بين اليوم الحاضر والأمس الدابر روابط وصلات وثيقة العرى موصولة النسب؛ لذلك ينبغي لنا في نهضتنا الحاضرة أن نتئد الخطى وأن ننعم النظر والاعتبار الفينة إثر الفينة في ذلك الإرث الرائع الجليل، فلا نتقدم خطوة حتى نأخذ لها أهبتها ونعد لها عدتها، نستضيء بأشعة الماضي لنهتدي في الحاضر إلى سواء السبيل.
من أجل هذا وضع هذا الكتاب، وهو يضم بين دفتيه سلسلة من المحاضرات التي نظمها قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وتكرم بإلقائها نخبة ممتازة من أعلام النهضة الفكرية.
وهي تنقسم في مجموعها إلى قسمين: أولهما أثر الثقافة الغربية في العربية وأثر الثقافة العربية في الغربية، وقد ألقى الأستاذ محمد كرد علي منها ست محاضرات، وألقى الأستاذ علي مصطفى مشرفة محاضرة واحدة، أما القسم الثاني، فيشمل أثر الفكر الحر المستقل منوها بقادة الفكر في القرن الثامن عشر في فرنسا كفولتير وروسو ورينان وتين. وقد ألقى حضرة صاحب العزة الدكتور طه بك حسين خمس محاضرات فيها، وليس من شك في أن الثقافة العربية قد تأثرت إلى حد كبير بهذه الثقافة الغربية سواء أكان ذلك في القانون، أم في الفن، أم في التربية، أم في الاقتصاد.
هذا موضوع هذا الكتاب، وقد تركنا لحضرات المحاضرين، وهم من الأعلام البارزين، مطلق الحرية للتعبير عن آرائهم ومراجعة التجارب المطبعية أثناء طبع الكتاب، وإليهم وحدهم ترجع التبعة والمسئولية.
ويغتبط قسم الخدمة العامة بأن يقدم هذه البحوث القيمة في كتاب واحد يجمع بين أثر الحضارة والثقافة في الحركة الفكرية، وهو يسدي جزيل شكره وعاطر ثنائه لحضرات من ساهموا في إعداد هذا الكتاب.
حضرة الأستاذ محمد كرد علي، وقد بحث الموضوعات الستة التالية.
أثر المدنية العربية القديمة في ثقافة مصر الحديثة
يتقاضانا النظر في انبعاث الثقافة العربية في مصر قديما أن نقف بالجملة على روح الفاتح العربي، وعلى حالة البلاد التي افتتحها، وعلى سياسة الفتح التي أدت إلى سرعة انتشار تلك الثقافة، والواقع أن العرب لم يفتحوا قطرا من الأقطار على صورة سهلة كما فتحوا مصر؛ فلم يتكبدوا في استصفائها من المال والرجال إلا ما لا بد منه في حصر بعض المواقع الحربية، وتجلت في هذه الحملة، وكان التيسير مؤاتيا لها من كل وجه.
روية عمر بن الخطاب الخليفة المنقطع القرين بعدله وبعد نظره؛ وبديهة عمرو بن العاص القائد الذي يحارب بدهائه أكثر مما يحارب بجيشه، ومن الذين تولوا معاونته من رجال الصحابة في الفتح وبعد الفتح، زمرة كان الواحد منهم مقام الألف بصفاته السامية، ومنهم الزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبادة بن الصامت، وخارجة بن حذافة، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، ومعاوية بن حديج، وقيس بن أبي العاص، وعبد الله بن سعد، وعقبة بن نافع، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، والمقداد بن الأسود، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، وأبو الدرداء عويمر بن عامر، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة وأمثالهم، ومنهم من تولوا بعد فتح إفريقية وجزائر البحر الرومي وقضوا على أسطول الروم عقبى وقعة الصواري، ومن هؤلاء الصحابة من كان هبط مصر لغرض التجارة في الجاهلية، واتجر فيها القائد الأول عمرو بن العاص بالأدم والطيب فتعرف مداخلها ومخارجها، وكان يعرف أن «أهل مصر مجاهيد قد حمل عليهم فوق طاقتهم»، وهو الذي حسن للخليفة الثاني فتحها، وسهل عليه الأمر، وقال له: إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم وهي أكثر الأرض أموالا وأعجز عن القتال والحرب.
واتفق أن كان سئم قبط مصر، وهم كثرتها الغامرة، أحكام الروم البيزنطيين لما أرهقوهم به من المظالم والمغارم، ولما ساموهم من الخسف والعنف مدة اثني عشر قرنا، ثم حاولوا إدخالهم في مذهب الكنيسة الملكية، وأرادوهم على أن يصبئوا عن مذهب النصارى اليعاقبة، فأهلكوا منهم نفوسا، وخربوا بيوتا، وأتوا على بيع وأديار، والخلاف على أشد ما يكون في مسألة المشيئة الواحدة أو المشيئتين في السيد المسيح؛ يضطهد كل من لا يشايع أهل دين الدولة الحاكمة، والروم في دور انحطاطهم يرتكبون كل منكر، ويأتون كل شناعة، وعامة البلاد التي تخفق عليها أعلامهم في حالة تشبه مصر في تبرمها وتظلمها، وتناصرت الأخبار في مصر على أن العرب أصحاب الدولة الفتية التي فتحت الشام والعراق وبعض فارس هم على جانب من العدل والرحمة في أحكامهم، فاشرأبت الأعناق إليهم، وود الناس لو أنقذوهم مما هم فيه.
ناپیژندل شوی مخ