صاحبي الذي خضعت له بطلا.
وحين أصبح آكل عيش مثلكم أرديته.
فأنا لست سلطان الأسد.
أنا سلطان قانون الغابة، وقانون الحضارة، وقانون الإنسان، وقانون كل الوجود.
جيوكوندا مصرية
إنها ليست أول مرة أحاول، ربما هي ثالث أو رابع مرة؛ فأنا أحس كلما أردت كتابتها أن اللغة التي استعملها أخشن وأصلب وأجوف بكثير من أن تستطيع التعبير عنها، أحس أن لغتنا، تلك التي نتحدث بها ونكتب خلقت لتصوير أحداث ضخمة وأحاسيس كبيرة الحجم كالصخر، أو حتى إذا صغرت فهي كالرمل أو الحصى، في حين أن ما أريد تصويره ناعم موسيقي رقيق دقيق كأنه الذرات العالقة بشعاع الضوء إذا سقط في غرفة مظلمة. لا، ليس حتى كعزف الكمان أو أنين الناي، إنما هو كاللحن الذي لا تستطيع سماعه إلا إذا خفت الضجة في الدنيا كلها أو سكن الكون تماما، ثم طهرت نفسك من كل ما يشغلها من هموم الأرض وأحاسيسها الترابية العابرة، واستحضرت في ذاتك المعاني الحقيقية للرحمة والحب والحنان والإنسان، المعاني الخالدة السرمدية التي يحيا البشر على أمل أن ذات يوم تتحقق، حينئذ فقط، وبعد طول معاناة في تهيئة النفس، وطول تأمل وسكون، ستجد نغما رقيقا واهن الضعف قد بدأ يتسرب إلى نفسك، ليس من أذنك فقط، وإنما من كل ذاتك ولكل ذاتك، يتسرب النغم تسربا لا يفعل أكثر من أن يحيل ذاتك نفسها إلى ذات النغم، حتى لتندمج معه في وحدة بالغة الشفافية.
أنى لي بكلمات تستطيع وصف هذا وكلماتنا صنعت لمعان محدودة واضحة لا شك فيها ولا اختلال، أنى لي بكلمات تستطيع وصف عشر الانفعال، والواحد على المائة من الارتجافة أو الخفقة الواهنة المرهفة التي يكاد السمع يتجاوزها؟
أنى لي بألوان أستطيع بها وصف لون «حنونة» المسيحية، ذلك اللون الذي لا هو أبيض ولا قمحي، ولا هو أوروبي ولا شرقي، لا هو صعيدي ولا من أقصى الشمال في بحري، لون حتى في مكوناته زرقة ليست زرقة الموات ولكنها كزرقة الفجر إذا شقشق، أو زرقة البحر إذا هجع وتحولت موجاته إلى نداءات وديعة تئوب إلى مستقرها عند الشاطئ خاشعة ساجدة تهيب بك أن ترتمي بحرا وتعب زرقته حتى النهاية.
وكيف لي أن أبدأ القصة وليس في ذهني بداية واضحة، إن هي إلا علاقات متصلة بين الناس ومنشأ مشترك، وطفولة، ثم صبا، و«شال» كموني باهت، وحجرة ليس بها أحد سوانا، وخبز مقدس، ثم إنجيل صغير الحجم كثير الصفحات ، مكتوب بلغة عربية لها طعمها الخاص.
وكنت في سن البلوغ، تلك التي تحس فيها أن هناك دنيا هذا صحيح، وهناك صبح وشمس وقمر، وهناك بلاد بعيدة قبل البحر المالح وعبر المالح وبعد المالح، «الطلمبات» بضخامتها السوداء الزيتية المهولة وصوتها المتئد الوقور المستمر، والماء المجذوب بسحر خفي وبكم هائل إلى فتحاتها والماء الهادر الغاضب المندفع الأرعن الخارج عنها، هناك الغربان والعصافير، وأولياء الله الصالحون، وهناك المصحف والآيات التي يجب عليك حفظها وكلها عن جنة شديدة الجمال غريبة، وعن نار جحيمية يقشعر لها بدنك، وثواب وعذاب ودنيا وآخرة، وهناك أيضا، وهذا هو المهم المباشر، خيزرانة الشيخ مصطفى المنكفئ العمامة إلى أمام أكثر مما يجب، ذي الأرجل الرفيعة المنتهية بركب كرءوس عيدان الكبريت، حين يضع ساقا رفيعة فوق ساق، ويتدلى حذاؤه حائل اللون فاغر الفاه، ويهز لك رأسا فوقها تهتز العمامة ويقول: سمع يا ولد. هناك شيء ما هذا صحيح. شيء لا نراه ولا نحسه، شيء آخر غير ليلة القدر، والموت، والحب الشديد الذي أكنه لأبي، شيء بإرادته مختلف لا يريد أن يظهر، ربما خوفا علينا؛ إذ ربما لو ظهر لمتنا من شدة الخوف والرعب والمواجهة، شيء آخر غير العفاريت، فالعفاريت رغم كل شيء فيها ما يضحك، ولكن هذا الشيء لا يبعث على الضحك أبدا. إنه قاس وقور مهيمن رحيم.
ناپیژندل شوی مخ