ويهدأ الخفير، وقد تضاءلت في ناظريه حياة سيد، ويهمس له جاره: يا عم احنا مالنا؟
ويقطع صوت القاضي صمت الأصوات، وضوضاء الأفكار السابحة في رنين رهيب: يا سيد! أديك سكت، مش قادر تقول حاجة؟ ليه مصطفى ده خبى الخنجر في الغيط، ومنين جابه؟
منين؟ منين؟
أيقول؟ ولماذا؟ لكي يعيش؟
يعيش بذكرى خيانة زهرة رفيقة صباه، يعيش في عالم حالك، لن يرى في نهاره وليله إلا صورة لحظة واحدة، تحجب بظلامها كل ما في الحياة من ضياء! يعيش ويقتل حسان؟ يقتل من منحه الحياة، حين كانت الحياة ضياء وجمالا؟!
لا!
قالها في خياله، وقالها للقاضي: لا! لا أعرف! احكم علي يا حضرة القاضي، أنا حكمت قبلك بالموت على نفسي!
لكن الله لم يحكم عليه، ولن يحكم على بريء؛ فما تكاد الجلسة تنتهي في المساء، وما يكاد حسان يأوي إلى غرفته في فندق المدينة، حتى تعود إلى خاطره صور يومه الحافل، وتتركز من بينها صورة واحدة؛ صورة عيني سيد تستنجدان به؛ صورة لا تفارقه فلا ينام، ولا يقف الأمر به عند حد الأرق، بل يبدو له شبح سيد معلقا في حبل المشنقة ميتا، وهو يشير إليه، وتضيق الأشباح على الشيخ الخناق، وتطارده الصور، ويهب من أحلامه المروعة فزعا صارخا، وقد تملكته الحمى، وفقد أعصابه، ويهرول إليه نزلاء الفندق، فيأخذ في الحديث المضطرب، ويظنه الناس قد جن، ولكنه يصيح بهم: أقسم لكم أني لست بمجنون، إنني أقول الحقيقة؛ سيد لم يقتل، الذي قتل هو مصطفى، قتل ناظر الزراعة، وأخذ خنجر سيد وأخفاه في الحقل!
ويقبل سيد في صباح اليوم التالي إلى قاعة المحكمة مكبلا، فلا يتبين وجه حسان بين الحاضرين، ولا يرى مصطفى، ولا تكاد الجلسة تبدأ حتى تؤجل؛ لأن أمرا قد جد يستدعي التأجيل!
تقول القصة بعد ذلك: إن سيد قد أفرج عنه، وقبض على مصطفى، وقدم متهما بالقتل، وحكم عليه بالإعدام، وإن حسان قد مات ليلة أملى اعترافه. ويوشك الستار أن ينزل على المأساة، لولا أن يهمس أهل القرية، وقد نفذ حكم القضاء في مصطفى: إنه بريء، مظلوم من دم ناظر الزراعة! إنه لم يقتله. ويهز فقيه القرية رأسه كلما ردد الأهالي همسهم قائلا: ولم إذن أراد إلصاقها بسيد؟!
ناپیژندل شوی مخ