لا حانوتا يتبضع منه القرويون ويتقمشون. أما الدفع فموعده كتلك الساعة التي لا يعلمها أحد إلا الآب ... وبعد انتظار ساعات في تلك البرية أطل الموكب تتقدمه الحمولة: أعدال نقل
8
وحوائج، وصناديق أميركية تتلألأ تحت أشعة عين الشمس؛ فارتفعت الأصوات بالتأهيل والترحيب، ثم تناوبوا التقبيل حتى شكا إبراهيم خدرا في رقبته وطلب الهدنة ... ثم استؤنفت المعركة، وأخذوا يعرفونه بمن درجوا وشبوا في غيابه، فيقبلهم ويربتهم
9
تربيتا أميركيا، يضحك له البعض، وينشده الآخرون. وساروا به أخيرا، فريق يهزج، وفريق يغربل وينخل ، وكلهم يقولون: يا بارك الله، هامة جمل! وكانت أمه تنتظره في ساحة الكنيسة حيث يمر، فازارته القديس، ووفت نذرها. وفي البيت كثرت السؤالات عن الغائبين فكان الجواب: الجميع بخير.
وفتحت أم إبراهيم كفها فأطعمت وسقت بسخاء، وسهر إبراهيم إلى ما بعد نصف الليل، فأصبح شاكيا قلق فراشه ويبوسته، مع أن الوالدة نفشته أي نفش، ولكن التخت خشبي وبلا رفاس، فبيت إبراهيم من المحافظين ما زال كما فارقه.
وجاء الجيران مع الصبح، فقعد يحدثهم بابتسامة اكتسابية، رأوه شابا كبير الظل، أخذ التعب شيئا من نضرته أمس، أما اليوم فهو عظيم جدا: شاربان قاعدان كأنه الزناتي خليفة. سألوه عن «توفيقه» فشكر ربه برطانة
10
المهاجر الحديث العود. وبعد أيام قاطع على ألوف من الحجارة، كما يفعل المهاجر «الموفق»، فتحدثت الضيعة بذلك أياما، ودبت الحياة في مقالعها المهجورة.
أما سمنجون - وهي بيت القصيد - فشعرت بهبوط درجة الحرارة مذ رأته وحدثته، كانت تتوقع تجاوزها الحد فإذا الأمر بالضد، فقالت في نفسها: لم يتغير فيه شيء، هو هو، ولكن هناك شيئا صعبا فهمه، هذا الإبراهيم غير هذاك، وإن كان إياه. أما كيف فما أعرف ... منذ خمسة عشر عاما و«برهون» ملء قلبي وأذني، فما لي إذ جاء لا أرى تلك اللهفة؟ ما لذكريات الصبا غافية لا تفيق، وقربي منه لا يرغبني فيه؟ عجيب! لما كنا وليدات كنت أحبه أكثر.
ناپیژندل شوی مخ