وأخذت تتوالى على أسماعه أنباء أحمد أفندي: تقواه، صلاحه، زهده، شفقته، طاعته للرؤساء، تواضعه مع الجميع ... كان ينقص صورة أحمد أفندي التي ارتسمت في ذهنه جناحين فقط لكي يصبح ملاكا من الملائكة.
وعاد أحمد أفندي من الحج، بعد أيام، يحمل لكل زملائه الهدايا، مسابح من الكهرمان، خواتم من الفضة، قطعا من أستار الكعبة الطاهرة، مصاحف مموهة بماء الذهب ... وخرجت الوزارة كلها ذلك اليوم تحمل هدايا أحمد أفندي، الرجل الصالح، هداياه المباركة الطاهرة.
وخرج محمود وحده ذلك اليوم وفي صدره نزاع خفي بين قلبه وعقله، بين إحساس عينه وإحساس أذنه، شعر قلبه بالكراهية نحو أحمد أفندي، فاحتج عقله في حماس وقال له: أنت ذو شعور كاذب تكفر بما تراه من تقوى وورع، ألا ترى زبيبة الصلاة في جبين الرجل، والنور الذي ينبجس من عينيه، والآيات التي يستعيذ بها، ويرسلها في كل حين، تخونك هذه المسبحة التي نفحك إياها، رغم أنه لم يعرفك إلا اليوم، ومضت أذنه تردد - عن غير قصد - كل ما وعته من أقاصيص أحمد أفندي؛ أقاصيص تفوح منها المكارم كرائحة العنبر والمسك، ولكن قلبه وعينه ظلا جامحين بعيدين عن مظاهرة الإعجاب بالرجل المعبود. عينه لم ترتح لهذا الرجل من أول نظرة، وفي النظرة الثانية تأكد إحساسها، وأيقنت أنها لن ترتاح إليه أبدا، وقلبه أحس بالكره لكل شيء فيه، حديثه المملوء تقوى وورعا كان ينتقل على صفحات هذا القلب كأنه أقدام شيطان تطأ عقول البله والمعتوهين، آيات القرآن التي يرتلها من حين إلى حين، كان يترجمها قلبه إلى أحرف لا حرارة فيها ولا روح، جافة ينقصها الوعي بها، ذلك الوعي الذي يجعلنا نحس الألفاظ ونعرفها، كانت الكلمات تخرج من فيه كأنها صوت عملة زائفة، يرن في أذن واعية، تعرف الغث من السمين.
وأتاح الشك في أحمد أفندي وعدم الإيمان به لمحمود أن يرقب عن كثب حركاته وتصرفاته، كما يرقب المارد حركات قزم يبذل جهده لكي يبدو عملاقا، فحين كان ينهض أحمد أفندي فزعا عند الظهر ليؤدي واجب الصلاة وهو يحوقل ويتمتم، فيتحسر زملاؤه على قلة نصيبهم من التقوى وتكاسلهم عن أداء الفرض، كان محمود يقول لنفسه: مظاهرة سخيفة، كان يستطيع بدل هذه الضجة أن ينتظر حتى يئوب لمنزله، فيؤدي واجبه بينه وبين الله، بعيدا عن الناس.
ونما الشك والكره حتى أصبح بغضا ثقيلا، دون أن يملك محمود إزاء ذلك شيئا، وبدأ محمود يحس أن الرجل ينظر إليه بحذر، ويكف عن رواية أقاصيص تقواه كلما كان محمود في الحجرة، بل بدأ يحس أن الرجل يتخاذل كلما التقت عيونهما، حتى لتكاد عيناه تقولان له: أتوسل إليك لا تفضحني، إنك تعرف كل شيء!
وجاءت سنوات الحرب الطاحنة، وغادر محمود وأسرته الضاحية الجميلة إلى المدينة فرارا من أزمة المواصلات، واختارت الأسرة شقة في حي من الأحياء الوطنية، وتعود محمود أن يقضي سهراته في المنزل هربا من الظلام، وآوى ذات ليلة إلى فراشه في التاسعة، وجلست أمه على حافة السرير، تقص عليه من أنباء الحي الجديد ما علمته خلال الأيام القلائل التي مضت عليهم منذ سكنوه ...
وقالت وهي تشير إلى نافذة الجيران: ويقطن هنا رجل يقصون عنه قصصا غريبة؛ فهو متزوج من أربع نساء، إحداهن أصغر من ابنته الكبرى، دفع لها مهرا ضخما جمعه من بيع مصوغات زوجاته الثلاث اللائي ينلن قسوته ووحشيته، مسكينة زوجته الأولى، لقد زارتني أول يوم لتهنئني بالمسكن الجديد، لقد أوشك بصرها أن يكف من كثرة البكاء، ومن المدهش أنه ذهب إلى الحج هذا العام، وقد حلفت لي زوجته أنها حلمت ليلة سفره أن الكعبة قد انهارت فوق رأسه، وأنها ذهبت في اليوم التالي لقريب لها من العلماء، وقصت عليه حلمها فقال لها: إن زوجها لن يقبل منه الحج.
وقال محمود لها وهو يضحك: أف للنساء! كل هذا؛ لأنه تزوج غيرها!
وأجابت أمه: وأنت؟ أتظن أن الله يقبل حج مثل هذا الرجل المرابي؟ - مراب؟ - أجل، لقد قالت لي المسكينة إن زوجها يقرض صغار الفلاحين في بلده بفائدة فاحشة، ويرتهن أراضيهم، ويستولي عليها بحيل شيطانية، وأنه ما من فلاح في بلده إلا وقد وقع في حبائله، ولا هم له إلا الزواج والطلاق! ولولا أن لهذه المسكينة منه ثلاث بنات لطلقها، كما طلق لاحقتيها.
ومضت الأم تقص حديث الجيران، حتى تأخر الليل، فنهضت إلى فراشها.
ناپیژندل شوی مخ