أجد صعوبة بالغة في التحدث عن أي عمل أؤلفه، أو النظر إليه - ناهيك عن قراءته - بعد نشره، وهو أسير الكتاب الذي طبع فيه. لماذا؟ جزء من هذا مجرد هاجس يراودني: ألم يكن من الممكن أن أكتبه بأسلوب أفضل، أو أن أهتدي إلى طريقة تخدمني بها الكلمات بصورة أصلح؟ ليس مجديا التفكير في هذا؛ فها هي ملقاة على سطح صفحات جامدة. ولكن ليس هذا كل شيء؛ فالقصة نوع من الامتداد لشخصيتي، شيء كان جزءا مني، ثم انفصل عني، وابتتر الآن، وأصبح مكشوفا ووحيدا. ليس الخجل أو الندم هو ما أشعر به بالضبط؛ فسأكون منافقة لو زعمت أنني أشعر بهذا، بما أن الانكشاف - أو نشر الكتاب - كان بالتأكيد ما يهمني طيلة الوقت، وإنما هو شعور بالانزعاج، أو عدم الرغبة في النظر فيه أو المراجعة. أحاول أن أجيد التحدث عن قصصي؛ لإحساسي أن هذا شيء بدائي وطفولي. وسأحاول الآن.
بعض من هذه القصص أقرب إلى حياتي الخاصة من بعضها الآخر، ولكن ليس من بينها ما اقترب من حياتي بالشكل الذي يتخيله الناس؛ فالقصة التي تحمل عنوان المجموعة القصصية لها علاقة بموت والدي، وهي ترتبط بزيارة قمت بها - خلال الصيف الذي أعقب وفاته - إلى قبة مكلافلن السماوية. ولكن لو انتويت أن أكتب - ولو حتى لأرضي نفسي - وصفا لموت والدي أو الرحلة التي قمت بها مع أصغر بناتي وأخيها غير الشقيق إلى القبة السماوية، فستكون النتيجة مختلفة تماما، ليس فقط من حيث التفاصيل الواقعية أو الأحداث، وإنما من حيث الإحساس. عندما تشرع في تأليف قصة، تجتمع عدة أشياء من أركان بعيدة في عقلك لتسيطر عليه. لربما ظننت أن بعض الأمور ستكون جزءا من القصة ولكنك تغفلها، في حين أنك تضخم أمورا أخرى. وهكذا فأنت تنسج خيوط القصة بمزيج من الأمل والرهبة والاندهاش المتكرر. ولو كانت القصة من نوع معين - بضمير المتكلم، فتبدو ساذجة ومباشرة - يتصور الناس أن كل ما فعلته هو أنك سجلت كل ما حدث في يوم معين.
وإنه لأمر جيد أن يعتقدوا هذا؛ لأنه يعني أن القصة أقنعتهم.
ألفت جميع القصص الواردة - بكل صدق - بالطريقة نفسها. بعضها مبني على تجربة شخصية - مثل «أقمار المشتري» أو «حجر في الحقل» - في حين بني بعضها الآخر على المشاهدات - مثل «الزائرون» أو «السيدة كروس والسيدة كيد». يضيع هذا الاختلاف خلال عملية التأليف، أو هذا ما يجب أن يحدث؛ فقد ابتعدت تماما بالقصص المأخوذة من تجربة شخصية عن الواقع. أما القصص المعتمدة على مشاهداتي، فتفقد حدودها القصصية؛ نتيجة سيطرة أشكال وأصوات مألوفة عليها.
أو هذا ما آمله على أية حال.
لأوصل فكرتي بوضوح، فإن تأليف قصة «موسم الحبش» قد يلقي بعض الضوء على هذه العملية؛ فقد حاولت بشكل متقطع على مدار سنوات تأليف قصة تدور حول فندق كنت أعمل فيه نادلة، وأنا في التاسعة عشرة من العمر. كان هذا فندقا صيفيا من الدرجة الثانية في مسكوكا. كنت أريد أن أكتب شيئا عن المساعد الأول للطباخ، وهو رجل غامض ومثير للإعجاب، والمساعد الثاني للطباخ مقطب الجبين الذي قد يكون أو لا يكون عشيقه، وشيف الحلويات الذي كان بذيئا بطبعه، وكذلك عن امرأة مبتذلة، والتي وصلت لتطارد المساعد الأول للطباخ، وعن تأثير هذا كله على هذه الفتاة الشابة، العادية، الخرقاء، الفضولية، الخجولة. ولكني لم أبلغ مدى بعيدا في تأليف هذه القصة. ثم عثرت ذات يوم - وسط أوراق أبي - على صورة فوتوغرافية للعمال الموسميين الذين كانوا يعملون في حظيرة ديوك الحبش التي كان يديرها. أعتقد أن الصورة التقطت عشية عيد الميلاد. وثمة مسحة مقترنة بالعصور الوسطى تتسم بها؛ الأثواب الفضفاضة، والعمامات، والمآزر، والوجوه المنهكة، التي تبدو ودودة ومريبة في آن واحد، ساخرة ومطيعة، ماكرة ومستكينة. جعلتني الصورة أفكر في أنواع معينة من العمل الشاق، في جوانب الرضى وروح الألفة والمجهود القاسي. لاحظت أن الشخصيات التي وظفتها في قصة الفندق قد التحمت بهذه القصة؛ فكان المساعد الأول للطباخ هو كبير العمال، بينما اتحد المساعد الثاني للطباخ وشيف الحلويات في هيئة براين، الشاب، العامل المؤقت، غير الكفء. أما المرأة المبتذلة، شديدة التصميم على ملاحقة الطباخ/كبير العمال فجسدتها جلاديس. وقد عرفت عن مارجوري وليلي من القصص التي سمعتها من أقاربي، ولدى مصفف الشعر. وكان مهما للغاية بالنسبة إلي أن أفهم العملية الفعلية لاستخراج أحشاء ديوك الحبش، وقد أسعفني حظي بحصولي على وصف دقيق لها من شقيق زوجي، الذي أهديت له قصة «موسم الحبش». ولكن الآن بعد أن كشفت خيوط تلك القصة، هل زاد فهمنا لما تدور حوله؟ هل هي عن الجنس؟ أم العمل؟ أم ديوك الحبش؟ أم وسائل الراحة والتسلية لامرأة في منتصف العمر؟ أم اكتشافات الفتاة الشابة؟ عندما أفكر في القصة، أفكر في اللحظة التي تخرج فيها مارجوري وليلي والفتاة من حظيرة الحبش، بينما يتساقط الثلج، فيعقدن أذرعهن ويصدحن بالغناء. أعتقد أنه من الأفضل أن تضم كل قصة بين جنباتها لحظة مشرقة غريبة كهذه، وبطريقة أو بأخرى هذا ما تدور حوله القصة.
كانت قصة «الحادثة» أول قصة أؤلفها في هذه المجموعة، وذلك في شتاء عام 1977. كنت أعمل في المقام الأول وقتذاك على كتابة قصص من أجل مجموعة قصصية أخرى. أما «حافلة باردون»، فكانت القصة الأخيرة في هذه المجموعة، وقد كتبتها في خريف عام 1981. وجميعها ألفته في أثناء إقامتي بكلينتون، أونتاريو. خلال تلك السنوات سافرت إلى أستراليا، والصين، ورينو، وسولت ليك سيتي، والعديد من الأماكن، ولكني لم أجد أن السفر قد ترك أثرا كبيرا في ككاتبة. قصة «حافلة باردون» - على سبيل المثال - تدور بعض أحداثها في أستراليا، ولكنها تدور بشكل أخص في بضعة بيوت غريبة وقذرة وصاخبة في شارع كوين بتورونتو، حيث أعيش غالبا خلال شهور الصيف.
سأحاول جاهدة - الآن - أن أتذكر ما تدور حوله هذه القصص. وهذا شيء غريب. فأنا أؤلفها بحماس وتفان وجهد كتوم، ثم بعد ذلك أفارقها وأتركها، لكي تقوى وتستقر في مكانها المحتوم. هذا يشعرني بالحرية. ما أفعله بعد ذلك أنني أشرع في حشد طاقاتي، والاستعداد للقيام بنفس العمل مرة أخرى.
أليس مونرو
كلينتون، أونتاريو، 1985
ناپیژندل شوی مخ