137

اقمار مشتري

أقمار المشتري

ژانرونه

تذكرت فترة أخرى عشتها في فانكوفر. خلال تلك الفترة كانت نيكولا ترتاد الحضانة، بينما كانت جوديث لا تزال رضيعة. اصطحبنا نيكولا إلى الطبيب لأنها كانت مصابة بنزلة برد، أو ربما لإجراء فحص روتيني لها، وكشف تحليل الدم شيئا يتعلق بخلايا الدم البيضاء - إما أن عددها كان أكثر من المعتاد أو أنها كانت متضخمة. طلب الطبيب فحوصات إضافية، فاصطحبت نيكولا إلى المستشفى لإجرائها. لم يذكر أحد أنها ربما تكون مصابة بسرطان الدم، لكنني كنت أعرف بالطبع أن هذا هو ما يبحثون عنه. عندما اصطحبت نيكولا إلى البيت، طلبت من جليسة الأطفال التي كانت ترعى جوديث أن تبقى لفترة الظهيرة، وذهبت للتسوق. اشتريت أجرأ ثوب حظيت به في حياتي؛ ثوبا ضيقا من الحرير الأسود مزينا بتطريز من الأمام. تذكرت ظهر ذاك اليوم الربيعي الجميل، والحذاء ذا الكعب العالي في المتجر، والملابس الداخلية المطبوعة بلون جلد النمر المرقط.

استرجعت ذاكرتي أيضا العودة إلى البيت من مستشفى سانت بول مرورا بجسر لايونز جيت في الحافلة المكتظة، ونيكولا تجلس على ركبتي. فجأة تذكرت نيكولا الاسم الذي كانت تطلقه على الجسر وهي صغيرة وهمست في أذني: «الجسل - على الجسل.» لم أتجنب قط لمس ابنتي - نيكولا كانت نحيلة وجميلة حتى آنذاك، بقوامها البديع وشعرها الأسود الناعم - لكنني أدركت أنني ألمسها بطريقة مختلفة، ولو أنني لم أكن أحسب أن هذا الاختلاف يمكن إدراكه قط. كنت ألمسها وأنا حريصة على ألا أغالي في لمس أي جزء منها. أدركت كيف يمكن استبقاء الحب بأشكاله مع شخص محكوم عليه بالموت، ولكن على أن يمنح الحب بانضباط وبمقدار محدد في واقع الأمر؛ لأنك لا بد وأن تصمد. ويمكن القيام بهذا باحتياط شديد بحيث لا يساور المحبوب أدنى شك، تماما كما لا يساورها شك في حكم الموت المحكوم عليها به. نيكولا لم تعرف، ولم يكن لها أن تعرف. كانت اللعب والقبلات والنكات تنهال عليها؛ لم يكن لها أن تعرف قط، رغم أني كنت أقلق من أن تشعر بأن ثمة خطبا ما خلال الإجازات المختلقة والأيام العادية المصطنعة . لكن الأمور سارت على ما يرام. لم تكن نيكولا مصابة بسرطان الدم. وكبرت نيكولا ولم تزل على قيد الحياة، وربما كانت سعيدة ومنعزلة عن الآخرين.

لم أستطع أن أفكر في أي شيء في المتحف أردت أن أراه حقا؛ ولذا فقد تجاوزته وقصدت القبة السماوية. لم يسبق لي أن زرت القبة السماوية من قبل. كان من المقرر أن يبدأ العرض في غضون عشر دقائق. دلفت إلى الداخل، واشتريت تذكرة، وانضممت إلى الصف. كان هناك فصل كامل من طلاب المدارس، وربما حتى فصلان، بصحبة المعلمين والأمهات المتطوعات الذين يقودون الأطفال. جلت ببصري لعلي أجد راشدين مستقلين آخرين، فعثرت على شخص واحد فقط؛ رجل أحمر الوجه منتفخ العينين بدا وكأنه بصدد زيارة القبة السماوية ليمنع نفسه من الذهاب إلى الحانة.

في الداخل، جلسنا على مقاعد مريحة بشكل مدهش، ومائلة للخلف بحيث يستلقي عليها الجالس وكأنه على أرجوحة شبكية، وانتباهه منصب على قبة السقف الذي سرعان ما استحال لونه إلى الأزرق الداكن، بينما حدوده محاطة بإضاءة خافتة. انبعث صوت موسيقى رائع وآسر. وطفق الراشدون يسكتون الأطفال في محاولة لإقناعهم بالكف عن طقطقة أكياس شرائح البطاطس المقلية. وبعدها ارتفع صوت رجل من الجدران، صوت معبر ومحترف، يتحدث ببطء وهدوء. ذكرني صوته بعض الشيء بالطريقة التي اعتاد بها مذيعو الراديو التقديم لقطعة موسيقى كلاسيكية، أو وصف تقدم العائلة المالكة إلى كنيسة وستمينستر آبي خلال واحد من احتفالاتهم الملكية. كان هناك تأثير صدى صوت ضعيف.

بدأت النجوم تملأ السقف المظلم. لكنها لم تخرج مرة واحدة، بل نجم تلو الآخر، كما تظهر النجوم حقا في الليل، ولو أنها كانت أسرع بعض الشيء. وظهرت مجرة درب التبانة، وكانت تقترب شيئا فشيئا؛ وسبحت النجوم حتى صارت لامعة مبهرة وشقت طريقها حتى ذوت عند أطراف القبة السماوية أو خلف رأسي. وبينما استمر تدفق الضوء، عرض صوت المعلق الحقائق المدهشة. قال إنه منذ بضع سنوات ضوئية، ظهرت الشمس كنجم مضيء، ولم يكن للكواكب أثر. وقبل ذلك ببضعة عشرات السنوات الضوئية، لم تكن الشمس مرئية أيضا للعين المجردة. وهذه المسافة - التي تقدر ببضعة عشرات السنوات الضوئية - توازي حوالي جزء من الألف من المسافة الفاصلة بين الشمس ومركز مجرتنا - مجرة واحدة - التي تحتوي بدورها على حوالي مائتي مليار شمس، وهي بدورها واحدة من ملايين، وربما حتى مليارات المجرات. تكرارات لا حصر لها، وتنويعات لا تحصى. كل هذه الأشياء كانت تمر من فوق رأسي أيضا ككرات البرق.

انحسر الواقع الآن، وأفسح المجال لحيلة مألوفة. ثمة نموذج للنظام الشمسي يدور مبتعدا بشكل أنيق. وثمة حشرة مضيئة انطلقت من الأرض باتجاه كوكب المشتري. برمجت عقلي المتملص المتضائل بإصرار على تسجيل الحقائق. يبلغ حجم المشتري مثلين ونصف حجم كل الكواكب مجتمعة. هذه البقعة الحمراء العظيمة. الأقمار الثلاثة عشر. تجاوزنا المشتري، وألقينا نظرة على المدار العجيب لكوكب بلوتو، والحلقات الثلجية لكوكب زحل. ثم عدنا إلى الأرض ومنها إلى كوكب الزهرة الحار المدهش البالغ ضغطه الجوي تسعة أمثال ضغط الأرض الجوي. وها هو عطارد - الكوكب المحروم من الأقمار - يدور ثلاث دورات حول نفسه أثناء دورانه حول الشمس مرتين؛ نسق غريب لا يرضينا بقدر ما يرضينا ما اعتادوا أن يقولوه لنا حين زعموا أنه يدور حول نفسه مرة واحدة فقط أثناء دورانه حول الشمس؛ لا توجد ظلمة أبدية إذن. ما الذي يدعوهم إلى إمدادنا بمثل هذه المعلومات بهذه الثقة، فقط ليعلنوا لنا بعدها أنها عارية تماما من الصحة؟ أخيرا، الصورة المألوفة على صفحات المجلات: تربة المريخ الحمراء والسماء الوردية الزاهية.

عندما انتهى العرض، قبعت في كرسيي بينما مر الأطفال من أمامي دون أن يعلقوا على شيء مما رأوه أو سمعوه توا. كانوا يزعجون المشرفين عليهم طلبا للمأكولات والمزيد من الترفيه. ثمة جهود بذلت من أجل لفت انتباههم وصرفه عن الفشار وشرائح البطاطس المقلية المعلبة، وتركيزه على الكثير من الحقائق المعلومة والمجهولة والتفاصيل الهائلة، بدا أن هذا المجهود راح هباء. حدثت نفسي أن هذا لمصلحتهم. يملك الأطفال مناعة طبيعية، أغلبهم على الأقل، ويجب عدم العبث بها. أما الراشدون الذين يستنكرون هذا الأمر ، والذين روجوا لهذا العرض، ألم تكن لديهم مناعة هم أنفسهم لدرجة أنهم استطاعوا استخدام صدى الصوت والموسيقى والهيبة الكنسية لمحاكاة الهيبة التي افترضوا أنهم يجب أن يشعروا بها؟ الهيبة؛ ماذا يفترض أن تعني؟ نوبة من الارتعاش تنتابك عندما تتطلع من النافذة؟ فور أن تعرف ماهيتها، لن تبادر بالتقرب منها.

جاء رجلان بمكانس لتنظيف المخلفات التي تركها الجمهور. قالوا لي إن العرض التالي سيبدأ بعد 40 دقيقة. وإلى أن يبدأ علي أن أخرج. •••

قلت لأبي: «ذهبت لمشاهدة العرض بالقبة السماوية. كان مثيرا جدا. كان يتناول النظام الشمسي». حدثت نفسي أن يا للكلمة السخيفة التي استخدمتها: «مثير»! فأضفت قائلة: «بدا المكان أشبه بمعبد زائف نوعا ما.»

كان أبي يتكلم بالفعل. «أذكر عندما اكتشفوا كوكب بلوتو بالضبط في المكان الذي حسبوا أنهم سيجدونه فيه. عطارد والزهرة والأرض والمريخ، ثم المشتري ومن بعده زحل ونب... لا أورانوس ثم نبتون فبلوتو. أهذا هو الترتيب الصحيح؟»

ناپیژندل شوی مخ