اختصار الأبواب التي في كتاب «المدينة الفاضلة»
تأليف أبي نصر محمد بن محمد بن طرخان
ابن اوزلغ الفارابي التركي
١ القول في الشيء الذي ينبغي أن يعتقد فيه أنه هو الله تعالى ، ما هو ، وكيف هو ، وبما ذا ينبغي أن يوصف ، وبأي وجه هو سبب سائر الموجودات ، وكيف تحدث عنه ، وكيف يفعلها ، وكيف هي مرتبطة به ، وكيف يعرف ويعقل ، وبأي الأسماء ينبغي أن يسمى ، وعلى ما ذا ينبغي أن يدل منه بتلك الأسماء؟
٢ القول في الموجودات التي ينبغي أن يعتقد فيها أنها هي الملائكة ، ما هو كل واحد منها ، وكيف هو ، وكيف حدوثه ومرتبته منه ، وما مراتب بعضها من بعض ، وما ذا يحدث عن كل واحد منها ، كيف هو سبب لكل واحد مما يحدث عنه ، وفي ما ذا تدبيره ، وكيف تدبيره ، وان كل واحد منها هو سبب جسم ما من الأجسام السماوية ، واليه تدبير ذلك الجسم.
٣ القول في جمل الأجسام السماوية ، وأن واحدة واحدة منها مرتبطة
مخ ۲۱
بواحد واحد من الثواني ، وأن كل واحد من الثواني اليه تدبير الجسم السماوي المرتبط به.
٤ القول في الأجسام التي تحت السماوات وهي الأجسام الهيولانية ، كيف وجودها ، وكم هي في الجملة ، وبما ذا يتجوهر كل واحد ، وبما ذا يفارق الموجودات التي سلف ذكرها.
٥ القول في المادة والصورة ، ما كل واحد منهما ، وهما اللتان بهما يتجوهر الأجسام ، وما رتبة كل واحد منهما من الأخرى ، وما هذه الأجسام التي تتجوهر بهما ، وأي وجود يحصل لكل واحد منها بالمادة ، وأي وجود يحصل له بالصورة.
٦ القول في كيفية ما ينبغي أن يوصف به الموجودات التي ينبغي أن يقال إنها هي الملائكة.
٧ القول بما ذا ينبغي أن يوصف به الأجسام السماوية في الجملة.
٨ كيف يحدث الأجسام الهيولانية بالجملة ، وأيها يحدث أولا ، وأيها يحدث ثانيا ، وأيها يحدث ثالثا ، الى أن ينتهي الترتيب الى آخر ما يحدث ، وان آخر ما يحدث هو الانسان ، والأخبار عن حدوث كل صنف منها مجملا.
٩ كيف يجري التدبير في بقاء كل نوع منها ، وفي بقاء أشخاص كل نوع ، وكيف وجه العدل في تدبيرها ، وأن كل ما يجري منها فانما يجري على نهاية العدل والاحكام والكمال فيه ، وأنه لا جور في شيء منها ولا اختلال ولا نقص ، وأن ذلك هو الواجب ، وأنه لا يمكن أن يكون في طباع الموجودات غيرها.
١٠ في الانسان وفي قوى النفس الانسانية ، وفي حدوثها ، وأيها يحدث أولا ، وأيها يحدث ثانيا ، وأيها يحدث ثالثا ، ومراتب بعضها من بعض ، وأيها
مخ ۲۲
يرؤس فقط ، وأيها يخدم شيئا آخر ، وأيها يرؤس شيئا ويخدم شيئا آخر ، وأيها يرؤس أيها.
١١ في حدوث أعضائه وفي مراتبها ، ومراتب بعضها من بعض ، وأيها هو الرئيس ، وأيها هو الخادم ، وكيف يرؤس ما يرؤس منها ، وكيف يخدم ما يخدم منها.
١٢ في الذكر والأنثى ، ما قوة كل واحد منهما ، وما فعل كل واحد منهما ، وكيف يحدث الولد عنهما ، وبما ذا يختلفان ، وبما ذا يشتركان ، وما السبب في التذكير والتأنيث ، وكيف صار الولد ربما أشبه والديه ، وربما أشبه أحدهما فقط ، وربما أشبه بعض أجداده الأبعدين ، وربما لم يشبه أحدا من آبائه وأمهاته.
١٣ كيف ترتسم المعقولات في الجزء الناطق من النفس ، ومن أين ترد عليه ، وكم أصناف المعقولات ، وما العقل الذي بالقوة ، وما العقل الذي بالفعل ، وما العقل الهيولاني ، وما العقل المنفعل ، وما العقل الفعال ، وما مرتبته ، ولما ذا يسمى العقل الفعال ، وما فعله ، وكيف ترتسم المعقولات في العقل الذي بالقوة حتى يصير عقلا بالفعل ، وما الارادة ، وما الاختيار ، ولأي جزء هما من أجزاء النفس ، وما السعادة القصوى ، وما الفضائل ، وما النقائص ، وما الخيرات في الأفعال ، وما الشرور منها ، وما الجميل ، وما القبيح منها.
١٤ في الجزء المتخيل من أجزاء النفس ، وكم أصناف أفعالها ، وكيف تكون الرؤيا ، وكم أصنافها ، ولأي جزء من أجزاء النفس هي ، وما السبب في صدق ما يصدق منها ، وكيف يكون الوحي ، وأي انسان سبيله أن يوحى اليه ، وبأي جزء من أجزاء النفس يتلقى الانسان الموحى اليه الوحي ، وما السبب في أن صار كثير من الممرورين يخبرون بأشياء مستقبلة ويصدقون.
١٥ في حاجة الانسان الى الاجتماع والتعاون ، وكم أصناف الاجتماعات
مخ ۲۳
الانسانية ، وما الاجتماعات الفاضلة وما المدينة الفاضلة ، وبما ذا تلتئم ، وكيف ترتيب أجزائها ، وكيف يكون أصناف الرئاسات الفاضلة في المدن الفاضلة ، وكيف ينبغي أن يكون ترتيب الرئيس الفاضل الأول ، وأي شرائط وعلامات ينبغي أن نعتقد في الصبي والحدث حتى اذا وجدت فيه كانت توطنه لأن يحصل له ما يرؤس به الرئاسة الفاضلة ، وأي شرائط ينبغي أن يكون فيه اذا استكمل حتى يصير بها رئيسا فاضلا أولا. وكم أصناف المدن المضادة للمدينة الفاضلة ، وما المدينة الجاهلة ، وما المدينة الضالة ، وكم أصناف المدن والرئاسات الجاهلة.
١٦ ثم ذكر السعادات القصوى التي اليها تصير أنفس أهل المدن الفاضلة في الحياة الآخرة ، وأصناف الشقاء التي تصير اليها نفوس أهل المدن المضادة للمدن الفاضلة بعد الموت.
١٧ كيف ينبغي أن يكون الرسوم في تلك لمدن الفاضلة ، ثم ذكر الأشياء التي عنها ينبعث في نفوس كثير من الناس الأصول الفاسدة الكاذبة التي عنها انتزعت آراء الجاهلية.
١٨ ثم اختصاص أصناف آراء الجاهلية التي عنها حصلت الأفعال والاجتماعات في المدن الجاهلة.
١٩ ثم اختصاص الأصول الفاسدة التي عنها تنبعث الآراء التي عنها تنبعث الملل الضالة.
مخ ۲۴
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب ألفه أبو النصر الفارابي
في مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة
الباب الأول القول في الموجود الأول
الموجود الأول هو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها ، وهو بريء من جميع أنحاء النقص. وكل ما سواه فليس يخلو من أن يكون فيه شيء من أنحاء النقص ، إما واحدا وإما أكثر من واحد . وأما الأول فهو خلو من أنحائها كلها ، فوجوده أفضل الوجود ، وأقدم الوجود ، ولا يمكن أن يكون وجود أفضل ولا أقدم من وجوده . وهو من فضيلة الوجود في أعلى أنحائه ، ومن كمال الوجود في أرفع المراتب. ولذلك لا يمكن أن يشوب وجوده وجوهره عدم أصلا. والعدم والضد لا يكونان الا فيما دون فلك القمر. والعدم هو لا وجود ما شأنه أن يوجد .
مخ ۲۵
ولا يمكن أن يكون له وجود بالقوة ، ولا على نحو من الأنحاء ، ولا امكان أن لا يوجد ولا بوجه ما من الوجوه . فلهذا هو أزلي ، دائم الوجود بجوهره وذاته ، من غير أن يكون به حاجة في أن يكون أزليا الى شيء آخر يمد بقاءه ، بل هو بجوهره كاف في بقائه ودوام وجوده.
ولا يمكن أن يكون وجود أصلا مثل وجوده ، ولا أيضا في مثل مرتبة وجوده وجود يمكن أن يكون له أو يتوافر عليه.
وهو الموجود الذي لا يمكن أن يكون له سبب به ، أو عنه ، أو له كان وجوده. فانه ليس بمادة ، ولا قوامه في مادة ولا في موضوع أصلا. بل وجوده خلو من كل مادة ومن كل موضوع ، ولا أيضا له صورة ، لأن الصورة لا يمكن أن يكون الا في مادة ، ولو كانت له صورة لكانت ذاته مؤتلفة من مادة وصورة ، ولو كان كذلك لكان قوامه بجزئيه اللذين منهما ائتلف ، ولكان لوجوده سبب ، فان كل واحد من أجزائه سبب لوجود جملته ، وقد وضعنا أنه سبب أول.
ولا أيضا لوجوده غرض وغاية حتى يكون ، انما وجوده ليتم تلك الغاية وذلك الغرض ، والا لكان يكون ذلك سببا ما لوجوده ، فلا يكون سببا أولا.
ولا أيضا استفاد وجوده من شيء آخر أقدم منه ، وهو من أن يكون استفاد ذلك مما هو دونه أبعد .
مخ ۲۶
الباب الثاني: القول في نفي الشريك عنه تعالى
وهو مباين بجوهره لكل ما سواه ، ولا يمكن أن يكون الوجود الذي له لشيء آخر سواه ، لأن كل ما وجوده هذا الوجود لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضا هذا الوجود مباينة أصلا ، ولا تغاير أصلا ، فلا يكون اثنان ، بل يكون هناك ذات واحدة فقط ؛ لأنه ان كانت بينهما مباينة كان الذي تباينا به غير الذي اشتركا فيه ، فيكون الشيء الذي باين كل واحد منهما الآخر جزءا مما به قوام وجودهما ، والذي اشتركا فيه هو الجزء الآخر ، فيكون كل واحد منهما منقسما بالقول ، ويكون كل واحد من جزأيه سببا لقوام ذاته ، فلا يكون أولا ،
مخ ۲۷
بل يكون هناك موجود آخر أقدم منه هو سبب لوجوده؛ وذلك محال .
وإن كان ذلك الآخر هو الذي فيه ما باين به هذا ، ولم يكن في هذا شيء يباين به ذلك إلا بعد الشيء الذي به باين ذلك ، لزم أن يكون الشيء الذي به باين ذلك الآخر هذا ، هو الوجود الذي يخص ذاك. ووجود هذا مشترك لهما ، فإذن ذلك الآخر وجوده مركب من شيئين : من شيء يخصه ، ومن شيء يشارك به هذا. فليس إذن وجود ذاك هو وجود هذا ، بل ذات هذا بسيط غير منقسم ، وذات ذلك منقسم. فلذلك إذن جزءان بهما قوامه. فلوجوده إذن سبب فوجوده إذن دون وجود هذا وأنقص منه. فليس هو إذن من الوجود في الرتبة الأولى.
وأيضا ، فإنه لو كان مثل وجوده في النوع خارجا منه بشيء آخر ، لم يكن تام الوجود ، لأن التام هو ما لا يمكن أن يوجد خارجا منه وجود من نوع وجوده ، وذلك في أي شيء كان؛ لأن التام في العظم هو ما لا يوجد عظم خارجا منه ، والتام في الجمال هو الذي لا يوجد جمال من نوع جماله خارجا منه ، وكذلك التام في الجوهر هو
مخ ۲۸
ما لا يوجد شيء من نوع جوهره خارجا منه؛ وكذلك كل ما كان من الأجسام تاما ، لم يمكن أن يكون من نوعه شيء آخر غيره ، مثل الشمس والقمر وكل واحد من الكواكب الأخر. إذا كان الأول تام الوجود لم يمكن أن يكون ذلك الوجود لشيء آخر غيره ، فإذن هو منفرد الوجود وحده ، فهو واحد من هذه الجهة .
مخ ۲۹
الباب الثالث: القول في نفي الضد عنه
وأيضا فإنه لا يمكن أن يكون له ضد ، وذلك يتبين إذا عرف معنى الضد ، فإن الضد مباين للشيء؛ فلا يمكن أن يكون ضد الشيء هو الشيء أصلا. ولكن ليس كل مباين هو الضد ، ولا كل ما لم يمكن أن يكون هو الشيء هو الضد. لكن كل ما كان مع ذلك معاندا ، شأنه أن يبطل كل واحد منهما الآخر ويفسده إذا اجتمعا ، ويكون شأن كل واحد منهما أنه ان يوجد حيث الآخر موجود يعدم الآخر ، ويعدم من حيث هو موجود فيه لوجود الآخر في الشيء الذي كان فيه الأول . وذلك عام في كل شيء يمكن أن يكون له ضد. فإنه إن كان الشيء ضدا للشيء في فعله ، لا في سائر أحواله ، فإن فعليهما فقط بهذه الصفة. فإن كانا متضادين في كيفيتهما ، فكيفيتهما بهذه الصفة ، وإن كانا متضادين في جوهرهما ، فجوهرهما في هذه الصفة .
مخ ۳۰
وإن كان الأول له ضد فهو من ضده بهذه الصفة ، فيلزم أن يكون شأن كل واحد منهما أن يفسد ، وأن يمكن في الأول أن يبطل عن ضده ، ويكون ذلك في جوهره . وما يمكن أن يفسد فليس قوامه وبقاؤه في جوهره ، بل يكون جوهره غير كاف في أن يبقى موجودا؛ ولا أيضا يكون جوهره كافيا في أن يحصل موجودا ، بل يكون ذلك بغيره. واما ما أمكن أن لا يوجد فلا يمكن أن يكون أزليا ، وما كان جوهره ليس بكاف في بقائه أو وجوده ، فلوجوده أو بقائه سبب آخر غيره ، فلا يكون أولا. وأيضا فإن وجوده إنما يكون لعدم ضده. فعدم ضده اذن هو سبب وجوده ، فليس إذن هو السبب الأول على الاطلاق .
وأيضا فإنه يلزم أن يكون لهما أيضا حيث ما مشترك ، قابل لهما ، حتى يمكن بتلاقيهما فيه أن يبطل كل واحد منهما الآخر ، إما موضوع أو جنس أو شيء آخر غيرهما؛ ويكون ذلك ثابتا ، ويتعاقب هذان عليه. فلذلك إذن هو أقدم وجودا من كل واحد منهما .
وإن وضع واضع شيئا غير ما هو بهذه الصفة ضدا لشيء ، فليس الذي يضعه ضدا ، بل مباينة أخرى سوى مباينة الضد؛ ونحن لا ننكر
مخ ۳۱
أن يكون للأول مباينات أخر سوى مباينة الضد وسوى ما يوجد وجوده .
فإذن لم يمكن أن يكون موجود ما في مرتبة وجوده ، لأن الضدين هما في رتبة واحدة من الوجود.
فإذن الأول منفرد بوجوده ، لا يشاركه شيء آخر أصلا موجود في نوع وجوده. فهو إذن واحد.
وهو مع ذلك منفرد أيضا برتبته وحده. فهو أيضا واحد من هذه الجهة .
مخ ۳۲
الباب الرابع: في نفي الحد عنه سبحانه
وأيضا ، فإنه غير منقسم بالقول إلى أشياء بها تجوهره ، وذلك لأنه لا يمكن أن يكون القول الذي يشرح معناه يدل كل جزء من أجزائه على جزء مما يتجوهر به ، فإنه إذا كان كذلك كانت الأجزاء التي بها تجوهره أسبابا لوجوده على جهة ما تكون المعاني التي تدل عليه أجزاء حد الشيء أسبابا لوجود المحدود ، وعلى جهة ما تكون المادة والصورة أسبابا لوجود المتركب منهما. وذلك غير ممكن فيه ، إذ كان أولا وكان لا سبب لوجوده أصلا .
فإذا كان لا ينقسم هذه الأقسام ، فهو من أن ينقسم أقسام الكمية وسائر أنحاء الانقسام أبعد. فمن هنا يلزم ضرورة أيضا أن لا يكون له عظم ، ولا يكون جسما أصلا .
مخ ۳۳
فهو أيضا واحد من هذه الجهة ، وذلك أن أحد المعاني التي يقال عليها الواحد هو ما لا ينقسم. فإن كل شيء كان لا ينقسم من وجه ما ، فهو واحد من تلك الجهة التي بها لا ينقسم؛ فإنه إن كان من جهة فعله ، فهو واحد من تلك الجهة ، وإن كان من جهة كيفيته ، فهو واحد من جهة الكيفية. وما لا ينقسم في جوهره فهو واحد في جوهره فإذن كان الأول غير منقسم في جوهره .
مخ ۳۴
الباب الخامس: القول في أن وحدته عين ذاته
وأنه تعالى عالم وحكيم وأنه حق وحي وحياة
فإن وجوده الذي به ينحاز عما سواه من الموجودات لا يمكن أن يكون غير الذي هو به في ذاته موجود. فلذلك يكون انحيازه عن ما سواه توحده في ذاته. وإن أحد معاني الوحدة هو الوجود الخاص الذي به ينحاز كل موجود عما سواه ، وهي التي بها يقال لكل موجود واحد من جهة ما هو موجود الوجود الذي يخصه ، وهذا المعنى من معاني الواحد يساوق الموجود الأول. فالأول أيضا بهذا الوجه واحد ، وأحق من كل واحد سواه باسم الواحد ومعناه .
ولأنه ليس بمادة ، ولا مادة له بوجه من الوجوه ، فإنه بجوهره عقل بالفعل. لأن المانع للصورة أن تكون عقلا وأن تعقل بالفعل ، هو
مخ ۳۵
المادة التي فيها يوجد الشيء. فمتى كان الشيء في وجوده غير محتاج إلى مادة ، كان ذلك الشيء بجوهره عقلا بالفعل : وتلك حال الأول. فهو إذن عقل بالفعل ، وهو أيضا معقول بجوهره. فإن المانع أيضا للشيء من أن يكون بالفعل معقولا هو المادة. وهو معقول من جهة ما هو عقل ؛ لأن الذي هويته عقل ليس يحتاج في أن يكون معقولا إلى ذات أخرى خارجة عنه تعقله؛ بل هو بنفسه يعقل ذاته ، فيصير بما يعقل من ذاته عاقلا وعقلا بالفعل ، وبأن ذاته تعقله (يصير) معقولا بالفعل. وكذلك لا يحتاج في أن يكون عقلا بالفعل وعاقلا بالفعل إلى ذات يعقلها ويستفيدها من خارج ، بل يكون عقلا وعاقلا بأن يعقل ذاته. فإن الذات التي تعقل هي التي تعقل ، فهو عقل من جهة ما هو معقول؛ فإنه عقل وإنه معقول وإنه عاقل . هي كلها ذات واحدة وجوهر واحد غير منقسم. فإن الانسان مثلا معقول وليس المعقول منه معقولا بالفعل ، بل كان معقولا بالقوة ثم صار معقولا بالفعل بعد أن عقله العقل. فليس إذن المعقول من الانسان هو الذي يعقل ، ولا العقل منه أبدا هو المعقول ، ولا عقلنا نحن من جهة ما هو عقل هو معقول ، ونحن عاقلون لا بأن جوهرنا عقل؛ فإن ما نعقل ليس هو الذي به تجوهرنا. فالأول ليس كذلك ، بل العقل والعاقل والمعقول فيه معنى واحد ، وذات واحدة ، وجوهر واحد غير منقسم .
مخ ۳۶
وكذلك الحال في أنه عالم؛ فإنه ليس يحتاج في أن يعلم إلى ذات أخرى يستفيد بعلمها الفضيلة خارجة عن ذاته؛ ولا في أن يكون معلوما إلى ذات أخرى تعلمه ، بل هو مكتف بجوهره في أن يعلم ويعلم. وليس علمه بذاته شيئا سوى جوهره ، فإنه يعلم وإنه معلوم وإنه علم. فهو ذات واحدة وجوهر واحد .
وكذلك في أنه حكيم. فإن الحكمة هي أن يعقل أفضل الأشياء بأفضل علم ، وبما يعقل من ذاته ويعلمه يعلم أفضل الأشياء. وأفضل العلم هو العلم الدائم الذي لا يمكن أن يزول ، وذلك هو علمه بذاته .
وكذلك في أنه حق. فإن الحق يساوق الوجود ، والحقيقة قد تساوق الوجود ، فإن حقيقة الشيء هي الوجود الذي يخصه. وأكمل الوجود هو قسطه من الوجود؛ وأيضا فإن الحق قد يقال على المعقول الذي صادف به العقل الموجود حتى يطابقه. وذلك الموجود من جهة ما هو معقول ، يقال له إنه حق ، ومن جهة ذاته من غير أن يضاف إلى ما يعقله يقال إنه موجود. فالأول يقال إنه حق بالوجهين جميعا ، بأن وجوده الذي هو له أكمل الوجود ، وبأنه معقول صادف به الذي عقله الموجود على ما هو موجود. وليس يحتاج في أن يكون حقا بما هو معقول إلى ذات أخرى خارجة عنه تعقله. وأيضا أولى بما يقال عليه حق بالوجهين جميعا. وحقيقته ليست هي شيئا سوى أنه حق .
مخ ۳۷
وكذلك في أنه حي ، وأنه حياة. فليس يدل بهذين على ذاتين ، بل على ذات واحدة. فإن معنى الحي أنه يعقل أفضل معقول بأفضل عقل ، أو يعلم أفضل معلوم بأفضل علم. كما أن إنما يقال لنا أحياء أولا ، إذا كنا ندرك أحسن المدركات بأحسن ادراك. فإنا إنما يقال لنا أحياء إذا كنا ندرك المحسوسات ، وهي أحسن المعلومات ، بالاحساس الذي هو أحسن الادراكات ، وبأحسن القوى المدركة وهي الحواس. فما هو أفضل عقل إذا عقل وعلم أفضل المعقولات بأفضل علم ، فهو أحرى أن يكون حيا ، لأنه يعقل من جهة ما هو عقل ، وانه عاقل وانه عقل ، وانه عالم وانه علم ، هو فيه معنى واحد. وكذلك أنه حي ، وأنه حياة ، معنى واحد .
وأيضا فإن اسم الحي قد يستعار لغير ما هو حيوان ، فيقال على كل موجود كان على كماله الأخير ، وعلى كل ما بلغ من الوجود والكمال إلى حيث يصدر عنه ما من شأنه أن يكون منه ، كما من شأنه أن يكون منه. فعلى هذا الوجه إذا كان الأول وجوده أكمل وجود ، كان أيضا أحق باسم الحي من الذي يقال على الشيء باستعارة . وكل ما كان وجوده أتم فإنه إذا علم وعقل كان ما يعقل عنه ويعلم منه أتم ، إذا كان المعقول منه في نفوسنا مطابقا لما هو موجود منه : فعلى حسب وجود الخارج عن نفوسنا يكون معقوله في نفوسنا مطابقا
مخ ۳۸
لوجوده ، وإن كان ناقص الوجود ، كان معقوله في نفوسنا معقولا أنقص .
فإن الحركة والزمان واللانهاية والعدم وأشباهها من الموجودات ، فالمعقول من كل واحد منها في نفوسنا معقول ناقص ، إذ كانت هي في أنفسها موجودات ناقصة الوجود. والعدد والمثلث والمربع وأشباهها فمعقولاتها في أنفسنا أكمل لأنها هي في أنفسها أكمل وجودا ، فلذلك كان يجب في الأول ، إذ هو في الغاية من كمال الوجود ، أن يكون المعقول منه في نفوسنا على نهاية الكمال أيضا. ونحن نجد الأمر على غير ذلك ، فينبغي أن نعلم أنه من جهته غير معتاص الادراك ، إذ كان في نهاية الكمال؛ ولكن لضعف قوى عقولنا نحن ولملابستها المادة والعدم ، يعتاص ادراكه ، ويعسر علينا تصوره ، ونضعف من أن نعقله على ما هو عليه وجوده ، فإن افراط كماله يبهرنا ، فلا نقوى على تصوره على التمام ، كما أن الضوء هو أول المبصرات وأكملها وأظهرها ، به يصير سائر المبصرات مبصرة ، وهو السبب في أن صارت الألوان مبصرة. ويجب فيها أن يكون كل ما كان أتم وأكبر ، كادراك البصر له أتم. ونحن نرى الأمر على خلاف ذلك ، فإنه كلما كان أكبر كان ابصارنا له أضعف ، ليس لأجل خفائه ونقصه ، بل هو في نفسه على غاية ما يكون من الظهور والاستنارة؛ ولكن كماله ، بما هو نور ، يبهر الأبصار ، فتحار الأبصار عنه.
مخ ۳۹
كذلك قياس السبب الأول والعقل الأول والحق الأول ، وعقولنا نحن. ليس نقص معقوله عندنا لنقصانه في نفسه ، ولا عسر إدراكنا له لعسره في وجوده ، لكن لضعف قوى عقولنا نحن عسر تصوره .
فتكون المعقولات التي هي في أنفسنا ناقصة ، وتصورنا لها ضعيف. وهذا على ضربين : ضرب ممتنع من جهة ذاته أن يتصور فيعقل تصورا تاما لضعف وجوده ونقصان ذاته وجوهره ، وضرب مبذول من جهة فهمه وتصوره على التمام وعلى أكمل ما يكون. ولكن أذهاننا وقوى عقولنا ممتنعة ، لضعفها وبعدها عن جوهر ذلك الشيء ، من أن نتصوره على التمام وعلى ما هو عليه من كمال الوجود. وهذان الضربان كل واحد منهما هو من الآخر في الطرف الأقصى من الوجود : أحدهما في نهاية الكمال ، والآخر في نهاية النقص .
ويجب إذا كنا نحن ملتبسين بالمادة ، كانت هي السبب في أن صارت جواهرنا جوهرا يبعد عن الجوهر الأول ، إذ كلما قربت
مخ ۴۰