آراء نقدية په مشکلاتو کې فکر او کلتور
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
ژانرونه
النظريات اليونانية في فلسفة الفن1
كان الشعب اليوناني فنانا بطبيعته؛ إذ إنه - بالإضافة إلى ما خلفه للعالم من روائع الآثار الفنية في ميادين النحت والتصوير والعمارة والشعر والمسرح - قد نظر إلى الحياة، في جميع مظاهرها، نظرة يمكن أن يقال إنها فنية في أساسها؛ فالدين اليوناني لم يكن فكرة أو عقيدة فحسب، بل كان في الوقت ذاته طقوسا وشعائر تسهم في أدائها أنواع عديدة من الفنون، ولم يكن من الممكن فصل أي من هذين الوجهين عن الآخر أو إيجاد أي نوع من التمييز بينهما، والآلهة اليونانيون لم يكونوا قوى خفية تتحكم في مسار العالم دون أن نعلم عنها شيئا، وإنما كانوا شخصيات فنية في دراما هائلة، هي دراما الخلق والصيرورة الكونية ومصير العالم، كذلك لم تكن الأخلاق اليونانية أخلاقا مجردة، بل كانت فكرة الجمال وفكرة الانسجام تلعب فيها دورا أساسيا، أما التربية فلم تكن أبدا تحصيلا أو تكديسا للعلم، بقدر ما كانت تحقيق التوازن الكامل بين الجسم والروح، وتنظيم ملكات الإنسان على نحو يسوده أكمل قدر من التوافق.
غير أن الشعب اليوناني لم يتميز بالفن فحسب، بل تميز أيضا بالفلسفة، أي إنه لم يكن يكتفي بالخلق والإبداع، بل كان يبذل جهدا كبيرا في تحليل هذا الخلق والإبداع والتفكير فيه بوعي دقيق، ومن هنا فكما ترك لنا اليونانيون مجموعة من أروع الآثار الفنية، فكذلك تركوا أولى النظريات التي احتفظ بها تاريخ البشر في مجال الفن؛ ولذا كان معظم الباحثين في علم الجمال يبدءون دراستهم بالنظريات الجمالية اليونانية، بوصفها أول محاولة للتفكير الواعي في الأسس الجمالية للخلق الفني، ولعل النظريات الجمالية الكبرى - التي سنوردها في هذا المقال لأشهر الفلاسفة اليونانيين - كفيلة بأن توضح مدى عمق التفكير الجمالي اليوناني على المستوى النظري، مثلما توضح آثارهم الفنية مدى عمق تجربتهم الجمالية على المستوى العملي.
النظرية الأخلاقية عند أفلاطون
من الممكن القول إن آراء أفلاطون في الفن تكون أول نظرية جمالية عامة محددة المعالم ظهرت في تاريخ الفلسفة، صحيح أن الإنتاج الفني قديم قدم البشرية ذاتها، ولكن التفكير الواعي في معنى الفن وقيمته، وتحديد العناصر التي تجعل العمل الفني جميلا، كل هذه أمور كان لا بد من أن يمر وقت طويل قبل أن تصاغ في صورة نظرية واضحة المعالم.
ولكي نتبين طبيعة الجو الذي صاغ فيه أفلاطون نظرياته الجمالية، ينبغي أن نبدأ بكلمة عن العلاقة بين فن كالشعر وبين الفلسفة في العصر الذي تقدم فيه أفلاطون بآرائه، وبذلك يتسنى لنا أن نضع آراء أفلاطون في سياقها التاريخي الصحيح؛ فقد نشأ التفكير في علم الجمال - عند اليونانيين - في جو من التنافس والصراع بين الشعر والفلسفة، واضطر الفلاسفة - إخلاصا منهم للحقيقة - إلى الحملة على الشعراء الذين كانوا ينافسونهم في ادعاء الحكمة والمعرفة، ولم يكن أفلاطون في الواقع أول فيلسوف يوناني يحمل على الشعراء ويندد بادعاءاتهم، بل سبقه إلى ذلك فلاسفة آخرون اتفقوا جميعا على أن الشعراء يقدمون إلى الناس صورة مزيفة عن العالم وعن الإنسان الآلهة، والواقع أن فنا كالشعر لم يكن يؤدي في حياة اليونانيين دورا سطحيا على الإطلاق، ولم يكن تأثيره فيهم يقتصر على ما يبعثه في نفوسهم من المتعة الجمالية، وإنما كان له في حياتهم دور أساسي؛ فملاحم هوميروس كانت بالنسبة إلى العصر اليوناني أشبه بالإنجيل بالنسبة إلى العصر المسيحي فيما بعد، وكانت الأساطير التي هي المادة الخام لهذه الملاحم تقوم بمهمة تعليم الذهن الشعبي وتشكيله في آن واحد، ولم يكن اليوناني العادي ينظر إلى هذه الملاحم على أنها مجرد قصص مثير يروى بطريقة إيقاعية، ويكون عالما خياليا مصطنعا، وإنما كان يعدها حجة في الشئون المتعلقة بالحرب والسياسة والعلاقات الاجتماعية والدين والحياة الأخرى، ومن المعروف أنه لم تكن لدى اليونانيين القدماء كتب دينية مقدسة أو هيئة دينية تضع الدين في صيغ ثابتة يتقيد بها الناس، ومن هنا كانوا يرجعون إلى الشعراء ليسترشدوا بهم في الشئون المتعلقة بالسلوك في الحياة. ولما كانت الفلسفة قد ظهرت بين اليونانيين لتطالب لنفسها بنفس هذه الوظيفة - أعني وظيفة تقديم تفسير للعالم وتوجيه الإنسان أخلاقيا في سلوكه - فقد كان من الطبيعي أن يحدث الصدام بين الفلاسفة وبين الشعراء، ونظرا إلى أن الشعر يرتبط ارتباطا وثيقا بالموسيقى، ولا سيما عند اليونانيين الذين كانت أشعارهم تلقى بطريقة غنائية إيقاعية، كما يرتبط أيضا بفنون أخرى كالفن المسرحي، فقد كان من الطبيعي أيضا أن يؤدي هذا الصدام إلى صراع له طابع أشمل بين الفلسفة وبين الفن بوجه عام.
هذا التمهيد - كما قلنا - ضروري لكي ندرك طبيعة الجو الفكري الذي ظهرت فيه نظرية أفلاطون الجمالية؛ فعلى أي نحو إذن كان أفلاطون يفهم الفن في معناه العام؟ يعني أفلاطون بالفن أولا ما اكتسبه الإنسان من مهارات أساسية تؤدي إلى الوفاء بحاجاته الأولية التي لا تستطيع الطبيعة تلبيتها؛ فالفن هو ما يضيفه الإنسان بذهنه إلى الطبيعة، ويمارس فيه مهاراته التي يكتسبها بعد خبرة طويلة، على أن الفن سرعان ما ينتقل عنده إلى معنى آخر أعمق، يصبح فيه عملية واعية يمارسها الإنسان وفي ذهنه غاية يحددها مقدما، فهو يقتضي معرفة دقيقة، ويسير تبعا لغاية معينة، وبعبارة أخرى فلكل فن خير يؤمل منه، وهدف يسعى إلى تحقيقه، وهكذا يرتبط البحث في الفن بالمعاني الأخلاقية منذ بداية الأمر.
ولقد كان من الطبيعي أن تتركز أول نظرية في علم الجمال على فكرة التقليد أو المحاكاة، فحتى يومنا هذا نجد كثيرا من العقول الساذجة تنظر إلى الفن على أنه محاولة لمحاكاة الطبيعة، وتلك هي النظرة السائدة عن طبيعة الفن عند أفلاطون؛ فالفنان - في رأيه - قادر على محاكاة كل شيء، وكما يقول هذا الفيلسوف في إحدى فقرات محاورة «الجمهورية»: «إن الفنان يستطيع أن يصنع النباتات والحيوانات، ويصنع ذاته وكل الأشياء الأخرى، من أرض وسماء، وما يعلو في السماء ويكمن في باطن الأرض، بل يستطيع أن يصنع الآلهة أيضا؛ ألست ترى أن هناك وسيلة تستطيع أن تفعل بها أنت نفسك ذلك؟ ... إن كل ما عليك أن تظل تدير مرآة حولك، وسرعان ما تجد نفسك قد صنعت الشمس والأرض وذاتك في المرآة وحدها.» وهكذا يشبه أفلاطون عمل الرسام بهذه العملية التي يدير فيها الإنسان مرآة من حوله ليصنع منها مظاهر وخيالات للأشياء، فإذا رسم الفنان كرسيا، فلهذا الكرسي مرتبة ثالثة من حيث الوجود؛ فهناك أولا فكرة الكرسي كما توجد في الذهن الإلهي، وهناك ثانيا الكرسي الفعلي الذي يصنعه النجار، وثالثا مظهر الكرسي أو صورته كما يرسمها الفنان، وعلى ذلك يكون العمل الفني في المرتبة الثالثة من مراتب الوجود؛ لأنه لا يتناول الأفكار الثابتة للأشياء، أو المثل كما يسميها أفلاطون، ولا يتناول الأشياء الجزئية التي نراها في العالم الواقعي، وإنما يتناول مظاهر لهذه الأشياء الجزئية فحسب، وهكذا يرتبط رأي أفلاطون في الفن بنظريته الفلسفية المعروفة باسم نظرية المثل، التي ترتب فيها الموجودات ترتيبا تنازليا، يبدأ بتلك الأفكار الثابتة المسماة بالمثل، وينتقل إلى الأفراد الجزئية الهائلة العدد، والتي تشارك كل مجموعة منها في مثال واحد، وينتهي إلى ظلال الأشياء أو مظاهرها كما يصورها الشعراء والفنانون. فالفن إذن محاكاة، وهو ليس محاكاة للموجودات في أعلى مراتبها - أعني للمثل - وإنما هو محاكاة للأشياء الجزئية الفردية الزائلة، ومن هنا كان يحتل أدنى مرتبة من مراتب الوجود، وإذا كان من الشائع اليوم وصف الفنان بأنه خالق، فإن أفلاطون لم يكن ليقبل وصفا كهذا على الإطلاق؛ ذلك لأن الفنان في نظره مقلد فحسب، وهو يأتي في المرتبة الثالثة بعد الخالق الحقيقي، وهو الخير الكوني أو مثال المثل، وبعد الصانع الذي يصنع أشياء جزئية ملموسة يحاكي بها المثل ويقلد عالم الأفكار الثابتة.
وعلى أساس فكرة المحاكاة هذه تتخذ نظرية أفلاطون في الفن طابعا أخلاقيا واضحا؛ ذلك لأن الفن يتصف بنفس صفات الأشياء التي يحاكيها، فينبغي إذن أن يخضع لنفس القيود التي يخضع لها الناس هذه الأشياء في حياتهم الفعلية، فإذا كنا في هذه الحياة مثلا نحرم السرقة ونعدها جريمة في حق المجتمع، فمن واجبنا أيضا أن نحرم الشعر الذي يتحدث عن السرقة ويجعلها تبدو أمرا محببا إلى نفوس الناس. وربما قيل إن تأثير التقليد أضعف من تأثير الأصل، ولكن الواقع أن المحاكاة الفنية أشد إثارة للنفوس؛ لأن الفنان مبالغ بطبيعته، ولأن الفن أقرب صلة إلى الانفعال، وإذن فمن الواجب إخضاع الفن لقيود تشريعية صارمة بحيث نطبق على الأفعال التي يدعو إليها الفنان نفس الأحكام التي نطبقها على نظائرها التي تحدث في الحياة الواقعية.
كذلك نصل إلى هذه النتيجة ذاتها إذا تأملنا الأثر الداخلي الذي يتركه الفن في النفوس؛ فالفن يبعث فينا نوعا من اللذة، ويرتبط بانفعالاتنا أوثق الارتباط، وله فينا تأثير أشبه بالسحر الخلاب، وهذا التأثير وحده كاف للحملة عليه في نظر أفلاطون؛ إذ إن التأثر بهذا السحر هو ذاته ابتعاد عن الحقيقة، وانخداع بوهم باطل، والفن - بما يبعثه في الإنسان من لذة - يتقاذف النفس البشرية وكأنها ألعوبة في يده، فتراه يعلو بها أحيانا إلى قمة السرور، وينزل بها أحيانا أخرى إلى حضيض الحزن والألم، ويظل الإنسان نهبا لهذه الانفعالات، يمتلئ بها ويفرغ منها كأنه وعاء خاو. فالفن إذن يبعث في النفس البشرية حالة من عدم الاستقرار نتوهم خطأ أنها متعة، وفي هذا يجد أفلاطون سببا آخر للحملة عليه؛ ففي هذه اللذة التي يبعثها فينا خطورة؛ لأنها تؤثر حتما في واجباتنا الاجتماعية. ويرى أفلاطون أن هذه الصفة واضحة في الموسيقى بقدر ما هي واضحة في الشعر، ومن الطبيعي أن الموسيقى في نظر أفلاطون تعجز عن محاكاة الموضوعات الخارجية محاكاة مباشرة، وإنما هي تحاكي - أو على الأصح تصور - أحوالا للنفس البشرية، ومن هنا يصبح المعيار الذي يحكم به أفلاطون على الموسيقى هو نوع الحالة النفسية أو الخلق الذي تثيره الموسيقى في نفس الإنسان. •••
ناپیژندل شوی مخ