنا - مجرد شعور موجود في النفس الإنسانية فحسب، وفضلا عن ذلك فإنها - رغم كونها بلا غرض معين - ترتبط بفكرة الغرضية بوجه عام، فتتميز بذلك عن الأخلاق التي هي - في نظر «كانت» - «أمر مطلق».
وهذه الصفة الأخيرة - أعني تلك التي يطلق عليها «كانت» اسم «الغرضية بلا غرض» - من الصفات المحيرة للحكم الجمالي عند «كانت»؛ فاللذة الجمالية - كما قلنا - لا تستهدف إرضاء ميل معين، ولا ترتبط برغبة خاصة للجسم أو للنفس، ولا تسعى إلى تحقيق أية مصلحة، ولا تنبعث عن ضغط أي دافع شخصي، ولكنها رغم ذلك ليست تجربة خلت من كل شعور أو انفعال، وإنما يظهر هذا الشعور والانفعال نتيجة لها، دون أن يكون هو سبب وجودها، فهي منزهة بمعنى أنها لا تنبعث عن اهتمام خاص بموضوعها، ولكنها غرضية لأنها تخلق هذا الاهتمام بالموضوع الجمالي بعد تأمله، ومن الممكن تفسير هذه الصفة - أعني الغرضية بلا غرض - بطريقة أخرى؛ فصحيح أن الإحساس بالجمال لا يرتبط بغرض معين، ولكنه يبعث إحساسا عاما بالتناسق والانسجام، وهذا الإحساس هو بدوره نوع من الغرضية، ولكنه ليس غرضية جزئية، أي لا يرتبط بغاية محددة؛ فشعورنا بالتناسق عند رؤية زهرة مثلا، يجعلنا نعتقد بأن صورتها نسقت تبعا لغاية، وإن لم يكن في وسعنا أن نحدد ما هي هذه الغاية، أو نعين الغرض الخاص الذي يمكن استخدامها لأجله، وإذا كنا نسلم بأن التجربة الجمالية نوع من اللذة، وبأن من طبيعة اللذة أن ترتبط بفكرة الغاية أو الغرض، فينبغي أن نذكر أن قوام اللذة الجمالية في التفاعل المنسجم بين ملكات الإدراك لدى الإنسان على نحو ينبغي أن يشترك فيه الجميع، ولا ينفرد فيه شخص بعينه، وهكذا فإن الجمال - من جهة - لا غرض له؛ لأن إعجابنا بعمارة مبنى أثري لا يرتبط برغبتنا في سكناه، أي في اتخاذه أداة لإشباع رغبات ذاتية خاصة، ولكن يبدو من جهة أخرى أنه يخدم غرضا عاما ملائما لنا؛ إذ إن صورته تغرينا بإطالة تأمله، أي إنه يلائم حاجات ملكة النظر لدينا على نحو غامض يصعب علينا فهمه.
ولكن هل يعني ذلك أن الجمال يقتصر على الموضوعات التي لا يكون لنا في استخدامها غرض محدد؟ لا شك أن هذا ليس هو المعنى الذي قصد إليه «كانت»؛ فكلامه عن التنزه كان منصبا على الذات التي تقدر الجمال، والتي ينبغي أن تحكم على الجمال حكما يستقل عن المنفعة الممكنة للموضوع، وليس معنى ذلك أن الموضوع النافع لا يتصف بالجمال لكونه نافعا، وإنما المهم في الأمر أن يكون تقديرنا له راجعا إلى عنصر الجمال فيه قبل عنصر المنفعة، وعلى هذا الأساس نجد أن «كانت» يفرق بين نوعين من الجمال: الجمال الحر أو الخالص كجمال الأزهار والزخارف والنقوش والقواقع، وهو جمال الصورة أو التصميم، والجمال المعتمد أو المتوقف على شيء آخر - كجمال المباني - الذي يمتزج فيه الإحساس بجمال الصورة بإدراك الفائدة العملية للموضوع، ويدرج «كانت» الجمال البشري ضمن الفئة الثانية؛ فجمال المرأة مثلا لا يرجع إلى إدراك التناسق في خطوطها فحسب، وإنما يضيف «كانت» إلى ذلك عنصرا آخر، هو إدراك ملاءمة النموذج الموجود أمامنا لوظيفة المرأة ولما تريده الطبيعة من المرأة أن تكون؛ ففي المجال البشري إذن يتحقق المثل الأعلى للكائن البشري كما ينبغي أن يكون، ومن الواضح أن فكرة المثل الأعلى هذه تجعل هذا النوع من الجمال ممتزجا بعنصر أخلاقي، مع أن «كانت» قد حرص دائما على أن يفصل بين الجمال وبين الخير الأخلاقي، وعلى أن يجعل التجربة الجمالية مستقلة تماما عن اعتبارات الخير والشر.
وفي نظرية «كانت» الجمالية عنصر آخر ينبغي الإشارة إليه نظرا إلى ما كان له من أهمية في الفلسفات الجمالية التي ظهرت في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، هو الازدواج بين فكرة الجمال وفكرة الجلال. ولكي نتصور المقصود من الجلال، علينا أن نحلل شعورنا إزاء بناء كالهرم الأكبر مثلا (ومن الجدير بالذكر أن «كانت» نفسه قد تحدث عن الأهرامات في شرحه لما يقصده من فكرة الجلال)؛ فحين نتأمل بناء شامخا كهذا قد نشعر بادئ الأمر بنوع من الانقباض إزاء ضخامته وضآلتنا نحن بالقياس إليه، وعجزنا عن الإحاطة بجميع أطرافه في نظرة واحدة، ولكن سرعان ما يستعيد ذهننا قواه، ويزداد تماسكا عما كان عليه من قبل، ويؤدي تأملنا له إلى نوع من التعبئة الروحية للنفس، نزداد فيها إعجابا بالقيمة الباطنة للذات الإنسانية التي تتميز بجدارة أخلاقية تعلو بها على كل ما في الطبيعة من موجودات، وتفيض النفس شعورا بكرامة الإنسان الذي يستطيع أن يجد معاني ترضيه وتبعث فيه الإعجاب، حتى في موضوع خليق بأن يشعره بضآلة وقلة شأنه، ولو نظرنا إلى الهرم الأكبر نظرة جمالية مجردة، لما وجدنا في هذه الكتلة الضخمة من الحجارة أي جمال ذاتي، بل إنها لتبدو لنا أقرب كثيرا إلى القبح، ولكنها مع ذلك تثير فينا أحاسيس تنتمي قطعا إلى المجال الجمالي أو الفني على الأصح، ومثل هذا يقال عن البحر المترامي الأطراف، الذي يؤدي تأمله إلى نفس التعبئة الروحية للنفس، مع أن الموضوع ذاته لا يعدو أن يكون كتلة ضخمة لا نهاية لها من الماء، وسواء أكان مصدر الإعجاب هو الحجم الهائل للموضوع - أعني تضاؤلنا بالقياس إليه من حيث المقدار - كما هي الحال في بناء كالهرم، أم كان شعورنا بأن للموضوع قوة طاغية لا تقاس بمقاييس القوة لدى البشر، مثل قوة المياه المندفعة من شلال جبار، فإننا في الحالين نكون إزاء موضوع يتصف بالجلال، هو في كل الأحوال غير جميل في ذاته، ولكنه يثير فينا أحاسيس روحية تنتمي إلى صميم التجربة الجمالية، وكما ينبغي أن يكون إدراكنا للجمال منزها عن الغرض والرغبة، فكذلك ينبغي أن يكون إدراكنا للجلال غير مقترن بأي نوع من الرهبة أو الخوف الذي تثيره القوة الطاغية أو الحجم الهائل للموضوع الجليل.
ناپیژندل شوی مخ