اقوم المسالک
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك
ژانرونه
وقد كانت وقعت بيني وبين أحد أعيان أوروبا مكالمة أسهب فيها بمدح ملكهم وذكر ما له من مزيد المعرفة بأصول السياسة، حتى قال: إنه متقيد بطبعه وعقله عن سلوك غير منهاج الصواب. فقلت له: كيف تشاحونه في الحرية السياسية وترومون مشاركته في الأمور الملكية، والحال أنكم تسلمون له من الكمالات ما لا يحتاج معه إلى المشاركة؟ فأجابني بقوله: من يضمن لنا بقاءه مستقيما واستقامة ذريته بعده؟
ومما يناسب سوقه هنا ما ذكره المؤرخ الشهير تيارس أحد أعضاء مجلس النواب بفرنسا الآن، وكان وزيرا للملك لويز فليب في آخر تاريخه المشهور عند ذكر عواقب الاستبداد، وأن العمل بالرأي الواحد مذموم ولو بلغ صاحبه ما بلغ من الكمالات والمعارف بعدما ترجم لنابوليون الأول بأوصافه الخاصة، وألحقه في السياسة بأفراد الرجال الذين جاد بهم الدهر في القرون الماضية، حتى وصفه بهمة إسكندر الرومي وقيصر الروماني وذكاء أنيبال الأفريقي ومعارفه الحربية، إلى أن قال مخاطبا للفرنسيس: تعالوا نمعن النظر في أفعال هذا الملك التي هي في الحقيقة أفعالنا، فيستفيد منها من كان جنديا كيف ينبغي أن تقاد الجيوش، ومن كان من رجال الدولة معرفة كيف ينبغي أن تكون إدارة المملكة، وكيف ينبغي أن يرتفع شأنها بدون خروج عن دائرة التواضع والرفق؛ إذ المعاملة متى لم تكن مصحوبة برفق وقناعة لا تتحمل، وربما يفضي ذلك إلى أسباب الاضمحلال كما أفضت إليها سيرة المذكور، الذي هو أقل البشر قناعة. فبالجملة نعتبر بغلطاته فنتجنبها، ثم نستفيد - معاشر أبناء الوطن - تربية أخيرة لا يسع نسيانها؛ وهي أنه لا يسوغ أبدا أن يسلم أمر المملكة لإنسان واحد بحيث تكون سعادتها وشقاوتها بيده، ولو كان أكمل الناس وأرجحهم عقلا وأوسعهم علما.
ونحن وإن كنا لسنا ننتقد فعل نابوليون في افتكاك فرنسا من أيدي الديركتوار بعد أن كانت أشرفت على الضياع في أيديهم، لكن نرى أن وجوب استخلاص المملكة من تلك الأيدي الضعيفة الخاسرة لا يكون حجة في إسلامها إسلاما مطلقا ليد قاهرة متهورة لا تبالي بشيء، ولو كانت هي اليد المنتصرة في ريفلي ومرنفو، على أنا نقول إن كان هناك أمة تعذر عذرا ما في تسليم أمرها لشخص واحد فلا تكون غير الأمة الفرنساوية في ذلك الوقت، أعني سنة ثمانمائة وألف، حين استرأست نابوليون المذكور عليها، والناس إذ ذاك فوضى لا سراة لهم، ولم يكن المشير عليها بذلك قاصدا مجرد تخويفها لإلجائها إلى قيود العبودية، بل كان الخوف متحققا بالمشاهدة. فوا حسرة تلك الأمة على ألوف من النفوس البريئة صرعت بالمجزرة، وألوف كذلك خنقت بسجون الدير وألوف أغرقت بوادي لوار! وبالجملة فقد حل بأولئك المتمدنين من أفعال المتوحشين أمر فظيع، روعهم وأرعد فرائصهم، ولم يزالوا بعد سكون تلك الثورة القاسية رائجين بين السيافين المولعين بقطع الرءوس، وهم جماعة الديركتوار، وبين الجهال المتغربين عن وطنهم، وهم شيعة الملوك الذين كانوا يرومون بإراقة الدماء إرجاع فرنسا إلى الحالة القديمة التي كانت قبل الثورة مع ما طرأ عليهم في أثناء ذلك الاضطراب من ظهور سيف الأجنبي متهددا. فبينما هم في لجج الهرج إذ أقبل من المشرق الشاب المنصور الذي ذلت له صعاب الأمور، العاقل المتواضع المغرى باستمالة قلوب البشر، وهو نابوليون المشار إليه. أفتراهم والحالة هذه لا يعذرون في إلقاء زمامهم بيد المذكور؟ بلى:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركبا
فلا يسع المضطر إلا ركوبها
ومع ذلك فلم تمض إلا سنوات قليلة إذ انقلب ذلك العاقل مجنونا بجنون غير مماثل لجنون أرباب الثورة، والجنون فنون، فإنه تقرب بمليون من النفوس في ميدان الحرب، وحمل أهل أوروبا على التعصب على فرنسا، حتى بقيت مغلوبة غريقة في دمائها مسلوبة من نتائج انتصارها مدة عشرين سنة، بحيث صارت على حالة يرثى لها، ولم يبق لها أن تستثمر بعد ذلك إلا ما كان مزدرعا فيها من بذر التمدن الوقتي، فمن كان يظن أن عاقل سنة ثمانمائة وألف يجن في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة وألف؟! نعم كان يمكن توقع ذلك لو أمعنوا النظر في أن الذي له القدرة التامة، بحيث يستطيع أن يفعل كل ما يريد معه داء لا دواء له، وهو الشهوة الداعية لفعل كل مستطاع، ولو كان قبيحا إذا تقرر هذا. فعلى أبناء الوطن أن يتأملوا سيرة المذكور ويستخرج منها كل فريق ما يناسب خطته. والأهم أمر واحد؛ وهو أن لا يطلق أمر الوطن لإنسان واحد كائنا من كان، وعلى أي حالة كان. وقد ختمت هذا التاريخ الطويل المستوعب لأحوال نصرنا وانهزامنا بهذه النصيحة، بل الصيحة الصادرة عن صميم فؤادي غير مشوبة برياء، راجيا بلوغها إلى قلب كل فرنساوي ليتيقن جميعهم أنه لا يليق بهم بذل حريتهم إلى أحد، كما لا ينبغي لهم الإفراط فيها حتى تنتهك حرمتها. انتهى المراد منه. وفي حكمة أرسطو أن من الغلط الفادح أن تعوض الشريعة بشخص يتصرف بمقتضى إرادته، فإذا تأملت كلامي هذين الحكيمين وما تضمنه أولهما من المشاحة في الاستبداد، مع كون المستبد من المشهود لهم بمزيد العرفان والأهلية؛ تعرف بذلك ما جبلت عليه نفوس القوم من حب الحرية والامتناع من ظلم الملوك، كما يشهد به كلام سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه في حديث مسلم الذي رواه المستورد القرشي رضي الله عنه عنده، فقال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس.» فقال عمرو: أبصر ما تقول! قال: أقول ما سمعته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخلالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك.
ناپیژندل شوی مخ