الآن بعد عشرة أشهر يدرك لم سألته عن الملل، لقد كانت تحس الملل بلا شك من جلستها الهادئة في الشرفة، ومن رياضتهما الساذجة في الشارع الهادئ ...
هي التي كانت تحس الملل إذ ذاك ... كانت ترهقها حياة الهدوء التي فرضها عليها الأطباء بعد شفائها شهرين كاملين. لم يكن هو شاعرا في نظرها ... كان معتوها ساذجا، يعيش في الأحلام ولا يود أن يخترق نطاقها ... كانت هي أبعد ما تكون عن هذه الأحلام، كانت تعيش فيها مكرهة ملولا، لم يكد اليوم الأخير من شهري النقاهة يدبر، حتى انطلقت من إسار الأحلام، وعادت الحياة ... وظل وحده يعيش في الأحلام!
وأقبل في عصر ذلك اليوم على الدار، فلم يجد منيرة!
وقالت أمها: لقد خرجت لتزور صديقاتها، هل نسيت أن اليوم أول يوم يصرح لها فيه بالخروج؟
لم يكن قد نسي، بل لم يكن في العالم إنسان قد حسب الساعات وتهيأ لهذا اليوم مثله ... وكان في أحد جيوبه تذكرتان للسينما، وفي الجيب الآخر خاتم جميل، وفي يده باقة ورد مشرقة؛ إنه لم ينس إذن. هي التي نسيت أن ذلك اليوم من أعياد حياته!
وجلس كثيرا ينتظر، ودقت الساعة الثامنة، فامتدت يده إلى جيبه، وفركت - في يأس - تذكرتي السينما، ومرت ساعة أخرى، فأخرج من جيبه الخاتم الجميل في حزن، ودفع به إلى أمها، وقال وهو يغالب أساه: هذا لمنيرة يا تيزة، لسوف أحضر غدا.
وألقى نظرة أسيفة على باقة الزهر، كم كان يود أن يشمها وإياها! ثم عاد إلى داره.
لقد كان في نظرها ساذجا ... إن كلمة شاعر كانت تعني ذلك. ظل ساذجا والأيام تمضي، مضى اليوم الثاني أسوأ من الأول، لم يفجعه غيابها وإنما فجعه لقاؤها؛ إن منيرة التي عرفها على شاطئ البحر، ثم رآها على سرير المرض، وأغرق فراشها بحنانه، ليست هي التي قابلته عصر ذلك اليوم. هذه الفتاة المرحة في عنف، ووجهها الغارق في زينة مسرفة، حتى ضحكتها، الضحكة الرقيقة أضحت ضحكة عنيفة ...ثم كان حديثها، إنه ليشك أن الفتاة التي كانت تحدثه إذ ذاك هي الفتاة التي كانت تجلس منذ أيام وإياه على الشرفة.
كل شيء فيها تغير، حتى صوتها، وحتى لقائها له. لقد استقبلته كما لو كان معها منذ لحظات، وتكلفت الابتسام وهي ترد تمنياته وتحياته، ثم قالت وهي تداعب كلبها الصغير: أنا آسفة؛ فقد خرجت أمس لأنني لم أكن أطيق المنزل؛ هذا السجن الذي قضيت فيه شهرين، كان من المحال أن أنتظر دقيقة واحدة ... ثم إنك تأخرت!
تأخر؟!
ناپیژندل شوی مخ