عقبت او مسلمانان
أقباط ومسلمون: منذ الفتح العربي إلى عام ١٩٢٢م
ژانرونه
كلمة المؤلف
1 - حالة المسيحية في مصر قبيل الفتح الإسلامي
2 - الفتح العربي
3 - الشريعة الإسلامية وأهل الذمة
4 - أحوال الأقباط الحقيقية تحت حكم الولاة
5 - سياسة الولاة المستقلين
6 - عظمة الأقباط واضمحلالهم في عهد الفاطميين
7 - موقف الصليبيين من النصارى
8 - كارثة النصرانية في عهد السلاطين المماليك
9 - القبطي في خدمة البكوات المماليك
ناپیژندل شوی مخ
10 - سياسة بونابرت الإسلامية وموقف الفرنسيين من الأقباط
11 - تسامح أسرة محمد علي والاعتراف القانوني بالمساواة بين المسلمين والأقباط
12 - مسائل متنوعة
خاتمة
المراجع
كلمة المؤلف
1 - حالة المسيحية في مصر قبيل الفتح الإسلامي
2 - الفتح العربي
3 - الشريعة الإسلامية وأهل الذمة
4 - أحوال الأقباط الحقيقية تحت حكم الولاة
ناپیژندل شوی مخ
5 - سياسة الولاة المستقلين
6 - عظمة الأقباط واضمحلالهم في عهد الفاطميين
7 - موقف الصليبيين من النصارى
8 - كارثة النصرانية في عهد السلاطين المماليك
9 - القبطي في خدمة البكوات المماليك
10 - سياسة بونابرت الإسلامية وموقف الفرنسيين من الأقباط
11 - تسامح أسرة محمد علي والاعتراف القانوني بالمساواة بين المسلمين والأقباط
12 - مسائل متنوعة
خاتمة
المراجع
ناپیژندل شوی مخ
أقباط ومسلمون
أقباط ومسلمون
منذ الفتح العربي إلى عام 1922م
تأليف
جاك تاجر
كلمة المؤلف
لست مسلما ولا قبطيا، وقد تعرضت لموضوع العلاقات بين الأقباط والمسلمين بدافع المؤرخ الذي يسرد الحوادث على حقيقتها لا بشعور القاضي، الذي يحكم بين طرفين، ومن البديهي أن يثير هذا البحث بعض التعليقات غير أني أرحب بكل من يحيطني بوجهة نظره أو يتحفني برأيه.
المقدمة
بقلم جاك تاجر
عاشت المسيحية في مصر في جو ساده الاضطراب والقلق، ولا غرابة حينئذ إذا رأينا الكتاب والمؤرخين قد عكفوا مبكرين على سرد تاريخها.
ناپیژندل شوی مخ
ولم نعتمد في دراستنا على المؤلفات التي وضعت حديثا لتناولها بوجه عام الناحيتين الروحية والدينية من تاريخ الكنيسة المصرية، وإهمالها الناحيتين السياسية والاجتماعية من ذلك التاريخ، فهي إذا قد اقتصرت على معلومات عابرة عن العلاقات بين الأقباط والمسلمين.
وإذا استثنينا كتاب الأب «رينودو»
Renaudot ، لاحظنا أن بقية المؤلفات قد أغفلت ذكر المصادر التي استقت منها الأخبار والحوادث فأصبحت قاصرة عن توجيهنا في أبحاثنا، فضلا عن أن كثيرا من النظريات والحجج التي أريد التدليل بها أصبحت باطلة بعد أن اكتشفت حديثا أوراق البردي.
1
والواقع أن المسألة القبطية لم تدرس دراسة وافية إلا في «دائرة المعارف الإسلامية»
2
رغم اكتفاء المسيو «جاستون فييت» بطرحها على بساط البحث في أسلوب مقتضب، وعدم تناوله العصر الحديث ابتداء من الحملة الفرنسية، لضيق المقام أفرد له، إلا أنه دعم بحثه القيم بقائمة غنية بالمصادر القديمة والحديثة اتخذناها أساسا لبحثنا.
أما الكتب العربية، ونذكر منها على سبيل المثال «تاريخ الأمة القبطية» ليوسف منقريوس، وغيرها من الدراسات الثانوية المتشابهة لها، فقد كتبت بأسلوب أقرب إلى الجدل منه إلى الروح العلمية.
وخلاصة القول؛ إن شعب مصر لم يعرف تاريخ العلاقات بين المسلمين والأقباط إلا عن طريق الأقاصيص والحوادث التي شوهتها الأحقاد القديمة، ونقلها أو بالغ فيها أناس لم يعتمدوا على النطق السليم في تفكيرهم، وسنحاول اليوم بقدر الاستطاعة أن نبين بوضوح الحقيقة، مهما كانت مريرة، وفي الوقت نفسه نكشف عن الأسباب الأصلية لأهم الحوادث.
فهذه الدراسات لا تهدف كما يتصور بعض الناس، إلى إذكاء نار عداوات قديمة، لما حوته من خصومات أو أحداث أليمة؛ ذلك لأن الأهواء الدينية في الشرق لم تفقد من حدتها بين المسلمين والأقباط في الطبقتين الوسطى والسفلى، وإن كانت فاترة في الظاهر، فإن القلق المكبوت ما زال جاثما رغم التصريحات الرسمية وحسن استعداد رؤساء الأمة وقاداتها في التعاون الصادق لإزالة ما في النفوس من ضغائن ليتحد العنصرين؛ إذ إن الاتحاد أول الأسس المتينة لاستقلال البلاد.
ناپیژندل شوی مخ
وفي هذا الوقت الذي تفكر فيه الجامعة العربية في توسيع رقعة نشاطها وضم جميع الشعوب الإسلامية تحت رايتها على اختلاف أجناسهم، وفي هذا الوقت الذي يحبذ فيه نخبة من المسلمين بعث الإمبراطورية العربية القديمة من مرقدها، فإنا لا نشك إطلاقا في ترحيب عدد كبير من أقطاب السياسة بكل ما يساعدهم على فهم الأوضاع الصحيحة، وتوجيه تفكيرهم في سبيل المحافظة على الوئام بين الأغلبية المسلمة والأقلية المسيحية، وإذا تعذر علينا اقتراح حلول لهذه المسألة، فلنحاول على الأقل دراسة بعض وجوهها.
هوامش
الفصل الأول
حالة المسيحية في مصر قبيل الفتح الإسلامي
ظهرت المسيحية في مصر قبل الفتح الإسلامي بستمائة عام، ولا نريد إعادة تأريخ ظهورها في شتى مراحلها، فمثل هذه الدراسات خارجة عن حيز موضوعنا، كما أننا لن نناقش النتائج التي خرج بها بعض المستشرقين أمثال «لوفيفر»
Lefebvre
و«شميدت»
Schmidt
و«شولتز»
Schultze
ناپیژندل شوی مخ
1
وقد اتفقوا على أن المسيحية ظلت غريبة على أهل مصر الأصليين، كما ادعوا أن نجاح العرب يرجع بصفة عامة إلى أن الإسلام اجتذب أقباط مصر، الذين تعبوا من تزمت كنائسهم وتضييقها عليهم،
2
ويكفينا القول بأن المسيحية المصرية قبيل الفتح الإسلامي إنما كانت بالنسبة للشعب المصري، أداة للتحرر السياسي والتخلص من نير الحكم البيزنطي.
ظل الشعب القبطي، بعد انتشار المسيحية على يد الرومان والبيزنطيين، يعبد بحرارة آلهته الفرعونية ويكرم آثار ماضيه التليد، وكان يرفض أن يقدم أي قربان للآلهة اليونانية والرومانية، كما أنه لم يقبل المسيحية إلا بتحفظ شديد؛ لأنها جاءته من الخارج، وكان الشعب يريد بذلك إقناع نفسه أنه لم يخضع لاحتلال الغزاة ما دام يقاوم شعائرهم وعقائدهم.
ترك مسيحيو مصر ديانة أجدادهم مكرهين؛ لأن ديانة الفراعنة ومعابد الفراعنة وآلهة الفراعنة كانت تذكرهم بمجد مصر في مختلف عهودها، فلا غرابة لو ظلت معتقداتهم القديمة راسخة في نفوسهم، رابضة في قلوبهم بعد اعتناقهم المسيحية، ونستطيع أن نضرب مثلا لهذا التشبث بقراءة «السيناكسار»؛ أي: تاريخ القديسين، يقول السيناكسار: «في معبد قيصرون الذي شيدته الملكة كليوباطرة، كان يوجد صنم كبير من النحاس اسمه «عطارد»، وكان يحتفل سنويا بعيده وتقدم له الذبائح، وقد ظلت هذه التقاليد معمولا بها إلى أيام حكومة الأب إسكندر؛ أي: لمدة تزيد عن ثلاثمائة عام، فلما نصب إسكندر بطريركا، قرر تحطيم هذا الصنم بيد أن شعب الإسكندرية ثار قائلا: «لقد اعتدنا إحياء هذا الصنم، ولقد تربع على هذا الكرسي اثنا عشر بطريركا، ولم يجرؤ أحد منهم أن يصرفنا عن هذه العادة.».
3
ولما زالت عبادة الأصنام وكفت السلطة الحاكمة عن حمايتها، لم يستطع المصريون تلافي المسيحية، فحاولوا، حسب تعبير جان ماسبيرو
Jean Maspero
الموفق «مصادرتها لمصلحتهم» وقرروا أن كل ما كان جميلا وعظيما في المسيحية إنما هو مصري، ومن ذلك الحين مال الأكليروس والشعب إلى القبض على زمام الحكم ثم إلى الانفصال عن حكم بيزنطيا، وقد تجلى هذا الميل بوضوح بعد مجمع نيقيا
ناپیژندل شوی مخ
Nicce
الديني حيث بزغ نجم كنيسة الإسكندرية ولمع.
شعر بطاركة الإسكندرية بعد مجمع نيقيا بعطف العالم المسيحي عليهم وتقديره لعلمهم ونبوغهم، فرئيس الكاثوليك «أي: بابا روما» أصبح يحيطهم بالإجلال والاعتبار، بينما أضحى إمبراطور بيزنطيا يغمرهم بالعطايا والهدايا، هذا لأنهم فندوا ادعاءات الانفصاليين وحافظوا على وحدة المسيحية، وعلى حسن العلاقات بين الإمبراطوريتين الرومانيتين، شعر البطاركة بهذا كله واغتنموا كل فرصة سنحت لهم للتخلص من وصاية الإمبراطور عليهم، كما تعاونوا على فرض وجهة نظرهم فيما يتعلق بالمسائل الدينية حتى ولو كانت مخالفة لرأي رئيسهم المباشر؛ أي: البابا.
أما الشعب القبطي، الذي كان يتحسر على عظمة الفراعنة البائدة، فقد كان يتحمل الاحتلال الروماني والاحتلال البيزنطي بعناء مشقة، وكانت الضرائب الفادحة التي تفرضها عليه السلطة القائمة تزيد من يأسه، وأراد أن يظهر رغبته في الحرية السياسية أو بالأحرى أن يثور ضد المحتل الغشوم المتعسف، ولكن أنى له هذا؟ إن الوسيلة الوحيدة التي سنحت له، وهي الانشقاق الديني، قد لجأ إليها بعد أن ظهر بطريرك الإسكندرية في المحيط الديني والميدان السياسي، إن البطريرك كان الشخص الوحيد، الذي لم تفرضه السلطات المدنية على الشعب المصري، بل كان الشعب هو الذي ينتخبه، فأصبح البطريرك من جراء ذلك ممثل الشعب المصري الحقيقي، يعبر عن طموحه وأمانيه أمام الرأي العام، وأصبح الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يصمد ضد سلطان الإمبراطور ومن يمثلونه.
ويجمل بنا أن نذكر القارئ بأن المسائل الدينية كانت في ذلك العصر موضع المناقشة الوحيد، وبالتالي كانت الساحة الوحيدة التي يمكن أن يحتدم فيها القتال، ومن ثم أعلن الشعب القبطي، تحت قيادة رؤسائه الدينيين، عصيانه على مبدأ الكنيسة الموحدة، فالانشقاق القبطي هو ديني من حيث الحجة فقط، وبالرغم من أن الاعتبارات الدينية فقدت كثيرا من أهميتها في أيامنا الحاضرة، فيجدر بنا أن ننوه عن حوادث الانشقاق الديني؛ لأنها ستوضح لنا ما غمض من أسباب مأساة «كالسيدونيا»
Chalcedoine .
كان البطريرك «ديوسقور»
Dioscore ، الذي لا يذكر اسمه إلا مقرونا بمجمع كالسيدونيا، يصرح راضيا: «إن البلاد لي أكثر ما هي للأباطرة؛ وإني أطالب بالسيادة على مصر.»، ولم تفتر عزيمته في انتظار الفرصة طويلا ليخرج بهذا التصريح من حيز الكلام إلى حيز العمل، ولقد سنحت له هذه الفرصة في خراقة بطريرك القسطنطينية غير المقصودة.
وفعلا، عندما أعلن الراهب «أوتيشيس»
Euthyches
ناپیژندل شوی مخ
مذهبه الخاص بطبيعتي المسيح الإلهية والبشرية «وهو المذهب الذي ينتمي إليه الأقباط الأرثوذكس حاليا» - وكانت هذه المسألة الشائكة تثير النقاش والجدل في العالم المسيحي - بادر الأكليروس المصري إلى تفنيد مزاعمه، ولم يكن هناك ما ينذر بأحداث جسيمة، ولكن شاء القدر أن يعلن «فلافيان»
Flavient
بطريرك القسطنطينية بصفة رسمية قرار حرمان صاحب المذهب الجديد، مما جعل ديوسقور يستنكر على زميله حقه في إدانة أحد أعضاء الكنيسة علنا؛ لأن في هذا العمل إعلاء لمقام بطريرك القسطنطينية على بطريرك الإسكندرية، ولما كان فلافيان قد أدان علنا الراهب أوتيشيس، انضم ديوسقور رسميا إلى رأي الراهب.
وضع بطريرك الإسكندرية أكليروس مصر في مركز حرج، بمنطوق حكمه المتأخر المفاجئ؛ ذلك لأن الأساقفة المصريين أدانوا أوتيشيس دون أن يبدي البطريرك - وهو صاحب الرأي الأخير - أية معارضة، فكيف يستطيعون بعد ذلك أن ينقضوا حكمهم دون أن يعرضوا أنفسهم للسخرية، وبينما كان الأساقفة حائرين مترددين أمام هذا الموقف الشاذ؛ إذ يأمرهم ديوسقور أن يتضافروا معه ويؤيدوه في موقفه، ولم يكن في استطاعة الأساقفة إلا الإذعان لأمر رئيسهم، ولما ناقشهم مجمع كالسيدونيا، صاحوا جميعا قائلين: «ألم يقرر مجمع نيقيا أن تتبع مصر كلها بطريرك الإسكندرية، وألا يتصرف الأساقفة في أي موضوع دون الرجوع إليه؟» ولما أمرهم المجمع بأن يدينوا لرئيسهم، أجابوا بتململ: «إذا فعلنا ذلك لن نستطيع أن نقيم في البلاد؛ لأن سكانها سيقتلوننا، وإذا أردتم أن تحرمونا من أبروشياتنا، فاحرمونا؛ إنا فيها زاهدون وكل ما نريده هو ألا نموت.».
أما الشعب المصري، فلم يتردد لحظة واحدة في مناصرة بطريركه لاعتقاده بأن جرأة رئيسه الديني قد حققت أمانيه الغالية المنشودة، فلما حكم مجمع كالسيدونيا على ديوسقور وأمر بنفيه، رفض الشعب، متضامنا مع الرهبان، الاعتراف بسلطة البطريرك الذي أمر إمبراطور القسطنطينية بتنصيبه، وهكذا ظهر الانشقاق، وأصبحت الشقة بعيدة الغور بعد أن حاز مذهب الطبيعة الواحدة - أي: مذهب الراهب أوتيشيس - أغلب الأصوات، فقد بلغ عدد المنشقين في مصر في القرن السابع الميلادي ستة ملايين شخص يقابلهم مائتا ألف فقط ممن يدينون بالطاعة للبطريرك الكاثوليكي؛ أي: لسلطة إمبراطور القسطنطينية.
أما المنشقون، فكانوا بطبيعة الحال سكان البلاد الأصليين، بينما كان أنصار الفريق الآخر من البيزنطيين وأهل الإسكندرية المصطبغين بالصبغة اليونانية أو الموظفين الأقباط الذين قضت عليهم مصلحتهم «بأن يتناولوا القربان المقدس من أيدي حاكمهم الملحد».
ومن العبث أن نحاول إيضاح مذهب الطبيعة الواحدة؛ لأن المصريين من جانبهم لم يهتموا بصاحب المذهب أو بتعاليمه، وكان هدفهم الأساسي يرمي إلى الانفصال عن بيزنطيا، وقد اعتبروا الانشقاق الديني أول مرحلة من مراحل الارتقاء إلى التحرر.
وكانت بيزنطيا في الباطن تعرف جيدا الغرض الذي كان يهدف إليه ديوسقور، كما لم تخف عليها الأسباب التي كان الشعب يتبعه من أجلها بحماس، لذلك حاول الإمبراطور أن يقنع البطريرك المصري بالعدول عن موقفه المتطرف والعودة إلى الوئام؛ إذ كان يحز في نفسه أن تصاب وحدة الإمبراطورية بتصدع بسبب نزاع لا يرتكز إلى حجج قوية.
استعان الإمبراطور بالقوة لإبقاء الانفصاليين تحت سلطة البطريرك الكاثوليكي، ولكنه حاول في هذه الأثناء جاهدا حل الخلاف بطريقة ترضي الطرفين المتنازعين، اقترح الإمبراطور «زينون» “Zenon”
حلا معروفا باسم «هينوتيك» «هينوتيك»
ناپیژندل شوی مخ
Henotique ، ثم أشار الإمبراطور «هرقل» إلى حل آخر معروف باسم «اكتيز»
Ecthése ، ولكن رغم اعتراف الأكليروس اعترافا ضمنيا بالحل الأول، ورغم إنكار البابا للحل الأخير؛ لأنه يخالف العقيدة الكاثوليكية مخالفة شديدة، رفض الشعب المصري الحلين؛ لأنه لم يعد يقبل إعادة العلاقات بينه وبين الإمبراطور بعد أن بذل جهودا كبيرة لفصمهما، كما لم يعد الأكليروس المصري يسير بمفرده في ركب ديوسقور، بل كانت الأمة المصرية بأسرها تتبعه.
اضطرب السلام الداخلي في مصر بعد مجمع كالسيدونيا، وأقبلت البلاد على عهد جديد من الاضطهاد، أسماه الأقباط «الرعب الكاثوليكي»، واعتبر الشعب المصري ورهبانه البطريرك «قيرس»
Cyrus
الذي عينه الإمبراطور هرقل قبل الفتح الإسلامي، عدوا للمسيح؛ لأنه أراد أن يرغم الشعب على قبول حل «الإكتيز» الذي اقترحه عاهل القسطنطينية.
غير أن الأقباط لم يقوموا، بعد مجمع كالسيدونيا، بأية محاولة ليقطعوا مرحلة جديدة في سبيل استقلالهم ولم يواصلوا الكفاح لبلوغ غرضهم هذا، كان الدين يحتل مكانة عظيمة في كيانهم الوطني، وكانوا يعتقدون اعتقادا راسخا أنهم لو حصلوا على استقلالهم الديني لنالوا زبدة خصائص حريتهم السياسية، فلم يحاولوا توسيع شقة الخلاف التي حفروها، يضاف إلى ذلك أنهم لم يكونوا أهلا للحكم لعدم ممارستهم إياه قبل ذلك، ثم إذا كان الأقباط قد ملوا مضايقات أسيادهم البيزنطيين، فإن سنوات عبوديتهم الطويلة جعلتهم يتشككون في قدرتهم على التحرر في يوم ما من الوصاية الأجنبية، فكانوا لا يبغون في قرارة أنفسهم إلا تغييرا في السيادة عليهم يرجون منه توطيد السلام الديني ولا سيما تخفيف عبء الضرائب التي تجبى منهم، وقد أظهروا دائما استعدادهم لمناصرة أعداء السلطة القائمة، لو أظهر هؤلاء الأعداء استعدادهم لتنفيذ رغباتهم.
ففي سنة 609، عندما غزا مصر «نيكيتاس»
Nicétas
نائب هرقل الذي ثار ضد «فوكاس»
، تطوع عدد كبير من المصريين لمساعدته، دون أن يعرفوا على وجه الدقة أية منفعة قد يجنونها من الحاكم الجديد، ولم يقوموا بهذا العمل إلا بدافع كراهيتهم للسلطة القائمة.
ناپیژندل شوی مخ
وأراد نيكيتاس، بعد النصر الذي أحرزه، أن يتبع سياسة حكيمة نحو الشعب، فلم يتدخل في النزاع الديني من جهة، كما قرر من جهة أخرى تأجيل دفع الضرائب ثلاث سنوات، فعم الشعب فرح عظيم، وأجمع المؤرخون على أن السلام شمل البلاد بأسرها.
وفي سنة 619، غزا الفرس البلاد المصرية وارتكبوا فيها فظائع تشمئز منها النفوس، إلا أنهم لم يعيروا المسائل الدينية التفاتا، فلم يقلق الشعب القبطي من وجودهم، ولم يتذمر من عهدهم بل أسف لخروجهم، بعد أن حكموا البلاد عشر سنوات، ومما يستحق التنويه في هذا المقام أن الشعب لم يساعد الفرس ضد البيزنطيين، كما أنه لم يبد أية مقاومة عندما عاد هؤلاء إلى الحكم مرة أخرى.
وخلاصة القول؛ إن الشعب المصري لم يطمع من الناحية الوطنية إلا بشبه استقلال أساسه حرية العقيدة الدينية وخفض الضرائب، وهي السياسة التي سار عليها عمرو بن العاص عندما دخل مصر فاتحا.
نعم، إن عمرا ساعده تصرف هرقل الذي أراد قبيل الفتح الإسلامي بسنوات قليلة، أن يعيد الأقباط إلى حظيرة الكنيسة البيزنطية الكاثوليكية، مما أغضب الشعب وجعله يعطف على الغزاة، ويميل إلى مساعدتهم مع بقائه مخلصا للمسيحية إلى حد يلهم انكسار البيزنطيين بأنه عقاب المسيحيين الملحدين وتأكيد لمذهب الطبيعة الواحدة، الذي يرضى عنه الله، وقد كتب الأسقف اليعقوبي حنا النقيوسي: «لنحمد سيدنا يسوع المسيح ولنسبح اسمه القدوس في كل وقت؛ لأنه حمانا نحن - المسيحيين - حتى هذه الساعة من ضلال الوثنيين المرتدين ومن انهزام الملحدين الخونة.»
4
ويبادر المؤرخ نفسه، زيادة في الإيضاح إلى القول بأن المسيحيين المارقين أصحاب مذهب كالسيدونيا، هم الذين أسرعوا إلى اعتناق الإسلام، لا أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة.
5
ولا نغالي إذا قلنا إن توطيد السيادة العربية مكان السيادة البيزنطية في مصر، أدخل على نفوس مسيحيي الشرق بارقة من الأمل، ولقد كتب ميخائيل السوري، بطريرك اليعقوبيين في أنطاكية، يقول: «إن رب الانتقام استقدم من المناطق الجنوبية أبناء إسماعيل لينقذنا بواسطتهم من أيدي اليونانيين وإذا تكبدنا بعض الخسائر لأن الكنائس التي انتزعت منا وأعطيت لأنصار مجمع كالسيدونيا بقيت لهم (بعد دخول العرب)، إلا أننا قد أصابنا خير ليس بالقليل بتحررنا من قسوة الرومان وشرورهم ومن غضبهم وحفيظتهم علينا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سادت الطمأنينة بيننا.».
6
وفعلا، بعثت الكنيسة اليعقوبية من جديد وقويت تحت حكم عمرو بن العاص، واعتقد سكان البلاد الأصليون، فترة من الزمن، بأن نصر المسلمين سيعيد للمسيحية، أو بالأحرى - إن أردنا الدقة في التعبير - لمذهب الطبيعة الواحدة سطوته الماضية.
ناپیژندل شوی مخ
هوامش
الفصل الثاني
الفتح العربي
استعداد العرب نحو الأقباط، وطابع غزوتهم، وموقف الأقباط منهم
استن المشرع المسلم لأهل الذمة عددا من القوانين استلهمها من تعاليم القرآن والحديث، غير أن الفقهاء لم يستطيعوا دائما فرض وجهة نظرهم على الحكام، وكان هؤلاء يحيدون عنها كلما اضطرتهم ظروفهم ومصالحهم إلى ذلك.
ولكن وجود الفروق بين المبدأ والحقيقة، وتردد الإدارة إزاء أهل الذمة في أثناء الفتوحات، كان له بعض الأثر بلا شك في العلاقات بين الشعب المقهور وسيده الجديد؛ أي: بين الأقباط والمسلمين.
ولتوضيح العلاقات بين هذين العنصرين اللذين ينتميان إلى شعب واحد، لا يكفينا الرجوع إلى أصول الفتح الإسلامي، بل يجب أن نضع أنفسنا في جو الأحداث ذاتها؛ ذلك لأننا لا نستطيع أن نفهم موقف العرب أو رد فعل الأقباط إن كنا نجهل ما ظهر من نيات الطرفين وما بطن، ثم لا نستطيع التمييز بين التدابير التي اتخذها العرب نحو الأقباط وبين التدابير ذات الطابع العام.
إن الفترة الأولى من الفتح الإسلامي كثيرة الغموض والإبهام، لذا يجمل بنا أن نلقي بعض الضوء عليها، موضحين النقط التي تبدو لأول وهلة غريبة عن الموضوع ولكن لها أثرا بينا في مجرى العلاقات بين المسلمين والأقباط. (1) استعداد العرب نحو الأقباط (1-1) النبي يعطف على الأقباط
يبدو أن فتح العرب لمصر كان مقررا قبل وفاة النبي، وعلى كل فكانت مصر تحتل مكانا مرموقا في خطط توسع الإسلام العسكري، ألم يشاطر المقوقس، حاكم مصر، ملك الفرس والنجاشي وعاهل بيزنطيا، شرف استقبال الرسول الذي أوفده النبي ليدعوه إلى الإسلام؟ وعلى الرغم من أن النبي لم يزر مصر قط، فإنه كان يكن للأقباط عطفا ملحوظا، وفي الحديث: «استوصوا بالقبط خيرا، فإنكم ستجدونهم نعم الأعوان على قتال عدوكم»،
1
ناپیژندل شوی مخ
إن جميع المؤرخين والكتاب المسلمين يتنافسون في ذكر هذه الأحاديث المطبوعة بطابع العطف البليغ، ومنها وصيته عند وفاته: «الله، الله، في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل الله»، ومن حديث له أيضا: «قبط مصر فإنهم أخوال وأصهار وهم أعوانكم على عدوكم وأعوانكم على دينكم»، ولما سئل: «كيف يكونون أعوانا على ديننا يا رسول الله» قال: «يكفونكم أعمال الدنيا وتتفرغون للعبادة»، وقال النبي أيضا: «لو بقي إبراهيم، ما تركت قبطيا إلا وضعت عنه الجزية ».
2
ولا نخفي أن كلاما يقوله النبي بهذه الدقة عن شعب لا يعرفه ويفكر في غزوه، لمدعاة إلى الدهشة والاستغراب، غير أننا نستطيع الجزم بأن صاحب الدعوة الإسلامية كان يضمر كل خير لسكان مصر الأصليين، ونتساءل الآن: هل كان لمارية القبطية تأثير حسن على شعور النبي؟ هل أحيط النبي علما بعداء الأقباط لحكامهم البيزنطيين؟ وهل استنتج من هذه العداوة ميل الأقباط إلى التعاون مع الفاتح المسلم؟ لو صدقنا هذا التأويل لاستطعنا أن نفسر مغزى الرسالة التي أرسلها النبي إلى المقوقس، مع كون المقوقس مرءوسا لعاهل بيزنطيا.
وعلى كل، كانت مصر من الوجهة الجغرافية بعيدة عن جزيرة العرب، فكان لزاما على العرب، وهم لا يملكون أسطولا بحريا لاجتياز البحر الأحمر، أن يقطعوا على أقدامهم أراضي سوريا ولبنان لغزو مصر، ثم لما انتصر النبي على قريش ودخل مكة ظافرا، اهتم أولا بتوحيد جزيرة العرب وإدارتها، ولم يفكر جديا في بسط سلطانه على أراض جديدة، وقد صرف من بعده خليفته أبو بكر معظم سني حكمه في تدعيم وحدة القبائل العربية وتطهير أوكار المقاومة بين القبائل الثائرة، ولم يشعر العرب فعلا بقدرتهم على إظهار نشاطهم الحربي خارج الجزيرة إلا في خلافة عمر بن الخطاب. (1-2) العرب لا يجدون مبررا سياسيا لفتح مصر
تساءل كثير من الكتاب عن الأسباب التي دعت العرب إلى فتح مصر، وحاول بعضهم أن يجد حلا لهذه المسألة، غير أنه من الصعب الوصول إلى مبرر سياسي لهذه الفتوحات، لا سيما وأن المؤرخين المسلمين وفروا على أنفسهم مشقة البحث في هذا المضمار.
والواقع أن الفرس والروم كانوا ينشدون الراحة؛ لأن الحروب التي وقعت بينهم أنهكتهم، ثم لم يتوجسوا خيفة من القبائل التي تسكن الفيافي العربية المترامية الأطراف، وإذا اقتفينا آثار المؤرخين العرب الذين اهتموا بالرسالتين التي قد أرسلهما النبي إلى عاهلي إمبراطورية الفرس وإمبراطورية بيزنطيا، وجدناهم متفقين على أن عاهل بيزنطيا لم يبال قط بالرد على الدعوة التي وجهت إليه، كما أن ملك الفرس مزق علانية الرسالة، معلنا احتقاره للجنس العربي.
نقول هذا كله لنقيم البرهان على أن الفتوحات العربية لم ترتكز على أغراض دفاعية، وما أسهل الكشف عن أسباب الفتوحات، لقد وحد الإسلام القبائل العربية، التي اعتادت شن الإغارات على بعضها، كما اعتادت السلب والنهب لسوء أحوالها الاقتصادية، فلما حلت بينها روح الإخاء التي نشرها الإسلام محل العداء المألوف، بحث سكان الجزيرة بطبيعة الحال عن أرض أقل جدبا ليرتزقوا منها، فلم يتردد المسلمون - وقد حفزتهم قوة إيمانهم واقتناعهم بأن الشعوب التي لا تعتنق الإسلام تضمر لهم العداء - أقول لم يتردد المسلمون إلى الخروج عبر حدود بلادهم لينتزعوا من المشركين والوثنيين بقاعهم الغنية.
قيل: إن الحاجة تبرر كل عمل عدائي، ويحدثنا التاريخ بأن قبل ظهور الإسلام بعهد بعيد، قام العرب بأعمال عدائية بحثا عن القوت؛ فغزوا مصر في عهد الفراعنة، واستقروا فترة من الزمن في «آشور» كما توصلوا إلى دخول الحبشة، ولم يتفق حدوث هذه الغزوات مع ظهور ديانة أو رسالة جديدة، ويقول الدكتور سليمان حزين، العالم الجغرافي: إنه توجد علاقة بين هذه الغزوات المتكررة والأحوال الجوية، ودافع بدوره عن نظرية التغييرات الجوية، ويقول أيضا: إنه يوجد ما يثبت أن مناخ بلاد العرب الشمالية والجنوبية في الفترة الواقعة بين القرن الثاني عشر قبل الميلاد والقرن الثالث بعد الميلاد، كان أشد رطوبة مما هو عليه اليوم، وأن الأمطار بدأت تخف ابتداء من القرن الثالث، ثم تناقصت تدريجيا إلى بداية القرن السادس، حيث وصل الجفاف إلى الذروة، ولكنه يبادر بالإضافة قائلا: إنه من المبالغ فيه تعليل توسع العرب إلى جفاف مناخ الجزيرة، ومع كل فلا بد أن يكون هذا الجفاف قد أثر في هذا التوسع.
3 (1-3) أسباب الفتح الإسلامي لم تكن دينية فحسب
يميل بعض المفكرين إلى تصوير الغزاة العرب الأولين بمظهر المبشرين المسلمين، الذين دفعهم إيمانهم إلى فتح العالم بأسره.
ناپیژندل شوی مخ
ولا شك أن للحماس الديني عامله الكبير بين معتنقي الدين الجديد، ولكنا لا نستطيع الجزم بأن الرغبة في التبشير كانت السبب الرئيسي لهذه الفتوحات، ويقول لنا ابن خلدون: إنه عندما بويع عمر بن الخطاب بالخلافة على المسلمين ، وقف يخطب في الجمع حاثا المؤمنين الصادقين على فتح العراق قائلا: «إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين القراء المهاجرون عن موعد، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها.».
4
تغيرت سياسة قواد العرب تغييرا شاملا بعد اتصالهم بالعالم الخارجي، فقد رأينا النبي يهنئ نفسه علانية لما انتصر الإمبراطور المسيحي هرقل على الفرس الوثنيين دون أن يبالي بما قد تجره هذه الانتصارات من نتائج سيئة على الدين الإسلامي، وقد رأيناه أيضا في موقعة بدر في السنة الثانية للهجرة ينازل ألف قريشي وهو على رأس ثلاث مئة محارب فقط، ولكن مسئولية الحكم جعلت خلفاءه يحسبون لكل قدم حسابه، وكانت الاعتبارات السياسية قد حلت محل الاعتبارات العاطفية.
إن اتساع رقعة الإمبراطورية العربية شرقا وغربا قللت فعلا من شأن العامل الديني، فاضطر الخليفة عمر بن الخطاب أن ينتهج سياسة حكيمة تتنافى مع الحماس والجرأة التي اتصف بها أول من اعتنق الدين الجديد، هذا ما فهمناه على كل حال مما كتبه المؤرخون المسلمون، فقد وصفوا لنا فتح مصر كأنه عمل حربي قرره الزعماء العرب بعد تردد طويل، وهم أيضا يؤكدون أن موافقة عمر لم تعط بسهولة بل انتزعت منه انتزاعا، وقد اعترض أحد الكتاب المعاصرين على حقيقة هذه التفاصيل محتجا بأنها مخالفة لطباع الخليفة المشهورة، فهو يقول: «لا يعقل أن عمر الذي أخضع بلاد الفرس والروم، وفر من جيوشه أعظم ملوك الأرض، يأذن للجند بالمسير إلى الغزو والجهاد، ثم يتراجع ويوقف السير وهو يعلم ما يترتب على ذلك من الوهن في عزيمة الجند وطمع العدو.».
5
ولكن عمر، الذي اشتهر بحكمته وتبصره، لم يستطع أن يخوض عن طيب خاطر غمار حرب حامية الوطيس، هل كان العرب يعرفون شيئا عن مصر؟ كانوا يجهلون غالبا كل ما يتعلق بتلك البلاد، ولما كانوا لا يملكون الخرائط الجغرافية، فقد سلكوا طريق الغزوات الذي اتخذه غيرهم، والذي تعرف عليه عمرو بن العاص في أثناء رحلاته إلى مصر، ألم يقل لنا المؤرخون: إن القوات العربية كانت تجهل تماما منطقة الفيوم، وإن الذي كشف لهم عن طريقها هو دليل اتبعوه على غير هدى؟ ألم يذهب حنا النقيوسي إلى جد الإثبات بأن المسلمين لم يكونوا يعرفون مدينة مصر؟
6
ونعتقد أنه لولا إلحاح عمرو، لتأخر فتح مصر وقتا طويلا؛ لأن عمرا كان في الواقع أول من حرض العرب على فتحها ودخولها ظافرين منتصرين، كان عمرو بن العاص، في عصر الجاهلية، يقوم بالتجارة مع مصر،
7
وقد أضفت الأسطورة جمالا على الحقيقة فادعت أن إحدى المقابلات التي حدثت له صدفة في فلسطين جعلته يستأنف سيره إلى الإسكندرية؛ حيث شاهد فيها حفلة قام المدعوون في أثناءها بلعبة تقليدية تتلخص في إلقاء كرة على الحاضرين، فمن تقع عليه يعتبر حاكم مصر القادم، ولقد سقطت الكرة على عمرو الذي حضر متفرجا، فأثار هذا الحادث عجب اللاعبين، وكانوا صفوة شعب الإسكندرية.
ناپیژندل شوی مخ
درس عمرو دون شك أحوال البلاد في أثناء أسفاره المتكررة، ولعله لاحظ روح الكراهية التي كان يضمرها الأهالي لحكامهم البيزنطيين، ولمس الفوضى المتفشية في الإدارة وضعف القوات المناط بها الدفاع عن البلاد، وبهره خصب التربة وكثرة الخيرات التي كان يراها، فراح يصف، في الوقت المناسب، للخليفة عمر هذه البلاد بقوله: «إن فتحها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم، وهي أكثر الأرض أموالا وأعجزها عن القتال والحرب.».
8
ولما خضعت أرض فلسطين للحكم العربي، خلا عمرو بعمر فاستأذنه في المضي إلى مصر قائلا: «إني عالم بها وبطرقها، وهي أقل شيء منعة وأكثر أموالا، فكره أمير المؤمنين الإقدام على من فيها من جموع الروم، وجعل عمرو يهون أمرها.»
9
هذا ما قاله الكندي حرفيا، ونستنتج من ذلك أن عمر رفض بادئ ذي بدء طلب عمرو، «ولم يزل عمرو يعظم أمرها عند عمر بن الخطاب ويخبره بحالها ويهون عليه فتحها حتى ركن لذلك عمر، فعقد له على أربعة آلاف رجل كلهم من عكا، ويقال: بل ثلاثة آلاف وخمس مئة.».
10
وينقل لنا أيضا ابن الحكم كلام عمر هذا: «سر وأنا مستجير الله في مسيرك.»
11
ويضيف إلى ذلك أن عمرا لم يتوان لحظة واحدة في الرضوخ للأمر، فلما خيم الليل قام بجيشه إلى مصر دون أن يشعر به أحد، ويقول لنا ابن عبد الحكم أيضا:
12
ناپیژندل شوی مخ
إن عثمان بن عفان دخل بعد ذلك عند عمر، فأخبره عمر بزحف عمرو نحو مصر، ويقال: إن عثمان عقب على هذا الخبر قائلا: «يا أمير المؤمنين، إن عمرو لمجرؤ وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج في غير ثقة ولا جماعة، فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا.»، فندم عمر بن الخطاب على كتابه إلى عمرو إشفاقا مما قال عثمان، فكتب إليه: «إن أدركك كتابي قبل أن تدخل مصر، فارجع إلى موضعك، وإن كنت دخلت، فامض لوجهك.».
13
وذكر السواد الأعظم من مؤرخي العرب كيف تسلم عمرو الرسالة التي تلقاها من عمر، وقالوا: إن عمرا لم يفضها إلا بعد أن وطأ بقدميه أرض مصر خوفا من أن تكون الرسالة متضمنة إلغاء الأمر بالزحف.
إن كانت هذه الوقائع صحيحة، فهي تدل على أن العرب عندما احتكوا بالعالم الخارجي أخذوا يعملون على التوفيق بين مبادئهم الدينية وغاياتهم العسكرية والاقتصادية، وأن حروب الجهاد لم تعد سببا للفتح، بل أصبحت نتيجة له، وسوف نرى، عند التحدث عن الإدارة العربية، أن الحكام كانوا يهدفون إلى النفع المادي بجانب حض الشعوب المغلوبة على اعتناق الإسلام. (1-4) التفوق العنصري عند العرب
وهناك نقطة ثالثة يجدر بنا توضيحها لنفهم مغزى الحوادث التي أعقبت فتح مصر، وهذه النقطة هي شعور العرب بتفوقهم العنصري بالنسبة للشعوب المغلوبة، كان عرب الجزيرة شديدي التعصب لأصلهم، وكانوا يمنعون الأجانب من الانتساب إلى قبائلهم، ويقول المستشرق «بولياك»
في دراسة له، دعمها بالحجج القوية وبأسانيد أبي يوسف الفقيه: «إن الإقامة في شبه جزيرة العرب والتفوه باللغة العربية لم يكونا كافيين لاعتبار القاطنين فيها عربا إذا كانوا من المهاجرين، حتى لو كانت هجرتهم ترجع إلى عدة قرون، كما أن العربي الأصيل، من ناحية، لم يفقد جنسيته بعد إقامته في بلد أجنبي، حتى لو طالت إقامته عدة قرون .»،
14
ويقول المستشرق بعد ذلك: «إن كلمة «عربي» لم يكن يراد بها المعنى الوطني كما هو منصوص عليها الآن؛ ذلك لأن العرب كانوا يجهلون ما هو التجنس وما هو فقدان الجنسية، وكان المسلم الذي عاش قبل الثورة العباسية،
15
يعتبر العرب قبيلة اجتماعية متوارثة تضمن لأعضائها بعض الامتيازات بقدر ما تقيدهم به من واجبات، ولم يكن الأصل سببا لوحدتها، بل كان الموطن الواحد (أي: جزيرة العرب) سبب هذه الثورة.».
ناپیژندل شوی مخ
وبقي عرب شبه الجزيرة متمسكين بهذا المبدأ حتى قبض العباسيون على زمام الحكم، ويلاحظ الكاتب الأب «جانو»
Janot
أن معتنقي الإسلام من الموالي، والمسيحيين، واليهود، والسامرين الذين لم ينحدروا من أصل عربي، كانوا لا يدخلون المجتمع العربي الإسلامي دخولا كليا بمجرد إسلامهم، بل كان عليهم أن يلتمسوا انتسابهم من إحدى القبائل العربية، وكانوا يدفعون غالبا ثمن الانتساب، ومع ذلك لم يكونوا يعتبرون إلا مسلمين من الدرجة الثانية.
16
ونستنتج من ذلك أن الشعوب المغلوبة التي اعتنقت الإسلام في السنوات الأولى من الدعوة الإسلامية، لم يستقبلهم العرب بعاطفة الفرح والأخوة، ولكنهم وضعوهم في مركز أدبي وضيع بالنسبة إليهم، وتأخذنا الدهشة أيضا لو قارنا بين وضاعة مركز المسلمين غير المنتسيبن إلى أصل عربي، وبين المعاملة الممتازة التي كان يخص بها المسلمين القبائل العربية الأصلية التي ظلت مسيحية بعد ظهور الإسلام، وكانت هذه المعاملة استمرارا منطقيا لحالة واقعية ترجع إلى عصر الجاهلية، ويلاحظ الأب «لامنس» في هذا الصدد: «أن التجار السوريين في المدينة كانوا يعملون علانية في سبيل الدعاية لمعتقداتهم ... وكان يرى محمد وهو يتردد بحرية على الأوساط المسيحية ... ولم يسمع أبدا أن نقابة التجار القريشيين أوجست خيفة من وجود الرهبان بينهم ومن دعايتهم الدينية في أثناء إقامة الأسواق بالقرب من مدينتهم، وظل العدد القليل من القريشيين المسيحيين يتمتعون بالمركز الذي يؤهله لهم مولدهم وبراعتهم، والدليل على ذلك أن قبيلة بني أسد - التي أظهرت بوجه خاص عطفها على المسيحية - قد ظلت مساكنها بجوار الكعبة، بينما انتقل الأجانب «أي: العرب غير الأصليين» إلى الأحياء المتطرفة من المدينة أو في الضواحي.».
17
ولما سيطر النبي على شبه جزيرة العرب، أراد أن يضم إليه القبائل المسيحية، فأثار عفوا مشكلة المسيحيين العرب؛ لم يستطع أحد أن يطعن في جنسيتهم العربية بينما صممت تلك القبائل على أن تحتفظ بمنزلتها وعزتها، ورفضت كلية أن يعاملها المسلمون معاملة العرب من الدرجة التالية.
وكان النبي أول من كتب إلى مسيحيي نجران يدعوهم إلى إبرام ميثاق معه، وكان ذلك في السنة العاشرة من الهجرة، فأرسلت قبيلة نجران وفدا ليفاوض النبي للحصول على أحسن الشروط ولإفهامه أن القبيلة لن تتنازل عن عقيدتها مهما كان الثمن.
وقد ذهب الوفد إلى مكة، وبمجرد وصوله دخل المسجد؛ حيث كان النبي، وأخذ الأعضاء يصلون على الطريقة المسيحية ... متجهين عكس القبلة، فاغتاظ المسلمون لهذا المسلك ولكن محمدا أمرهم بأن يتركوهم وشأنهم، وعندما انتهوا من الصلاة توجهوا إلى النبي، ولكنه أدار لهم ظهره ورفض أن يجيبهم محتجا بأنهم وارفون في حلل غالية الثمن.
وفي اليوم الثاني، قابلوا النبي الذي دعاهم إلى اعتناق الإسلام، ولما احتد النقاش، صرفهم بعد أن عيل صبره، غير أن الوفد عرض عليه إبرام معاهدة على أساس منح صاحب الدعوة الإسلامية بعض الفوائد المادية.
ناپیژندل شوی مخ
ولم يجرؤ أحد أن يفرض الجزية على هؤلاء العرب، ولكن قبيلة نجران وافقت على بعض الشروط، التي فرضت فيما بعد على الشعوب المغلوبة، ومع ذلك حرص المسلمون أشد الحرص، عند تحرير الميثاق، على عدم جرح عواطف مواطنيهم المسيحيين، فلم يعطوا لهذا الاتفاق قوة التنفيذ، ولدينا بعض الأمثلة: (1)
كان للنبي أن يتصرف في أملاك وعبيد القبيلة، ولكنه في الواقع ترك لها حق استثمارها مقابل دفع ضريبة سنوية قدرها ألف حلة. (2)
وكان على أهل نجران المسيحيين أن يستضيفوا مبعوثي النبي «لا يذكر الجند بوجه التحقيق» وذلك لمدة ما بين عشرين يوما فما دون ذلك، ولا تحبس رسل فوق شهر. (3)
وإذا نشبت الحرب في اليمن، كان عليهم أن يقرضوا ثلاثين جملا وثلاثين حصانا. (4)
وكان عليهم أيضا أن يكفوا عن مزاولة الربا. (5)
ولا يستطيع أحد أن يكره رجال القبيلة على ترك دينهم وذلك مهما كانت الظروف.
18
وكذلك لم يفكر أحد في فرض الجزية على مسيحيي قبيلة بني تغلب، وطلبوا منهم فقط أن يدفعوا ضعف ما كان يدفعه المسلمون من الزكاة، على أن تشمل الضريبة نساءهم، ويستنتج من ذلك أن ما فرضه المسلمون على هؤلاء العرب على أنه زكاة، كانوا يفرضونه على مسيحيي البلاد المغلوبة على أنه جزية.
19
وإذا تركنا جانبا تلك الشروط، نقول: إن المسيحيين العرب نعموا مدة طويلة بامتيازات أنكرها العرب على الشعوب الأخرى التي اعتنقت الإسلام، ومثال ذلك انخرط المسيحيون العرب في سلك الجيش، وقاتلوا ضمن الفرق التي غزت بلاد الفرس وزحفت على مصر، في حين أن الأقباط الذين اعتنقوا الإسلام لم يقبلوا في الحال في صفوف الجيش العربي، وعندما قبلوا فيما بعد، أدخلوا في فرق المشاة، وهذا يعني أنه في حالة انتصار الجيش، لم يكن لهم الحق إلا في نصف نصيب الفرسان في الغنائم،
ناپیژندل شوی مخ
20
وأخيرا نقول: إن إسلام العرب الوثنيين كان فرضا واجبا يعاقب مخالفه بالموت، إن كان ذكرا بالغا، وبالعبودية، إن كان صبيا أو امرأة، أما العرب المسيحيون، فكان في استطاعتهم البقاء على دينهم، غير أن السلطات كانت تبذل جهدها في سبيل إسلامهم.
21
ولا ننكر أن استمرار وجود العناصر المسيحية بين الجماعات الإسلامية في شبه جزيرة العرب أصبح غير مرغوب فيه، ويقال: إن النبي، قبل وفاته، عبر عن رغبته في ألا يكون في بلاد العرب دينان، وقد قلق مسيحيو نجران لهذا النبأ، فأرسلوا في الحال وفدا إلى أبي بكر، ولكن الخليفة أكد لهم أن الاتفاق الذي أبرموه مع النبي لم يزل قائما.
أما عمر بن الخطاب، فقد اتبع سياسة أخرى نحو العرب المسيحيين وبدأ يناصبهم العداء بحجة أنهم يزاولون الربا،
22
وهاجم بعد ذلك بني تغلب وأراد أن يفرض عليهم الجزية، فما كان منهم إلا أن غادروا بلاد العرب ولجئوا إلى العراق، وفي هذا الأثناء قصد الخليفة شخص يدعى النعمان بن زرعة بن النعمان، وعاب عليه سياسته إزاء المسيحيين قائلا: «أنشدك الله في بني تغلب، فإنهم قوم من العرب نائفون من الجزية وهم قوم شديدة نكايتهم، فلا يغن عدوك عليك بهم.»،
23
ولما سمع عمر هذا الكلام، أرسل في طلبهم واشترط عليهم ألا «يصبغوا صبيا وألا يكرهوه على دينهم وعلى أن عليهم الصدقة مضاعفة.».
ولا نعلم إذا كان أفراد القبيلة رضوا بهذا الشرط، والواقع أنهم لم يبالوا به، مما دعا علي بن أبي طالب أن يصرح التصريح التالي: «لأن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي، لأقتلن مقاتلتهم ولأسبين ذريتهم فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم.».
ناپیژندل شوی مخ
24
وهكذا فإن العرب المسلمين مع أسفهم لبقاء بعض مواطنيهم على ديانتهم المسيحية، لم يحاولوا أن يمسوهم بأدنى سوء، غير أن هذا الموقف المتناقض أخذ يتلاشى شيئا فشيئا، ولما أخذت انتصارات المسلمين تتوالى وتزداد أهمية، اعتبر العرب الغزاة إخلاص بعض إخوانهم للعقيدة المسيحية بمثابة تحد لهم، لقد هدد علي بن أبي طالب ووعد أكثر من مرة، ولكنه لم يستطع أن يضع تهديداته ووعيده موضع التنفيذ، إلا أن الأمويين حققوا ما عجز علي عن تنفيذه، ومن الغريب أن معاوية فكر جديا في أن يمنع أقباط مصر من اعتناق الدين الإسلامي بدعوى أن انتقالهم دفعة واحدة إلى الدين الحنيف قد يكبد خزانة الدولة خسائر جسيمة؛ لأنه سيخفض إيراد الجزية، ولكن بعد بضع سنوات - أي: في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك - «أراد محمد، قائد الطائيين،
25
بعد أن عاث في بلاد ما بين النهرين فسادا وأشبع أهلها تقتيلا، أراد هذا القائد أن يعتنق العرب المسيحيون الديانة الإسلامية، فأمر بإحضار رئيس التغلبيين واسمه «معاذ» وطلب إليه أن يرتد عن دينه، فأبى معاذ بالرغم من تملق القائد له، فأمر القائد بإلقائه في حفرة مليئة بالوحل، ثم قتله ومنع دفنه.».
26
إلا أننا لم نجد أبدا هذا اللون العنيف من الدعاية الدينية عند العرب وقتئذ، أما موقفهم الشاذ إزاء العرب والمسيحيين، فيرجع إلى الشعور بالتفوق الجنسي الذي كان سائدا عند العرب، والفقرة التالية التي اقتبسناها من تاريخ ميخائيل السوري تثبت هذا القول، ونصها: «قال الوليد للراهب «سمع الله التغلبي »: «إن عبادتك للصليب، مع كونك رئيسا لقبيلة عربية، تجعلهم يخجلون منك.».
27 (2) هل كان انتصار العرب رائعا؟
نريد، قبل أن نحدد موقف الأقباط من الفتح الإسلامي، أن نجرد الأعمال الحربية التي قام بها عمرو من المبالغات التي أسندت إليها.
صور لنا المؤرخون والمستشرقون فتح العرب لمصر على أنه عملية حربية سهلة في بلاد منيعة، تدفع عنها فرق عديدة، مدربة أحسن تدريب على القتال، ولكن أليس من المبالغ أن يقال: إن هذا الفتح «تحقق بسرعة فائقة» أو أنه «معجزة من المعجزات»؟
28
ناپیژندل شوی مخ