وسكت لحظة ثم اتسعت بسمته وهو يقول: ولكنك يا سيد أفندي تريد أن تقفز دفعة واحدة، في وثبة واحدة.
وطقطق بإصبعيه محركا يده إلى فوق.
وأعقب ذلك بضحكة عالية لأول مرة.
وخطر لي أنه يلمح إلى الأقوال التي سمعها من مصطفى عجوة عن تطلعي إلى منى، فثارت كبريائي وقلت مندفعا: أتقصد يا سيدي أني غير جدير بأن أتطلع إلى أعلى؟
فقال متراجعا: أبدأ! لا أقصد أكثر مما يفهم من كلامي. لست أقصد أكثر من أنك تندفع يا سيد أفندي. أنت جدير بأن تتطلع كما تشاء، ولا حق لأحد في منعك من شيء. ليس هذا موضوع الحديث يا سيد أفندي، وأنا أرجو دائما أن أسمع عنك ما يسرني.
وأحسست أكثر من قبل بأني أصطدم في جدار مصمت، وبدأت أثور في داخلي لأنه لم يترك لي فرصة للأمل في مصافاته.
وقلت في شيء من العنف: أشكرك على كل حال يا سيدي، وأنا مسرور من أني أديت نحوك واجبي كاملا، ويزيدني سرورا أن أشعر بأنك لم تنصفني، لست أنسى أن أشكرك على كل ما سمعته منك وعلى كل ما لقيته من عطفك ومساعدتك. لست أنسى أنك مددت إلي يدك عندما كنت صغيرا لا أجد أحدا يمد يده إلي، ولكن أحب أيضا أن تعرف أني لست أقل من أحد. هذا ما أشعر به في قرارة نفسي، وإذا كنت أتطلع إلى فوق، فليس هذا أكثر مما ينبغي لي.
وقمت لأنصرف ونظرت إلى وجهه في ثبات، فوقعت عيني في عينه ولمحت أن نظرته لم تثبت أمامي، ولأول مرة منذ عرفته رأيت عليه شيئا يشبه الحيرة أو الارتباك، ولكنه لم ينطق بكلمة، فرفعت يدي مسلما عليه من بعيد قائلا: لعلنا يا سيدي نلتقي في أوقات أخرى أكثر مودة، إلى اللقاء يا سيدي.
وخرجت بغير أن أنتظر، وتعمدت أن أرفع رأسي، وكنت في تلك اللحظة مملوءا بالثقة والاطمئنان، ولما وصلت إلى قريب من باب الحريم لم أملك أن أنظر نحوه نظرة متلهفة كأني أودعه، وثارت فوق عيني غشاوة من الدمع وقلت في نفسي: «أحقا هذه آخر مرة أقترب فيها من هنا؟»
وعدت إلى بيتي فأخبرت أمي بما حدث، فلم أسمع منها إلا دعوة طيبة، وكانت في تلك الليلة أكثر مرحا واستبشارا مما أنتظر، وأخذنا نتحدث فيما أعمل بعد ذلك، فلما قلت لها أني أعتزم التجارة أظهرت لي رضاء متحمسا، وكررت دعاءها إلى الله أن يوفقني، وكانت ليلتي هادئة على غير انتظار، بل إني رضيت عن الظرف الذي اضطرني إلى قطع صلتي بالعمل في المحلج، ورأيت أنه جعلني أقدم بغير أسف على الخطوة التي فكرت فيها مرارا بغير أن أجرؤ على أن أخطوها، سأذهب في اليوم التالي إلى السوق لأجرب حظي، ولكن شيئا واحدا كان يعكر شعوري بالرضا، وذلك أني قطعت ما بيني وبين والد منى. لم أعترف فيما بيني وبين نفسي أن هذا آخر العهد بيننا، وكان تحت كل مشاعري أمل غامض أن أستطيع في يوم من الأيام أن أعود إلى السيد أحمد جلال قائلا له: «أنا سيد زهير.»
ناپیژندل شوی مخ