ومن الأدباء الذين خاضوا هذه المعركة، وقد جرت فيها بدل الدماء الدموع، وكاد الأدب والشعر يغرقان في بحرها، وهما يحاولان إنقاذ الوطن - من أولئك الأدباء من كانت جولاتهم أبعد من جولاتي، وطعناتهم أشد من طعناتي، فلمعت الخناجر وأبرقت السكاكين، فخفت على شعراء البلاد، وأسفت لما أسلفت من عتاد، ووددت قتالا مسرحيا يضحك إذا ما أبكى، ويبكي في بعض ما يضحك، فيعود المتبارزون بين الفصول إلى إخاء في المهنة والوطنية، فيستأنس الناس ويستفيدون في الآن الواحد.
ولكن إخواني المجاهدين المبددين لجحافل البكاء والنحيب؛ أسلفوني من الفضل ما لا يصح عنده العمل بقاعدتي المأثورة: قل كلمتك وامش فقد اهتز في كلا الحالين عقل الأمة المفكر؛ فتحركت نزعات للثقافة راكدة؛ واستيقظت للشعر أرواح مجددة؛ فجاء في ما كتبه الفريقان من الأدب الحي ما يحمدان عليه كل الحمد؛ لولا نعرات شخصية تشينه؛ وأهواء نفسية تضعف الحجة فيه، وجاء خصوصا في كلمات من حملوا على الأدب الباكي البرهان الحي المسر على روح التجدد في الشباب وفي نزعاتهم الأدبية والاجتماعية والوطنية.
على أن الشخصيات تضمحل أمام الغرض الأكبر من الموضوع، فلا أنا ممدوحا ولا أنا مذموما؛ أقدم أو أؤخر في تحقيق ذلك الغرض.
ولا الذين توهموا أنفسهم خصوما لي؛ ممدوحين كانوا أو مذمومين، ممن شاركوا في المناظرة، يقدمون أو يؤخرون في تمحيص الحقائق وإدراك المحجة.
ومن غريب ما ظهر في هذه المناظرة تباين العقليات، ليس فقط في القوة والصحة، بل في الشكل والنوع كذلك، فإن كان في تأييد فكرة المؤلف أو في تسفيهها، وإن كان في الدفاع عن الفيلسوف والوطن، أو عن الشاعر وحقه في البكاء، فالعقلية لم تستتر أو تتقنع، بل كانت جلية صريحة لا مجال للريب فيها.
وهذا ما لا تجده إلا في الأمم المتقسمة المتخاذلة مثل الأمة العربية، فلو كانت هذه المناظرة في ألمانية مثلا أو في فرنسه، لما كنت تجد في اختلاف المتناظرين أثرا لعقلية غير ألمانية، أو غير فرنسيه.
أما عندنا فقد تلمست وأنا أطالع ما كتب شتى العقليات، بل تعثرت بها فهناك العقلية الفرنسية وما تجندت به من أدب هو محض فرنسي، وهناك الإنكليزية وما ظهر فيها من الثقافة الأنكلوسكسونية، وهناك عقلية محض علمية - أميريكية مادية - لا ترى في الشعر كبير خير للأمم، لا في الباكي منه ولا الحماسي، وهناك العقلية اللبنانية التي أبت أن تجرد موضوعا أدبيا اجتماعيا من النعرة السياسية، وكذلك العقلية السورية، والعقلية العربية وهي أبرز ما أستعرض في هذه المناظرة.
لذلك لم ينحصر البحث في الموضوع، بل تجاوزه إلى ما أوحت تلك العقليات، كل إلى صاحبها فجاءت والنزعات تخفي الحقائق في بعض الأحايين أو تشوهها.
أما إذا جردنا تلك المقالات من التشيع الأدبي الشخصي، والتشيع السياسي؛ ونظرنا إلى ثمرات الفكر الصحيح الصافي، وإلى نزعات النفس النزيهة فيتبين أن هناك مزيجا من الآراء الصائبة والمخطئة، ومن النظرات الثاقبة والسطحية يستوجب التصفية، أو التسفية - كيفما مثلته لنفسك، بل هناك من الحقائق المختلطة بشبه الحقائق؛ وبالأغلاط ما يستوجب التمحيص والإيضاح.
إنه لعمل شاق، وإني إكراما لك أيها القارئ العزيز لمنجزه إن شاء الله، فقد طالعت من أجل ذلك كل ما وصلني، وأظنه القسم الأكبر مما كتب في الموضوع، وجئت الآن أقوم بالواجب واجب التمحيص، فأثبت الحقائق واضحة جلية، وأشير إلى ما هو خطأ أو وهم بحسب اعتقادي، ثم أضيف إلى ما سبق مني ما يعيد إلى ذهنك وذهن الأمة، ما كاد يضيع في البحث والمناظرة من لب الموضوع، ومن العرض الوطني الاجتماعي الأكبر في معالجته، وعلى الأخص في هذه الأيام العصيبة؛ أيام الجهاد الوطني والنشأة القومية.
ناپیژندل شوی مخ