فوثبت على قدمي كأني أتحفز لمصارعة، وتمنيت لو كانت الحجرة واسعة فأنطلق فيها صارخا كالمجنون ألعن وأشتم وأهتف بسقوط الأنذال جميعا، أهكذا تجري الأمور؟ ولم تنازل محمد باشا خلف؟ أكانت منى ثمنا لتنازل الباشا الأجوف؟
وقلت لصاحبي في حقد وحنق: سأسافر غدا إلى القاهرة في أول قطار.
ثم عدت إلى مقعدي خائرا كأن هذه الوقفة القصيرة كانت مجهودا شاقا، وأخذت أحدث نفسي بصوت عال: إنها مخزاة أن نعيش في مجتمع كهذا، الرجال عبيد يساقون بالسياط أو يشترون بالمال، والنساء أيضا يعرضون في أسواق الرقيق كما كانت الجواري تشترى، الذهب هو المعبود، ومن أجل الذهب يبيع الجميع كل ما عندهم حتى الحرية والكرامة، وحتى الحب، هي معركة أكبر خطرا لا تتسع لها دمنهور.
وكان عبد الحميد ينصت إلي وهو مطرق مستند إلى ذراعيه فوق المنضدة، وقال ولم يرفع رأسه: هذا صحيح يا صديقي، اذهب أنت وجاهد بقلمك وأعاهدك على أن أذهب أنا كذلك وأستمر على جهادي في مدرستي، لا أمل لنا في شيء إلا أن نعلم ونعلم ونعلم حتى تذهب هذه الأجيال الملوثة، ثم يخرج جيل جديد، أنا أعلم في المدرسة وأنت تعلم بقلمك في الصحافة حتى ينشأ جيل جديد يستطيع أن يفهم الحرية والأمانة والصدق.
فصحت مندفعا: هذا عين الخطأ يا سيدي، لست أقصد شيئا مما تقول يا سيدي، هذا خطأ يقع فيه كل الذين يفكرون بعقولهم وحدها. ماذا يعنيني من قلمي ومن مدرستك؟ إذا كان لا بد لنا أن ننتظر حتى ينشأ جيل يستطيع فهم الحرية والأمانة والصدق فلننتظر طويلا. لا أفهم هذا أبدا.
فقال: وماذا تفهم إذن؟
فقلت في غل: لا أفهم سوى ما يفهمه كل حي، أفهم أن أذهب لأجاهد، وأجمع الناس من أهل هذا الجيل نفسه ليجاهدوا، هؤلاء الذين أعيش بينهم وأراهم وأعاملهم هم الذين يقع عليهم واجب الجهاد من أجل حريتهم وكرامتهم وحقوقهم المسلوبة، لا شيء غير أن يقوم العبيد بالثورة من أجل حريتهم.
فقال في ثبات: هذا تكليف الطبيعة فوق طاقتها، العبيد لا يعرفون الحرية ولا يتحمسون لها ولا يجاهدون من أجلها، الأدب والعلم مثل قطرات الماء تنزل على الصخور قطرة قطرة فتذيبها وتحللها.
هذا محقق وإن كان يحتاج إلى زمن.
فصحت ساخرا: الزمن! الخرافة! ألست أنت الذي قلت إن الزمن لا معنى له إلا في عقولنا؟ ما هذه التشبيهات المضللة؛ الماء والصخرة والقطرات التي تنزل نقطة نقطة؟ هذه كلها مغالطات نلجأ إليها عندما لا نريد أن نعرض أنفسنا للمجهودات الشاقة أو الأخطار الشديدة.
ناپیژندل شوی مخ