آراء نقدية په مشکلاتو کې فکر او کلتور
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
ژانرونه
فما هي إذن عناصر هذه القضية؟ وما موقف طرفيها من كل هذه العناصر؟ لا شك أن الإجابة المفصلة عن هذا السؤال تقتضي عرضا شاملا لتيارات الفكر المعاصر؛ إذ إن هذه التيارات كلها قد تأثرت - بطريق مباشر أو غير مباشر - بالتقابل بين اليمين واليسار، ولكن هذا المقال لن يتسع بطبيعة الحال إلا لعرض موجز لأهم العناصر التي يظهر من خلالها التقابل بين اليمين واليسار في الفكر الفلسفي بأكبر قدر من الوضوح، ولا بد لنا أن ننبه - منذ البداية - إلى أنه ليس من الضروري أن تتوافر هذه العناصر كلها في فلسفة معينة لكي توصف بأنها يمينية مثلا، بل يكفي أن يتوافر منها البعض لكي ينطبق عليها هذا الوصف. (1)
أول هذه العناصر يمثل نتيجة مباشرة تترتب على ارتباط الفلسفة اليسارية بفكرة الثورة وتغيير الأوضاع.
فلكي يتغير أي وضع - سواء أكان سياسيا أم اجتماعيا أم اقتصاديا - فلا بد أن تكون جميع عناصر هذا الوضع مفهومة ومعقولة، ولا بد أن تكون قابلة للبحث والتحليل، وبعبارة أخرى فإن الثورة والتغيير تغدو مستحيلة لو ظل هناك أي عنصر غامض أو غير قابل بطبيعته للفهم، ومن هنا كانت الفلسفات ذات الاتجاه اليساري تميل إلى تأكيد فكرة المعقولية، وتحرص على تأكيد سيطرة الذهن على الطبيعة، وتنظر إلى العالم بكل مجالاته على أنه يخضع - أو يمكن نظريا أن يخضع - لقوانين منتظمة يستطيع العقل البشري أن يكشفها.
هذا الحرص على المعقولية هو الذي أدى بالفلسفة اليسارية إلى أن تتخذ في كثير من الأحيان موقفا ماديا؛ ذلك لأن الدفاع عن المادية كان طوال تاريخ الفلسفة مرتبطا بالرغبة في تأكيد قدرة العقل على فهم العالم، وعدم وجود أي مجال يعلو بطبيعته على سلطة الذهن البشري.
ولسنا نود أن نبحث الآن في مدى صواب هذه الفكرة أو خطئها، ولكن ما يعنينا هنا هو أن تاريخ الفلسفة كان يشهد - من آن لآخر - مذاهب يؤكد أصحابها أن العقل لا يكون مطلق السلطة في العالم إلا في ظل فهم مادي للظواهر، وأن النظرة المثالية إلى الأمور كفيلة بأن تحجب مجالات كثيرة عن سيطرة العقل، وتحد من قدرته على فهم العالم.
وهنا تظهر لنا صفة هامة من صفات التقابل بين المثالية والمادية، وهو التقابل الذي يعبر في كثير من الأحيان عن موقف اليمين واليسار في الفلسفة؛ فهذا التقابل لا يرجع إلى أسباب فلسفية خالصة بقدر ما يرجع إلى أسباب عملية، وإذا كان اليساريون في الفلسفة يحملون على المثالية، فليس ذلك راجعا إلى أنها لا تقنعهم بوصفها مذهبا فلسفيا، بقدر ما هو راجع إلى أنها في نظرهم طريقة في تفسير العالم تترك جوانب كثيرة منه بمنأى عن قدرة الإنسان في تغيير الأحداث والتحكم في مجراها؛ فحين يكون العالم «فكرة»، وحين يكون الجانب المادي من حياة الإنسان ضئيل الأهمية بالقياس إلى جوانبها الروحية، يكون معنى ذلك - في نظر أنصار الفكر اليساري - أن الفلسفة ستهمل شأن العوامل العينية الملموسة في حياة المجتمع، ولا سيما الاقتصادية منها، وحين يسود الاعتقاد بأن تجربة العقل البشري قاصرة محدودة، وبأن هناك قوى حدسية أو صوفية أقدر من العقل على إدراك «ماهية العالم»، يكون معنى ذلك - من الوجهة العملية - تقييد إرادة التغيير في الإنسان، والحد من قدرته على التحكم في مجرى الحوادث، وبعبارة أخرى فليس اليساريون - في نقدهم للاتجاهات المثالية والصوفية والحدسية - بأقل حرصا على الجوانب «الروحية» في حياة الإنسان من اليمينيين، وكل ما في الأمر أنهم يحرصون على أن تكون لهم فلسفة تقدم للعالم أوضح الصور وأكثرها معقولية، وبالتالي تتيح أكبر مجال لفاعلية الإنسان وقدرته على التغيير. (2)
ومن أهم الصفات المميزة للفلسفات التي يمكن أن يطلق عليها اسم «اليمينية»، أنها تبحث في مشكلات لا تتقيد بزمان معين أو مكان معين؛ فموضوعات بحثها «أزلية»، ومعيار الصدق عندها هو الثبات والعلو على عوامل التغير.
ومن جهة أخرى فإن الفلسفة اليسارية تؤكد فكرة التغير والحركة، وتحرص على ربط كل ظاهرة بسياق زماني أو مكاني محدد، ولا شك أن التضاد بين هذين الاتجاهين الفلسفيين - في هذا الصدد - واضح كل الوضوح؛ إذ إن هناك تيارا فلسفيا كاملا ما زال متأثرا - ولو بطريق غير مباشر - بالتراث الأفلاطوني الذي ينظر إلى الحركة على أنها نقص، ويعد التغير مظهرا من مظاهر البطلان، وفي مقابل ذلك نجد أن هناك فلسفات كاملة - في الجانب اليساري - تركز جهودها في بحث قوانين حركة التاريخ وتطوره، أي إن غايتها هي دراسة قوانين نفس الظاهرة التي تعدها الفلسفة التقليدية تعبيرا عن النقص أو البطلان.
ومن المؤكد أن لفكرة الأزلية إغراء خاصا للفيلسوف، الذي يعتقد أن من أعظم مظاهر الحكمة أن يبحث العقل مشكلات لها صفة الدوام والبقاء لا مشكلات متغيرة، ويظن أن ما يستحق التفكير فيه بحق هو الأمور التي تفرض نفسها على كل عقل بشري أيا كان مكانه أو زمانه؛ ففكرة أزلية المشكلات الفلسفية وثباتها هي إذن فكرة ترضي إلى أبعد حد كبرياء الفيلسوف وتقنعه بخطورة رسالته في الحياة، ومع ذلك فإن تلك الفئة الأخرى من المفكرين الذين يدرجون ضمن أصحاب الفلسفات اليسارية، ينظرون إلى هذا الأمر من زاوية أخرى؛ ففكرة الأزلية لم تقحم في مجال الفلسفة - في رأيهم - لأغراض نظرية بحتة، وإنما كان الغرض من إقحامها عمليا في نهاية الأمر؛ إذ إن تأكيد الأزلية يعني تثبيت القيم الموجودة بالادعاء بأنها جزء من النظام الثابت للكون، وبذلك تكون مهمة الفلسفة اليمينية - دون أن تشعر - هي أن تبرر المظالم الموجودة وتقطع على الناس طريق التفكير في تغييرها. (3)
على أنه إذا كانت المشكلات الفلسفية أزلية ثابتة بطبيعتها، فإن حلولها - في نظر الفلسفات اليمينية - كثيرة متعددة؛ فالمشكلة واحدة على مر العصور، ولكن كل مذهب وكل فيلسوف يأتي لهذه المشكلة الواحدة بحل مختلف، ومن هنا كان تعدد المذاهب وكثرتها أمرا طبيعيا في الفلسفة التقليدية، بل لقد أصبح هذا التعدد أمرا مسلما به، يقبل دون مناقشة، كما لو كان جزءا من ماهية الفلسفة ذاتها؛ فالفلسفة - تبعا لهذه النظرة التقليدية - مبحث يظل يعالج نفس المشكلات - أو مشكلات متقاربة - إلى ما لا نهاية، وهي بطبيعتها مبحث لا يتوقف عند حد، ولا يصل إلى حلول، وإنما هو سعي متواصل وراء غاية لا تبلغ، وربما كان في نظر البعض سعيا بلا غاية، ومن هنا كانت الفلسفة التقليدية - أعني الفلسفة التي توصف بأنها «يمينية» - تتبدى على صورة زاخرة ثرية إلى أبعد حدود الثراء؛ ففيها مئات المذاهب والتيارات الرئيسية والفرعية، وهي لا تكف أبدا عن التنوع والتشعب، بحيث تبدو دائمة التجدد، وتظهر لها على الدوام صورة مغايرة لصورها المألوفة.
ناپیژندل شوی مخ