الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الواحد والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الواحد والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الواحد والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الواحد والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
أنا الشعب
أنا الشعب
تأليف
محمد فريد أبو حديد
الفصل الأول
حياتنا سلسلة من حوادث صغيرة ليس لواحدة منها في ذاتها ما يسترعي انتباهنا في اللحظة التي تمر بها، ولكنا إذا بعدنا في الطريق، وأصبح من المحال أن نعود أدراجنا تبين لنا أن بعضها هو الذي يقرر مصائرنا، ولو كنا نفطن إلى هذه الحوادث الصغيرة الخطيرة في اللحظة الحاسمة لحرصنا على توخي الحكمة وتجنب الأخطاء، ولكنا بشر نكتب بأخطائنا سلسلة القصة البشرية، والحوادث التي تمر بنا تخلف فينا آثارا لا تمحى، بعضها حائل يسنح لنا في ذكريات عابرة، وبعضها عميق يشبه ندوب الجراح بعد التئامها، وهذه الخطوط العميقة هي التي توجه تفكيرنا وتقود مشاعرنا وتحرك إرادتنا. هذا ما بدا لي على الأقل وأنا في غرفتي الصغيرة من سجن الاستئناف أجول بخيالي في عالم الذكرى لأسجل ما أظنه جديرا بالذكر من حوادث حياتي.
لم تكن طفولتي متميزة بشيء يستحق أن أقف عنده طويلا حتى وقع الحادث الأول الذي زلزل وجودي وغير اتجاه حياتي وهو وفاة والدي.
كنت عند ذلك في نحو السابعة عشرة من عمري، وكنت أستعد لامتحان شهادة الثقافة العامة، ووقعت الصدمة علي فجأة، فشعرت كأني أهوي في فراغ لا قرار له. كان أبي والدا وصديقا يملأ كل حياتي، وما كان يخطر لي أنه إنسان زائل قد ينتزع من الوجود في لحظة، فلما عدت من المدرسة ذات يوم ووجدته مسجى في سريره والجميع يبكون من حوله، وقفت أنظر إليه بغير أن أرى وجهه المغطى، وأخذت أتأمل الوجوه الحزينة التي حوله وأنا ذاهل، فما راعني إلا أن الجميع ازدادوا صراخا وعويلا عندما رأوني، فاندفعت نحوه لأرفع عنه الغطاء وأناديه لأوقظه، فبادر من هناك إلي ودفعوني وأخرجوني من الغرفة قسرا. لم تكن في عيني دموع، بل كان قلبي يفيض غيظا؛ لأنهم حالوا بيني وبين أبي، ولم يحاول أحد منهم أن يتمسك به، بل سلموا بأنه قد مات وانتهى بغير مجادلة. ثم رأيته بعد حين يحمل في نعشه ويتجهون به إلى المقبرة كالأموات جميعا، وسرت مع السائرين حتى وقفنا إلى جانب حفرة، ورأيت جثمانه يدلى فيها وكل من هناك جامد في مكانه يبكي بغير أن يحاول أن يتمسك به، فاندفعت كالمجنون وأردت أن أتعلق به، ولكن الناس اجتمعوا حولي وأمسكوا بي قسرا، وجعلوا يواسونني بكلام لم أفهم معناه، فانفجرت باكيا كما لم أبك يوما في حياتي، ولما عدنا آخر الأمر إلى البيت وحدنا شعرت بحزن لا يشبه الحزن، وبلوعة لا تشبه لوعة الصبي في فقد أبيه، بل هي أقرب إلى حسرة المقهور العاجز أمام قوة جبارة تتقاذف به في قسوة، وكانت صورة أبي تتمثل لي لا تفارقني في ساعات اليقظة ولا في مناظر الأحلام، واعتراني شعور يشبه الحقد والعداوة لكل ما يذكرني بفقده؛ ولهذا لم أذهب مرة لزيارة قبره، بل لقد كنت أتحاشى الاقتراب منه أو السير في الطريق المؤدية إليه.
وامتلأ قلبي بوحشة شديدة، فخيل إلي أن الحياة خالية خاوية ليس فيها ظل من فوقي ولا قرار من تحتي، وحببت إلي العزلة ونفرت من كل مجلس حتى لقد لزمت غرفتي في البيت كلما عدت من المدرسة، وكانت أمي تأتي أحيانا لتؤنسني فتجلس إلى جنبي وترقبني في عطف حزين، فلا يزيدني ذلك إلا وحشة وأحس أن الحياة رهيبة.
وشيئا بعد شيء بدأت أضيق بالجو الرهيب الذي خيم علي، فصرت أخرج وحدي إلى الحقول القريبة من البيت أجول فيها بغير قصد سوى السير في الهواء الطلق، ويدور ذهني حول نفسه في أثناء سيري في أفكار غامضة يشوبها حزن غامض، حتى إن الحقول نفسها كانت تبدو في عيني في إطار كئيب مع أنها كانت تتبرج في حلة الربيع، وكنت أحيانا أجلس في مكان منعزل، فأكتب شيئا يشبه الشعر أنفس به عن أفكاري الحزينة الغامضة، فإذا قرأت ما كتبت بادرت بتمزيقه؛ إذ كان يزيدني كآبة لأنه يدور حول معنى واحد؛ معنى زوال الحياة التي تحملنا برغمنا وتقذف بنا حيث تشاء، وكانت أسئلة واحدة تتخلل كل ما أكتب: لم جئت إلى هذه الحياة؟ ولم أبقى فيها؟ وأين نذهب إذا خرجنا منها؟ وما هو قصدها؟ وماذا يستحق فيها أن أجعله غايتي؟ ومما زادني شعورا بالرهبة أني بدأت أرى أمي تعاني في حياتنا ضيقا تحاول أن تخفيه، ولكنه كان يظهر واضحا في كل ما حولنا. صارت لا تعطيني النقود التي تعودت أن أنفقها في «الشبرقة» مع رفاقي بالمدرسة، حتى صرت لا أقدر على مجاراتهم، ولا تشتري لي ولا لأختي الصغيرة ما تعودنا انتظاره من الهدايا الصغيرة، ولما جاء العيد لم تشتر لنا الملابس الجديدة، وشعرت بالذلة عندما رأيت كل زملائي ينظرون إلى بدلتي التي يعرفونها، وأذكر أني ذهبت إلى أمي يوما فسألتها: ماذا تقولين يا أمي في أن أشتغل بعمل أتكسب منه؟
فقالت في دهشة: أي عمل يا سيد؟
فقلت: أي عمل أقدر عليه، كما يعمل أولاد حارتنا.
فقالت: تحب أن تكون مثل حمادة الأصفر مثلا؟
وكان حمادة الأصفر ولدا من صبيان الحارة يعمل مع أبيه البقال في دكانه.
فقلت: ولم لا؟ أما يكسب حمادة شيئا؟
ففزعت أمي لذلك السؤال ولامتني لوما شديدا في سخرية مرة وقالت: أهذا هو أملي فيك؟ لم لا تنظر إلى أبناء أعمامك وأخوالك؟ فهل فيهم من يشبه حمادة؟
ولم أفهم قولها فقلت لها: وماذا أعمل إذن؟
فقالت: تأخذ الشهادة العليا وتكون رجلا محترما.
وكنت عند ذلك في السنة الرابعة الثانوية، ففكرت في نفسي كم سنة يجب علي أن أبقى في المدارس حتى آخذ تلك الشهادة العليا، وبدت لي مرحلة طويلة شاقة لا طاقة لي بها، وانصرفت عنها ضائقا حائرا، وبدأت تستولي علي حالة من الفتور جعلتني أنصرف عن التفكير في المستقبل وعن كل رغبة في الاتجاه إلى غاية، وزادني ضيقا على ضيق أنني باعدت أصدقائي، وبدأت أحس أنهم جميعا ينظرون إلي من بعيد بنظرات فاحصة، ويتهامسون علي بهمسات خافتة، وصرت أرقبهم كذلك من بعيد وأنا معتزل عنهم وأترجم أقوالهم وإشاراتهم على أنها سخرية، وأنني أنا المقصود بها، وبدأت أتعمد مخالفة آرائهم إذا دارت مناقشة في أثناء الدرس، لا أقصد سوى أن أظهر مخالفتي لهم واستعلائي عليهم، وبعد بضعة أشهر من هذه العزلة الصارمة لم أطق وحدتي فاتجهت إلى خلق صداقات جديدة مع زملاء آخرين كنت من قبل لا أرضى أن أصاحبهم، فكنت أتعمد اختيار من هم مثلي أو أقل مني في مظهرهم، وبدأت أتزعم حركة التمرد في الفصل حتى أصبحت موضع الشكوى والعقوبة، وما زلت أتمادى في ذلك حتى أصبحت قبل آخر العام زعيم حركات الاضطراب في المدرسة، وكان يلذ لي أن أتحين كل فرصة لأظهر مقدرتي على إحداث الفوضى، ولست أدري مع هذا كله كيف نجحت في امتحان الثقافة العامة آخر العام، وزادت دهشتي عندما عرفت أني لم أكن من المتخلفين في النجاح، بل كدت أكون بين السابقين في المدرسة.
ولكن ذلك النجاح لم يعد إلى صدري الانشراح، بل سألت نفسي وما فائدة هذا؟ وإلى متى أستمر في هذه الدراسة الطويلة؟
وجاءت أيام العطلة فزادت حالي سوءا؛ لأني اتخذت بعض رفاق من أبناء الحارة وهم من صبيان العمال أو أبناء صغار التجار، وكانوا خليطا عجيبا من طباع مختلفة لا يجمع بينهم شيء سوى اللعب والمزاح الخشن والمشاجرات العنيفة.
وقد وجدت في صحبة هؤلاء الزملاء فرصا كثيرة للمصادمات كي أظهر امتيازي، وكانت جولاتي معهم تنتهي في كثير من الأحيان بمعركة أصيب فيها غيري أحيانا بجراح أو كدمات، كما كنت أعود منها إلى منزلي أحيانا بثياب ممزقة، وخدوش كثيرة، وكنت في أول الأمر أتسلل إلى غرفتي عند عودتي إلى البيت حتى لا أتعرض للوم أمي، ولكني بعد أن تعرضت للومها مرة بعد مرة صرت لا أرهب شيئا ولا أبالي لوما، وما أزال إلى الآن أشعر بالخجل كلما تذكرت كيف كنت أقف أمام أمي عند ذلك وأجادلها وأراجعها وأتحداها بغير تجمل.
وكان من بين صبيان الحارة اثنان استمرت صلتي بهما مدة طويلة فيما بعد؛ ولهذا أرى أنهما جديران بأن أذكرهما، وأولهما «حمادة الأصفر» الذي ذكرته لي أمي على سبيل اللوم عندما أفضيت إليها برغبتي في العمل.
كان حمادة فتى ضئيل الجسم أصفر اللون يعرفه صبيان الحارة جميعا بالمكر والخبث، ولكنهم مع هذا يعجبون بمهارته في اختراع الألاعيب وتدبير المكائد، وكان يمتاز بجرأة عظيمة في الكلام، وله أسلوب فكه ساخر لاذع، ولكنه لضعف جسمه لا يحب المصادمة، وكانت له مقدرة على التفنن في الصفير العالي بأن يضع إصبعيه في فمه وينفخ فيخرج أصواتا يتحكم فيها كما يشاء، فيقلد صوت القاطرة البخارية أو العصافير، أو يقطع الصفير في مقاطع تجعله يشبه النطق إذا أراد أن يدعونا من منازلنا بأسمائنا، وكان هو زعيم الصبيان في الحارة قبل أن أدخل في زمرتهم، فلما اتصلت بهم شعرت أنه غير مرتاح إلى وجودي معهم منذ أول يوم؛ لأنه وجدني غير مستعد لقبول زعامته.
ولم تمض سوى بضعة أسابيع على وجودي مع الزمرة حتى وجدت الجميع يقاطعونني ويباعدونني، فاعتزلتهم ولمت نفسي لوما شديدا على انحداري إلى مصاحبتهم، واقتصرت على الخروج وحدي إلى الحقول القريبة لأتنزه وأكتب بعض خواطري، ولكن الزمرة لم تدعني وحدي في سلام، بل أخذ أفرادها يتعرضون لي في ذهابي وإيابي، ويقذفون بعض ألفاظ التعريض نحوي من بعيد، فكنت أتجاهل أمرهم لأظهر مقدار هوانهم عندي.
وكان من بينهم ولد من أبناء التجار اسمه «حمادة البارودي» وهو قزم قصير ذو رأسين، ولكن لسانه كان طويلا فصيحا، وله مقدرة كبيرة على السخرية اللاذعة، فكان كلما رآني قذفني بألفاظه الساخرة، المضحكة، وما يزال كذلك حتى أغيب عن بصره وأنا أسمع ضحكاته وضحكات أصحابه فأتقد غيظا، ولما رأت الزمرة أني لا أعيرهم التفاتا زادوا جرأة علي، وأخذوا يسيرون ورائي ليطيلوا مدة اضطهادهم إياي، وكانوا يرسلون أمامهم حمادة البارودي ليكون طليعة، ويسيرون من خلفه صفا يصفقون ويضحكون، وحمادة الأصفر يصفر لهم صفيرا مختلف النغمات والنبرات، ولما زاد غيظي من ذلك عزمت على أن أواجههم في موقعة حاسمة، فما كادت الزمرة تسير من خلفي كعادتها ذات يوم، وما كاد حمادة البارودي يسير في طليعتها ويصيح بأول كلمة ساخرة، حتى عدت أدراجي حانقا وخاطبت القزم قائلا: أتقصدني بما تقول؟
فارتد حمادة البارودي إلى الوراء صامتا ونظر إلى ورائه، ولكني لم أدع له فرصة لكلمة أخرى، وأمسكت ذراعه فهززتها في عنف قائلا: أتريد أن تكون عدوي؟
فلما رأى أن أصحابه لا يسرعون لنجدته أجاب قائلا: أنا مصالحك!
ثم انحاز إلى جنب ووقف ينظر ماذا أفعل، واندفعت مسرعا نحو الجماعة المنتظرة.
وقصدت عامدا إلى زعيمهم حمادة الأصفر فلم أخاطبه بكلمة، بل لكمته في صدغه لكمة شديدة جعلته يترنح ويضع يده على وجهه صارخا، فعاجلته بلكمة أخرى سقط منها على الأرض يصرخ ويبكي ويشتمني، فجذبته من يده حتى أوقفته أمامي كأنه طفل مذنب، وأخذت أشتمه وأهدده، وفي لحظة قصيرة انقلب أفراد الزمرة من عداوة متحمسة إلى صداقة متحمسة، وأخذوا يصفقون لي، وجاء حمادة البارودي يشارك في الملهاة الجديدة، فأخذ يصيح بطريقته الساخرة المضحكة: ما لك يا حمادة يا أصفر! حرام عليك يا سيد. تاب والله العظيم! جدع يا سيد. هيه يا حمادة!
وكان الجميع يضحكون ويصفقون، وكان خذلان حمادة الأصفر حاسما، فعزل نفسه عن زعامته من ذلك اليوم وتركني زعيما للزمرة وحدي، ولم يظهر بعد ذلك بيننا عدة أسابيع، ثم عاد إلينا خاضعا مسالما.
وأما الصبي الثاني فهو «مصطفى عجوة»، وكان هو المهرج المضحك بعد اعتزال حمادة الأصفر. كان ولدا ضخم الجسم، له وجه غليظ أحمر قاتم، وفيه آثار من الجدري تبدو من بعيد كأنها زرقاء، وتعلو وجهه دائما لمعة كأنه مدهون بزيت، وكان له صوت مجوف غليظ، وينطق بألفاظه في بطء فيثير الضحكات عند كل كلمة، وكان يجمع بين السذاجة التي تقرب من البلاهة وبين الميل إلى الدس والنميمة، وله مقدرة عظيمة على اختراع الأكاذيب التي يسعى بها بين رفاقه، فإذا عرف زملاؤه حقيقة أكاذيبه لم يخجل ولم ينكر، بل ينطق ببعض ألفاظه البلهاء ثم يضحك ضحكة طويلة، ويتحمل ما يوجه إليه من الشتائم، وكان يغيظني كثيرا ببلادته وخبثه، ولكني لم أجد عليه سبيلا لأنه لم يحاول مرة من المرات أن يتحدى أو يقاوم عندما كنت أقتص منه على أكاذيبه.
وهو يتيم الأبوين، يقيم مع جدته العجوز ويعولها بما يكتسب من عمله في محلج السيد أحمد جلال تاجر الأقطان، الذي كان من قبل من سكان الحارة، وهو دائما يباهي بأن السيد أحمد يعرف جدته عندما كان يقيم في حارتنا، كما يباهي بأنه يأخذ ستة جنيهات مرتبا شهريا.
وقد حدث في يوم من الأيام أن ذهبنا إلى مولد سيدي «عطية أبو الريش»، وأخذنا نلعب الكرة في ساحة قريبة من مكان المولد، واجتمع من حولنا عدد كبير من النظارة، وقد أحسنت في اللعب في ذلك اليوم، وكنت اللاعب الأوسط في الهجوم، فأخذ النظارة يهتفون باسمي حتى داخلني زهو كبير، وجاءت فترة الراحة بين دوري اللعب فذهبت لأشرب كوبا من الخروب، ومررت في طريقي بحلقة كانت تحيط بمصطفى عجوة وتضحك منه، وسمعت صوته الأجوف ينطق باسمي في عبارة تهكم انفجرت على أثرها ضحكة عالية، فشعرت بحنق شديد عقب الزهو الذي امتلأت به في أثناء اللعب، واندفعت نحو مصطفى عجوة بغير تفكير فأهويت على وجهه السمين بكل قوتي بصفعة رنت عاليا، ثم أتبعت ذلك ببضع شتائم شديدة.
ولم يحاول مصطفى أن يرد على الاعتداء بمثله، مع أنه كان في مثل طولي، وأضخم مني جسما، بل رفع ذراعه إلى رأسه ليحمي وجهه، وأخذ يصيح قائلا: «شاهدين يا جماعة؟»
وتعالت الأصوات مختلطة، وتقدم أفراد كثيرون ليحجزوني عنه وشهدوا علي بالاعتداء، وألزموني أن أسقيهم جميعا كئوسا من شراب الخروب ففعلت.
هكذا انحدرت مع هذه الزمرة إلى حياة مضطربة مدة الصيف كله، وعزفت نفسي عن مواصلة الدراسة عندما بدأ العام الدراسي الجديد، وعزمت على الانقطاع لأبحث عن عمل أتكسب منه، وأعلنت لأمي في صراحة أنني لن أطيق الاستمرار في المدرسة، ولم أعبأ بالحزن الشديد الذي أصابها.
ولما رأت أمي أنني ركبت رأسي صرفت وجهها عني، ولزمت الصمت حتى صارت لا تخاطبني في شيء.
ولكن ذلك لم يزدني إلا عنادا، وعزمت فيما بيني وبين نفسي على أن أظهر لها أنني لست طفلا، وأنني أستطيع أن أثبت وجودي وأشق طريقي في الحياة، ولكني عندما بدأت أفكر في البحث عن عمل لم أجد أمامي بابا أستطيع أن أطرقه، لأني كنت قليل الخبرة لا أكاد أعرف عن الوظائف شيئا، وكان أول ما خطر لي أن أشتغل بالتحرير في الصحف؛ وذلك لأني كنت في المدرسة عضوا في لجنة المجلة، وكان التلاميذ والمدرسون يسمونني «الكاتب الصغير»، ويطلبون مني أن أقرأ عليهم القطع التي أكتبها ويظهرون الإعجاب بها، وخيل إلي أنني إذا أرسلت مقالا من إنشائي إلى إحدى الصحف لم ألبث أن أتلقى الرد محتويا على بضعة جنيهات أذهب بها إلى أمي لأقول لها: «انظري كيف أكسب!» وقضيت بضع ليال في الكتابة حتى أتممت بضع مقالات وكتبتها بخط حسن في ورق جيد، وبعثت بها إلى الصحف المعروفة، ولم أنس أن أبعث بإحداها إلى جريدة «النبراس» في دمنهور.
ولا حاجة بي إلى أن أقول: إن انتظاري قد طال عبثا ولم أجن من وراء مقالاتي إلا خسارة أثمان الصحف التي كنت أشتريها كل يوم أو كل أسبوع لأرى هل نشرت شيئا من كتابتي. هذا فوق ما خسرته في ثمن الورق والظروف وأثمان طوابع البريد وزجاجة من الحبر الممتاز.
وكدت يوما أطير فرحا عندما قرأت مقالة باسمي في جريدة «النبراس»، ولكني لم أتلق الخطاب المنتظر الذي يحتوي على الجنيهات.
ولما يئست من التكسب بالتحرير في الصحف فكرت في الاشتغال بالأعمال الكتابية في الوظائف الحكومية، فبعثت إلى مصالح كثيرة أعرض عليها استعدادي للعمل، وكلفني هذا أيضا ما يزيد على خمسين قرشا في أثمان الورق وطوابع التمغة وطوابع البريد، وانتظرت أسبوعا بعد أسبوع متلهفا على الردود، ولكن لم يصل إلي رد منها.
وبدأت أحس بالضيق من البطالة فوق إحساسي بالخجل والخيبة؛ لأني لم أثبت وجودي، ومر الخريف والشتاء وبدأ الهم يثقل على صدري، فكنت أخرج إلى الريف المجاور للمدينة لأفرج عن نفسي بالنزهة بين الحقول في مطالع الربيع، وكان جمال منظر حقول القمح وهي تختلف من الخضرة إلى الصفرة يأخذ بمجامع قلبي، فأجلس بينها وأكتب ما يخطر لي من الأفكار، أو أؤلف ما يجيش في صدري من الأشعار، وكان أكثر ذلك تعبيرا عما كان يجثم على قلبي من الضيق والحيرة.
ورأيت في يوم من الأيام إعلانا عن وظيفة بمجلس المديرية فكدت أطير فرحا، وخيل إلي أن الأقدار قد ساقت إلي تلك الوظيفة عمدا واختارتها في دمنهور من أجلي، وكتبت طلبا تأنقت في إنشائه وجودت خطه، وذهبت لأقدمه إلى رئيس المكتب بنفسي حتى لا أضيع يوما في إرساله بالبريد، ولما ذهبت إلى ديوان المجلس أخذت أسأل عن رئيس المكتب، فدلني أحد الحجاب على حجرته وهو يبتسم، فاستبشرت بالخير ودخلت إلى الغرفة، وكان فيها ثلاثة يجلس أحدهم في الصدر خالعا طربوشه ويأكل من طبق أمامه فيه بقية من الفول المدمس، فعرفت أنه الرئيس وتقدمت نحوه مترفقا وقلت: حضرتكم الرئيس؟
فنظر إلى نظرة فاترة وهو يمضع ثم قال: ماذا تريد؟
فمددت يدي إليه بالورقة، ولكن يده كانت ملوثة بالزيت ، فتردد لحظة ثم مد إصبعي يده اليسرى وأخذها مني فنظر فيها لحظة ثم قال: هذا خطك؟
فقلت مسرورا: نعم.
فوضع الورقة إلى جانب وأخذ لقمة كبيرة اشتملت على بقية ما في الطبق ثم فرك يديه وسألني من بين أضراسه: شهادة الثقافة؟
فأجبت في شيء من الزهو: نعم.
فقال: وأين هي؟ وما أدراني أن هذا صحيح؟
فقلت: أحضر لك إقرارا من المدرسة بأني ناجح في الثقافة وأتعهد بإحضار الشهادة عند استلامها.
فتبسم قائلا: حسن جدا، أين القهوة يا قرني؟
ووجه الكلمة الأخيرة إلى الحاجب الذي كان واقفا ورائي وهو الذي دلني على الغرفة. ثم اتجه إلي قائلا: طيب! تفضل الآن.
وكنت أود أن أسأله عن رأيه، وهل هناك أمل في قبول طلبي، ومتى أعود إليه مرة أخرى، وما هي الوظيفة، وما أجرها؟ ولكنه نظر إلي نظرة فاحصة كأنه يقول لي: «انصرف من هنا.»
فانصرفت صامتا حتى لا أغضبه وخرجت من الباب فوقفت لحظة مترددا، وجاء الحاجب قرني فوضع يده على ذراعي قائلا في همسة: اسمع يا أفندي!
واستمر بعد أن نظرت إليه: تعال هنا غدا وأنا أساعدك. أنا ضامن لك الوظيفة إذا سمعت نصيحتي.
وكان رجلا سمينا تلوح عليه الطيبة فقلت له: أشكرك جدا.
فقال: لا شكر على واجب. أنت شاب طيب ويظهر أنك نبيه. المنافع متبادلة يا ابني، أنفعك وتنفعني. أأنت من دمنهور؟
فقلت: نعم.
فقال: وأنا مستعد لأي خدمة، في الحقيقة لا أريد أن أطلب شيئا لنفسي، ولا غرض لي إلا تمهيد السبيل لك. أتفهمني؟ أنا أقدر أن أجعله يقبل. أنا وحدي.
ورفع يده ففرق أصابعه الخمسة تحت عيني في السر وهمس قائلا: خمسة فقط، والباقي بعد القبض.
فهززت رأسي مستفهما.
فقال: خمسة جنيهات!
فسقط قلبي في صدري. خمسة جنيهات والباقي بعد القبض؟ وأين لي خمسة جنيهات؟ أأذهب إلى أمي لأطلب إليها ذلك المبلغ؟
فقلت له: ماذا تقصد؟
فنظر إلي كأنه يشتمني وارتسمت على وجهه ابتسامة خاوية، ثم رفع رأسه فجأة متطلعا إلى أقصى الممر المجاور للغرفة، وصاح ينادي عامل القهوة: أين فنجان القهوة المضبوطة يا زفت!
وصاح العامل: حالا يا عم قرني!
ووقفت ثابتا كالأبله لا أدري ماذا أصنع.
فالتفت الحاجب نحوي قائلا: أنت حر!
وتركني ليأخذ القهوة من الصبي الذي جاء مسرعا بها، فسرت أجر قدمي في الطريق كالمذهول، حتى وصلت إلى جانب الترعة، وكان مس الهواء يلطف حرارة وجهي المتقد، وما زلت أسير حتى عدت إلى بيتي متعبا بعد دورة طويلة حول المدينة.
وبعد نهار قلق وليلة مضطربة قمت في الصباح الباكر ذاهبا إلى ديوان مجلس المديرية عازما على مقابلة السيد رئيس الكتبة، لعله يكون أرفق من الأمس، ولكني ما كدت أقترب من الباب حتى استوقفني عم قرني قائلا: ممنوع يا أفندي!
ونظر إلي نظرة جامدة كأنه لم يرني من قبل.
فوقفت لحظة أنظر إليه، وكدت أقول له كلمة أسترضيه بها، وحدثت نفسي أن أعده بما يرضيه إذا قبضت المرتب، ولكنه لم يعطني فرصة للكلام بل أعاد كلمته قائلا: قلت لك ممنوع يا أفندي!
واقترب مني كأنه يريد أن يدفعني عن الباب.
فشعرت بصدري يزدحم بالغيظ، وتمنيت لو دفعني لأجد سببا يجعلني أفرغ فيه حنقي بلكمة في صدغه، ولكنه أدار لي ظهره وأمسك بأكرة الباب.
فلم أجد لي سبيلا إلا أن أبلع غيظي وأنصرف وفي قلبي بركان يفور.
وزاد ضيقي بالحياة وبدأت أسأل نفسي عن قيمتها وتفاهتها، وزادني ضيقا أنني بدأت أندم على انقطاعي عن الدراسة وإغضاب أمي، وبلغ بي الحنق على نفسي وغيري أن انقطعت عن الناس كافة، وصرت أقضي أكثر أوقاتي هائما في الحقول مثل طفل ضال، لا أجد شيئا أفرج به عن نفسي إلا أن أكتب قطعا حانقة باكية من النثر أو الشعر ثم أمزقها بعد أن أقرأها.
وكنت أحيانا أرى في الطريق بعض زملائي القدامى في المدرسة فتصيبني غصة، وألفت بصري عنهم حتى لا أحييهم أو أكلمهم، شاعرا نحوهم بشيء يشبه البغض أو الحقد، فإذا عدت إلى بيتي تسللت إلى غرفتي لأقضي أكثر الليل ساهدا مع خواطري السوداء.
هكذا مرت بي الأيام بطيئة كئيبة حتى جاء الصيف وامتحن رفاقي في البكالوريا، فانهارت مكابرتي وصرت أبكي في غرفتي كلما خلوت فيها.
وجاءني حمادة الأصفر ذات ليلة من الليالي الحارة، وكنت لم أره منذ أشهر طويلة، فتعجبت من زيارته، ولكني شعرت بشيء يشبه الابتهاج بها لأنها أدخلت علي شيئا من التغيير، وكان وجهه أصفر كعادته، وظهرت النقط السود التي فوقه كأنها نمل صغير يتحرك، وابتسم لي عن أسنانه الصفر «المشرشرة» كأنه لم يكن بيننا ما يعكر الصفاء من قبل.
وقال لي مبادرا: ما رأيك يا سي سيد؟
وكان واقفا على أرض الحارة وكنت فوق عتبة الباب، فظهر لي كأنه طفل ضئيل الجسم، وأحسست نحوه لونا من العطف ممزوجا بالاحتقار وقلت له: ماذا تريد يا حمادة؟
فقال: ما رأيك في فرقة تمثيل؟
فصحت: ماذا؟
فقال مبتسما: فرقة تمثيل، فرقة أصدقاء الفن. ألا تذكر؟
وكانت فرقة من الممثلين قد زارت دمنهور في مولد «أبو الريش»، وذهبت إليها مع زمرة أصحابي، ولا أنسى تلك الليلة التي بكيت فيها بكاء مرا عندما شاهدت رواية «عواطف البنين»، وكان مصطفى عجوة جالسا بجانبي، فأخذ يضحك مني ويدفعني بيده قائلا: «إنه تمثيل يا عبيط!» ووقف حمادة ينتظر جوابي وأنا أنظر إليه في عجب ولا أدري ماذا يقصد.
فعاد قائلا: أنت تعرف أني اشتركت مع هذه الفرقة، وكان الجمهور يصفق لي كلما ظهرت. لماذا لا نكسب كما كانت تلك الفرقة تكسب؟ ولماذا لا نكون نحن «أصدقاء الفن»؟ ثلاثين جنيها نربحها في الليلة الواحدة. لا تفكر في شيء لأني ضامن لك أنت عشرين جنيها. ستكون أنت رئيس الفرقة يا سيد أفندي وسأكون أنا أمين الصندوق فقط. سأذهب إلى هؤلاء الأغنياء لأبيع لهم التذاكر بنفسي، وإذا رفض أحدهم أن يشتري عرفت كيف أخلص منه، لا تفكر أنت في شيء. الفرقة كاملة. لا تنتظر إلا أن تقبل أنت الرياسة، فما رأيك؟
وكدت أضحك من الفكرة ولكني قلت له: يعني أنك تريد أن أمثل معكم؟
فأجاب في جد: أنت رجل أديب يا سيد أفندي، كل الناس يقولون هذا. رأيت اسمك بعيني في النبراس، والأعيان كلهم يحسبون حسابك إذا عرفوا أنك معنا. كلمة واحدة في جريدة النبراس تقلب البلد على رأس أكبر عظيم هنا. عشرين جنيها يا سيد أفندي تقبضها مقدما. ما رأيك؟
ومع كل ما كان في نفسي من السخرية ومن سوء الظن بهذا الصاحب القديم، وجدت نفسي أفكر في الجنيهات العشرين، وتصورت نفسي وأنا أحمل هذا المبلغ الضخم إلى أمي قائلا لها: «انظري كيف أستطيع أن أكتسب بعملي!»
وسألته: أأنت جاد فيما تقول؟
فقال مؤكدا: جاد؟ وهل جئت لأمزح؟ لا تفكر في شيء واترك لي تدبير الأمر كله. الرواية حاضرة، والملابس كاملة، والمناظر مجهزة. رواية عظيمة، وملابس بالقصب، والضحك لا ينقطع.
وشادر البطيخ يتسع لألف شخص. ألف في عشرين قرشا على الأقل، كم يا سيد أفندي؟
فقلت ساخرا: مائتان.
فقال جادا: بالضبط، والمقاعد الأمامية بثلاثين قرشا، وكل المقاعد بالثمن. لا هدايا ولا مجانا ولا مجاملة. الجد جد. الاجتماع غدا في الساعة العاشرة صباحا في وابور الطحين بجوار ضريح سيدي «أبو طاقية» ما رأيك؟ أنصار الفن أو المسرح الوطني؟
ففكرت قليلا ثم قلت: المسرح الوطني.
فصفق قائلا: أديب عظيم والله! المسرح الوطني يا أستاذ سيد. انتهينا!
ولم أجبه بكلمة لأن ذهني كان مشغولا بأسئلة كثيرة عن حقيقة الجنيهات العشرين فهل يدفعها لي مقدما كما يقول؟ ولكني خجلت من سؤاله حتى لا أظهر لهفتي، وجعلت أفكر في إمكان بيع التذاكر كلها.
ولما رأى حمادة أني صامت قال لي: قلت لك لا تفكر. رواية مدهشة. كلام نهائي؟ في الساعة العاشرة صباحا؟
وتركني بعد أن هز يدي في صفاء ومودة، وعدت إلى غرفتي مستبشرا أعيد ما سمعت من حمادة حتى غلبني النوم وأنا أناجي أملي.
واجتمعنا في اليوم التالي في «وابور الطحين»، وكانت الفرقة هي الزمرة القديمة مع زيادة بعض أشخاص آخرين للقيام بالأدوار الثانوية، وقرأنا القصة فوجدناها مدهشة حقا. رجل من كبار الأغنياء يتزاحم الشبان على خطبة ابنته ويرفض أن يزوجها لأحد منهم، ثم يأتي إليه سمسمار يوهمه بأنه رسول من قبل أحد الأعيان في مدينة مجاورة لخطبة ابنته، وكان متآمرا مع وكيل الدائرة على تزويج الفتاة من رجل مفلس من أسرة معروفة طمعا في الحصول على ثروة والدها.
ثم تنكشف المؤامرة بعد كتابة العقد، فيغضب والد الفتاة ويريد التخلص من العقد، وبعد مراجعات كثيرة ومصادمات ومضاربات مضحكة يرضى الزوج المفلس بأن يفسخ العقد بعد أن يأخذ تعويضا ماليا كبيرا.
وتم الاتفاق بيننا على توزيع الأدوار، فكنت أنا سعادة البك، وحمادة الأصفر الشيخ منصور السمسار، ومصطفى عجوة وكيل الدائرة، وحمادة البارودي ابنة البك، وهكذا، ولم نختلف إلا على شيء واحد؛ وهو الطريقة التي يضرب بها وكيل الدائرة وجه سعادة البك ردا على الصفعة التي يوجهها إليه البك في أثناء المشادة التي تحتدم بينهما، ولما لم أرض أن يضربني مصطفى عجوة بحال من الأحوال، تم الاتفاق بيننا بعد أخذ ورد طويلين على أن يقنع مصطفى وكيل الدائرة بالتهجم على البك من بعيد.
وبعد بضعة أيام جاء حمادة الأصفر ليسألني هل حفظت دوري؟ وكنت أتقنت حفظه، وتمرنت عليه حتى رضيت عن نفسي، ودفع لي حمادة جنيهين مقدما عندما رفضت أن أشتغل إلا إذا نفذ الشرط المتفق عليه، ووعدني بأن يدفع الباقي في ليلة الحفلة.
وجاءت الساعة الموعودة وبدأ الاحتفال في شادر البطيخ، ورأيت النظارة يملئون المقاعد عندما نظرت إليهم من ثقب الستارة، ولم أرد أن أعكر صفاء الحفلة بالإصرار على أخذ باقي العشرين جنيها؛ لأني شعرت بالاطمئنان إلى أن الربح سيكون كافيا الجميع.
وسارت الرواية سيرا حسنا، وكان إعجاب النظارة ظاهرا من تصفيقهم وصفيرهم وخبطهم بالأرجل على الأرض، وكان حمادة يذهب ويجيء من وراء المسرح وهو بادي السرور، وكلما جاء دوره ذهب ليؤديه أداء طبيعيا كسمسار خبيث حقا.
ثم جاء منظر مصطفى عجوة وكيل الدائرة بعد أن كشفت خيانته فجعلت أشتمه وأهدده وصفعته على وجهه صفعة شديدة كما يحتمه الموقف في الرواية بحسب الاتفاق، فما كان منه إلا أن أدى دوره الأصلي كما هو مكتوب في الرواية، ورفع يده الضخمة على غير انتظار مني وضربني على وجهي ضربة شديدة ترنحت من ثقلها، فما كان مني إلا أن هجمت عليه ولكمته على وجهه لكمات متعاقبة وأنا أشتمه وألعنه حتى وقع على الأرض، وبركت فوقه أكيل له اللكمات في غيظ والناس يضجون بالضحك والتصفيق والصفير، وأرخي الستار، واضطرب الشادر، وجاء حمادة يجري نحوي ويلطم وجهه قائلا: «ضعنا!»
ولم أهتم بقوله ولا بأقوال الزملاء الآخرين، وانصرفت ذاهبا إلى بيتي فأغلقت علي بابي وأخذت أبكي بكاء مرا، وكان شعوري بالخزي يخيل إلي أن أذهب إلى أمي لأوقظها من النوم وأقبل رأسها وأعتذر إليها وأسألها الصفح عني. ألم يكن كل ما أصابني نتيجة لغضبها؟
ولما طلع علي الصباح سارعت إليها وقبلت رأسها، وأخذت أعترف لها بسوء مسلكي وبكل ما حدث لي، وسألتها مخلصا أن تصفح عني وتدعو لي بالهداية، وشعرت عندما مسحت على رأسي بيدها وأخذت ترقيني أني ألوذ بالملجأ الوحيد الذي أستطيع أن ألجأ إليه دائما وأجد الأمن في ظلاله.
الفصل الثاني
كانت أمي تحاول أن تخفي تأثرها وأنا أحدثها عن محاولاتي في البحث عن العمل وما لقيته فيها من الخيبة، ولكن عينيها الرطبتين كانتا تدلان على مقدار رثائها.
وقلت لها في تردد: ولا بد لي من أن أعيد الكرة مرة أخرى؛ فالمدرسة أصبحت مستحيلة.
فقالت: لا أحب أن أعارضك يا سيد، ففكر في مستقبلك كما تحب.
فقلت: يمكنني أن أتقدم للامتحان من منزلي، المهم أن الوظائف تحتاج إلى الواسطة. كل شيء في هذه الأيام يحتاج إلى الواسطة.
فقالت: أتذهب لعمك؟
ولم أكن أنتظر منها أن تفكر في هذا؛ لأني أعرف أن عمي كان على خلاف شديد مع أبي قبل وفاته، حتى إنه لم يحضر إلينا عند موته.
وقلت لأمي: لا أذهب إليه أبدا، وماذا لو تخلى عني؟ أظنك تعرفين السيد أحمد جلال.
قلت ذلك لأني تذكرت أن السيد أحمد جلال جارنا القديم كان كلما رآني يبدؤني بالسلام، وكان من أول من زارنا للتعزية، وكرر علي أن أزوره إذا احتجت إلى مساعدة.
فقالت أمي مرتاحة: جارنا القديم والله يا سيد، لا مانع أبدا. هو صاحب كلمة مسموعة والست نور الله يحميها، والله كان من الواجب أن أزورها من زمن.
واتفقنا على أن نقوم من ساعتنا إلى بيت السيد أحمد جلال، وكان قد انتقل من حارتنا منذ عشر سنوات إلى بيته الجديد في حي «أبو الريش».
وكان السيد أحمد جلال في مبدأ أمره تاجرا صغيرا، ثم اتسعت تجارته وأنشأ محلجا عظيما، وأصبح في مدة الحرب الأخيرة أكبر تاجر قطن في المدينة، وكان صديقا لأبي، وكثيرا ما كان أبي يبعثني إليه بخطاب لآخذ منه سلفة على القطن في مدة الصيف كما هي عادة الزراع.
وعندما كان يقيم في حارتنا كانت أمي تزاور امرأته السيدة نور، وكنت كثيرا ما أذهب معها، وكانت ابنته منى طفلة صغيرة ظريفة تشبه الدمية ذات الشعر الأصفر، فإذا ذهبت إلى هناك أسرعت تجري نحوي، وطلبت مني أن أركبها فوق كتفي كأني حصان، ثم تدلي رجليها من أمام صدري وتهزها فأجري بها مقلدا وثبات الخيل وأصهل كما يصهل الحصان فتضحك مكركرة، وتطلب أن أعيد الجري والصهيل مرة أخرى، وأذكر أني ذهبت مع أمي للزيارة مرة في يوم من أيام الشتاء وكانت أختي منيرة معنا، وكانت طفلة في مثل سن منى في حوالي الثالثة أو الرابعة، وركبت منى فوق كتفي كعادتها وطلبت مني أن أجري، وكانت الحارة زلقة على أثر مطرة ثقيلة فانزلقت بها ووقعنا معا في بركة من الطين، فبكت منى وأخذت منيرة تبكي هي الأخرى وهي واقفة على الرصيف، وتحملت وحدي في ذلك اليوم لوما شديدا من أمي؛ لأني تسببت وفي وقوع منى.
ومع أني أنا الذي اقترحت على أمي أن تذهب إلى السيد أحمد جلال، فإني شعرت بضيق شديد عندما نزلنا متجهين إلى منزله؛ لأني استصعبت أن أطلع ذلك الجار القديم على أني تلميذ خائب قطعت دراستي، ولم أجد عملا حتى لجأت إلى مساعدته ليجد لي وظيفة أتكسب منها.
ولكني تغلبت على نفسي وجاهدت شعور المرارة الذي غمرني، ولم أنطق بكلمة حتى وصلنا إلى البيت، وكان بناء فخما تحيط به حديقة يانعة واسعة، ودخلت أمي إلى الدار وذهبت أنا إلى جناح الضيوف، وكان من حسن حظي أن السيد كان هناك، فاستقبلني مرحبا، وأذهبت سماحته ما كان في نفسي من الانكسار، وطلب لي شرابا من المنجة، وأخذ يحدثني حديث جار قديم لا تكلف فيه، ولأول مرة بدأت أعرف الرجل؛ لأني كنت لا أراه قبل ذلك إلا من بعيد كما يرى الطفل رجلا، وشعرت بشيء كثير من الرضى عندما بدأ يحدثني كرجل.
وكان حديثه سهلا شائقا يجري هنا وهناك في مواضيع شتى، فحدثني عن أبي وعن عمي الذي كان من قبل حكمدارا في دمنهور، كما حدثني عن نفسه عندما كان صغيرا فقيرا، وتعجبت من أنه لم يشعر بشيء من الأنفة عندما قال أنه بدأ حياته عاملا عند الحاح علي مطاوع تاجر الغلال، وأنه اقتصد من أجره بضعة جنيهات بدأ بها تجارة صغيرة، فاشترى بعض قناطير من القطن كان يجمعها من الفلاحين رطلين أو بضعة أرطال في كل صفقة، ثم حمل ما اشتراه على عربة نقل فكان يسير إلى جانبها حينا ويركب عليها حينا آخر حتى وصل إلى الإسكندرية، وباع ما اشتراه بربح كبير شجعه على الاستمرار في التجارة، ونظر إلي بعد ذلك قائلا: إذا شئت يا سيد أفندي أن تنجح في الحياة فلا تتعلق بالمظاهر. وارتحت عندما سمعته يناديني: «يا سيد أفندي».
وشجعني ذلك على أن أفاتحه بأني أريد أن أجد وظيفة في الحكومة. فأجابني قائلا: لماذا تريد أن تتوظف في الحكومة؟ إنها لا تعلم إلا الكسل والغرور.
فقلت له: أريد عملا أتكسب منه؛ لأني فقير.
ولم أشعر بالخجل أن أقول له إني فقير بعد أن سمعته يقول إنه كان في صغره فقيرا هو الآخر.
فتبسم قائلا: هذا حسن، وأنا في حاجة إلى شاب مثلك للعمل هنا، ولكن على شرط، ليس هنا مكاتب ولا سعاة ولا أجراس ولا أوامر. هنا عمل إذا كنت حقا تريد العمل. العمل من الصباح إلى المساء، والأعمال كلها سواء. ليس هنا عمل مهم وآخر تافه. كل شيء مهم كالآخر، كتابة النيشان على البالات مثل أمانة الخزانة، كلها تحتاج إلى الأمانة والدقة والجد.
وكانت طريقته في الكلام بسيطة، ولكنها حاسمة فقلت له: يسرني أن أعمل معك.
فتبسم ابتسامة لم أفهم معناها ولكنها تشبه قولي: سنرى.
وقال: سأنتظرك إذا شئت في الصباح. الساعة الثامنة تماما يبدأ العمل، وأنا هنا منذ الساعة السابعة والنصف.
فشكرته مخلصا وكان قلبي يخفق سرورا. هكذا وجدت العمل في لحظة ولم تعد بي حاجة إلى الوساطة للبحث عن وظيفة في الحكومة.
ولما استأذنت لأدعو أمي لننصرف دعاني السيد أحمد لأجول معه جولة في أنحاء الحديقة، وكانت منى تلعب هناك، فلما رأتني عرفتني من أول نظرة، ولكنها لم تجر نحوي ولم تطلب أن تركب فوق كتفي. كانت عند ذلك فتاة في نحو الحادية عشرة أو الثانية عشرة، واتجهت نحوي فسرت إليها لأحييها، وكان وجهها ما يزال وجه الطفلة التي تشبه الدمية، شعرها الأصفر وعيناها الزرقاوان وابتسامتها الوديعة والغمازتان اللتان في وجنتيها، وأخذها والدها تحت إبطه وجعل يداعبها ويسألها: هل تعرفني؟ فهزت رأسها باسمة ولم تنطق بكلمة.
فطلب منها أن تصعد إلى الدار لتدعو والدتي، فأسرعت تجري وشعرها الذهبي يهتز على كتفيها.
وجاءت بعد قليل تسير هادئة إلى جنب أمي ممسكة بيدها، فقبلتها أمي من جبينها، وسلمت على السيد.
فقلت لها: سأحضر إلى هنا في الصباح يا أمي، تفضل السيد فوجد لي عملا.
فقال السيد أحمد: لم أتفضل بشيء لأني محتاج إلى عملك.
فشكرته أمي وأكثرت له الدعاء وهي خارجة، وكان قلبي ما يزال يخفق عندما سرنا في الطريق، وأخذت أحدث أمي عما قاله السيد لي، وكان ذلك أول يوم سعيد مر بنا منذ وفاة أبي.
وفي اليوم التالي بكرت إلى المحلج في الساعة السابعة والنصف، فوجدت السيد أحمد قائما في فناء المحلج كأنه ينتظرني، فلما سلمت عليه أخذني من يدي حتى دخلنا إلى المكتب، ولم يضع وقتا في تحية أو مجاملة، بل أشار إلى علبة صغيرة فيها لون أحمر ومعها «فرشة» صغيرة؛ لأكتب بها الأرقام على بالات القطن.
ونحن إذا تأملنا الأمور بعقولنا وقبلناها لا نعرف دائما حقيقة مشاعرنا، فمنذ أخذت العلبة وسرت إلى مخزن القطن لأبدأ عملي، بدأت أسأل نفسي أسئلة خانقة، ولا أظن أحدا يستطيع أن يعرف ما يبعثه مثل هذا العمل من الشعور بالصغر إلا إذا جربه بنفسه، أخذت أكتب الأرقام وأتحرك بين البالات الضخمة شاعرا بأني شخص تافه، ومضى اليوم الأول طويلا وعدت إلى بيتي حانقا على نفسي ساخطا على قضائي، وأخذت ألوم نفسي أشد اللوم على أني قطعت دراستي وأضعت مستقبلي، ولكني عدت بعد حين أراجع حنقي وسخطي عندما تذكرت ما حدث لي في مدة السنة الماضية التي قضيتها عاطلا عن العمل، وبعد أن أمضيت بضعة أيام في المحلج بدأت أستقر أو بقول آخر بدأت أرضى عن عملي، وعندما جاء أول الشهر أعطاني السيد مرتبي عن الأيام العشرة التي عملت فيها عنده في الشهر الماضي وكانت أربعة جنيهات، فعرفت أن المرتب الشهري الذي قدره لي يصل إلى اثني عشر جنيها، وهو مبلغ لم أكن أحلم به، وكان أول ما فعلت أن اقتطعت من الجنيهات الأربعة جنيها لأشتري به كتبا أقرؤها؛ لأني شعرت بحنين شديد إلى القراءة.
وكان لقراءتي أثر عظيم في تخفيف شدة الشعور بالتفاهة، وهو الشعور الذي كان ما يزال يعاودني؛ وذلك لأني كنت عندما أقرأ أحس كأني انتقلت إلى عالم آخر غير البالات والأرقام؛ ولهذا كنت أضع الكتاب الذي أقرؤه قريبا مني لأعود إليه كلما وجدت فراغا من العمل حتى أخرج به حينا عن عالم البالات، وقد استمر دأبي على هذه العادة الجديدة فصرت أقتطع في كل شهر جنيها أو جنيهين لأشتري كتبا جديدة كأنها جزء من عدة عملي.
وبدأت أتعرف على من هناك من العمال والموظفين، وأنست إلى أكثرهم ما عدا مصطفى عجوة؛ فقد كنت أحس في قرارة نفسي شعورا عميقا بالكراهة له وسوء الظن به، مع أنه كان يقذف نفسه علي ويتودد إلي بطريقته السمجة التي تدعو إلى زيادة النفور.
وكان السيد أحمد يتلطف بي ويترفق في معاملتي ولا يخاطبني إلا باسم سيد أفندي، وكثيرا ما دعاني إلى الجلوس معه في مكتبه، وهذا شرف لا يناله في المحلج أحد غيري. كان مصطفى عجوة يدخل إليه في المكتب فيقف إلى جانب حتى يتلقى أمره ثم يخرج، وأما الموظفون الآخرون فكانوا لا يجرءون على الدخول إلى مكتبه.
ولكنه كان أيضا يكلفني في بعض الأحيان أعمالا تشبه الخدمة الخاصة، فيبعثني إلى البيت لأحمل إليه فاكهة أو لأوصل إليه رسالة أو نقودا، فكانت نفسي في أول الأمر تثور على ذلك، وكدت مرة أرفض طلبه لولا أن ملكت شعوري حتى لا أغضبه، ولكني كنت أجد ترضية كافية تنسيني غضبي إذا صادفت منى في الحديقة، حتى صرت فيما بعد أشعر بالارتياح كلما كلفني القيام بخدمة أذهب فيها إلى البيت، وكنت أجدها في كثير من الأحيان تلعب مع بعض صاحباتها إذ يقفزن فوق الحبل أو يلعبن «الأولى» أو لعبة الانتباه، فإذا رأتني أسرعت إلي وأصرت على أن ألعب معها دورا، وكان هذا يؤخرني أحيانا، ويعرضني للوم السيد أحمد فلا أجرؤ على أن أقول له السبب في تأخري، وقد تعرضت مرة لموقف محرج من جراء إصرار «منى» على مشاركتها اللعب؛ إذ ذهبت يوما كالعادة إلى البيت أحمل فاكهة، وتمسكت بي «منى» لألعب معها لعبة «الانتباه»؛ وذلك بأن أحجل على رجل واحدة وهي تجري أمامي في حدود مربع مرسوم على الأرض، وأخذت أحجل بحماسة وهي تجري وتزوغ مني حتى أكاد أقع واستمر الدور أكثر من عشر دقائق حتى استطعت أن ألمس كتفها، ولما التفت إلى ورائي وأنا ألهث من التعب وجدت السيد أحمد جلال واقفا من بعيد ينظر إلينا، فارتكبت ارتباكا شديدا وشعرت بأن وجهي يتقد وذهبت نحوه أجرر قدمي، ولا أدري ماذا أقول له، ولكن منى صاحت بي غاضبة تدعوني إلى إتمام الدور الثاني لتنتقم مني، فلما رأت والدها أسرعت إليه تطلب منه في حماسة أن يتركني حتى ألعب الدور الثاني فتبسم السيد وأخذها من يدها متجها نحو ميدان اللعب وقال لي: «أكمل دورك يا سيد أفندي، وهذا جنيه يا منى للفائز منكما.» فصفقت منى مسرورة وبدأنا اللعب، ولكني لم أتحمس، فصاحت منى غاضبة وساعدها أبوها قائلا: «يجب أن تبذل جهدك حتى يكون الانتصار حقيقيا.» فاندفعت في اللعب بكل قوتي حتى تعبت منى ووضعت قدمها الثانية على الأرض بغير أن تمسني، وسلمني السيد الرهان، وكان سرور منى بفوزي أضعاف سرورها بانتصارها علي في المرات السابقة، وقد عرفت فيما بعد أن مصطفى عجوة هو الذي سعى عند السيد أحمد جلال، وجعله يتبعني إلى المنزل ليرى أن سبب غيابي هو انشغالي باللعب مع منى، فإني عندما عدت مع السيد إلى المحلج سمعته يستدعي مصطفى عجوة ويشتمه بصوت مرتفع ويلعنه ويأمره بألا يرى وجهه مرة أخرى.
وجاء مصطفى عجوة بعد تلك المقابلة العاصفة وجعل يتودد إلي ويحلف لي أنه يحمل لي إخلاصا لا حد له.
على هذا استقر عملي بالمحلج، وزال عني كثير من الشعور بنفسي وبضآلة وظيفتي، وكان العمال والموظفون الآخرون يأنسون إلي كما صرت آنس إليهم، لا يشذ منهم سوى مصطفى عجوة؛ إذ كان يذكرني دائما بأنه ما زال الصبي الخبيث الذي كان يملؤني غيظا عندما كنا معا في زمرة حارة «أبي طاقية».
وكان من عادة السيد أحمد جلال أن يحتفل في كل عام في شهر رمضان بإطعام العمال والفقراء وتوزيع الملابس عليهم في ليلة العيد، فلما مرت السنة الأولى من عملي بالمحلج عهد إلي السيد أحمد أن أقوم على تدبير ما يجب تدبيره لذلك الشهر من طعام وكسى، بعد أن كان يكل ذلك إلى مصطفى عجوة.
فوضعت لذلك خطة توفرت على إحكامها، وأظن أن السيد ارتاح إلى عملي فصار يعهد إلي بذلك في كل عام كلما أقبل رمضان، وكنت أجد في قيامي به ارتياحا شديدا لما فيه من البر، كما كنت أغتبط بما فيه من دلالة على ثقة السيد بي واعتماده علي، ولم أفطن إلى أن عملي هذا يثير علي غيظ مصطفى عجوة إلا بعد عدة سنوات عندما وقعت حادثة صغيرة في شهر من شهور رمضان المتعاقبة، كان لها على صغرها أثر كبير في تغيير اتجاه حياتي.
أقبل شهر رمضان في أحد الأعوام المتتالية وأعددت العدة لما يجب له من كل شيء، مهتديا بتجاربي السابقة، وتحريت أن أطرف العمال والفقراء بين حين وآخر بأنواع من طرف الطعام لأدخل على قلوبهم السرور، وكنت أقضي بعد الظهر من كل يوم في تدبير شئون المطبخ ثم أمكث حتى الغروب في خدمة الطاعمين حتى يفرغوا من الإفطار، وأذهب بعد ذلك إلى بيتي لأفطر، وقد أتاحت لي ساعات وجودي معهم فرصا كثيرة للاستماع إلى ما يقولون ولا سيما بعد أن صاحبتهم سنة بعد سنة وأنسوا إلى مودتي.
وبدأت أحاديثهم الصريحة عند ذلك تطلعني على جانب عجيب من الطبيعة الإنسانية لم أفطن لها من قبل، وبدأت أتعلم حقا أن الناس كما يقولون: «صناديق مقفلة» تخفي في كثير من الأحيان ما فيها من الحقائق.
كنت يوما أجلس في حلقة من العمال حول إحدى الموائد بقصد مؤانستهم فسمعت أحدهم يتحدث ساخرا بالسيد أحمد جلال.
فقلت له في رفق: إنه لا يستحق منك هذا يا صديقي.
فأجابني في دفعة: أتقصد أنه يطعمنا؟
فقلت: لا أقصد ذلك، بل أقول لك إنه صديق يعمل دائما على إظهار مودته لنا، وما هذه الموائد إلا لفتة كريمة لا تستحق إلا الشكر.
فقال مستمرا في سخريته: أي شكر يا عم؟ هو يقطع من لحمنا ليطعمنا، فدعنا نأكل لحمه ونقطع فروه.
وانطلقت عند ذلك ضحكة عالية من الحلقة كلها، وكان لها وقع بشع في نفسي، فقمت من بينهم وقلبي ثائر وصدري منقبض حتى وصلت إلى بيتي، فأفطرت بشيء يسير وأنا كاسف البال، وفي الليالي التالية عزمت على أن أسبر غور الحلقات الأخرى، فكنت أستمع إلى فكاهاتهم ومناقشاتهم، وتبينت أن السيد أحمد جلال لا يطعم إلا بطونا جائعة. كانت قلوب الجميع لا تحمل له مودة ولا تجزيه في قرارتها إلا بالسخرية أو الحقد.
وذهبت ذات ليلة كعادتي إلى بيت السيد أحمد جلال لأقضي السهرة بعد أن فرغت من تعهد إفطار الفقراء، وكان السيد جالسا في حلقة ضيوفه المعتادة، وسمعت أول ما سمعت من حديث الجالسين قول الشيخ القرش: ما رأيكم في أن نسمي السيد أحمد جلال «حاتم دمنهور»؟ فتعالت الأصوات بالموافقة وأخذ السيد أحمد يقول في تواضع: أستغفر الله!
وكنت أعرف الشيخ القرش منذ نشأتي، وهو تاجر عجيب الطباع بدأ حياته فلاحا فقيرا، ثم صار طالب علم بالأزهر، ولكنه قضى عشر سنوات في دراسة لم تفده شيئا سوى عمامة كبيرة، فاشتغل بالتجارة، واتخذ لنفسه دكانا صغيرا في السوق يجمع فيه أنواعا من البضائع لا صلة بينها، من الطعام والبقول والملابس والأواني، كما جعل عند مدخله صندوقا لبيع السجائر وآخر للمرطبات المثلجة، وكان يضع أمام دكانه بعض الكراسي ويجمع عليها بعض أصحابه، فإذا جاء وقت الصلاة قام ليصلي بهم جماعة فوق الرصيف، وكان من أقواله المأثورة: «القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود.» كما كان يقول دائما إذا سئل عن أصله: «أصلك قرشك.» لهذا سماه الناس بالشيخ القرش، وكان معروفا بينهم بالحماقة والشراهة والرياء.
ولا شك أن وجهي كان ينم عن الغيظ عندما سمعته يستمر قائلا للسيد أحمد: لسنا وحدنا نقول هذا، لهؤلاء المئات من الفقراء يقولونه وهم يأكلون طعامك.
وكنت منذ أيام أفكر في أن أتحدث إلى السيد أحمد في إبطال هذه المآدب التي يقيمها ولا يجزى عليها بالشكر، وأقترح عليه أن يزيد في أجور عماله بمقدار ما ينفقه عليها من الأموال، فلما سمعت قول الشيخ القرش نظرت إليه حانقا.
وأحس الرجل بمعنى نظرتي، فاتجه إلي قائلا: ما رأيك يا سيد أفندي؟
فشعرت بأن لساني يلتصق في سقف حلقي، وأن الدم يصعد إلى وجهي. أأكذب وأوافقه؟
ولما رأى الشيخ ترددي صاح في حماقته: هل يجرؤ أحد أن يكابر إلا أن يكون أعمى؟
وانتهز مصطفى عجوة الفرصة فقال: العمي كثيرون يا مولانا.
فصاح الشيخ يخاطبني في غضب: أتنكر فضل السيد أحمد جلال؟
فاندفعت قائلا في غيظ: من الذي ينكر؟ وما معنى هذا الغضب يا مولانا؟
فاستمر قائلا: أهذا هو إخلاصك؟
فشعرت بما يشبه الوخزة في صدري وقلت غاضبا: ما لك أنت وإخلاصي؟ أظن السيد يعرف المخلصين وغير المخلصين، ولكنك تريد أن تخدعه بهذا الملق يا سيدي الشيخ. كنت أتمنى لو لم أكن هنا ولو لم أسمع كلامك هذا، أو على الأقل كنت أتمنى ألا توجه إلي هذا القول الذي لا معنى له.
واتجهت إلى السيد أحمد قائلا: ومع هذا فإنها مناسبة حسنة يا سيدي لأن أقول لك كلمة. أنت تعرف أني أجلك كوالدي، ولكنك لا تعرف حقيقة ما في نفوس هؤلاء الذين تطعمهم بالمئات في فناء محلجك، والفرق بين الذين يجلسون هنا والذين يجلسون هناك هو أن هؤلاء يتكلمون أمامك والآخرون يتكلمون من خلف ظهرك، وأما أنا فإني أسمع ما يقول الجميع.
وكان مصطفى عجوة جالسا في ركن بعيد فسمعت صوته الأجوف يقول: ماذا تريد أن تقول يا سيد أفندي؟
فغاظني صوته أكثر مما غاظني سؤاله، واندفعت قائلا: لست أوجه إليك كلامي.
وقال الشيخ القرش: يريد أن يقول إن كل الناس كذابون.
فقلت مستمرا: لم أقل هذا يا سيدي الشيخ، ولكني قلت إن هناك من يقولون غير ما تقوله أنت وأصحابك؛ لأنهم ينطقون بما في نفوسهم بغير رياء.
فصاح مصطفى عجوة: فلسفة!
وقام الشيخ هائجا وقال: بل وقاحة!
فلم أعبأ بما سمعت منهما وقلت مستمرا: هذا الإحسان الذي تقدمه يا سيدي طعاما للناس يجعلهم يأكلون وهم يشعرون بسطوتك. هم يعرفون أنك تتفضل عليهم لكي يشكروك، ولكنهم لا يحسون في نفوسهم شكرا صادقا، بل أقول لك بالصراحة إنهم يقولون من وراء ظهرك ما لا يقول هؤلاء أمام وجهك.
فعاد الشيخ إلى ثورته، وجعل يهز ذراعه مهددا، وصاح متفجرا: هل جئت هنا لتشتمنا وتسفه أحلامنا وتتهمنا بالرياء؟
فانفجرت كذلك قائلا: لست أجيب على هذه الألفاظ الرخيصة؛ لأنها لا ترهبني. أبطل يا سيدي هذه المآدب والولائم، وإذا أردت الإحسان الصحيح، فاجعل ثمن هذا كله زيادة في أجر عمالك. دعهم يذهبون إلى بيوتهم ليأكلوا مع أولادهم ونسائهم وهم يشعرون أنهم مدينون لعملهم وحده. سيحرصون على عملك عند ذلك ويشكرونه لك كما يشكر الرجل الحر صاحبه.
الذين يركعون تحت قدميك ليشكروك على عطائك لا يحملون لك غير الرهبة. حرر قلوبهم من أسر الإحسان المذل، ولا تستعبدها.
وكان وجه السيد أحمد يدل على شدة ضيقه وارتباكه، وبدأت أشعر بأني أسأت إليه إساءة كبرى، وغمرني الخجل لأني عرضته لمناقشة عامة لا شك في أنها مست صميم كبريائه.
ووجدت أن بقائي هناك لا يزيد موقفي إلا حرجا فقلت معتذرا: أنا آسف يا سيدي على هذا الحديث كله، وكنت أتمنى لو لم أتدخل فيه.
والتفت مسرعا لأخرج وفي داخلي مرجل يغلي وعلى جسمي فيض من العرق.
ولما خلوت في غرفتي تلك الليلة أخذت أفكر فيما أفعل في الصباح التالي. أأذهب إلى عملي أم أنقطع عنه؟ وكان أول رأيي أن أنقطع لأن السيد أحمد لا بد أن يكون غاضبا علي بعد ما حدث مني، وحزنت حزنا شديدا لتورطي في شأن كنت في غنى عن التورط فيه.
ولكني عدت إلى نفسي بعد قليل، وقلت: إني لم أقترف في حق السيد أحمد جريمة ألوم نفسي عليها؛ فقد كنت أحمل له إخلاصا وولاء لا شائبة فيهما، وأعرف أنه صاحب الفضل علي وأنه يكرمني، ولا ينبغي لي أن أحزن من أجل نصيحة صريحة قلتها له أبتغي بها مصلحته. لم أكن متهما أمام ضميري؛ ولهذا عزمت على أن أخوض المعركة حتى نهايتها، واستقر رأيي على أن أبقى في خدمته، وأواصل عملي حتى يبدأ هو بالتخلي عني إذا شاء.
وصاحبني في تلك الليلة إحساس قوي بالاعتزاز بأني إنسان أستطيع أن أجهر برأيي ولا أتردد في الثقة بنزاهة ضميري، وكلما مرت بذهني ذكرى هذه الليلة عرفت أنها كانت من اللحظات السريعة التي تمر بنا، فلا نفطن إليها في وقتها، ولكنا نعرف فيما بعد أنها كانت لحظة خطيرة فيها مفرق من مفارق الطرق في الحياة. بدأت أشعر منذ تلك الليلة بأن لي وجودا، وإن كنت لا أزيد على موظف بمحلج يكتب الأرقام على بالات القطن.
الفصل الثالث
عندما ذهبت في اليوم التالي إلى المحلج وجدت السيد أحمد جلال على عادته مهذبا سمحا كأن لم يحدث شيء في الليلة السابقة، فحمدت الله على الرأي الذي اهتديت إليه، وزادت ثقتي في الرجل وزاد شعوري بالولاء له، واستمر السيد في تكليفي القيام بتدبير الطعام للعمال في الأيام الباقية من رمضان، ولم يكن لي أن أراجعه في ذلك، فما كان ينبغي له أن يقطع عادته في أثناء الشهر بعد أن بدأها.
وبقيت في عملي بعد ذلك شهرا بعد شهر لا أكاد أفطن إلى مرور الزمن إلا في أول كل شهر إذا قبضت مرتبي، وقد زاد السيد أحمد ذلك المرتب بعد بدء الموسم الجديد فجعله خمسة عشر جنيها، وجعلني وزانا فاختفى شعوري بالصغر والتفاهة شيئا بعد شيء.
وكان العمل في أيام الخريف والشتاء لا يدع لي فرصة كبيرة في القراءة؛ لأني كنت أعمل طول النهار إلى المساء بغير راحة إلا ساعة قصيرة عند الظهر، وصار السيد أحمد لا يكلفني الذهاب إلى البيت لقضاء الخدمات الصغيرة، فلم أذهب إلى هناك إلا مرة واحدة في مطالع الربيع لأحمل هدية جاءت إليه من أحد أصدقائه في الإسكندرية، وهي علبة بديعة الصنع من قطيفة الحرير يدل مظهرها على أنها تحتوي على حلية ثمينة، وذهبت إلى البيت وكنت لم أقابل مني منذ شهور وكان يوما من أيام مارس والهواء الدافئ يعلن أن الحياة بدأت تدب في الكون. كانت أعواد الأشجار وأوراقها الرطبة والأزهار المتبرجة بألوانها الزاهية وروائحها العطرة تقول: «هذا هو الربيع»، وكانت الطيور المرحة كذلك تتواثب وتزقزق وتغني قائلة: إن الحياة تجدد شبابها، ورأيت منى في الحديقة تتمشى في ساعة العصر بين ظلال الشجر وحدها. لم تكن تلعب كما اعتادت ولم تسرع إلي صائحة مرحبة كما كانت تفعل من قبل. كانت في ذلك اليوم مثل زهرة الفول الأنيقة الناضرة إذا بللها الندى في الصباح، وكان عليها ثوب من الحرير الأبيض ووجهها البارع الحسن يزينه كأنه جوهرة. كان لون وجهها الوردي ولون عينيها اللازوردي وشعرها المتموج الذهبي، كان كل ذلك يبدو أروع من كل مناظر الربيع الجديد، ولما رأتني أحنت رأسها بابتسامة صغيرة فذهبت إليها لأحييها، ومدت إلي يدها في هدوء، ولأول مرة نظرت إلى وجهها متأملا. رأيتها مثل وردة كانت في المساء ناعسة في كمها، ثم تفتحت في الصباح عن تمامها وزينتها أسرار الطبيعة المتفننة في الإبداع، وجدتها أمامي فجأة وهي فتاة لا طفلة، وكانت نظرتها صريحة كالعادة، ولكن عينيها كانتا في لون البحر الصافي العميق، فوقفت أمامها مبهوتا أتأمل صورتها كأني لم أرها من قبل، ولما مددت إليها يدي بالهدية التي أحملها، لم أبتسم ولم أنطق بكلمة، بل إني لم أجب على سؤالها: «ما هذا؟» وارتبكت وخشيت أن تسمع دقات قلبي، وما كادت تأخذ العلبة وتفتحها حتى هممت بالانصراف، ونظرت منى إلى الحلية ونطقت بصيحة إعجاب خافتة، ثم نظرت إلي لتشكرني، وشعرت بأن وجهي يتقد حمرة، ولم أجد وسيلة للخلاص من ارتباكي إلا بأن أنطق بتحية قصيرة ثم انصرفت ووليتها ظهري، وما كدت أصل إلى الباب حتى هبت علي عاصفة شديدة من الحنق على نفسي، ولم أعد أرى شيئا أمامي، وسرت في الطريق كأنني هباءة تضل في فراغ حتى عدت إلى المحلج وأغرقت نفسي بين أكياس القطن في شيء يشبه الحنق، وأخذت أكتب الأرقام تارة وأزن الأقطان تارة أخرى لا أدع لنفسي فراغا حتى أظلمت الدنيا.
ولما ذهبت إلى بيتي في تلك الليلة شهدت معركة من أعنف المعارك التي اضطربت فيها خواطري، كيف وقفت أمام منى هكذا كالصنم الأبكم لا أنطق ولا أتحرك؟ أليست هي منى الصغيرة التي كنت ألعب معها لأدخل السرور إلى قلبها، ولكن ما لقلبي كان يخفق كالمجنون وأنا أنظر إليها؟ وكانت صورتها تتمثل لي وعطرها ينفذ إلى أعماق صدري، وعيناها تشعان بالنور في خيالي، وأصداء صوتها الهادئ تتردد في سمعي مثل أنغام الموسيقى، وخطر لي سؤال عجيب في ثنايا خواطري: «ليت شعري كيف أبدو في عينيها؟» ثم حنقت على نفسي وعدت إليها ألومها على ذلك السؤال الأحمق، وحاولت أن أصرف ذهني إلى شيء يشغله عن تلك الخواطر العقيمة فأخذت أقرأ، ولكني لم أفهم سطرا مما قرأت. ثم أخذت أكتب أشعارا ولكني كنت أسرع إلى تمزيقها ساخطا على حماقتي.
وطلع علي الصباح بعد إغفاءة قصيرة في آخر الليل، وكنت أكثر هدوءا، ولكن إحساسا جديدا أو قلقا جديدا دب إلى نفسي، وهو الرغبة في أن أترك الخدمة بالمحلج، وقضيت سائر اليوم غائبا في أحلام اليقظة، أفكر فيما يمكن أن أشتغل به من الأعمال إذا تركت عملي بالمحلج، وتساءلت مرارا: «لماذا لا أستقل بتجارة أكون فيها صاحب عمل لا موظفا صغيرا في محلج؟»
لماذا لا أكون مثل السيد أحمد جلال الذي بدأ حياته فقيرا مثلي، ثم استطاع بكده أن يبني لنفسه تجارة عظيمة؟
وقد استولت علي هذه الفكرة الجديدة، فصارت أمنية دائمة منذ ذلك اليوم، تخبو أحيانا وتبدو أحيانا، ولكنها دائما هناك في أعماقي.
وكنت أترقب بعد ذلك أن يبعثني السيد أحمد إلى بيته لتأدية خدمة لعل عيني تقع مرة أخرى على منى، ولكنه لم يطلب إلي خدمة لمدة أشهر طويلة حتى شق الأمر علي مع كل ما حاولته من صرف فكري عن تلك الأمنية وتسخيفي لها. كنت دائما أذكر منى وهي تسير تحت ظلال الشجر في ساعة العصر وشعرها الذهبي يشبه أشعة الشمس المضيئة.
ومرت أيام الموسم من ذلك العام، فاتسع وقت فراغي، واشتدت علي وطأة الفكر، فكنت أقرأ كثيرا وأكتب كثيرا وأخرج إلى الحقول لألهو عن التفكير في منى، ولكني كنت دائما أخرج من الميدان منهزما، وكثيرا ما كان قلقي يحملني على الحماقة، فأتعمد المرور من أمام بيت السيد أحمد في ذهابي إلى خارج المدينة لعلي ألمح منى من بعيد، فكنت إذا لمحتها يوما عدت إلى بيتي كأنني أطير على الهواء وأتصبر بالسعادة التي فزت بها عدة أيام، وأما إذا لم أفز بتلك اللمحة ذهبت إلى الحقول كئيبا لأنفس عن قلبي بجولة طويلة.
وحدث يوما أنني خرجت إلى شمال المدينة، فمررت بمنزل أنيق له سور من أشجار شائكة تتسلق عليها أعواد مزدهرة ذات أزهار بديعة الأشكال والألوان، وهزني ذلك المنظر حتى وجدت نفسي أسبح في خيالي، فلم أتنبه إلا على صوت بوق يصيح من ورائي، فالتفت فإذا هي عربة كبيرة تكاد تدوسني، فأسرعت إلى جانب الطريق في شيء من الغيظ، ولكني ما كدت أبصر من في داخل العربة حتى وثب قلبي دهشة وسعادة. كانت منى هناك تبتسم ولوحت لي بيدها، ثم انطلقت بها العربة وأنا ثابت في مكاني. كانت هناك مثل الأزهار التي بدت لي منذ لحظة فوق السور العالي الشائك، تبتسم ولا أستطيع أن أصل إليها، وتعلقت عيني بالعربة حتى اختفت عني ثم سرت على الطريق وقلبي يدق عنيفا وأنفاسي تضطرب، وعادت العربة بعد حين وأنا ما أزال في طريقي، فلما اقتربت منى هدأت سرعتها، فاتجهت إلى منى، وكانت لحظة من أسعد لحظات حياتي؛ إذ رأيتها تلوح بيدها نحوي وتبتسم في مرح، وقد بقيت هذه الصورة عالقة بخيالي لا أنساها، وهي ما تزال محفوظة عندي في القطعة الشعرية التي ألفتها تلك الليلة بعنوان: «زهرة السور العالي».
ومر علي ذلك الصيف في غمرة لا أكاد أتنبه فيها إلى شيء غير صورة منى، حتى بدأ الموسم الجديد، وبدأت أعود إلى أكياس القطن المكدسة في المحلج، وعاد إلي قلقي وضيقي من العمل الرخيص الذي حبست نفسي فيه، وهل أهون من وزان في محلج؟ كانت هذه الفكرة تعذبني في الصباح والمساء وتزداد بي قسوة كلما اقترنت بها صورة منى.
وفي يوم من الأيام طلب مني السيد أحمد أن أحمل إلى البيت مبلغا من الجنيهات «الفكة»، وكان الوقت ظهرا والجو مطيرا، فكنت واثقا أن منى لا تكون في مثل هذه الساعة في الحديقة، ومع هذا فإني كنت سعيدا بأن أذهب إلى البيت ولو لم أرها، ودققت الجرس عند باب المنزل الداخلي، لأدعو الخادم، وانفتح الباب، وظهرت أمامي منى نفسها، وكان وجهها يضيء بابتسامة هادئة، وعيناها تشعان بالنور الصافي الذي أعرفه، وصاحت صيحة خافتة: سيد!
ولم يسعفني النطق لأن دقات قلبي عوقت لساني، فمددت كلتا يدي نحوها قائلا: مفاجأة سعيدة.
ثم أرتج علي فلم أجد كلمة أخرى، فأخرجت ظرف النقود من جيبي وقدمته إليها.
فقالت ضاحكة وهي تأخذ الظرف: هي حقا مفاجأة سعيدة، هذا إسعاف أشكرك عليه لأني مفلسة، واليوم عيد ميلادي، وعندي وليمة لبعض صاحباتي ... وكنت أسأل نفسي من ذا يشتري لي فاكهة ممتازة، فهل تحسن الاختيار يا سيد؟
فقلت سعيدا: ليس أخبر مني بأصناف الفواكه يا منى، وكانت دقات قلبي قد هدأت قليلا، واستطعت أن أستمر قائلا: وأرجو أن تقبليها هدية مني لعيد ميلادك.
فقالت في بساطة: أشكرك. لسنا عددا كبيرا. أقة واحدة من التفاح وأخرى من الكمثرى، وبعض وحدات من البرتقال. دعني أذهب لأدرك الكعكعة قبل أن تشيط.
وأحنت رأسها باسمة ثم انصرفت مسرعة، ولو كانت السماء مفتوحة عند ذلك لانطلقت إليها لأن الأرض كانت لا تسعني، وسرت في الطريق والهواء البارد يرحب بي ونور السماء الخافت يبتسم لي والرذاذ المتساقط يرف على وجهي رفيقا والكون كله يغني، وكان المطر يتزايد وأنا سائر حتى صار يهطل عندما وصلت إلى السوق، وملت على دكان فاكهي فاخترت أحسن ما عنده وبعثت به الصبي إلى بيت السيد أحمد بعد أن نفحته بقطعة من ذوات القرشين، وطلبت منه أن يعود إلي في القهوة المجاورة بعد أن يوصل الفاكهة إلى البيت، وكانت تلك القهوة مكانا مختارا لكثير من زملائي في المحالج، ورأيت جمعا منهم يضحكون بأصوات عالية حول اثنين منهم يلعبان النرد، وكان جو القهوة خانقا ولكنه كان دافئا فخلعت سترتي ونصبتها على كرسي لتجف من أثر المطر، ثم جلست وحدي على منضدة بعيدا عن الزحام، وطلبت فنجانا من الشاي لأستدفئ، وبعد قليل عاد صبي الفاكهي وأعطاني ورقة صغيرة فيها كتابة باللغة الفرنسية: «ألف شكر.» وتحتها الاسم العزيز «منى»، وقرأت الورقة مرارا ثم دسستها في جيبي وأعطيت الصبي قطعة أخرى من ذوات القرشين، ففرح بها وابتسم بسمة عريضة ورفع يده إلى طرطوره مسلما وجرى خارجا، فأخرجت الورقة من جيبي وجعلت أنظر فيها، وكان خطها أنيقا نظيفا واضحا صريحا أو هكذا تصورته وأنا أرى فيه صورة منى كأنها زنبقة، وأخذت أشرب من الشاي الساخن وأنا أردد بصري في الورقة مستغرقا في تأملها حتى تنبهت على حركة في الناحية الأخرى من المنضدة، فالتفت في غير اهتمام لأرى أمامي وجه مصطفى عجوة باسما بسمته الكالحة، فانقبض صدري وأسرعت إلى دس الورقة في جيبي وعدت أشرب من الشاي في صمت، وكنت لم أجتمع به منذ ليلة رمضان العاصفة، فخطر لي عندما وقعت عيني عليه أن أسرع في شرب الشاي ثم أنصرف إلى منزلي لأتغدى ثم أعود إلى المحلج.
ولكنه شرع يحدثني فقال: أأنت غاضب مني؟
فلم أجبه، وأخذت أرشف بقية الشاي، ولكنه لم يخجل وعاد يحدثني مخلطا بأقوال شتى تافهة لا تعنيني، ومن العجيب أنني بدأت أستمع إلى أقواله بشيء يشبه الرضى أو الارتياح إلى استطراده من موضوع إلى آخر، وأعجب من ذلك أنني بدأت أرد عليه وأبادله الحديث بعد دقائق، وكان منظر وجهه الغليظ الأزرق بما فيه من حفر صغيرة يشبه في عيني قطعة عجيبة من صنع الطبيعة، وخيل إلي أنه من قبح تفاصيله يستهوي البصر في مجموعه، وما زال يستدرجني في الحديث حتى سألني: أتعرف محمود بن محمد باشا خلف؟
وكان سؤالا غريبا لا موضع له ولكن غرابته جعلتني أتطلع لما بعده.
فأجبته قائلا: «كان تلميذا معي في المدرسة.» وكان محمود هذا صبيا سخيفا مغرورا غبيا، تعود أن يرشو جيرانه ليملوا عليه الإجابة، وكان كلما قابلنا فتح لنا كفيه قائلا: «انظروا إلى هذا الوسخ الذي في يدي، إنه صدأ الذهب الذي في خزانة أبي.» فكنا كلما لقيناه بدأناه قائلين: «أرنا كفيك يا محمود.» فيفتحهما ويعيد كلمته المعروفة، وكنا نضحك منه كثيرا وهو مغتبط بضحكنا، وكان ثرثارا كثير الادعاء يفاخرنا دائما بأنه يأخذ كل يوم دروسا خاصة في منزله، وكنت أتمثل صورته باسما عندما قال مصطفى: حظوظ يا سيد أفندي. الدنيا حظوظ.
وخبط بيده على المنضدة كأنه حانق.
فقلت له: ماذا تقصد؟
فقال في همس: ألم تسمع بما حدث؟
فثار تلهفي على السماع وقلت في اهتمام: ماذا حدث؟
فقال وهو يصرف وجهه عني: النهاية يا سيد أفندي، لا فائدة.
فزاد قلقي وقلت في ضيق: ماذا حدث؟
فقال محدقا في وجهي: منى!
وكانت مفاجأة غير منتظرة، وكان الخبيث يرقب كل حركة من حركاتي وانفلتت مني شبه صرخة وارتسم على وجهه ما يشبه التشفي واستمر قائلا: ما لنا نحن يا سيدي؟ أما قلت لك إنها حظوظ؟
وحاولت التراجع فتمالكت نفسي بعد أن أحسست بما فرط مني، ولكن الخبيث استمر يتحدث كأنه يتعمد إثارتي، فقال: محمود الذي خرج من المدرسة قبل الابتدائية! محمود الذي يعرف الجميع أنه لا يساوي مليما، محمود الذي لا يعرف من الدنيا شيئا سوى اللعب والنزهة! يا سلام يا ناس! مصائب يا سيد أفندي، والدنيا حظوظ. نولد للهم والغم والتعب ومحمود للعز والسيادة والنعمة ويتزوج منى بنت السيد أحمد جلال!
فصحت في غيظ: من قال هذا؟
فاستمر يقول: يا سيدي قلت لك حظوظ فلنكن نحن في حالنا، نحن نكسب لهم وهم يركبون ظهورنا.
أنت تعجبني والله يا سيد أفندي لأنك تعرف كيف تكلم هؤلاء بالصراحة، أعجبتني عندما تكلمت مع السيد أحمد جلال في رمضان. معلوم كلهم أنذال وعصابة منافقين، ولكن ما لنا نحن؟ النهاية هذه فرصة لأقدم لك اعتذاري لأني كنت أحب أن أقدم لك هذا الاعتذار من قبل العيد، تقول جبان، تقول منافق كما تشاء، ورزقي على الله، ولكني والله مخلص لك، ولولا أني سمعت الخبر بأذني ... سمعته بأذني عندما كان الباشا في المنزل. كانت البنت الفلاحة تحمل القهوة وسمعت هذا الكلام، ونقلته إلي حرفيا، أراك مهموما يا سيد أفندي.
فقلت منزعجا: ماذا تقصد؟ ولماذا أكون مهموما؟
فقال ضاحكا في خبث: علي أنا يا سيد أفندي؟ معذور والله إذا كنت تحزن.
فقلت في دفعة: وماذا يهمني؟
فقال: أنت تسيء الظن بي دائما، أنا أتمنى لك خدمة وأنت لا تثق في أبدا، ولو كان غيرك ما كنت أهتم أبدا ولكنك لا تصدق. السيد أحمد جلال يقدرك يا سيد أفندي ولو كان غيرك قال كلمة واحدة من كلامك في ليلة رمضان ... كان طار في ساعتها، هو يحبك بالتأكيد ويثق فيك وهو على حق، وهي أيضا بغير شك يا سيد أفندي.
وشعرت كأن حجرا صدمني وعجبت كيف ساقني هذا الخبيث إلى هذا المدى في الحديث، وتمنيت لو أنني انكمشت حتى أختفي من وجهه السمج أو أن أقوم مسرعا وأتركه ورائي ولكني مع ذلك بقيت جالسا مهتما بسماع كل ما عنده، كأن شيئا يمسكني برغمي، ولست أدري ما الذي سل مني الإرادة وعقد لساني فلم أتحرك ولم أتكلم بل نظرت إلى وجهه الغليظ جامدا كأني في كابوس ثقيل، وأعاد كلمته قائلا: قلت لك الدنيا حظوظ. دعنا نحن في بؤسنا.
ووجدت نفسي أندفع قائلا: اسمع أيها الوغد، أعرف أنك لا تريد إلا أن تملأ قلبي غيظا بهذا الحديث، وأحب أن أملأ قلبك الأسود غلا وحقدا، اعلم أني لا أهتم بشيء مما تقول ولا أعبأ بمحمود ولا بغير محمود، وأشعر بأني لا أقل عن أحد ولا يهمني ما تقول إن الدنيا حظوظ. قل عن نفسك ما تشاء ولكن لا تحشرني معك. هل تظن أني أقل من أحد؟
ما معنى حظوظ وغير حظوظ؟ لو كنت أريد ... وترددت فلم أنطق بما كنت أريد.
فقال مصطفى: الحق علي يا سيد أفندي. هذا جزاء المودة والإخلاص الحق علي يا سيدي والناصح دائما مكروه.
فقلت: ما الذي جعلك تتكلم عن محمود خلف؟ ولماذا تقول لي إن الدنيا حظوظ وإننا بؤساء، كن بائسا أنت إذا شئت ولكني لا أرى أني أقل من أحد، وهل يبعد أن أصير غنيا أنا الآخر؟ لماذا لا أكون غنيا مثل السيد أحمد نفسه.
فضحك ضحكة عالية وقال في وقاحة: قريبا يا سيد أفندي، لا مانع أبدا، تشجع وأسرع قبل فوات الوقت.
ولولا أني خشيت من لفت أنظار من في القهوة ومن تناقل الأحاديث الكاذبة وإثارة قصة طويلة في المدينة، لقمت إلى ذلك الوغد وأفرغت فيه غيظي بطريقة لا ينساها، ولكني بلعت شتائمي وكتمت حنقي وقمت من مجلسي مسرعا فلبست سترتي وخرجت بغير أن أنظر إليه، وكان المطر ما يزال يقطر فسرت في الطريق لا أحس بردا ولا أبالي المطر ولا الوحل وفي عقلي سؤال واحد متشعب وهو: «أحقا خطبها محمود خلف؟ وهل يرضى أبوها؟ هل ترضى هي؟ أهي جارية تباع من أجل ثروة الباشا؟»
ولما صرت في غرفتي أخرجت من جيبي قصاصة الورق التي بعثتها منى، وأخذت أقرؤها وأعيد قراءتها وأنا حزين بائس، ثم قبلتها ووضعتها مترفقا في ظرف وجعلتها في مصحف صغير أضعه في درج مكتبي.
وجاءت أمي تدعوني للغداء فكذبت عليها قائلا إني أكلت، وقمت إلى سريري فاستلقيت متعبا مضطربا في حالة بين النوم واليقظة تشبه الذهول أو الدوار، وأخذت الرؤى تتوالى علي كأنها حقائق، فرأيت كأني أعوم في بحر صاف أشق ماءه في رفق وهدوء، ثم كان البحر يتحول فجأة إلى هواء أسبح فيه مثل الطير ويملؤني شعور بالاستعلاء وأنا أشرف على الأودية والجبال في اطمئنان ثم تهب عاصفة فأجد نفسي أجاهد في موج عال له رءوس بيض تشبه أكوام القطن وتعلو في أنفي رائحة عطنة تشبه الروائح التي أعرفها في حارات دمنهور بعد نزول المطر، فأكاد أختنق وأقوم من غفوتي لاهثا، ولكني لا ألبث أن أرى كأني في براح واسع في آخره حديقة مزدهرة أريد أن أذهب إليها فإذا لصوص يخرجون علي ويهاجمونني ويتقدم مني أحدهم بوجه غليظ يريد أن يطعنني بخنجره، ويحاول أن يأخذ مني الورقة التي بعثتها منى، فأهجم عليه وأنزع منه الخنجر وأرفعه لأضربه فيصيح صيحة عالية بصوت مصطفى عجوة فأقوم منزعجا، ثم أعود مرة أخرى فتبدو لي منى من بعيد فأسرع نحوها لأعتذر إليها ولا أدري لماذا أعتذر، فأقف أمامها صامتا أمد إليها يدي، ولكنها تختفي فأشرد وراءها في اتجاهات شتى حتى أرى بابا مغلقا فارتد عنه حانقا، ولكني أجد الأرض زلقة فأحاول أن أقفز منها إلى سطح رخامي أسفل مني بنحو مترين فأرى كلابا غريبة الشكل مخيفة تنظر نحوي مهددة فأستيقظ وقلبي يخفق خفقانا شديدا، وكان المساء قد بدأ يهبط بظلامه فوثبت من سريري لأوقد المصباح وسمعت صوت أمي تناديني: أصحوت يا سيد؟
وفتحت الباب قائلة: قم لتذوق الكعكة التي أرسلتها منى. يا رب يا ابني أعيش حتى أرى لك عروسا مثلها، قم معي فقد جهزت الشاي حتى لا يبرد.
فقمت آخذا بذراعها وكنت سعيدا لأقوم من غفوتي على هذه البشرى، هدية منى؟
وقلت لأمي: أنت أجمل الأمهات جميعا.
وانحنيت لها باسما، وأشرت إليها إشارة متأنقة لتجلس في صدر المائدة، فجلست تضحك ضحكتها الطيبة وجسمها يرتج وأخذت تدعو لي.
وقلت: أين منيرة؟
فقالت: نسيت أن أقول لك. ذهبت مع منى.
فقلت في دهشة: منى؟
فقالت أمي وهي تضحك: والله يا ابني أصبحت مثل أمي المرحومة: أقول أول الكلمة وأنسى آخرها. أما قلت لك إن منى جاءت إلى هنا؟ ولما رأتني انحنت على يدي وطلبت أن تذهب منيرة معها، قلت لها: «هي أختك يا حبيبتي.» وذهبت معهما لأوصلهما إلى العربة عند أول الحارة.
وكانت سعادتي بهذه الزيارة التي لم أنتظرها تعادل أسفي على أني لم أكن متيقظا لأستقبل منى.
ومددت يدي بالطبق لتقطع لي أمي نصيبا من الكعكة، وذهب عني أثر تلك الأحلام المزعجة التي أفزعتني، وكانت الكعكة من ألذ ما ذقته في حياتي، كما كان الشاي عطرا منعشا، وجاءت منيرة قبل أن نقوم عن المائدة فأخذت تقص علينا حديث الحفلة التي دعيت إليها، وكانت هي الأخرى سعيدة بأن جددت عهدها بصديقة طفولتها.
وذهبت في اليوم التالي إلى عملي في المحلج بقلب خفيف، وكان ضغط العمل شديدا، ولكني لم أشعر منه بتعب ولا ضيق، ولم أعبأ بمصطفى عجوة الذي كان في ذلك اليوم على غير عادته يتظاهر بالسلطان ويسير هنا وهناك بين بالات القطن صائحا بالعمال شاتما مؤنبا كأنه يريد أن يقول: «أنا هنا.»
ولما أوشك عمل الصباح أن ينتهي جاء مصطفى إلي ووجهه يلمع أكثر من عادته وقال لي بصوته المجوف: ألا تحب أن تشرب معي كوبا من الشاي؟
وكان أول خاطر هم بنفسي أن أقول له: «امش من هنا.» ولكني لم أجبه ومضيت في عملي صامتا، فعاد قائلا: «عندي كلام هام أريد أن أقوله لك.» فثار الفضول في نفسي برغم اشمئزازي منه وقلت له: ليس عندي غير ربع ساعة.
فقال ضاحكا: بركة. يكفيني الشرف يا سيد أفندي.
وانتظر حتى فرغت مما في يدي وسار معي واضعا يده تحت ذراعي كأحسن ما يكون الأصدقاء، ولما دخلنا إلى قهوتنا المعتادة صاح بالخادم: اتنين شاي!
وجلست إلى الجانب الآخر من المنضدة متحفزا له بكل أعصابي كأني أعتزم منازلته.
وبدأ قائلا: عندي لك نصيحة يا سيد أفندي.
فصحت متعجبا: هل جئت معك لأسمع نصائحك؟
فقال باسما: لا تغضب قبل أن تسمع. هي نصيحة إذا أردت وإلا فهي بشرى. خبر سار تعمدت أن أقوله لك لأبرهن لك على صدق مودتي، وإن كنت أعرف أنك لا تصدقني. النهاية اعمل الجميل وارمه في البحر. على فكرة. لماذا لم تقل لي السلام عليكم وأنت منصرف بالأمس.
وضيقت عيني وأنا أنظر إلى وجهه فاحصا ولم أنطق بحرف واستمر هو يقول: النهاية يا سيدي على رأي الشاعر: «تظهر لك الأيام ما كنت جاهلا.»
وضحكت برغمي قائلا: وتحفظ الشعر أيضا؟ قل لي أولا ما هي نصيحتك يا مصطفى.
فقال: عندما تركتك بالليل كان قلبي يتألم من أجلك، وإن كنت تركتني بغير سلام. ما علينا، وفكرت طول الليل في شأنك والطريقة التي يمكن بها أن أخدمك وأزيل ما عندك من سوء الظن بصديقك. الشاهد أني عندما جئت اليوم في الصباح كان كل ذهني يفكر في مسألة سيد أفندي.
فقلت ساخرا: مسألتي؟ وما هي؟
وجاء الخادم عند ذلك يحمل كوبين من الشاي، فاتجه إليه مصطفى وطلب منه قطعتين أخريين من السكر وكوبا من الماء، ثم أخذ يقلب الشاي بالمعلقة في بطء وذاق منه رشفة قبل أن يتكلم.
قال: أنت تعرف أني الساعد الأيمن للسيد أحمد جلال.
وانتظر ليسمع رأيي فلم أجد ضرورة لتكذيبه.
فاستمر قائلا: أنا هنا في المحلج من عشر سنوات قبل أن تدخله أنت، ولولا ملاحظتي ومراقبتي وخوف العمال مني كان الناس أكلوه وشربوه.
ورشف رشفة طويلة من كوب الشاي كأنه يقول: «شربوه هكذا.»
ثم قال: والسيد أحمد يثق بي ثقة تامة؛ لأنه يعرف أنه يضيع لو ترك أعماله لغيري. هو يعلم أني أخدمه مجانا. نعم مجانا. ستة جنيهات في الشهر لا تساوي ثمن عشرين رطل قطن يأخذها أحد العمال في جيبه. الشاهد! انتهزت فرصة جلوسه وحده في المكتب، وأخذت أجس لك نبضه.
ففزعت وقلت في دفعة: لماذا؟
فرشف رشفة أخرى من الشاي ثم قال: هل يغضبك أن أجس لك نبضه من أجل منى؟
فوثبت قائما من الغيظ وقلت: هذا لؤم.
فقال غاضبا: عدنا إلى الشتم؟ الحق علي يا سي سيد ولا داعي للكلام.
وهم بالقيام.
فقلت له في دفعه: من أذن لك أن تتكلم عني؟
فقال: لم أتكلم عنك يا سيدي. اجلس من فضلك واسمع أولا، وأي عيب في أن أتكلم عنك؟
ووجدت أن الأمر أخطر من أن أغضب هكذا وأنصرف بغير أن أعرف قرار هذا الخبيث ومدى ما دبره لي من الكيد.
فجلست عازما أن أملك نفسي حتى أعرف كل ما عنده.
وبدأ يتكلم: ألم تقل لي يا سيد أفندي إنك لا تقل عن محمود خلف؟ ألست ترى أنك لست أقل من أحد وأنك أولى بها؟ لماذا لا تكون في يوم من الأيام مثل محمود خلف وأحسن منه؟
وهل من العجب أن تحب منى وتريد أن تتزوجها؟ الحق علي يا سيد أفندي وسأتعلم أن أكون في حالي ولا أهتم بأحد.
وكاد قلبي ينفجر من الغيظ ولكني لم أتكلم، وأخذت كوب الشاي لأشغل نفسي به حتى لا أظهر اضطرابي.
ومضى هو يقول: قلت للسيد إنك شاب طيب ومن أسرة طيبة، والسيد أحمد نفسه يقول إنه يعرف والدك وعمك، الذي كان حكمدار المديرية. هل كنت أنا أعرف هذا؟ فقلت إنها فرصة لأودي لك خدمة وأظن أني نجحت. قلت له إن الفقر والغنى من الله، وأنك ستكون غنيا في يوم من الأيام ولم لا ؟ ألم يكن هو الآخر فقيرا، ولما وجدت أنه لم يغضب قلت له أيضا إنك تحمل شهادة الثقافة ولمحت له أن الزواج يجب أن يكون على أساس المحبة.
فوثب قلبي إلى حلقي وقمت واقفا وقلت له: اسمع يا دون، لا تحسب أنك طعنتني أو قدرت لي على أذى، وأحب أن أقول لك كلمة أخرى لعلها تنفعك إذا نقلتها للسيد أحمد جلال.
وبدلا من أن يغضب مد يده إلى القطعة الباقية من السكر ووضعها في فمه وشرب عليها بعض الماء، وجعل يمصها وهو يقول: «عجيبة يا سيد أفندي» ولولا خشيتي من أن أحدث فضيحة لهشمت أنفه الغليظ بقبضة يدي، وقلت له: أعلم أن إيقاعك عند السيد أحمد لا يهمني، ولن أدافع عن نفسي، وسأنتظر صامتا حتى أرى النتيجة. أنت تريد أن توقع بيني وبين الرجل لأمر في نفسك. هذا خبث قديم لا أجهله، ولكن قد ينفعك أن تعرف أني لست عبدا مثلك، ولو صدق هذا الدس الذي تدسه لي لكنت سعيدا أن أترك محلجه، ولن أبقى في محلج السيد أحمد جلال يوما واحدا إذا صدق كلامك، أهذه أقوال تنفعك؟
ونظرت إليه نظرة نارية وانصرفت من القهوة وقلبي يغلي، واتجهت إلى منزلي فلم أعد إلى المحلج حتى أنتظر النتائج بغير أن أحرك ساكنا، وقلت لنفسي إن أكبر ما أخشاه أن يطردني السيد أحمد، ولمحت في قلبي لونا من السرور عندما فكرت في هذا لأتخلص من عملي في المحلج بغير أن أكون أنا البادئ بالقطيعة، فلماذا لا أبدأ بالتجارة وقد تجمع لي أكثر مما كان عند السيد أحمد عندما بدأ بالتجارة؟ وقضيت ذلك اليوم والليلة التي بعده أحاول أن أشغل نفسي بشيء عن التفكير في نفسي، فأخذت أقرأ حينا وأكتب حينا آخر ولكن فكري كان دائما يعود إلى التجارة. لماذا لا أبدأ من الغد بأن أشق طريقي في الأسواق؟ عند ذلك فقط أستطيع أن أتقدم إلى السيد أحمد جلال وأقول له ما أشاء، ولكن ألم يخطبها محمود خلف؟ هل خطبها حقا؟ وهل يمكن أن تحدث خطبتها هكذا بغير أن يعرف عنها أحد شيئا سوى مصطفى عجوة؟ وجعلت أستعرض المشروعات التي يمكن أن أبدأ التجارة فيها. جنيهات قليلة هي التي في يدي، وماذا تكفي؟ هل أذهب إلى الأسواق لأشتري بعض القطن بالرطل والرطلين والعشرة ثم أبيعها؟ كان هذا ممكنا منذ خمسين سنة وكان كافيا ليصبح السيد أحمد جلال غنيا، ولكن لماذا لا أحاول؟ ومن يدري؟
وخرجت من منزلي هائما في المدينة وما حولها متلفتا حولي إلى المتاجر وإلى وجوه المارة. لماذا لا أضرب في الحياة مثل هؤلاء؟ هل كل هؤلاء يعملون في المحالج؟ ونمت في آخر الليلة نوما عميقا بعد أن تعبت من السير، وسررت عندما قمت في الصباح هادئا نشيطا.
وذهبت إلى المحلج بغير تردد متوقعا أن يكون مصطفى قد وجد الفرصة الكافية لإتمام مكيدته: وكان كل همي أن أستطلع ما يخبئه لي اليوم من المفاجآت.
ولكن السيد أحمد استقبلني كالعادة سمحا مهذبا وقال: لا بأس عليك يا سيد أفندي؟ لم تحضر بالأمس بعد الظهر.
فقلت له: أشكرك يا سيدي. كنت متوعكا قليلا.
وبدأت أحسب أن كل ما قاله مصطفى عجوة كان ادعاء وكذبا لا يريد به إلا أن يملأ قلبي غيظا، وأقبلت على عملي منشرحا، وكان الزحام حولي على أشده لأني لم أحضر بالأمس بعد الظهر، ولم أجد وقتا للذهاب في ساعة الظهر للغذاء، فبعثت أشتري رغيفا وقطعة جبن وأكلت وأنا أعمل، ولم يتركني مصطفى، بل جاء إلي قبل الغروب، ووقف قليلا إلى جنبي ولاحظت أنه كان يقرأ الأرقام التي أكتبها وينظر إلى الميزان، وكانت هذه أول مرة أراه يقترب مني هكذا ليراقب عملي، ولكني لم أعبأ به ولم أوجه إليه كلمة تجاهلا مني له.
ولم أره بعد ذلك حتى ساعة الانصراف فجاء إلي وقال في مرح: سأسقيك شايا على حسابي.
فقلت في دفعة: امش من هنا.
فأجاب هادئا: إذن نتكلم في الطريق.
فقلت: قلت لك امش.
فقال معاتبا: أنت غريب الأطوار.
فقلت: لا داعي للكلام.
فأجاب جادا: إذن فليكن حديثا رسميا. عندي لك كلام يتعلق بالمصلحة.
فوثب جوابي: وما لك أنت؟
فقال في زهو: بأمر السيد أحمد.
فتركته بغير جواب ولبست معطفي وطربوشي، وسرت بغير أن أنظر إليه ولكنه سار إلى جنبي حتى خرجت ثم وضع ذراعه تحت ذراعي وقال في هدوء: اسمع يا سيد أفندي. هي كلمة واحدة وأنت حر.
فقلت في فتور: ما هي؟
فقال: هل هذه طريقة الوزن يا سيد أفندي؟ لم أعرف أنك تفعل هذا وكدت ألطم وجهي اليوم، فهل كنت دائما تفعل هكذا؟
فقلت: وما دخلك أنت؟ هل رأيتني أسرق؟
فقال في وقاحة: ما دخلي؟ لو سرقت كان أهون. ما معنى هذا؟ ما دخلي؟ ما دخلك أنت؟ أنا أكلمك باسم المحلج وباسم عيشي وعيشك وباسم المصلحة. المحلج الذي يطعمني ويطعمك.
فصحت غاضبا: قلت لك ابعد عني.
فأجاب وهو ينزع يده من تحت إبطي، ما هذا الكلام الفارغ؟ إذا كان لا يعجبك أحد فما معنى بقائك معنا؟
فصحت: اخرس.
فقال غاضبا لأول مرة: اخرس أنت. لو كان كل الوزانين مثلك ما بقي محلج السيد أحمد جلال.
فقلت حانقا: لأني أسرق؟
فقبض على ذراعي وهزها قائلا: أنت أبله. أنت لا تفهم. أنت تشخط وتنتر كأنك السيد والناس جميعا الخدم. من أين يدفع السيد أحمد مرتبك ومرتبي ومصاريف المحلج والولائم والإحسان؟ هل يأتي بأموال من الترعة الخطابية؟ من أين يدفع أثمان القطن الغالية وأنت تعرف أن ثمن محلجنا أعلى الأسعار في دمنهور؟
فقلت في نغمة ساخرة: ماذا تقصد؟
فقال: ماذا تقصد أنت؟ ما معنى هذه الطريقة في الوزن؟ قنطارين وعشرين رطلا. عظيم! ثلاثة قناطير وأربعة أرطال ونصف! ملك!
فقلت متحديا: وماذا كنت تريد؟
فأجاب: إذا كنت لا تعرف فاسأل. اسأل أهل العلم يا أخي.
فصحت في غيظ: أمسك لسانك: سألت عقلي وضميري وسألت قلبي وواجبي.
فقال في سخرية: وماذا قال هؤلاء؟ قالوا لك: اخرب بيت السيد أحمد جلال؟
فقلت منفجرا: اسمع أيها الرجل، إذا كان عندك كلمة فقلها لغيري ولا تصدع رأسي بهذا الهراء. ماذا تريد؟ هل تريد أن أسرق ، وبدلا من كتابة قنطارين وعشرين رطلا أكتب قنطارين، أهذا ما تريد؟
فقال في وقاحة: هل تخيفني بهذا؟
فقلت: قل باختصار، هل هذا رأيك أنت أم هو رأي السيد أحمد؟ هل هذه رسالة؟
فأمسك ذراعي قائلا: من قال إنها رسالة؟ أنا أكلمك كصديق، أنا أنصحك لله في لله. أنا أعرف السيد أحمد جلال ولو عرف أن هذه طريقتك لم تبق في المحلج يوما واحدا. أنا أعرف أنه لا يشبه الناس. لا يمكن أن يقول لك كلمة. هو بئر عميقة وداهية كبيرة. يلتفت هنا أو هنا لليمين والشمال وتحت قدميه ويخطو أول خطوة في بطء كأنه يجس الأرض ثم يندفع كالسهم. لا تغتر بأنه لا يقول لك كلمة. لا مؤاخذة إذا كنت أعرض نفسي مع علمي لسوء ظنك، والحق علي لأني لا أتعلم.
فصحت: كذاب. أنت تريد أن تجد بابا جديدا للدس، ومع ذلك فاعلم أيضا أن كل هذه المحاولات لا تهمني. اعلم أني سأستمر على طريقتي التي أملاها على ضميري.
فقال وهو يهز رأسه آسفا: لقد نصحتك والسلام يا سيد أفندي، وكان وجهه المبهوت في نظري مضحكا ولا أدري لماذا، فضحكت برغم غيظي مقهقها، ولم أنتظر أن أسمع الكلمة التي رأيته يفتح فمه بها وقلت له في سخرية: سلام عليكم!
وسرت عنه مسرعا، وكان قلبي يفيض سرورا؛ لأني استطعت أن أدخل على قلبه شيئا من الغيظ آخر الأمر.
ولما ذهبت في اليوم التالي إلى المحلج كنت مطمئنا، ولكني كنت أشعر بشيء يشبه الشعور بالإهانة، وكنت متحفزا لأسمع كلمة ولو يسيرة من السيد أحمد جلال تشير إلى طريقتي في الوزن حتى أقول له ما في نفسي صريحا، ولكن السيد أحمد جلال لم يكن في ذلك اليوم أقل تلطفا مما كان في أي يوم آخر، وكانت الجموع التي حولي تتزاحم علي وتصيح بي تستعجلني، وتحريت في ذلك اليوم تحريا شديدا في أن يكون وزني صحيحا، ولم أفق من غمرة عملي إلا في الساعة الواحدة بعد الظهر، فأسرعت خارجا لآكل لقمة، وخطر لي أن أغسل يدي ووجهي أولا كالعادة، وكانت دورة المياه على مقربة من الباب المؤدي إلى بناء آلات الحلاجة، وفيما كنت أجفف وجهي سمعت لغطا بعيدا يشبه صوت العراك في داخل عنبر الآلات، فذهبت لأرى ما هناك فإذا جمع كبير من العمال يضطرب ويموج في داخل العنبر حول مصطفى عجوة، فأسرعت لأعرف السبب ودخلت بين العمال كما يدخل الطفل الغرير في المآزق التي لا يعرف خطرها، واقتربت من مصطفى عجوة لأسأله ما الخبر، وما كاد يراني حتى ثار ثورة شديدة، وجعل يسب العمال ويصرخ فيهم مهددا، ودفع أحدهم بيده في صدره فاتقدت حماسة زملائه، وصاحوا هائجين، ورفع أحدهم يده فلطم بها وجه مصطفى، وأخذ الآخرون يشتمونه ويلعنونه.
وزاد مصطفى هياجا وتهديدا وقال: إنه سيبلغ الأمر إلى السيد أحمد جلال ليخرب بيوتهم.
فما كاد العمال يسمعون ذلك حتى اندفعوا يشتمونه ويشتمون السيد أحمد جلال ثم أخذوا يلكمونه بقبضات أيديهم ويركلونه بأقدامهم حتى كاد يهلك بينهم، وهو مع ذلك لا ينقطع عن السب والتهديد، وتصايحوا يحرض بعضهم بعضا على تدمير المحلج، فصحت بأعلى صوتي قائلا: «اسمع أنت وهو!» والتفت الجميع نحوي ومضت لحظة هدوء قصيرة انتهزتها لكي أخاطبهم قائلا: ما هذا أيها الإخوان؟
وكان فيهم وجوه كثيرة أعرفها فأخذت أخاطبهم بأسمائهم في نغمة عتاب ألين فيها حينا وأعنف حينا، وأقبلوا علي يشكون لي ما أصابهم من مصطفى عجوة.
وصاح مصطفى: أتفتح أذنك لهؤلاء وأنت تسمع شتائمهم.
واندفع غاضبا يشق الزحام خارجا وهو يهددني معهم فشيعه العمال بضحكة عالية ساخرة من ألفاظ السباب المقذع، فقلت لهم: أيليق بكم أيها الإخوان أن تسبوا رجلا غائبا لم يسئ إلى أحد منكم؟ ألا تعرفون عطف السيد أحمد عليكم حتى تجازوه بمثل هذه الشتائم؟
فصاح أحدهم وهو أكبرهم: هو يسلط علينا شيطانه هذا يعذبنا كل يوم، ويذلنا و...
وصاح آخر: وذنبنا أننا فقراء يعني؟ وهذا المصطفى العجوة يعاقبنا لأن المطر يؤخرنا في الصباح؟
وصاح ثالث: ولو قطع القرشين وذهب في داهية لكان أهون من لسانه المر. لسان يقطر السم .
وقال رابع: كل يوم شتيمة وإهانة؛ «السيد أحمد يطعمنا والسيد أحمد يكسونا، كأنه يقول لنا بالسم الهاري.»
وصاح كبيرهم الأول: أحب أن أفهم الداهية التي يهددنا بها سي مصطفى عجوة كل يوم. هل الدنيا فوضى؟ نروح في داهية لأنه يشكونا للسيد أحمد؟ لأ يا سيدي. نكسر دماغ سي مصطفى ونروح في داهية بحق.
وصاح آخر: والدولاب يقطع أجسامنا مجانا، وأولادنا تموت ولا يعجب سي مصطفى أن نحزن، وإذا مرضنا رمونا في الطريق.
وصاح شاب إلى جنبي: وهذا الصبي ما ذنبه؟ هذا المسكين يقطع منه مصطفى خمسة قروش لأنه تأخر ربع ساعة؟
وكان الصبي الذي أشار إليه لا يزيد عن طفل في سن العاشرة ووجهه النحيل الأصفر يزداد اصفرارا من الدموع المنحدرة على خده.
فناديته: تعال يا أخي.
ووضعت ذراعي حول عنقه، وكان منظره محزنا حقا عندما بدأ يسعل وزادت دموعه انحدارا.
ومسحت على رأسه قائلا: ماذا جرى لك؟ ما اسمك؟
فقال بصوت خافت: عمر.
فقلت في عطف: عيب يا سيد عمر. لا تبك كالطفل.
فقال وهو يجفف دمعه: قطع عم مصطفى مني خمسة قروش.
فقلت له مضاحكا: فداك يا أخي.
وكادت الدموع تفر من عيني من أجله. كان جسمه يختلج وهو يسعل كأنه عود في عاصفة.
وصاح عامل من الخلف: لو كان الولد يخوفه لقطع منه قرشين فقط. أمه مريضة وأبوه ميت. حظه أسود منيل. يا ابني الحق بالوالد أحسن من العذاب.
وساد صمت رهيب على الجميع، ومسحت مرة أخرى على رأس الصبي وقلت له: تعال معي يا عمر. يلا يا جماعة، سأذهب إلى السيد أحمد وأعتذر بالنيابة عنكم. يلا للغداء وارجعوا لأعمالكم وانسوا هذه الغضبة.
تعال معي يا سيد عمر.
وأخذت الصبي في يدي وسرت وأنا أسمع همهمة خافتة من ورائي، وتدفق العمال من العنبر خارجين يدعو بعضهم بعضا في مرح كأن شيئا لم يحدث.
وفي أثناء السير عرفت من الصبي أن أمه مريضة تسعل وتبصق الدم وهو يشتري بأجره الطعام والدواء، ولن يقدر على شراء ذلك بعد خصم القروش الخمسة.
وكانت الساعة قد بلغت الثانية فأعطيت الصبي ما كان في جيبي إلا قرشين أبقيتهما لأشتري رغيفا وقطعة من الجبن، وكنت سعيدا عندما نظر إلي الصبي باسما ومسح دموعه. المسكين، إنني ما أزال أتذكر نظرته.
الفصل الرابع
في الساعة الثالثة عدت إلى المحلج وبدأت عملي ونسيت فيه كل ما حدث في ساعة الظهر، ولكني تنبهت على صوت حاجب مكتب السيد أحمد يدعوني إليه.
وكانت المسافة بيني وبين المكتب تزيد على مائة متر، فأخذت أجمع شوارد أفكاري حتى أحدثه عما وقع بين العمال وبين مصطفى عجوة ليعمل على إزالة ما يدعو إلى إثارة نفوسهم عليه وعلى عمله.
ورأيت مصطفى عجوة واقفا إلى جانب المكتب ويداه مضمومتان إلى صدره من أمام ولونه قاتم يكاد يكون أسود، وبادرني السيد قائلا: سلم عهدتك يا سيد أفندي.
فوقفت أمامه لحظة وأنا دهش كأني لم أسمع قوله. لم أتوقع هذه النهاية في تلك الساعة بالذات، ولو طردني السيد أحمد في اليوم السابق أو الذي قبله أو في صباح ذلك اليوم نفسه لما وجدت في ذلك شيئا يدعو إلى الدهشة أو السخط، وأما في تلك الساعة فإني كنت أنتظر منه كلمة شكر على ما صنعت له. كان العمال على وشك تدمير المحلج بغير شك لولا وجودي، ولم يكن فيما فعلت شيء يستحق غير الشكر. أيطردني بعد أن أخمدت ثورة كان يشعلها هذا المصطفى عجوة الواقف إلى جانبه ينفخ الهواء من أنفه الضخم؟ أيطردني لأني أزلت ما في نفوس عماله من الحنق عليه وقلت لهم إني سأعتذر إليه بالنيابة عنهم؟ ولو كنت عندما ذهبت إلى السيد أحمد أتوقع أن يفاجئني بهذه الكلمة بغير مقدمات لأعددت نفسي لذلك وراجعته لأبين له أنه مخطئ، أو أن الذي بلغه كذب، ولكنها كانت مفاجأة أحدثت في نفسي صدمة مست صميم كبريائي؛ ولهذا أبيت أن أراجعه بكلمة مع أني كنت أقول في سري: «أهذا جزائي؟»
وأدرت ظهري له صامتا وخرجت من المكتب لأسلم عهدتي، وما هي عهدتي؟ بضع دفاتر وأوراق وأقلام ودواة وعلبة نيشان وفرشة بقيت عندي منذ كنت أرقم البالات. هذه كانت عهدتي، وكان شعوري وأنا خارج من المكتب لا يزيد على شعور رجل تسأله: «كم الساعة الآن؟» لم يكن في نفسي ذرة من الأسف في تلك اللحظة.
وخرجت من المحلج حاملا معطفي القديم وأنا عالي الرأس يخيل إلي أني أنا الذي أطرد المحلج ومن فيه.
وسرت في الطريق متجها حيث تقودني قدماي؛ شارع «أبو الريش»، والسوق، وعرجت إلى اليمين هابطا نحو خارج المدينة، ولما وصلت إلى جانب الترعة بدأت أفكر أني لم أترك المحلج فقط، بل قطعت صلتي أيضا بالسيد أحمد جلال والد منى، وسرت أجرر قدمي بقلب مظلم كسير. عند ذلك فقط بدأت أشعر بأني خسرت خسارة فادحة.
وعرجت إلى اليمين بغير أن أعرف أن هذا الجانب أفضل من الآخر، وكان الجو باردا ولكن السماء كانت صافية والشمس تميل إلى الغرب في موكب رائع من الألوان البديعة، وشعرت بوجهي المتقد يلذ مس الهواء وصدري الضائق يرحب بالهواء الطلق، وكانت الحقول تمتد تحت بصري خضراء رطبة ترتاح العين إلى الانسراح فيها، وكانت الدواب محملة بأحمال مختلفة، ومن ورائها قطعان الماشية تعود إلى بيوتها قبل الظلام، فجعلت أنظر إليها متأملا أشكالها وأحجامها وأقايس بين ألوانها وملامحها، وذهني يدور كأنه منفصل عني. هذا شاب بقر قوي يظهر عليه العنف وينظر نحوي بمؤخر عينه ويطأطئ رأسه مهددا، ووجه يشبه ملامح مصطفى عجوة عندما كان واقفا إلى جنب المكتب، وهذا حمار أعجف يحمل حملا ثقيلا من البرسيم ويزحف تحته مطرقا، ويلوي رأسه لعله يقدر أن يصل بفمه إلى قضمة من أعواد البرسيم الذي فوق ظهره، ولكنه لا يصل إليها. ما أشبهه بالصبي المسكين عمر غير أنه لا يبكي، وهكذا سرت هائم الفكر حتى وجدت نفسي مرة أخرى عند «كوبري أبو الريش» فعرجت إلى اليمين وسألت نفسي: «إلى أين؟» ولما اقتربت من الفضاء الذي يبدأ منه الطريق إلى محلج السيد أحمد جلال كان الظلام قد هبط على الأرض وتبينت في قرارة نفسي أمنية غامضة، وهي أن أصادف السيد أحمد جلال خارجا من المحلج، واقتربت من ركن مستور عند مدخل الطريق ووقفت أفكر، كأني أريد أن أتذكر شيئا نسيته، ومر وقت طويل وأنا هناك ذاهل عن كل شيء ولا أدري ماذا أريد، وظهر شخص مقبلا من بعيد في الطريق المظلم فخطر لي أنه «هو». لم يعد الأمر خافيا علي فإني كنت هناك أنتظر السيد أحمد جلال، وما كان سيري على الترعة وكل دوراني ولفي إلا بقصد خفي أن أعود إلى المحلج لعلي ألقى الرجل، ولكن ذلك الشخص لم يكن «هو» فتداريت في ظل الجدار حتى لا يراني، وبقيت واقفا هناك مستندا إلى الجدار وأنا فاتر الذهن لا أدري إلى متى أبقى واقفا هناك، وكدت أثب في مكاني عندما رأيت السيد أحمد يخرج من باب المحلج في الموعد الذي تعود أن يذهب فيه إلى بيته، ولما اقترب مني أسرعت إليه كما يسرع الصديق إلى صديقه يحاول أن يزيل عنه جفوة طرأت على علاقتهما، ولم يظهر على وجهه عندما رآني شيء يدل على الغضب أو الرضى أو الدهشة كأنه كان ينتظر أن يجدني هناك، وسلم علي في بساطة قائلا: «تعال معي يا سيد أفندي.» فخفق قلبي سرورا واستبشرت بكلمته، وسرت وراءه بخطوة قصيرة، ولكنه دعاني لأسير إلى جنبه، وتمنيت بكل قلبي أن أقدر على إزالة ما عنده من الغضب علي ولم أشعر بشيء من الذلة أو الامتعاض؛ لأني كنت عالما أني بريء وأنه لم يعرف حقيقة ما عندي.
ولما وصلنا إلى البيت دخلنا إلى غرفة المكتب، وأخرج السيد أحمد سيجارة فأشعلها ثم جلس وأشار إلى كرسي قريب منه لأجلس عليه. ثم صفق وأمر الخادم أن يأتي لنا بفنجانين من القهوة.
ثم التفت إلي قائلا: هيه يا سيد أفندي.
فقلت في تردد: لست أدري السبب في طردي يا سيدي، ولم أجرؤ أن أراجعك عندما كنت غاضبا، والحق أن دهشتي أيضا جعلتني لا أفكر في مراجعة، ولكن من حسن حظي أني أمر من هنا في اللحظة التي تخرج فيها من المحلج.
واحمر وجهي عندما قلت هذه الكذبة، ولكنه كان ناظرا إلى الأمام مستندا بظهره على الكرسي الطويل فلم ينظر إلى وجهي.
وقال في بطء: المسألة بسيطة يا سيد أفندي.
فقلت في سري: بسيطة!
وخفق قلبي عنيفا. إنه هادئ كأنه جدار مصمت! وقلت له متمالكا نفسي: هي طبعا بسيطة، ولا ينبغي أن تؤثر في مودتي لك، ولكني لا أعرف السبب في طردي. لا أعرف سببا يدعو إلى غضب في هذا اليوم بالذات لأني كنت لا أنتظر فيه إلا الشكر. أظنك لم تعرف أني وقفت حائلا بين العمال وبين تدمير المحلج.
فرفع جانبيه وهو يلتفت إلي قائلا: تدمير المحلج؟
فقلت في حماسة: نعم تدمير المحلج، ولست أعجب لأنك لم تعرف الحقيقة؛ لأن مصطفى عجوة يتعمد دائما أن ينقل إليك أخبارا مشوهة عني.
ونظرت إلى وجهه لعلي ألمح عليه شيئا يدلني على حقيقة شعوره ولكنه كان هادئا كالصورة المعلقة أمامي على الجدار.
وأخذت أصف له ما حدث بين مصطفى عجوة والعمال في ساعة الظهر، وما حدث مني حرفا حرفا وختمت حديثي بعبارة حماسية فقلت: إني كنت مدفوعا إلى تدخلي بشعوري القوي نحوه وبأني أؤدي واجبي نحو رجل أحبه وأحترمه، وشعرت بالدم يثور في وجهي مرة أخرى عندما وجدت أنه ما يزال هادئا.
وجاء الخادم يحمل فنجانين من القهوة فأخذ يرشف من فنجانه وقال لي: تفضل!
ولكني شكرته ومضيت في كلامي: لهذا لم أتوقع منك أن تطردني، وكانت دهشتي عندما سمعتك تقول لي سلم عهدتك أشد من أن أحاول الدفاع عن نفسي، والحق أني أيضا أخذت على خاطري، ولست أريد بكلامي هذا شيئا أكثر من أن أعرف السبب في غضبك؛ لأن الذي يهمني هو العلاقة التي بيننا.
فنظر نحوي باسما لأول مرة، ولكن ابتسامته كانت تحمل معنى كأنه يقول: «وما هذه العلاقة التي بيننا؟»
واعتدل في جلسته فصار أكثر هدوءا كأنه قط يرقد على فراش وثير.
وقال بصوت خافت: لم أكن أعرف من قبل أنني مهدد بكارثة. هذا شيء جديد يا سيد أفندي، ومع ذلك فلماذا لم تدع العمال وشأنهم؟ لم تكن لك علاقة بأعمالهم يا سيد أفندي. دعهم يا أخي يثوروا إذا شاءوا ويدمروا المحلج، وأنا أعرف كيف أعاملهم. كنت دائما أعرف كيف أعاملهم قبل أن تشرف المحلج.
وأحسست بالعرق ينضح من جسمي كأن إناء من الماء البارد صب فوق رأسي.
واستمر قائلا: لا تغضب من قولي يا سيد أفندي فأنت مثل ولدي وكنت أرجو أن تشق طريقك في الحياة معي. لا أنكر أنك أمين وذكي، وأنا أقدرك وأحبك وأعرف أنك من بيت طيب. كنت أود لو بقيت معي حتى تقدر أن تشتغل بعمل ينفعك هنا أو غير هنا، وكنت أحب أن تفتح عينيك للحقائق وتتعرف أمور الدنيا؛ لأن التجارب هي التي تعلمنا. كنت أتمنى أن تبقى معي وتتعلم كما يتعلم هؤلاء جميعا حتى تصير مثل مصطفى عجوة.
وكانت هذه الكلمة الأخيرة فوق طاقتي فقلت مندفعا: اسمح لي أن أقول إني لا أرضى بأن أقارن بمصطفى عجوة.
فرفع حاجبيه وتبسم قائلا: لست أبالي ما يقع بين بعض الموظفين وبعض من هذه المنافسات، ولا أحب أن أفتح أذني لها. هذا شيء طبيعي ولا أعيره التفاتا كثيرا، والذي أقصده أني كنت أود لو بقيت معي حتى تطمئن على مستقبلك. هذا كل شيء.
وسكت لحظة ثم اتسعت بسمته وهو يقول: ولكنك يا سيد أفندي تريد أن تقفز دفعة واحدة، في وثبة واحدة.
وطقطق بإصبعيه محركا يده إلى فوق.
وأعقب ذلك بضحكة عالية لأول مرة.
وخطر لي أنه يلمح إلى الأقوال التي سمعها من مصطفى عجوة عن تطلعي إلى منى، فثارت كبريائي وقلت مندفعا: أتقصد يا سيدي أني غير جدير بأن أتطلع إلى أعلى؟
فقال متراجعا: أبدأ! لا أقصد أكثر مما يفهم من كلامي. لست أقصد أكثر من أنك تندفع يا سيد أفندي. أنت جدير بأن تتطلع كما تشاء، ولا حق لأحد في منعك من شيء. ليس هذا موضوع الحديث يا سيد أفندي، وأنا أرجو دائما أن أسمع عنك ما يسرني.
وأحسست أكثر من قبل بأني أصطدم في جدار مصمت، وبدأت أثور في داخلي لأنه لم يترك لي فرصة للأمل في مصافاته.
وقلت في شيء من العنف: أشكرك على كل حال يا سيدي، وأنا مسرور من أني أديت نحوك واجبي كاملا، ويزيدني سرورا أن أشعر بأنك لم تنصفني، لست أنسى أن أشكرك على كل ما سمعته منك وعلى كل ما لقيته من عطفك ومساعدتك. لست أنسى أنك مددت إلي يدك عندما كنت صغيرا لا أجد أحدا يمد يده إلي، ولكن أحب أيضا أن تعرف أني لست أقل من أحد. هذا ما أشعر به في قرارة نفسي، وإذا كنت أتطلع إلى فوق، فليس هذا أكثر مما ينبغي لي.
وقمت لأنصرف ونظرت إلى وجهه في ثبات، فوقعت عيني في عينه ولمحت أن نظرته لم تثبت أمامي، ولأول مرة منذ عرفته رأيت عليه شيئا يشبه الحيرة أو الارتباك، ولكنه لم ينطق بكلمة، فرفعت يدي مسلما عليه من بعيد قائلا: لعلنا يا سيدي نلتقي في أوقات أخرى أكثر مودة، إلى اللقاء يا سيدي.
وخرجت بغير أن أنتظر، وتعمدت أن أرفع رأسي، وكنت في تلك اللحظة مملوءا بالثقة والاطمئنان، ولما وصلت إلى قريب من باب الحريم لم أملك أن أنظر نحوه نظرة متلهفة كأني أودعه، وثارت فوق عيني غشاوة من الدمع وقلت في نفسي: «أحقا هذه آخر مرة أقترب فيها من هنا؟»
وعدت إلى بيتي فأخبرت أمي بما حدث، فلم أسمع منها إلا دعوة طيبة، وكانت في تلك الليلة أكثر مرحا واستبشارا مما أنتظر، وأخذنا نتحدث فيما أعمل بعد ذلك، فلما قلت لها أني أعتزم التجارة أظهرت لي رضاء متحمسا، وكررت دعاءها إلى الله أن يوفقني، وكانت ليلتي هادئة على غير انتظار، بل إني رضيت عن الظرف الذي اضطرني إلى قطع صلتي بالعمل في المحلج، ورأيت أنه جعلني أقدم بغير أسف على الخطوة التي فكرت فيها مرارا بغير أن أجرؤ على أن أخطوها، سأذهب في اليوم التالي إلى السوق لأجرب حظي، ولكن شيئا واحدا كان يعكر شعوري بالرضا، وذلك أني قطعت ما بيني وبين والد منى. لم أعترف فيما بيني وبين نفسي أن هذا آخر العهد بيننا، وكان تحت كل مشاعري أمل غامض أن أستطيع في يوم من الأيام أن أعود إلى السيد أحمد جلال قائلا له: «أنا سيد زهير.»
وكان اليوم التالي سوق قرية الدلنجات، فعزمت على أن أقوم مبكرا لآخذ فطار الصباح، ولو على سبيل التجربة؛ لأرى شئون الأسواق، وأجس المخاضة قبل أن أنزل في الماء، وفي الصباح الباكر أخذت معي كل ما كان معي من النقود التي ادخرتها طوال السنوات الماضية لأبدأ حياتي كما بدأ السيد أحمد جلال حياته، وكان الظلام ما يزال حالكا تحت السماء القاتمة.
ولا يمكن أن أصف شعوري عندما شممت رائحة الهواء الرطب، وسرت في الطريق الصامتة عالما بأن الناس ما يزالون نياما في فراشهم، وكان المطر قد سقط في الليل غزيرا، وتجمعت منه بركة واسعة تملأ الطريق إلى المحطة، فخضت فيها؛ لأني لم أجد جانبا جافا من الطريق أسير فيه، وكان حذائي قديما له رقبة خففت البلل عن قدمي بعض الشيء، ولما قربت من ضريح سيدي «أبو طاقية» قرأت الفاتحة كما كنت أفعل منذ طفولتي عندما كنت تلميذا في المكتب المسمى باسمه.
ولم أقدر أن أصل إلى المحطة إلا بعد ربع ساعة مع أن المسافة لم تكن أكثر من ثلاثمائة متر، وكانت عربة الدرجة الثالثة مزدحمة ليس فيها موضع لقدم، فاضطررت إلى الجلوس على طرد في الممر بين المقاعد، وكان طرد قماش لأحد التجار الذاهبين إلى سوق الدلنجات.
وكنت لا أعرف من المسافرين إلا عددا قليلا أميزهم بوجوههم، ولكني دهشت عندما جاء حمادة الأصفر قبل قيام القطار بدقيقتين، فجاء يتخطى الطرود في الممر حتى جلس على طرد قريب مني وحياني قائلا: صباح الخير يا سيد أفندي.
ولم يخل جوابي من التعبير عما هجم علي من الضيق عند اقترابه مني، وكان في يده رغيف مقدد من أرغفة دمنهور المنفوخة وقد أكل أعلاه وبقي أسفله في يده مثل الطبق وبه قطعة جبن قديم أغبر اللون.
وقال لي وهو يمضغ: إلى أين العزم؟
فالتفت إليه في شيء من الرثاء والتقزز معا وقلت في احتقار: الدلنجات.
وبدا لي أن المسكين قد زاد تحولا واصفرارا، وكانت حول عينيه دائرتان خضراوان ووجهه المنقط بالنمش الأسود يشبه خرقة قذرة.
وقال في صوت خافت: إلى السوق؟
وهممت أن أصده بكلمة جافية ولكن منظره جعلني أمتلئ شفقة، وقلت له: نعم، وأنت؟
فقال: أسترزق. ربك كريم يا سيد أفندي.
وكان ركاب العربة في هذه الأثناء يختلسون النظرات نحوي، ويتكلمون بأصوات خافتة، ثم استرعى سمعي ضحك عال ينبعث منهم عندما قال أحدهم: قوموا بنا لنبيع التذاكر ونعود يا عم علي.
فرد عم علي قائلا: ربك يستر يا شيخ عفيفي، ويجعل الدور اليوم على المعيز.
وعلت ضحكة أخرى أطول من الأولى، واستمر الركاب ينظرون نحوي ويتهامسون، وسألني حمادة قائلا: ماذا تريد أن تشتري؟
فقلت له في شيء من المباهاة: قطن طبعا.
وسمعني أحد الركاب، وكان إلى جانبي فصاح قائلا: أبشروا يا جماعة ... فرجت! الأفندي تاجر قطن!
فصاح الشيخ عفيفي: أبشر يا عم علي.
فقال الشيخ علي: قلت لكم من الأول. الأفندي أكبر من البيض والفراخ.
وعاد الضحك وصار عاما، وشاركت فيه؛ لأني بدأت أفهم سبب التهامس والمزاح، وأخذ الجميع يتحدثون عما حدث في يوم الثلاثاء الماضي عندما جاء أفندي من الإسكندرية واشترى كل ما كان في السوق من الدجاج والبيض بأثمان عالية؛ لأنه من الموردين للجيوش؛ ولهذا لم يقدر عم علي والشيخ عفيفي على شراء شيء منها وهما من تجار الدجاج، فلما رآني الركاب حسبوا أني أفندي آخر جئت لأزاحم في شراء الدجاج والبيض كما فعل الآخر، وكانوا يتبادلون الفكاهات عني وأنا غافل عنهم، وكانت هذه الغلطة موضوعا جديدا للفكاهة استمر الركاب يتناقلونه مدة طويلة، فسهل علينا قطع الطريق.
وسألني جاري عن اسمي، فلما قلته له عرف أبي وأخذ يترحم عليه، وبدأ الآخرون يتوددون إلي عندما أخذ جاري يعرفهم بأبي ويذكرهم به.
وأخذنا نتحدث معا عن الأسواق وأسرارها، فتلقيت في هذه الجلسة أول دروسي في تجارة الأسواق، وخرجت بفوائد لا تتاح إلا لمن يتبادلون أنفاسهم مع الناس، ويعرفون من الحكم ما لا تعلمه لهم القراءة أو التأمل، وعزمت فيما بيني وبين نفسي أن أحفظ ما أسمع من هؤلاء الذين لا يتلقون ما يقولون عن أحد. إن كل كلمة يقولونها تصدر عن حكمة متواضعة لا تدعي الحكمة، وهي التي يتعلمونها من وخزات الحوادث وغمرات المآزق.
وبلغنا الدلنجات آخر الأمر، ونزلنا نتدفق من العربة إلى الفضاء الواسع متجهين إلى السوق، وكل منا يحمل في يده ما أعده للبيع أو للشراء، وكنت لا أحمل في يدي إلا ميزانا في كيس من أكياس الخيش، وكان منظر هذا الجمع الكبير وهو يتجه في صف طويل أشبه بمنظر الجيش الزاحف.
وكان حمادة يجتهد أن يبقى قريبا مني، مع أني تعمدت ألا ألتفت إليه عندما نزلت، وكان يحمل على كتفه كيسا لا أعرف ما فيه، وينظر نحوي في شيء من التردد كأنه يريد أن يجد سبيلا إلى أن يكلمني، ولما لم يجدني التفت إلي تجرأ وقال لي: ألست في حاجة إلى من يساعدك يا سيد أفندي؟
وكان في صوته انكسار زادني إشفاقا عليه وقلت له: في أي شيء يا حمادة؟
فشجعه جوابي واقترب مني قائلا: في أي شيء، أحمل لك ما تشتري أو أساعدك في الشراء، وأنا خبير بالأسواق.
ثم همس قائلا: ومن أجل المساعدة أيضا، فوالله إني لم آكل منذ الأمس إلا هذه اللقمة التي رأيتها في يدي.
فقلت له عاطفا: وهل تجيء إلى السوق في مثل هذا الصباح بغير وجهة؟
فقال: وماذا أعمل؟ أقصد باب الله يا سيد أفندي. هو العمل الذي أقدر عليه ما دام الناس لا يريدون أن أعمل معهم. كل من أعمل عنده يطردني. لماذا؟ لا أدري. نحس. شؤم، بختي زفت.
فقلت باسما: وتريد أن تجرب حظك مرة أخرى معي؟
فقال: خليها على الله! والله يا سيد أفندي هو البخت. لكن يمكن. يمكن بختك يغلب يا أخي. جرب يا سيد أفندي، والله كلهم كسبوا وربحوا معي ولكني منحوس ، فازوا بالمكاسب وطردوني، ومد يده إلي ليأخذ مني الكيس الذي حملت فيه الميزان فقبضت ذراعي وقلت له: هذا ميزاني وأنا أولى بحمله. أين موضع السوق؟
فقال: ألا تعرفه؟ تعال من هنا.
وكنا قد بعدنا عن المحطة مسافة تقرب من مائتي متر.
فسألني: كم معك؟ ولا مؤاخذة في السؤال يا سيد أفندي.
فقلت في شيء من الخجل: عشرون جنيها.
فجذب يدي واتجه بي إلى جهة الطريق الزراعية إلى يميني وقال: وهل تريد أن نذهب للسوق. تعال إلى هنا.
وسار بي على الطريق حتى بعدنا عن القرية بنحو خمسمائة متر، ووقف لحظة يتلفت حوله ثم اتجه إلى شجرة على جانب الطريق، وقال: ها هنا موضعنا.
فقلت في دهشة: ماذا تريد؟
فقال: هنا موضعنا. نجمع من الفلاحين بالرطل والرطلين والعشرة. هنا تجارة الأمانة. انصب ميزانك هنا. بعشرين جنيه وتريد الذهاب إلى السوق؟ هل عندك كيس؟ انتظر.
وحل الكيس الذي معه فأخرج منه كيسا كبيرا من أكياس القطن الفارغة وفرشه على الأرض، وأخذ مني الميزان فنصب قوائمها وعلقها.
وكانت الساعة تبلغ السابعة من الصباح عند ذلك، وقد تحول الجو على صحو صاف، ولمعت الشمس فوق الأفق، وكان الفلاحون يتسارعون على الطريق، بعضهم يسير على قدميه وبعضهم يركب، وكل منهم يحمل بضاعته.
وقال حمادة: أجلس أنت هنا كالأمير ودعني.
ثم ذهب إلى وسط الطريق وأخذ يصفر صفيرا عاليا بمهارته التي عرفتها منه، فلم أستطع أن أقاوم الضحك، واستمر بعد ذلك يصفق ويصيح قائلا: هنا تجارة الأمانة! هنا تجارة الأجواد! هنا تجارة سيد أفندي زهير!
وكان الفلاحون ينظرون إليه في دهشة، ثم يقفون حوله فيشير لهم نحوي، وقمت إلى ميزاني فسويته، واتخذت هيئة التاجر المجرب، فكل من أتى إلي بما معه من الأرطال وقفت أنظر فيها وأقلبها ثم أزنها وأكتب الوزن على ورقة وأكتب أمامها اسم صاحبها، ثم يجيء حمادة فيفحص مرة أخرى ويساوم في الثمن حتى يرضى البائع فأصرف له النقود.
ولم تمض إلا ساعة قصيرة حتى فرغت نقودي ولم يبق معي إلا ما يكفي للعودة بما اشتريناه إلى دمنهور، وأخذ حمادة يعد الكيسين الذين معه ليعبئ فيهما القطن واستأجرنا عربة لتحمله إلى المحطة، واستطعنا أن نعود ببضاعتنا إلى دمنهور في قطار الظهر، وهكذا مر اليوم الأول من تجربة حظي في التجارة مع حمادة الأصفر، وكان ربحنا فيه عظيما لا يقل عن خمسة جنيهات فوق كل ما صرفناه في سفرنا وأجرة النقل وثمن الأكياس، وكان حمادة سعيدا في آخر النهار عندما أعطيته خمسين قرشا، ولم يتركني حتى تعاهدنا على أن نذهب معا في كل مرة إلى أسواق القرى المجاورة.
وكان سرور أمي من هذه المغامرة الأولى عظيما، وقالت توصيني بحمادة: تمسك بهذا المسكين، فمن يدري يا ولدي، لعل هذا رزقه!
الفصل الخامس
مر ما بقي من موسم القطن في ذلك العام وأنا دائب على الذهاب إلى الأسواق المحيطة بدمنهور في صحبة حمادة، نشتري دائما على طريقته، ثم نجمع ما نشتري ونحمله على عربة نسير إلى جنبها حتى نصل إلى أقرب محطة للقطار فنرسله منها إلى دمنهور، وكان حمادة يتفنن في وسائل الإعلان واجتذاب الأنظار، وكان هو بشخصه علما يسترعي الأبصار والأسماع بقامته القصيرة وصفيره العالي وتصفيقه وفكاهته، وصرنا بعد قليل من أشهر من يرتاد الأسواق، وأصبح اسم سيد زهير وتجارة الأمانة والأجواد مما يجري على ألسنة أهل القرى، وإن كان متجرنا في كل مرة لا يزيد على ظل شجرة على جانب الطريق، واستطعت أن أقتصد من أرباح هذه التجارة أكثر من مائتي جنيه فوق الجنيهات العشرين التي كانت معي من قبل، بعد كل ما أنفقته على البيت حتى حل الموسم الجديد، ولا شك في أن الفضل الأكبر في نجاحي هذا يرجع إلى حمادة، ولا أدري ماذا كنت أصنع لو لم أصادفه في أول يوم على غير موعد.
وما أجدر هذه الإنسانية الضعيفة أن تتواضع وتعرف موضعها من المقادير، وما أكثر الأدلة التي تدلنا على أن النجاح والإخفاق يتوقفان على عوامل عدة أقلها إرادتنا، وكان حمادة مادة عزيزة للتأمل في ذاته، فكنت أراه وأستمع إليه كأنه كتاب حي من الكتب الصفراء القديمة التي تحتوي على كنوز من المعارف؛ فهو يعرف الناس ويتعمق حقائقهم بفطرته الساذجة التي لا تخدعها مظاهرهم ولا يضللها ما تعارفوا عليه من المعايير التي خلقوها لأنفسهم، وقد حيرني منه أنه لم يستطع أن يشق له طريقا في التجارة ويستقل بنفسه فيها مع أنه كان بغير شك صاحب الفضل في كل نجاح أصبته في تجاربي، وقد سألته يوما في ذلك فلم يقل سوى أنه مولود في ساعة نحس.
فقلت ممازحا: جرب معي حظك وابدأ بمشاركتي.
فقال ساخرا: قلت لك دعني ولا تخاطر بنفسك.
فقلت: أنا قابل يا حمادة: فلا تخف.
فأجاب: لا تحاول إغرائي، جربت حظي مرة بعد مرة وكانت النتيجة واحدة. ألست تؤمن بالأقدار والحظوظ يا سيد أفندي؟ ذهبت مرة إلى منجم هندي ليكشف لي عن حظي فلم يقل لي إلا كلمة واحدة معناها أنت منحوس مؤبد. شاركت مرة عطارا فاحترق المخزن كله، وشاركت جزارا فقطع إصبعه، في أول يوم، وشاركت في قهوة فمات صاحبها بالسكتة القلبية بعد أسبوع، وإذا أردت أن تعرف رأي الناس عني فاذهب إلى شارع السوق وقف بين المارة واسأل ما رأيكم في شركة حمادة الأصفر، فإنهم جميعا يجيبون بصوت واحد أنها شركة مشئومة.
فلم أملك نفسي من الضحك وقلت له: سأخاطر معك برغم كل هذا، وسيكون ربحنا مناصفة.
فقال: ليس معي نقود.
فقلت: أسلفك إذا أردت ولك أن ترد لي دينك من الربح.
فقال: وإذا خسرنا.
فأجبته: ننتظر حتى نربح ونعوض الخسارة.
فهز رأسه قائلا: لا يا عم لا شأن لي بالمشاركة. لا شأن لي بالربح ولا بالخسارة، ولم أطلب منك أن تدخلني في شركة.
ثم فرك إصبعيه يشير إلى طلب النقود.
وكانت هذه عادته منذ انتهى الموسم؛ إذ كان يعود إلى بين حين وآخر يطلب المساعدة، فكنت أعطيه في كل مرة جنيها أو نصف جنيه مع أنه أخذ نصيبه من الربح ستين جنيها في أربعة أشهر.
وقد سألت نفسي مرارا ما الفرق بين حمادة وبين السيد أحمد جلال فكنت أعجب من المقارنة بينهما. لقد عرفتهما وخبرت أحوالهما وتبينت مقدار ما عند كل منهما من الذكاء والمقدرة، ولو سئلت عن رأيي في أيهما أصفى جوهرا لما ترددت في أن أقول إنه حمادة. هو الأذكى وهو الأعمق وهو الأكثر تفننا، ولكن الذي جعل أحدهما في طرف والآخر في الطرف الثاني هو عنصر آخر أهم من الذكاء والعمق والتفنن، وهو عنصر خفي مثل أرواح العطور وأسرار الحياة الغامضة، لا يتيسر للإنسان أن يصفه لأنه لا يقدر على تحديده، ولكن شيئا واحدا كان يظهر لي واضحا وهو أن حمادة كان ينطوي في داخله على أنواع من المخاوف لم أستطع كشفها، ولما فرغت من مشاغل الأسواق عدت إلى عزلتي ولا أخفي أنني شعرت بكثير من الارتياح؛ لأني تخلصت من صحبة حمادة مع كل ما كنت أحسه نحوه من الرحمة، وكان فراغي من مشاغل الأسواق يجعلني أفرغ إلى أحاديث كثيرة مع نفسي، وكانت كلها تدور حول صورة واحدة: منى.
وبدت لي الشهور التي مضت علي منذ خرجت من خدمة السيد أحمد جلال كأنها دهر طويل من السنين. كيف نقيس الزمان نحن معاشر البشر؟ إننا نقيسه بالساعات والأيام والسنين مع أن هذه كلها أخيلة لا تدل على حقيقة خارج نفوسنا.
ولا أستطيع أن أصف الحرقة التي كانت تشمل قلبي كلما تصورت أني فقدت كل أمل في رؤية منى، ومع ذلك فقد كنت أجادل نفسي وأتهمها بالحماقة والسخف، فأين أنا وأين منى؟ كنت أكره أن أقول في نفسي: «من أنا؟» ولكني كنت مع ذلك أقول ذلك وأجد له مذاقا كالحنظل، وكنت أكثر من الخروج إلى أطراف المدينة وأستصحب ما أريد قراءته من الكتب طامعا أن ألهو بذلك عن التفكير في منى، ولكني كنت دائما أشرد إليها ولا أطيق الاستمرار في القراءة؛ لأن صورتها كانت تتمثل لي في كل سطر وراء كل خاطرة، وكنت يوما جالسا في قهوة تعودت أن أعرج عليها عند أطراف المدينة ومعي كومة من الصحف والمجلات، وأخذت أقرأ لألهو عن أحاديثي نفسي بتلك الأخبار التي اعتادت الصحف أن تضع لها العناوين الضخمة ذات اللون الأحمر، وأي شيء أحق بأن يتسلى به الإنسان من السخرية؟ إن السخرية هي ملجأ الأشقياء إذا أرادوا أن يحولوا بين أنفسهم وبين الموت كمدا. كانت الأخبار كلها تنطق بأننا منهزمون في كل مكان، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، ومع هذا كان السادة على أحسن ما يكون الناس رضاء عن أنفسهم، ورضاء عن الحياة. ها هو ذا وزير يقيم حفلة ساهرة تشغل أخبارها الصفحة الأولى من الجريدة العظمى؛ لأنه بلغ الخامسة والستين من عمره المبارك، وها هو ذا احتفال آخر بزواج ابنه الثري الكبير المعروف، وفيه تدفقت الشمبانيا في القصر الشاهق حتى أغرقته بالمرح، هكذا تقول الجريدة بغير خجل، وهذا خبر ثالث أكثر جدا وصرامة لأنه احتفال حزب كبير في عاصمة مديرية كبرى تعالت فيه الأصوات بالحماسة الوطنية، ولكنها كانت وا أسفاه لا تزيد على الحماسة في المناداة بسقوط الحزب المنافس ومن فيه من الزعماء. هكذا كان الحزب الأصفر يتحمس في المناداة بسقوط منافسه الحزب الأخضر في القسطنطينية عندما كان محمد الفاتح العثماني على أبوابها، وفي صدر الصفحة الوسطى كتبت بشرى بعنوان ضخم تقول إن ميادين المدينة ستضاء بعد يومين بالأنوار الساطعة احتفالا بعيد الدستور، وستعطل المصالح الحكومية وتفتح سجلات التشريفات في القصر ليذهب المهنئون من العظماء ويكتبوا بها أسماءهم تأدية لواجب الولاء للملك الذي لم يدع برلمانا واحدا يسقط وزارة ... وتعجبت ماذا يفعل الناس بهذه الأنوار كلها إذا أرادوا أن يبتهجوا بالعيد حقا، إنني أرثي للفراش كلما رأيته يقذف نفسه على الأنوار التي تحرقه، وأخذت أقرأ كل ما أمامي من الأخبار حتى الوفيات إلى أن رأيت إعلانا عن آخر موعد للتقدم لامتحان البكالوريا، وهو يوم الأحد المقبل، فذكرني هذا الإعلان بحياتي الماضية وأخذت أعد السنوات التي مرت علي بعد ترك المدرسة. سبع سنوات كاملة لم أشعر بمرورها كأنها قطعت من حياتي، ولو كنت واصلت الدراسة لكانت هذه السنوات كفيلة بأن تجعل مني شخصا آخر في نظر نفسي وفي نظر غيري، ولكن ماذا أصبحت بعد هذه المدة؟ كنت واقفا في مكان كأني أقفز إلى أعلى ثم أسقط حيث كنت واقفا، ولو كنت مثل زملائي الذين واصلوا الدراسة حتى حصلوا على الشهادات العليا لكنت أذهب إلى السيد أحمد جلال لأقول له: «أنا سيد زهير!»
وقمت من القهوة ضائقا بنفسي فعدت إلى منزلي وأغلقت على الباب، وجعلت أقرأ قصة إنجليزية بدأت في قراءتها منذ ليلة، ولكني لم أفهم منها شيئا، وكان ذهني يشرد برغمي عائدا إلى فكرة البكالوريا، وجئت بالجريدة فأخذت أقرأ إعلان الامتحان مرة أخرى، ووقفت عند آخر موعد لتقديم الطلبات. هو يوم الأحد ولم يبق عليه إلا الجمعة والسبت، ولا ينبغي أن أعد الجمعة لأنها عطلة، وقمت إلى مكتبي فأخرجت بعض الكتب الدراسية وأخذت أنتقل بينها قارئا من هنا ومن هناك حتى ثقلت عيناي ودارت رأسي وتثاءبت، ولكني عندما أردت النوم لم أستطعه ومضيت في تفكيري: «ماذا أفعل إذا أردت التقدم للبكالوريا؟» بل إني سبحت في الأفكار وأخذت أحسب ما أحتاج إليه من المصروفات في الجامعة لو دخلت الامتحان ثم نجحت في البكالوريا، وتسلل النوم آخر الأمر إلى جفني حتى استيقظت في الصباح وأنا عازم على أن أتقدم لذلك الامتحان.
وتذكرت أن لي صديقا قديما من زملائي أصبح مدرسا في المدرسة الثانوية بعد تخرجه من كلية الآداب، وكنت أراه من بعيد في الطريق في بعض الأحيان، ولكني كنت أطيع دفعتي الغريبة فأعرج إلى أقرب عطفه حتى أتحاشى مقابلته، وكان أول ما خطر لي أن أذهب إليه لأطلب مساعدته على التقدم للامتحان، وشعرت بالخجل من نفسي؛ إذ لم أفكر في زيارته إلا عندما اضطرتني الحاجة إليه، ولكني عزمت آخر الأمر على أن أجمع عزيمتي وأطرد التردد وأذهب إليه.
وعبد الحميد عباد - ذلك الزميل القديم - شاب جمعتني به صلة وثيقة في أيام التلمذة، وهو من أبناء دمنهور، وكان والدانا صديقين ويدخل كل منا بيت صاحبه كأنه أحد أفراد أسرته، ولم أشعر لمقاطعة أحد من زملائي القدامى بما شعرت به من الأسف لمقاطعته، وكثيرا ما حدثت نفسي أن أذهب إليه لأعاود مودته معتذرا عن مجافاتي له، ولكن الكبرياء حالت بيني وبين ما حدثت به نفسي، وكان من الممتازين في قوة التفكير وكثرة القراءة، وإن كان من أكثر التلاميذ انزواء. كان لا يشارك في الألعاب ولم يكن له نصيب من الظهور في محافل أواخر الأعوام، وكنا لهذا نعرفه باسم الفيلسوف لا تكريما له ولا تقديرا لذكائه، بل تفكها يقرب من أن يكون سخرية، وكان يتخذ لنفسه آراء يتمسك بها ولا يقبل فيها جدالا، وكثيرا ما انتهت مناقشتنا معه إلى المشادة أو المنافرة، وكان في أثناء الدروس لا يقبل من المدرسين قولا حتى يناقشه ويحلله، ولا يبالي ما يؤدي إليه ذلك من ضيقهم به في بعض الأحيان، وكان نقول فيما بيننا إنه من أتباع الحزب الوطني وإن كنا لا نعرف حقيقة مبادئ الحزب الوطني، وكان هادئ الطبع في أكثر أحواله، فإذا تحمس في مناقشة سياسية تدفق وتهور وغضب واعتزل أصحابه يومين أو ثلاثة أيام في كل مرة قبل أن يستعيد سماحته ووداعته، وعزمت على زيارته في الصباح وكان اليوم جمعة، ورأيت أن أختصر الطريق إلى بيته بأن أعبر شريط السكة الحديدية من جنوب المحطة وراء مخازن البضاعة، وكانت تلك الطريق تربة متعرجة تمر بين المقابر ولكنها توفر في السير دورة طويلة تشبه نصف دائرة، ولما وجدت نفسي بين المقابر تذكرت أن أزور مقبرة أبي، وكنت منذ وفاته أتحاشى الاقتراب منها مدفوعا بشعور الطفولة بغير تفكير، ولما وقفت إلى جوار القبر غمرني حنين شديد وانهمر الدمع من عيني بحرقة بالغة وهجمت على موجة من الأسف والندم على أني لم أذهب كل تلك السنوات لأزور ذلك الوالد العزيز وأترحم عليه وأذرف عنده دموعي، وهو الذي كان يملأ حياتي بهجة وأملا، وتذكرت وأنا واقف هناك ذلك اليوم البعيد الذي سرت فيه ذاهلا مع الموكب الحزين لأودع جثمانه، وعاد إلي الشعور باللهفة التي أحسستها وأنا أراه محمولا إلى الحفرة ليدفن فيها. كنت عند ذلك أتمنى لو بقيت معه ونازعت من حولي لأتمسك به؛ إذ خيل إلي أن الحياة بغيره تكون موحشة خاوية مخيفة، وأخذت أقرأ الفاتحة مرة بعد مرة وأنا في غمرة من الحزن وقرأت ما تذكرته من الآيات الأخرى، ووجدت في ذلك راحة لا أقدر على وصفها، وخيل إلي في تلك اللحظة أن قرحة في داخلي تندمل وأنني أحس روحه تخاطبني قائلة: «إن الحياة تناديك يا ولدي!» ولأول مرة منذ فقدته تبين لي أنني ما أزال متصلا به بعد الموت، وأنه يهتم بي ويباركني، كان كياني كله ينبض بشعور مبهم بأن الحياة وديعة فينا، وأنها متصلة بالأجداد من قبلنا ومتصلة بالحفدة من بعدنا وأنها واجب مستمر علينا أن نؤديه إذا أردنا أن نشارك في تحمل أمانتها، ومضيت بعد حين عن القبر وقلبي يعاهدني على أن أؤدي واجب حياتي، فلما سرت في طريقي إلى بيت عبد الحميد عباد كنت أحس بأن شيئا كبيرا تغير في نفسي.
واستقبلني عبد الحميد كما عرفته في سماحته ووداعته وجلسنا ساعة نتذاكر أيام المدرسة وما كان فيها من أحداث صغيرة، وكان يذكرني بأشياء غابت عن ذاكرتي، كأني طويتها في أغوار عميقة تخفيها عني، واستمعت إليه كأني أرى صورا من عالم بعيد، صورا شاحبة ذهبت ملامحها وانمحت ألوانها من ذهني، ولكن أصداءها ما تزال باقية، فذكر الأيام الثائرة التي كانت تهز أعماق نفوسنا في سنة 1935 واجتماعاتنا السرية التي كنا نخفيها عن الأنظار، وتلك المؤامرات الصغيرة التي أحطناها بالكتمان والخطب النارية التي تبادلناها، والمناقشات العنيفة التي تبارزنا بها، والخطاب الذي حاولنا كتابته بدمائنا في رعونة الصبا لنبعث به إلى الملك لنطالبه بحرياتنا، وخيل إلي أن هذه السنوات التي فارقت فيها صاحبي قد نزعتني من عالم إلى عالم ومن حياة إلى حياة، وحددت لي الأفق الذي أجول فيه وجعلتني أنحصر في طي نفسي وأنساق مع ظروفي كما تدفعني، واعتراني ارتباك شديد عندما دارت هذه الأفكار في رأسي ولم أدر كيف أفتح الحديث الذي جئت من أجله، ونظر صاحبي نحوي في عطف وقال وهو يستند إلى ظهر الأريكة التي كنا جالسين عليها: لقد مرت بنا السنوات يا سيد وكأنها لحظات، فكيف أحوالك وكيف تنظر إلى الحياة؟
فارتحت إلى قوله؛ لأنه خلصني من ارتباكي وقلت: هي سنوات كثيرة حقا، وهذه آثارها تظهر على شعرك.
وكان الشيب يغبر فوديه ووسط ناصيته.
فقال باسما: ولكنك ما تزال محتفظا بشعرك الأسود.
فقلت مبادرا: هذا لأن السنوات مرت بي كأنها قطار سريع وأنا واقف إلى جانب أنظر إليها من بعيد.
فقال هادئا: يذكرني قولك هذا بالصور التي كنت ترسمها في موضوعات إنشائك. لم لا تكثر من الكتابة فقد قرأت لك شعرا في الثقافة ومقالات في النبراس.
فأجبته في فتور: لست أدري. عشت هذه السنين لا أفكر في شيء سوى أن أطفو على سطح التيار وأتجه معه حيث يريد أن يحملني. لم أفكر في شيء ولم أرغب في شيء وأكاد أكون ذاهلا عن نفسي. قضيت هذه السنوات السبع وأنا غير شاعر بأن لي شيئا أعيش من أجله، والآن فقط وأنا آت إليك بدأت أشعر بأني كنت أحيا ذاهلا. كنت آتيا إليك من الطريق الذي يمر بالمقابر فعرجت على قبر أبي لأزوره. أتصدق أني لم أذهب لزيارته مرة كل هذه السنوات؟ كنت مثل قشة تطفو على الماء ويدفعها التيار هنا أو هناك وهي لا تريد لنفسها شيئا، ولكني عندما وقفت عند قبر أبي خيل إلي أن روحه تستقبلني وتحدثني، وتقول لي: «إن الحياة تناديك يا ولدي.» ولأول مرة بدأت أفكر وأنا في طريقي إليك وأسأل نفسي ما ذلك الذي تناديني الحياة من أجله؟
وكان صاحبي يستمع إلي في اهتمام وعطف وقال: سل نفسك يا صديقي عن الغاية التي تريدها أنت من الحياة هذه هي الحياة التي تناديك.
وشعرت بالرهبة تغمرني وأنا أحاول أن أجد له جوابا، ولكنه استمر قائلا: أظنك مغاليا يا سيد عندما تقول إن الزمن قد مر بك كالقطار وأنت واقف إلى جانب، وما الزمن؟ إنه خرافة.
فقلت مسرورا: هذا ما كنت أقوله لنفسي.
إنه من صنع عقولنا نحن أليس كذلك ؟
فقال موافقا: لا شك في هذا، ولكنه مع هذا يمثل حقيقة يا صديقي. هو يمثل الحركة التي فينا والحركة التي حولنا. الحركة هي الحقيقة الوحيدة التي تعنينا، ولا عبرة بما نسميه الزمن إلا بمقدار ما يكون فيه من الحركة. السكون والجمود لا يكون إلا للأموات. بل إن الأموات نفسها تتحرك والجمادات تتحرك لأنها تتغير وتتحول من حالة إلى أخرى. لم تكن أنت ساكنا ولا جامدا في هذا السنوات ولا يمكن أن تكون جامدا؛ لأنك كنت تنمو وتجرب، سواء فطنت إلى ذلك أو لم تفطن. قد نشعر بالقلق لأننا لم نحقق لأنفسنا غاية كنا نحب أن نتحقق، ولكن هذا معناه أننا نحس في أعماقنا بوجود غاية مبهمة، وما شعورنا بالقلق إلا من أجل هذه الغاية المبهمة، وهذا الحديث الذي خيل إليك أنك سمعته وأنت واقف إلى جوار قبر أبيك ما هو إلا حديث هذه الغاية المبهمة التي تحسها ولم تقدر بعد على تحديدها.
فقلت في تردد: أقول لك يا صديقي في صراحة أني خائب حائر لم أستطع ولا أظنني أستطيع أن أعرف أين أتجه.
فقال وهو ينحني إلى الأمام ويتكئ بذراعيه على ركبتيه في اهتمام: ألا يمكن أن يكون هذا من صنعك أنت؟ دعني أحدثك في صراحة، يخيل إلي أنك آسف؛ لأنك لم تستمر في الدراسة؛ ولهذا تقول إن السنوات مرت بك كالقطار السريع من بعيد، ولكنا لا يمكن أن نكون نسخا مكررة من صورة واحدة. لكل منا صورة ممكنة يستطيع أن يحققها قد تكون مخالفة للصور الأخرى، وهذا لا يمنع من أن تكون مساوية لها أو خيرا منها. أنت تاجر وأنا معلم وغيرنا طبيب أو عامل أو فلاح، وكل منا يستطيع أن يكون مثل الآخرين أو خيرا منهم إذا حقق صورته كاملة.
وتنبهت إلى قوله كما يتنبه الحالم إلى صوت يوقظه، كان التأثر باديا عليه وصوته يتهدج وعيناه تلمعان، فذكرني بأيام التلمذة عندما كان يتدفق في حماسته للفكرة التي يقتنع بها، وبدأت أسأل نفسي أسئلة كثيرة وأنا أعبث بأصابعي كما كنت أفعل دائما إذا كنت مرتبكا أو سابحا في أفكار حائرة.
ولم أجرؤ بالطبع على أن أحدثه عن الامتحان الذي جئت إليه من أجله.
فاستأذنت بعد قليل وقمت لأنصرف.
فقال لي باسما: متى أراك يا سيد؟ أشكرك على هذه الزيارة وأرجو ألا تكون الأخيرة.
فقلت ضاحكا: ستراني أكثر مما تحب يا عبد الحميد.
فضغط على يدي قائلا: مرحبا بك دائما، وحاول إذا استطعت أن تكثر من زياراتك حتى أضيق بها.
الفصل السادس
انصرفت من عند عبد الحميد وذهني متقد بأفكار شتى، وكأن رأسي يدور وقلبي يشبه عصفورا في أسر طفل غرير يقذف به في عنف ويجذبه في قسوة.
كنت أسأل نفسي مئات الأسئلة التي لا أجد لها جوابا شافيا، وأخذت أسخر من الفكرة التي دفعتني إليها حيرتي، فهل أعود أدراجي لأكون مرة أخرى تلميذا وأتقدم للامتحان في البكالوريا؟ أهناك برهان أقوى من هذا على أني وقفت حقا عن النمو كل هذه السنين كأني فلاح مسكين في حقله والقطار السريع يمر به من بعيد؟
وأخذت أعيد على نفسي ما قلته وما قاله عبد الحميد. ليس الزمن سوى خرافة من صنع عقولنا نحن والحركة هي الحقيقة الوحيدة. كل شيء يتحرك حتى الحجارة، وأما أنا فإني لم أتغير وإن كان عبد الحميد يقول لي إني لا بد تغيرت.
ووصلت إلى منزلي وأنا أقلب هذه الأحاديث في نفسي، ودخلت إلى غرفتي واستلقيت على الكرسي الأسيوطي القديم الذي اشتريته منذ شهر من أحد تجار الأثاث المستعمل، وجعلت أدير بصري في الغرفة، وأحسست أنها تضيق بي وأن جدرانها تقترب من كل جهة لتنطبق علي وتحطمني، وقمت لأسير فيها حتى أتحقق من أن الجدران ثابتة في مكانها وكانت الغرفة لا تزيد على ثلاثة أمتار في أربعة، فما أكاد أخطو بها خطوتين حتى أرتد إلى الناحية الأخرى كأني وحش في حظيرة، فعدت إلى الكرسي واستندت برأسي إلى ظهره وجعلت أسبح في أفكار هائمة. كل شيء يتحرك حتى الجمادات وأما أنا فإني ما أزال كما كنت منذ سبع سنوات ، ولا أدري ماذا تغير مني. ماذا يدل على هذا النمو الذي كان عبد الحميد يتحدث عنه؟
ولماذا أخجل من فكرة التقدم لامتحان البكالوريا؟ اليوم الجمعة وغدا السبت وآخر موعد للقيد في الامتحان يوم الأحد، فإما الآن وإما لا، وقمت خارجا من غرفتي عازما على أن أعود إلى صاحبي لأفاتحه فيما قصدته من أجله منذ قليل، ولما بلغت ضريح أبو طاقية وقفت لأقرأ الفاتحة وانشرح صدري وأسرعت في سيري حتى وصلت إلى بيت صديقي، ولما لقيته تبسمت قائلا: أما قلت لك إنك ستراني أكثر مما تحب؟
فجذبني من يدي قائلا: الحديث بيننا لم ينته بعد.
فقلت مبادرا: لم أعد إليك لأتمم هذا الحديث، ولا أريد أن أضيع وقتك، أو بقول آخر: لا أريد أن أضيع وقتي، فالحقيقة أني كنت آتيا إليك أول مرة لأقول لك شيئا سخيفا ثم خجلت أن أقوله. أليس من المضحك أن أفكر في التقدم إلى البكالوريا بعد هذه المدة الطويلة؟
وسكت لأرى أمارات الدهشة على وجه صاحبي، ولكن وجهه كان أصفى من صفحة غدير رائق.
وقال باسما: أظنها فكرة حسنة.
وكنا قد بلغنا غرفة الانتظار، وجلس إلى جنبي قائلا: أعتقد أنك لن تجد صعوبة في النجاح.
فوثب قلبي إلى حلقي من السرور وقلت: أتظن هذا؟
فقال: أعرف أنك كنت دائما تحب القراءة، ولا شك في أنك كنت تقرأ وتكتب.
وشعرت من نظرته ومن نبرات صوته أنه لا يجامل ولا يقصد أن يشجعني، فقلت: سأقدم على المغامرة وآخذ نصيبي. إذن فأنت ترى أنها فكرة لا تبلغ من السخافة ما كنت أظن.
فقال مبادرا: هي إن شئت مغامرة ولكنها ليست مقامرة على كل حال. هناك ألوف من الشبان يجعلون من الامتحان نوعا من المقامرة؛ لأنهم مفلسون يريدون أن يحصلوا على ثروة بغير مقابل، ولكنك لا تقامر يا صديقي لأنك تطلب شيئا تعرف قيمته وتريد أن تحصل عليه بثمنه. لم تكن واقفا كما زعمت إلى جانب الطريق والقطار السريع يمر بك. لا أحب أن أجاملك بمثل هذه الأقوال ولست أقصد أن أجاملك ولكني أظن أنك أحسنت.
فملأني قوله ثقة وقمت مستأذنا وقلت: سأمر عليك في الصباح.
فقال: سأكون هناك منذ الساعة الثامنة، وإن كنت لا أبدأ عملي قبل العاشرة، وأحب أن أذكرك بأني معلم.
فتبسمت قائلا: وأحب أن أقول لك أيضا إني أصبحت تلميذا من جديد، وأرجو أن أكون تلميذا مجتهدا.
ومددت يدي إليه، وضغطت على يده بغير أن أشكره بلساني، وبدأت من ليلتي أعد العدة للمذاكرة، ولا أذكر أني كنت في وقت من أوقات تلمذتي في مثل هذه الحماسة للتعلم. حقا إننا لا نعرف للتعليم قيمة إلا إذا شعرنا حقا بأن لنا غاية نريد أن نحققها من ورائه.
وكانت الأشهر الثلاثة الباقية على الامتحان أكثر أوقات حياتي ازدحاما بالعمل والكد. كنت مثل شخص غرقت به السفينة في ليلة مظلمة من ليالي الشتاء العاصفة، فهو لا يلتفت إلى رهبة الظلام ولا إلى برد الماء ولا إلى شدة العاصفة، بل يحصر كل همه في الأنوار البعيدة التي تخفق على الشاطئ، ويجاهد بكل قطرة في حياته ليصل إلى البر سالما. لم أكد أختطف في كل ليلة إلا ساعات من النوم، ولم أكد أذوق من الطعام إلا ما يمسك الرمق. كنت أتحرك وأعمل في شيء من الذهول عن كل شيء سوى ما أدرسه، ولا أكاد أحس بشيء مما حولي ولا بأحد ممن حولي، ولما جاء الامتحان آخر الأمر ذهبت إلى مقر اللجنة، ودخلت إلى الخيمة المعدة لجلوس التلاميذ وجلست على المقعد الذي عليه رقم جلوسي وأنا في حال تشبه حالة الحالم. لم ألتفت إلى وجه من الوجوه التي حولي، ولا إلى صوت من الأصوات التي كانت ترن في أذني، بل كنت لا أكاد أفطن إلى أوراق الأسئلة التي كانت توضع أمامي، كأن عينا أخرى هي التي كانت تبصر لي، وكأن إرادة أخرى هي التي كانت تحركني، وكأن ذهنا آخر هو الذي كان يفكر لي، ولست أبالغ إذا قلت إني في هذه الساعة التي أكتب فيها هذه الأسطر لا أكاد أذكر شيئا مما رأيت ولا مما سمعت في تلك الأيام التي لم يبق منها في ذاكرتي سوى صور حائلة تقرب من صور الأحلام البعيدة.
وكان صاحبي عبد الحميد يسألني في كل يوم عن إجابتي فأحاول أن أعيدها عليه فلا يتهيأ لي تذكر شيء منها، حتى خيل إليه أني أتعمد إخفاءها خوفا من إطلاعه على أخطائي، ولما مضت أيام الامتحان اعترتني حالة شديدة من الهم والغم والسخط على نفسي، وندمت على الحماقة التي دفعتني إليها فكرة سخيفة، ومر علي شهر كامل في هذا القلق ضائقا بنفسي وبمن حولي فكنت أخرج إلى الفضاء لأنفس عن كربي فلا أعود إلى بيتي إلا بعد أن يجهدني التعب حتى أسرع إلى النوم.
وكنت في يوم من تلك الأيام عائدا من رحلة طويلة في الريف حول المدينة، وعرجت على قهوة لأستريح قليلا قبل الذهاب إلى بيتي، فأقبل صبي من باعة الصحف يصيح: «نمر التلامذة!» فاشتريت منه صحيفة وأنا متلهف، وأخذت أجيل بصري في الأرقام ولكن عيني سبحت في الأعمدة المرصوصة، ولم أتذكر رقم جلوسي، ورأيت أرقام المتقدمين من المنازل في دمنهور فلم أجد إلا رقما واحدا وهو 2855. أكان هذا رقمي؟ أكان في رقمي عدد مكرر؟
وكان قلبي يخفق كالمجنون الثائر مع أني طالما وطنته على أني راسب، وأخذت أسأل نفسي أين ذهب رقم جلوسي. ألا يكون في جيبي؟ ووضعت يدي في جيوبي واحدا بعد واحد، ولكني لم أجد الورقة في جيب منها، وأخرجت محفظتي لعل الورقة تكون فيها. ها هي ذي! إنها هي بعينها وفيها العدد المكرر، وخفق قلبي أكثر جنونا وخيل إلي أن أقوم فأقول لمن في القهوة جميعا إني نجحت، وخيل إلي أن الناس جميعا ينظرون نحوي ويعرفون أني أريد أن أصيح بهم معلنا إليهم نجاحي، وقمت واقفا ولولا خوفي من الأنظار لجريت بأسرع ما أستطيع من السرعة حتى أصل إلى أمي وأختي لأخبرهما بالنبأ السعيد، ثم إلى بيت صاحبي عبد الحميد عباد لأحمل إليه بشرى نجاحي، وسرت مسرعا والجرائد الثلاث ترف في يدي، لم أجد وقتا لأطويها في رزمة منتظمة، ولو أطلقت لنفسي العنان لأخذت أضحك وأضحك كما يفعل الغريق بعد أن يصل إلى البر سالما، ولكني إن كنت لم أضحك فإن قلبي كان يفعل نيابة عني كأنه أصيب بنوبة هستيرية، ومررت على منزل صاحبي في طريقي، وأظن أني قطعت المسافة بين القهوة وبين بيته في أقل من خمس دقائق مع أنه كان في العادة يبعد بما لا يقل عن عشر، وطرقت الباب فنزلت إلي الخادمة تقول لي إنه لم يكن هناك، فقلت لها: «قولي له إذا عاد أني نجحت.» ثم أسرعت منصرفا ولم أقل لها من أنا.
واتجهت إلى منزلي لأحمل النبأ إلى أمي وأختي، وتذكرت عند ذلك فقط أن أختي منيرة هي الأخرى تنتظر النتيجة، فوقفت في مكاني ورفعت الجريدة أمام بصري تحت مصباح الشارع لأبحث عن رقم أختي، وكان شعوري بالخجل من نفسي عظيما؛ لأني لم أهتم بتذكر رقم جلوسها، وزاغ بصري مرة أخرى في الأرقام - لجنة دمنهور، مدرسة البنات - ولكنها كانت أرقاما كثيرة، فطويت الصحيفة وسرت فاترا حتى وصلت إلى بيتي ولم أدر ماذا أفعل، ولمحت منيرة الجريدة في يدي ورأيت الأرقام، فوثبت إلي وخطفتها وأخذت تفحص الأعمدة المرصوصة وأنا أنتظر في لهفة، ثم رأيتها تلقي الجريدة من يدها وتذهب صامتة ووجهها ينم عن حزنها، فانقلب ما كنت أحسه من الفرح المفرط إلى وجوم مفرط، ورثاء ومواساة، وذهبت وراءها إلى الغرفة لأسري عنها، وجاءت أمي بعد قليل فشاركتني في محاولتي حتى عادت منيرة إلى هدوئنا وضاعت علي الفرصة في مفاجأة مسرحية كنت أطمع فيها لو كنت أعلنت نجاحي لأمي وأختي بغير أن تكون عندهما فكرة عن تقدمي للامتحان.
ولما مرت هذه الهزة التي اعترضتني أخذت أفكر في المستقبل ووجدته كما كان ولم يفدني النجاح شيئا في إزالة الغيوم التي كانت تلفه من كل جانب، فهل أستطيع أن ألتحق بالجامعة؟ وكيف أحصل على رزقي ورزق أهلي؟ وما فائدة النجاح إذا لم ألتحق بالجامعة؟ فهل أقنع بهذه الشهادة على أنها حلية تزين صدري عند ذهابي إلى الأسواق مع حمادة لنشتري القطن من الفلاحين المساكين؟ ومهما يكن من الأمر فإني قضيت ما بقي من شهور الصيف في القراءة والكتابة، وأقبل شهر أكتوبر فذكرني بالأسواق وحمادة الأصفر، وما تكلفنا به ظروف الحياة من تحمل ما نكره في سبيل العيش. لم أشعر بأن التجارة طريقي في الحياة، ولولا حاجتي إلى الرزق لما رضيت أن أعود إلى الأسواق أبدا، وهل كنت أنا الذي أشتغل بالتجارة حقا؟ لم يكن لي منها سوى أن أذهب مع حمادة وأحمل النقود في جيبي لأدفع أثمان الأقطان منها. كنت في مبدأ لأمر أحسب أنها مغامرة مثيرة فوجدت أنها بالنسبة إلي لا تزيد على سخرة من أجل القوت.
وفي صباح يوم من الأيام نزلت من منزلي لا أدري أين أذهب، فاتجهت نحو شاطئ الترعة لأملأ صدري من هواء الخريف.
وسمعت في الطريق صوتا يناديني من ورائي وكان صوتا أعرفه، وتبسمت بالرغم من ضيقي عندما رأيت أمامي محمد الشرنوبي زميلي القديم الذي كنا نسميه «الفلاح» فيما بيننا.
وقال لي بابتسامته العريضة: أين أنت يا شيخ؟
فقلت: وأين أنت يا أيها الفلاح.
فقال: في الغيط طبعا، كما أنك في السوق.
فقلت باسما: ومن قال لك؟
فقال: وهل يجهل أحد «تجارة الأمانة»؟ تعال بالله معي ونجني من هؤلاء التجار الذين يريدون سرقتي.
وقلت مبادرا: تحت أمرك يا حاج شرنوبي.
وقلت في نفسي: «هذا شيء آخر. لا بأس أن أذهب مع صاحبي هذا لأشتري ما عنده، فهذا خير من الجلوس على جوانب الطرق، ولكن ما أدراني لعل القطن الذي عنده رديء، وهو يبحث عن تاجر ساذج ليبيعه له.»
وأخذني صاحبي من ذراعي متجها بي نحو المحطة، وأخذت أحدث نفسي صامتا. إنها حماقة لا مثيل لها، وماذا أعرف عن تجارة الأقطان، وما أدراني كم قنطارا عنده؟
وقلت له في هدوء: أرجوك أن تأذن لي أن أذهب إلى بيتي أولا. الساعة الآن العاشرة وأظن القطار لا يأتي إلا في الساعة الثانية عشرة. ألست دائما في إيتاي البارود؟
فقال: لم تنس بعد يا سيد أفندي؟ سأنتظرك هنا، وكنا أمام قهوة مظهر، فواعدته أن أعود إليه قبل مضي ساعة، وأسرعت منطلقا إلى شارع «أبو الريش» لعلي أعثر على حمادة الأصفر، وكنت لم أصادفه في هذه الأشهر الأخيرة، وبعد دورة طويلة عثرت عليه في خمارة بزقاق مظلم دلني عليها صبي القهوة التي تعودنا أن نجلس فيها، وجررته معي في شيء من القسر، وذهبت به إلى البيت لآخذ ما هناك من النقود، ثم ذهبنا إلى القهوة لنلقى محمد الشرنوبي.
وكنت في أثناء السفر إلى إيتاي البارود أحدث نفسي في حيرة عما أنا مقدم عليه، وامتلأت رهبة، ولما وصلنا إلى عزبة الشرنوبي اجتمع علينا الفلاحون وشاركوا زميلي القديم في خدمتنا والترحيب بنا حتى نسيت قلقي وداخلني شعور بارتياح ممزوج بالزهو، وذهبنا إلى مخزن القطن وكان فيه خمسون قنطارا كاملة.
وهمس لي حمادة: قطن عال ولكنه وسخ قليلا. خمسون قنطارا يا سيد أفندي!
فقلت هامسا: كم يساوي؟
فقال: لا أقل من اثني عشر جنيها. لقطة!
ففكرت في نفسي. ماذا أصنع؟ وهل يصدق ظن حمادة الأصفر؟ ألا يكون مغاليا في الثمن؟ ألا ينزل سعره في مدة يوم أو يومين قبل أن نحمله لبيعه في دمنهور؟
ولكني ملكت نفسي ولم أظهر ترددا.
ولما أتى الليل أعد لنا صاحبي فراشا في حجرة عليا فوق المخزن، وذبح لنا جديا سمينا وقضينا في الدوار مدة طويلة في سمر قبل أن نذهب إلى غرفة النوم، ولكنا لم نذق للنوم طعما واضطررنا أنا وحمادة إلى قضاء ما بقي من الليلة في الحديث؛ لأن لسعات البعوض والبراغيث لم تدع لنا فرصة للرقاد، وكان مما زادنا اضطرارا إلى الأحاديث أن المطر بدأ يهطل بعد نصف الليل، فكان لا بد لنا أن نجلس في الركن الذي لا يتسرب الماء إليه، ونستند بظهرينا إلى الجدار، وكان حديث حمادة مسليا برغم التعب ومضايقة اللسعات، وكان كل الحديث عن أهل المدينة، ولست أدري كيف عرف حمادة كل هذه الأسرار التي أخذ يحكيها مع أني لا أعرف منها شيئا وأنا أعيش معه في المدينة نفسها، وكان ينتقل من حديث إلى آخر ذاكرا من عيوب عظماء المدينة ما لا يكاد يصدق، وقد أخذت ذلك كله على أنه قصص من نسيج الخيال أو من رغبة التشنيع، وهي طبيعة تلجأ إليها النفوس المحطمة، وهل كنت لأصدق أن السيد أحمد جلال يقترن سرا بامرأة ساقطة، أو أن محمد باشا خلف يعيش من ثروة امرأته التي تضربه بحذائها؟
ومهما يكن من الأمر فقد مرت الليلة وبادرنا منذ الصباح الباكر لنستعد للعمل، ولم أتردد في الشراء كما نصحني حمادة ودفعت لصاحبي كل ما كان معي وهو المائتا جنيه، وقلت له في بساطة إني أدفع له ما بقي من الثمن إذا استلمت البضاعة في دمنهور.
ولما خرجنا من المزرعة متجهين إلى المحطة همس حمادة في أذني: مائة جنيهه يا عم!
فقلت: ماذا تقصد؟
فأجاب: هذا القطن لا يساوي أقل من اثني عشر جنيها، وقد رضي هذا المغفل بأن يبيعه بعشرة. مائة جنيه يا عم، يدك!
وسحب يدي فقبض عليها قائلا: مبروك، والله زمان يا بو زهير!
ولم أحب أن أتورط في الآمال السابقة لأوانها، فلم أقل شيئا وأخذ حمادة يحدثني عن آخر أخبار السياسة التي كنت لا أعبأ بها كثيرا، فالانتخابات على وشك الابتداء والسيد أحمد جلال يستعد لمواجهة خصمه محمد باشا خلف، وستكون معركة طاحنة؛ لأن رئيس الوزارة المنتظر قريب محمد باشا، وجمعية شباب دمنهور تستعد للاجتماع مرة أخرى لأول مرة منذ الانتخابات الماضية، وستكون أسعار المظاهرات وأثمان الأصوات أعلى من الأسعار السابقة.
ولما وصلنا إلى دمنهور لم أدر إلى أين أذهب بهذه الصفة الكبيرة. كنت أبيع ما أشتري من الأقطان في كل مرة، وهي لا تزيد على عشرة قناطير أو خمسة عشر قنطارا، ولكن خمسين قنطارا تحتاج إلى العناية، فجنيه واحد أخسره في القنطار يؤدي إلى ضياع ربع ما جمعته في خبطة واحدة، وكان الأفضل في نظري أن أسرع إلى التخلص من هذا الحمل الثقيل قبل أن أقع في ورطة؛ فالأسعار لا تثبت على حال، واليوم أقرب إلى الاطمئنان من الغد، واتجه ذهني أول شيء إلى السيد أحمد جلال فقصدت إليه من توي بغير أن أتردد.
ودخلت عليه في مكتبه وكان لقاؤه سمحا كما عودني دائما كأن لم يحدث بيننا شيء يعكر الصفاء، وقال لي وهو يشير إلي بالجلوس: أين أنت يا سيد أفندي؟ ما هذه الغيبة؟
فأجبت في هدوء أصحاب الأعمال: تحت الأنظار يا سيدي!
فقال مبتسما: كنت أظن أنك لا تتركنا هكذا.
فأجبت في زهو: أشكرك، ولكنها المشاغل.
وبدأنا نتحدث قليلا ونتساءل عن الأحوال كما جرت العادة، وتعمدت أن أسأله عن صحة الأسرة والآنسة الكريمة، وقلت له مجاملا في آخر حديثي: أنا مدين لك بكل ما وصلت إليه.
ونظرت إلى وجهه فاحصا لأرى أثر كلمتي.
ولا شك أن كلمتي استرعت سمعه، فإنه رفع حاجبيه لمدة لحظة قصيرة، ثم أسرع إلى تملك نفسه وعاد وجهه هادئا باسما.
فمضيت أقول متعمدا: جعلتك مثالا لي وعزمت على أن أبدأ حياة جديدة كما بدأت أنت، كان عندي عشرون جنيها وعزمت على الإتجار بها، وقد جئت إليك اليوم بخمسين قنطارا من القطن الجيد.
وقدمت إليه العينة التي كانت معي.
فأخذها السيد وجعل يقلبها بأصابعه ويفحص تيلتها، وكانت ملامح وجهه تدل على الاهتمام الشديد.
وقال في نغمة تشجيع: حسن جدا، قطن طيب، ولكن فيه بعض الوسخ، بكم اشتريته؟
فتبسمت في سري ولم أجب بل سألته: كم يساوي؟
فضحك عند ذلك بغير تحفظ قائلا: لقد أصبحت تاجرا ماهرا. حسن جدا يا سيد أفندي. هكذا يكون التاجر الحكيم الذي لا يكشف لأحد عن أوراقه؛ ولهذا سأعاملك معاملة الند للند، تاجر مع تاجر بغير تعطف ولا مجاملة.
فقلت في لهجة الند: لا أطلب غير هذا.
ولمعت عيناه لمعة لم أعرف معناها عندما قال: هذا القطن يساوي خمسة عشر جنيها للقنطار.
وفي لمح البصر حسبت مقدار ربحي، مائتين وخمسين جنيها، وهزتني موجة من السرور.
وتبسم السيد أحمد بسمة في لون من الدهاء قائلا: هذه أسعار اليوم إلى هذه الساعة كما أعرف، ومن يدري؟ لست أعرف إذا كان هذا السعر يزيد أو ينقص بعد ساعة واحدة، ولك الخيار طبعا في أن تبيع الآن أو في الغد.
فقلت متكلفا الهدوء: لا مانع من البيع الآن.
فقال في بساطة: اشتريت يا سيد أفندي، والقطن كله من نفس العينة. هذا مؤكد طبعا!
فقلت: هذا مؤكد.
وواعدته أن أحضر إليه غدا في الصباح بالبضاعة، وكنت متفقا مع الشرنوبي على أن يصل القطن إلى دمنهور قبل طلوع الشمس، وخرجت من المكتب بعد أن صافحت السيد أحمد جلال رافعا رأسي، واتجهت إلى القهوة التي واعدت حمادة أن ألقاه فيها، وأنا أكاد أطير من الفرح، ولكني لم أجد حمادة هناك، فشربت فنجانا من القهوة، وجعلت أحدث نفسي مستعيدا كلمات السيد أحمد جلال وحركاته وملامح وجهه، ماذا قصد بقوله معاملة الند للند؟ وماذا كان يظن من قبل؟ ولماذا قبل أن يشتري القطن في هذه الليلة إذا كان يخشى أن يهبط السعر بعد ساعة؟ وتذكرت قول مصطفى عجوة عنه إنه مثل بئر عميقة لا يعرف أحد قرارها، وبدأت أشعر بشيء من القلق، وانتظرت ساعة طويلة ولكن حمادة لم يحضر، وكنت متعبا بعد جهد اليوم وبعد سهر الليلة الماضية فقمت ذاهبا إلى بيتي ولم ألبث أن نمت نوما عميقا.
وبكرت في الصباح خارجا إلى ميدان المحطة كما واعدت الشرنوبي، وكانت السيارات هناك محملة، وذهبنا إلى المحلج ولكن السيد لم يكن هناك بعد، فجلسنا ننتظر في المكتب، وكان به بعض مجلات وصحف أخذنا نتصفحها بغير اهتمام، وكانت عناوينها الكبيرة كالعادة تغني عن قراءة ما تحتها، ثم وجدت قصة في جريدة «بريد الأحرار» وعجبت كيف يجرؤ أصحاب الصحف على نشر مثل هذا السخف، وكيف يرضى الناس أن يقرءوه. كانت قصة فتى مدله بغانية متزوجة تعبث به كما تعبث بزوجها. مرحى! ورميت بالجريدة حانقا، ولكني عدت فأخذتها وأخذت أعيد قراءتها متأملا أسلوبها، كان حقا أسلوبا بارعا خفيفا سهلا يحمل على القراءة بما فيه من إغراء، ولو تأتى هذا الأسلوب البارع لرأس ملأى وقلب كبير ونظرة عميقة في شئون الحياة لكان أدب هذا الشباب الناشئ جديرا بكل إعجاب. إنه أسلوب تخلص من التكلف والغموض والحذلقة التي كانت تجعل من الأدب لغزا يحتاج إلى الحل قبل أن يفهم، ولكن أدباء الشباب لا يريدون أن يرتفعوا بالحياة؛ لأنها تغرقهم وتجرفهم معها، والأديب لا ينبغي له أن يغرق في الحياة ولا أن ينجرف معها، هو يعيش فيها ولكنه يسبح فيها ويعرف اتجاهه، هكذا كنت أفكر عندما دخل السيد أحمد جلال وقطع علي التفكير بتحيته السمحة.
وعندما سلم علي الشرنوبي تبسم قائلا: هذا صاحب القطن؟
وخيل إلي أن بسمته تحمل معنى رقيقا من السخرية، ولم أفطن إلا في تلك اللحظة إلى الخطأ الذي ارتكبته عندما جئت بالشرنوبي معي. أليس معنى هذا أنه لم يقبض مني ثمن قطنه بعد؟ أليس معنى هذا أنني لم أكن بعد تاجرا يشتري الخمسين قنطارا ويدفع ثمنها مقدما؟ واعتراني شيء من الارتباك والخجل ولكني جاهدت أن أكون طبيعيا.
وأتم السيد أحمد جلال ضربته بأن فتح الخزانة وأخرج منها ست ورقات من ذوات المائة جنيه ودسها في يدي هامسا: تحت الحساب يا سيد أفندي.
وأحسست الحرارة في أذني ووجهي، واستأذنت خارجا مع صاحبي وقلت للسيد أحمد: إني عائد بعد ساعة.
وعدت إلى المحلج بعد أن شيعت صاحبي إلى المحطة، فوجدت السيد أحمد مشغولا مع عملائه، فلم يلتفت إلي إلا بنظرة باسمة قصيرة، وجلست في ركن من الحجرة حتى يفرغ، وانصرفت بذهني أتأمل طريقته في المعاملة والحديث، كأني أقرأ درسا جديدا، وعدت أسأل نفسي أي فرق بين هذا الرجل وبين حمادة؟ ما الفرق بين الذهب والنحاس وكلاهما معدن؟ وجاء دوري بعد حين فمد السيد يده نحوي بوثيقة بين إصبعيه السبابة والوسطى قائلا: كم الباقي؟
وقرأت الورقة وكان وزن القطن مكتوبا عليه: ثمانية وأربعون قنطارا ونصف.
فصحت صيحة مكتومة: هي خمسون قنطارا.
فقال هادئا: هذا هو الوزن الرسمي.
ولولا أني دفعت إلى الشرنوبي بقية ثمن قطنه لما ترددت في استرجاع القطن؛ لأني كنت واثقا أن وزنه لا يقل عن خمسين قنطارا وافية .
وقال السيد أحمد وهو يفتح الخزانة: يبقى لك مائة وسبعة وعشرون جنيها ونصف. أليس كذلك؟
فلم أجبه ولكن ذلك لم يمنعه من عد النقود ووضعها أمامي.
وأخذت النقود صامتا وحييته تحية هادئة، وانصرفت وأنا أقول لنفسي: «كيف يحدث هذا؟» وذهبت عائدا إلى القهوة لعلي ألقى حمادة حتى أعطيه نصيبه من الربح، وكنت من قبل عازما على أن أعطيه عشرة في المائة من الربح، فلم أرض أن أقللها عن خمسة وعشرين جنيها.
وكان فكري مشغولا طول الوقت بنقص وزن القطن، لا من أجل الجنيهات التي فقدتها، بل من أجل المعنى الذي وراء ذلك النقص. كنت واثقا من أن وزن القطن خمسون قنطارا، وقد وزنته بنفسي وهذه صناعتي. ألا يكون مصطفى عجوة هو الذي وزنها؟ أيمكن أن يكون السيد أحمد عالما بأن موازينه ظالمة؟ وتذكرت الحديث القديم الذي كان بيني وبين مصطفى وكان حنقي شديدا، ولكني مع هذا أرضيت نفسي عما أصبت من الربح، فإني لم أحلم في يوم من الأيام أن أربح مائتي جنيه في ليلة واحدة.
واستقبلني حمادة في القهوة فاتحا ذراعيه ليضمني إلى صدره قائلا: مبروك يا سيد أفندي!
وكان صوته مسموعا في آخر القهوة.
ولم يكن من العجيب أن يهنئني على الربح العظيم، فإن خمسة جنيهات في القنطار الواحد في ليلة واحدة رقم قياسي في التجارة، وقلت له: مبروك عليك أيضا!
ومددت يدي إلى جيبي لأخرج النقود، وعزمت في لحظتي على أن أعطيه كل الكسور فوق المائتين.
فصاح بي: هل بعت؟
فقلت له: ودفعت باقي الثمن.
فصاح: بكم؟
فقلت مباهيا: بخمسة عشر جنيها.
فصاح مذعورا: بكم؟ من قال لك هذا السعر؟ من هذا اللص الذي اشترى منك؟ قل لي من هو حتى أخزق عينيه.
فقلت في دهشة: ولم؟
فقال: لص! حرامي! ابن كلب!
وأخرج من جيبه جريدة الصباح، وفتحها في لهفة، وأشار بيده إلى عنوان كبير قائلا: انظر، هذا هو السعر، تعال نذهب إليه وأنا أعرف كيف أقول له يا لص!
فنظرت إلى الصحيفة فهالني ما رأيت، قرأت عنوانا ضخما: «ارتفاع مفاجئ في أسعار القطن» ومن تحته عنوان آخر: «عشرون جنيها للقنطار»، وتسمرت في مكاني أنظر إلى الصحيفة مبهوتا، وتذكرت أن هذه الصحيفة نفسها كانت في يدي في الصباح وأنا في مكتب السيد، ولكني لم أقرأ صفحة التجارة.
وقلت لنفسي: لا شك أنه يعلم هذا.
وأعدت نظري على الصحيفة فوجدت أن هذه الأسعار كانت آخر الأسعار بالأمس.
وشعرت بشيء كالدوار فجلست صامتا وتذكرت ابتسامة السيد أحمد ولمعان عينيه، وقوله أنه سيعاملني معاملة الند للند. إذن كانت مبارزة بين تاجر وتاجر، أحدهما قديم خبير بألاعيب التجارة يريد أن يصرع تاجرا صغيرا ليبرهن له على مقدار ضعفه.
وكان حمادة في أثناء ذلك لا ينقطع عن السب والتهديد، وقام بعد قليل فجذبني من ذراعي قائلا: قم بنا نذهب إلى ذلك اللص. من هو؟
فقلت بصوت ضعيف: السيد أحمد جلال.
وقدمت له ورقة الوزن فصاح بغير تحفظ: نهاره أسود، قم معي لترى كيف أخزق عينيه، ما لك لا تتحرك؟ أتخاف أن يأكلك؟ أحقا بعته بخمسة عشر جنيها؟ وأقل من خمسين قنطارا؟
فقلت وأنا أشعر بجفاف حلقي: لا فائدة!
فقال في مرارة وعنف: حمار، حمار والله العظيم! أتريد أن تسكت.
فقلت: وما الحيلة يا حمادة؟ انتهى الأمر وقبضت الثمن وتصرفت فيه.
فقال في نغمة يائسة: هل تريد أن تكون تاجرا؟ لم أجد في التجار أخيب منك إلا أنا. النهاية يا عم. تعيش وتأخذ غيرها. هي وقعة تعلمك المشي يا ولدي. النهاية! هي بيعة بثمنها، هات يا عم.
وفرك إصبعيه كعادته يطلب النقود.
فأعطيته سبعة وعشرين جنيها ونصفا، وكان ينظر إلى الأوراق التي أقدمها إليه واحدة واحدة، ولمعت عيناه في جشع، وقال وهو يدس النقود في جيبه: النهاية يا عم! هيصة!
ووضع يده في فمه ولوى لسانه وصفر صفرة عالية استرعت أسماع الجالسين في القهوة، فالتفتوا إلينا وانفجروا بضحكة عالية، وخرج حمادة وهو يضحك قائلا: عشت يا بو زهير.
فقمت ذاهبا إلى بيتي وكأن في رأسي رحى تدور، وكانت أمي وأختي في انتظاري للغداء ، وكانت صفقة القطن حديث المائدة بما أحاط بها من ربح محقق وربح ضائع، ولكن سرور أمي كان عظيما، وقالت كعادتها: «كفاية وبركة يا بني!»
الفصل السابع
لم يقع بصري بعد ذلك اليوم على حمادة الأصفر كأنه اختفى من المدينة، ولم أعثر عليه مع محاولاتي الكثيرة في البحث عنه في القهاوي والأزقة المظلمة، ولم أجرؤ على أن أذهب وحدي إلى الأسواق، فإني كنت أشعر أني لن أستطيع شيئا إلا إذا كان حمادة معي؛ فهو الذي يختار المكان الذي نذهب إليه، وهو الذي يفرز الأقطان ويقدر أثمانها في خبرة ومهارة لم تخطئ في مرة من المرات، ولكني مع هذا لم أكن قلقا؛ لأن صفقة الشرنوبي كانت تعادل عشر صفقات متفرقة مما اعتدت أن أعقدها في أسواق القرى.
وكانت القراءة تشغل جانبا كبيرا من أوقاتي، وكتبت بضع مقالات لجريدة النبراس؛ لأن صاحبها زارني وطلب مني المساعدة على خدمة المدينة في أيام الانتخابات، ولكني مع هذا كنت أحيانا أحس ضيقا يقرب بي من الثورة على نفسي وعلى القيود الكثيرة التي تقيدني، والسدود المنيعة التي تعترض سبيلي، فماذا صنعت بهذه الشهادة التي أشقيت نفسي بالتفكير فيها؟ وماذا أستطيع أن أفعل في مساعدة أختي بعد أن نجحت في الدور الثاني؟ لا أستطيع أن أساعدها على الاستمرار في الدراسة، ولا تلوح لي بارقة أمل في أن أخرج من الدائرة المقدورة التي أحاطت بها الأقدار حياتي.
وأما التجارة فهبني استطعت أن أجمع في كل موسم بضع مئات من الجنيهات، فماذا تجدي علي هذه المئات؟ هل أجرؤ بها أن أذهب إلى السيد أحمد جلال قائلا: إني جئت إليك خاطبا؟
وجاء إلي حمادة في منزلي بعد انقطاع شهر كامل، وكان وجهه أشد صفرة مما كان، وعيناه ذابلتين، وصارت الزرقة التي حولهما إلى ما يقرب من السواد، ولم يبتسم عندما لقيني ولمحت على وجهه ما ينم عن الحزن والحنق.
وقلت له: أين كنت؟
فأجاب في صوت خافت: في داهية!
فقلت في اهتمام: ما الخبر؟
فقال حانقا: الخبر أني حمار لا يساوي ثمن طعامه، الخبر أني وغد، أتذكر عندما قلت لي هذه الكلمة ونحن صغار؟ ما أزال أذكرها إلى اليوم وأعيدها على نفسي كلما تبين لي أنني وغد حقا، اصفعني إذا شئت أو ابصق في وجهي أو اطردني من هنا، فإني أستحق كل هذا، اطردني يا أخي!
فضحكت قائلا: نؤجل هذا.
فقال حزينا: لست أمزح ولا أتفكه، بل إن قلبي يدمي ونفسي تتحرق، أنا حمار حقا؛ لأني ظننت أنها امرأة، وظننت أني إنسان يمكن أن تحبه امرأة.
وكانت هذه أول مرة أسمعه يتحدث عن النساء.
وقلت له: ما كنت أعرف أن للمرأة شأنا معك.
فقال متحسرا: بلوى! أعترف لك بأني أغبى الخلق؛ لأني أعرف صورة وجهي وشكل جسمي ومع ذلك أكاوح. كل امرأة رأيتها كانت تسخر مني ومع هذا أعود إلى غيرها، ولكن هذه اللعينة التي رأيتها في السوق كانت شيطانة، جعلتني أنسى كل شيء وأعتقد أنها تحبني، أتتصور هذا؟ النهاية. لم أكن في هذه المرة إلا كما كنت دائما قليل العقل قليل النظر أو بالاختصار كنت حمارا.
فقلت في ضجر: ليس هذا جديدا عندي. ما لي وكل هذا؟
فقال: النهاية، ذهبت إلى «أبو المطامير» لأشتري صفقة قطن بالنقود التي أخذتها منك، أردت أن أقلدك وأجرب حظي، ولم أعلم أني مشئوم مؤبد، ألم أقل لك لا تحاول إغرائي؟ النهاية، ساقني حظي الأسود إلى أعرابية تبيع عشرة أرطال من القطن، فقلت: أستفتح بها. يا للداهية السوداء يا سيد أفندي، كان وجهها مثل القمر وعيناها مثل عيني الغزال وضحكتها تطير العقل، أتعرف ماذا حدث؟ قل لي رأيك بالصراحة ولا تخجل من أن تقول لي: يا حمار! أكبر حمار خلقه الله.
فضحكت برغمي وقلت له: لست الوحيد.
فصاح قائلا: أبدا. لا يمكن. أتصدق أن أذهب لأشتري القطن، فتجعلني الشيطانة أغير فكري وأشاركها في تجارة الدجاج؟ وذهبت معها إلى القرية لنشتري الدجاج معا، ورضيت أن أقيم في عشة حقيرة وأنام على الأرض؛ لأكون قريبا من شريكتي، وعادت إلي في اليوم التالي تلبس شالا من الحرير وقالت : إن النقود ضاعت منها، وأخذت تبكي، والمصيبة أني صدقتها وأخذت أسري عنها، واستمرت بعد ذلك تعود إلي كل يوم بقصة جديدة وبغير دجاج حتى فرغ ما في جيبي، ولما عرفت أني أفلست انقطعت عني فذهبت أبحث عنها، أتعرف أين وجدتها؟ كانت اللعينة واقفة عند دكان بقال القرية تضاحكه بغير خجل، ولما سألتها: ماذا تفعل هناك قالت في وقاحة: «وأنت مالك؟» وجعلت تسخر مني. قل إني مجنون، قل إني وغد، قل إني أي شيء واجعلني أستريح.
ثم حرك إصبعيه يطلب النقود.
ولا أستطيع أن أصف الاشمئزاز الذي غمرني عند ذلك، فلو رأيت أمامي حشرة قذرة لكان أهون علي من رؤية هذا الإنسان المحطم.
وأسرعت بإعطائه جنيها لأصرفه عني، ووقفت أنظر في أعقابه بشعور من يرى خنزيرا يخرج من بركة طين.
وداخلني سخط شديد لا عليه وحده، بل على نفسي أيضا، فكيف عميت عن هذا الرجل ورضيت بأن أتخذه رفيقا في سبيل الربح من التجارة؟ وكيف سمحت لنفسي أن أقرن نفسي به وأنا كبير عاقل، وهو الذي نفرت من صحبته وأنا صبي جاهل.
ونزلت إلى المدينة سالكا طريقي المعتاد حتى بلغت جانب الترعة، وكان الجو دافئا يتنفس بروائح الخريف.
وكانت الساعة عند ذلك الثالثة بعد الظهر، فعزمت على أن أجول بين الحقول بقية النهار، وكان معي كتاب جديد من الكتب التي ظهرت بعد الحرب، وعنوانه بالإنجليزية معناه: «المدينة الفاضلة»، وهو يتحدث عن المآسي التي أصابت المدنية الأوربية من فساد الأحكام واضطراب النظم، وفساد القائمين على تلك الأحكام والنظم، الحال واحدة في كل مكان مع فارق واحد، وهو أن الناس هناك يكتبون عن عيوبهم ليلتمسوا الدواء لها.
وكانت أشعة الشمس الخافتة ترنو كالمريضة إلى العالم الذي تتمسك بالبقاء فيه، وأوراق الشجر تلمع من أثر قطرات خفيفة تتساقط من غمامة عابرة.
وبقيت هناك إلى ساعة الغروب، ثم عدت إلى المدينة، وكانت رائحة الهواء رطبة تفوح بعبق عطن لا أستطيع وصفه، ولكنه يثقل على الصدر، ولما وصلت إلى شارع المديرية سمعت ضجة بعيدة في ميدان المحطة، فاتجهت إلى هناك مسرعا، وكان الميدان يموج بجموع كبيرة من شبان وأطفال يلوحون بأيديهم ويتواثبون في اضطراب، وعلا صوت هتاف من وسط الميدان، فذهبت إلى قريب من سور المحطة لأعرف ما هناك، وضحكت ضحكة مرة عندما تبينت أنها مظاهرة سياسية، وكان الهتاف يتعاقب بين حياة السيد أحمد جلال وبين سقوط محمد باشا خلف.
ورأيت عن بعد شابا محمولا على الأكتاف يهز يديه في عنف، ويصيح بأعلى صوته متأنقا في ندائه يوقعه توقيعا منظما كأنه منشد محترف: يحيا السيد أحمد جلال، يحيا حاتم دمنهور! يحيا المخلص الأمين، وكان يفصل بين كل حياة وأخرى بهتاف آخر من السقوط للمنافس البائس، وكدت أنصرف من الملال لولا أن سمعت صفيرا عاليا يشبه صفير حمادة الأصفر، أيكون هو ذلك الشاب المحمول على الأعناق؟ ولم يخب ظني عندما شققت الصفوف واقتربت منه، فإنه كان عند ذلك ملتفتا في اتجاهي، وأخذ يلقي على الجمع المحتشد حوله حداء والجمع يردد وراءه اسم السيد أحمد جلال: المحسن الكريم، السيد جلال، الوطني الكبير، السيد أحمد جلال وهكذا حتى أتم نحو عشرين حداء، والجموع تردد اسم السيد من ورائه.
وضحكت برغمي مع شدة حنقي؛ فإن حمادة كان حقا بارعا في تمثيل دوره، ولما فرغ من حدائه رفع يده إلى فمه فصفر صفيرا عاليا انطلقت بعده ضحكة من الجمع الكبير، ولم أستطع أن أمنع نفسي من المشاركة فيها، ثم نزل من فوق الأكتاف، وأخذ المتظاهرون ينصرفون في اتجاهات شتى، وبقيت أنا في مكاني مستغرقا في دهشتي، واقترب مني حمادة بعد أن هدأ الزحام وناداني قائلا: ماذا تصنع هنا يا سيد أفندي؟
فقلت ضاحكا: أتفرج عليك.
فمد يده نحوي مسلما وقال: وماذا تظن يا عم؟ أنموت من الجوع أم ننتحر؟ هات نقودا أصفر لك وأصفق وأهتف، أتظن أني أبله؟ خمسة جنيهات كاملة من أجل شغلة ساعة.
فقلت: فقط؟
فقال: تجربة أولى، ولا شك أن التجربة الثانية أغلى، هل سررت من طريقتي؟
فقلت ضاحكا: جدا، مهرج من الطبقة الأولى دائما.
فضحك حتى بدت أسنانه الصفراء وقال: أنا والله معجب بك يا سيد أفندي، أتعرف ماذا يعجبني فيك؟ أعرفك من الصغر وكنت دائما هكذا، لا يعجبك أحد ولا يهمك أحد. أفلاطون!
واقترب مني يريد أن يضع ذراعه حول عنقي للدلالة على إعجابه، فشممت رائحة الخمر تفوح منه، رائحة خمر رخيصة جعلتني أبعده عني كارها.
فقال: ألم أقل لك؟ النهاية يا عم. لماذا لم تذهب إلى السيد أحمد جلال؟
فقلت: وماذا أصنع عنده؟
فقال: أتنكر منى؟ ألم يبعت إليك مصطفى عجوة؟ والمائة جنيه يا عم سيد؟
فقلت في حنق: أي مائة؟
فقال: هل تظن أني طامع فيك وأريد مقاسمتك؟
فقلت غاضبا: هذا كذب. أتقول إن السيد أحمد أرسل إلى مائة جنيه؟ ولماذا؟
فقال: ولماذا تغضب يا أخي؟ كل منا له أجرته: أنا خمسة وأنت مائة، هذا أقل ما يلزم، النهاية يا عم أنا تحت الأمر، وإذا احتجت إلى شيء فأنا في خدمتك، سكرتير، محصل، وكيل، كما تشاء، أي خدمة.
فقلت في دفعة: ما هذه الألغاز يا حمادة؟
فقال: اسمع يا عم: جيبي عامر وريقي ناشف وجوفي خال. ها. ها. ها.
وانصرف عني فجأة بغير أن أعرف معنى أقواله، ولكني لم أقف طويلا عند هرائه المخمور.
وكنت لم أطعم شيئا منذ الصباح، فعرجت على مطعم يبيع الفول المدمس وأكلت بشاهية عظيمة، ثم شربت فنجانا من الشاي في قهوة مجاورة له، وجلست أستعرض مناظر يومي منذ جاءني حمادة الأصفر في منزلي، وعاد إلي شعور الضيق الذي كان يملأ صدري، وعاودني سؤالي القديم بتردد في إلحاح: ماذا أقصد في هذه الحياة؟ وبدت لي حياة فارغة لا يملؤها شيء، بل تطفو وهي جوفاء مع دفعات التيار الذي يتقاذف بها، لم أفلح عاملا ولا تاجرا كما لم أفلح طالبا، واتجهت كالحائر قبل المشرق والمغرب واصطدمت في كل مرة في آخر سيرى بنهاية الطريق، فعرفت أني أسير في عطفة مسدودة.
وقمت من القهوة أسير في الطريق لا أقصد إلى وجهة، فدخلت شارع المديرية ثم شارع السوق، ووصلت آخر الأمر إلى شارع «أبو الريش»، وكانت الطريق المؤدية إلى محلج السيد أحمد جلال تتلألأ بأنوار المصابيح القوية، وباب المحلج يبدو من بعيد مثل قصر مزخرف بباقات من الأضواء الملونة، فعرجت إلى يساري ودخلت إلى السرادق الكبير الذي كان في رحبة المحلج، وكان السيد أحمد جلال جالسا في الصدر، فلما وقع بصره علي ناداني في مودة: تفضل يا سيد أفندي!
وقام لاستقبالي، فاتجهت الأنظار نحوي، وقام من هناك وقوفا مع السيد أحمد، فسلمت بتحية عامة بعد أن صافحت السيد، واستأنف الجالسون الحديث، فقال السيد أحمد: نحن نتحدث عن هؤلاء الذين يستعينون بالحكومة علينا يا سيد أفندي، مع أنهم يقولون إن الانتخابات حرة.
فصاح مصطفى عجوة: دعهم يفعلون ما يشاءون فنحن الأقوياء، الشعب يغرق أصواتهم.
ونظر إلي وكان وجهه أزرق محتقنا من التحمس، فوضعت يدي على وجهي لأداري ابتسامتي، والتفت السيد نحوي قائلا: وما رأيك يا سيد أفندي؟
فقلت: في أي شيء؟
فقال: كنا نتكلم في إنشاء جريدة.
فبادر مصطفى قائلا: فكرة عظيمة.
ولم يكن في الفكرة ما يمنعني من أن أقول إنها عظيمة، ولكني عندما سمعت صوت مصطفى عجوة شعرت برغبة شديدة في المخالفة، ولم أجب عن السؤال لأن أصواتا أخرى تسابقت إلى الإجابة.
فقال الشيخ القرش: فكرة مدهشة بغير شك.
وقال الوزان الذي حل محلي واسمه الشيخ مسلم: مشروع وطني.
وقام مصطفى عجوة صائحا: يحيا السيد أحمد جلال.
فصفق الحاضرون وصاحوا يرددون الهتاف، والتفت السيد أحمد نحوي قائلا: هل توافق على الفكرة؟
فقلت في هدوء: المهم هو تحديد الغرض منها.
فقال مظهرا الارتياح: عظيم.
والتفت إلى من حوله قائلا: حسن جدا، الآن اتفقنا، أتوافقنا على اقتراح الشيخ القرش؟
ونظر إلي قائلا: ما رأيك في أن يكون اسم الجريدة «الواعظ»؟
فقلت: يمكننا أن نجد الاسم المناسب في كل وقت.
فصاح الشيخ القرش: الاسم أولا، الاسم هو نعم العنوان.
وصاح مصطفى عجوة معززا: نعم العنوان.
فقال أحد الجلوس: الواعظ يا مولانا يصلح لجريدة دينية، المنار أحسن.
فقام الشيخ القرش واقفا وقال في غضب: الواعظ يدل على المعنى واضحا، فيه كل المعاني.
فصاح شيخ آخر: نسميها المشكاة.
وضحك الحاضرون عندما قال السيد أحمد في سخرية: المشكاة؟
وقال الشيخ: قال الله تعالى:
مثل نوره كمشكاة فيها مصباح .
وتعالى صوت قائلا: لماذا لا نقول: المصباح؟ هذا أسهل.
وقالت أصوات أخرى: نعم المصباح المصباح.
فصاح الشيخ القرش في غضب: أي مصباح؟ هذه كلمة مبتذلة، إذا كان ولا بد فليكن «النبراس».
وصاح مصطفى عجوة: النبراس اسم جريدة هنا، ولا يجوز أن نأخذ نحن هذا الاسم.
فقال القرش: نسميها النبراس الجديد يا أخي.
فانفجرت ضحكة عالية من الجميع كان لها أثر في تخفيف حرارة المعركة، وقلت للسيد أحمد جلال: أظن أنه من الحكمة تأجيل اختيار الاسم الآن.
فقال السيد: هذا رأي حسن.
ثم قام قائلا: تعال معي يا سيد أفندي. عن إذنكم، اسمحوا لي أن أذهب مع سيد أفندي لنعد المشروع، وخرج من السرادق، وسرت وراءه شاعرا بأهميتي، ولما دخلنا إلى المكتب أشار السيد إلى مقعد قريب منه، فجلست وجلس هو على المكتب وبدأ قائلا: أنا ممنون جدا يا سيد أفندي من هذه الزيارة، وأشكرك بنوع خاص على إجابة دعوتي.
فقلت في دهشتي: لم تصلني منك دعوة.
فرفع حاجبيه قائلا: ألم يذهب مصطفى إليك؟
فقلت: لا.
فقال مستمرا: على كل حال هذا أملي فيك يا سيد أفندي. أنت مثل ولدي والظروف هي التي تجعلنا نعرف الصديق، لا شك أنك تعرف أن هذه الأوقات عصيبة، وخصوصا لأن منافسي محمد باشا قريب رئيس الوزارة.
ومع أنهم يقولون: إن الانتخابات حرة فإن المصلحة الوطنية تجعلنا نجاهد في سبيل تحقيق رغبة الشعب، وأنت تعرف يا سيد أفندي أني دائما أحب لك الخير.
فشكرته على قوله وانتظرت حتى يقول ما يريد، فاستمر قائلا: نريد أن ننشئ جريدة وطنية كما سمعتنا نتحدث، لتنطق بصوت الشعب، الجريدة مجهزة بكل ما يلزم، المطبعة تحت يدي وهي مطبعة العجمي رئيس شباب دمنهور، والورق موجود.
فهززت رأسي منتظرا.
واستمر السيد يقول: وستكون كمية الورق كبيرة وبالتسعيرة، وأما الأجر الشهري فلن يكون محل خلاف، وعلى فكرة، يمكنك أن تأخذ الورق الباقي من المقرر لتتصرف فيه، هذه فرصة عظيمة يا سيد أفندي، وطن الورق في السوق يساوي أربعمائة جنيه كما تعرف.
وكنت أنصت إليه وأسأل نفسي: «ماذا يقصد؟»
وختم السيد حديثه قائلا: هذه فرصة عظيمة يا سيد أفندي والقطار السريع لا ينتظر إلا قليلا، ثم لا يقف لأحد بعد ذلك.
وقلت في نفسي: القطار السريع مرة أخرى؟
ولمحت السيد يخرج من جيبه ظرفا سمينا، ويضعه أمامي قائلا: هذا مبلغ صغير يا سيد أفندي، مقدمة ليس إلا.
ولست أدري ماذا حدث لي عندما سمعت قوله، فإني رفعت رأسي قائلا وقلبي يتحفز: ألا نضع برنامج الجريدة أولا؟
فأجاب مسرعا: هذا شيء واضح لا يحتاج إلى إضاعة وقت، أليس كذلك؟ ونحن في حاجة إلى كل وقتنا، المهم أن نكسب المعركة.
فقلت متمالكا شعوري: في سبيل أي شيء؟ ماذا نقصد من وراء المعركة؟ هذا ما أسأل عنه.
فقال في دهشة: هي المعركة الانتخابية.
فقلت: ولكني أسأل عن الجريدة. أليست للنطق بلسان الشعب؟
فقال بسرعة: طبعا.
فقلت في عناد: إذن فماذا نقول على لسان الشعب؟ إننا نريد أن يلتف الناس حولك عن إخلاص ويشعروا بأنك تنطق بلسانهم حقا، ومن المصلحة أن نرسم ما تقوله للشعب حتى يعرف المبادئ التي ينتخبك من أجلها؟
فقال في فتور: مثل ماذا؟
فقلت: الشعب طبعا يريد أن يعيش ويشبع ويلبس ويسكن، ويريد أن يتعلم ويتداوى ويحس أن الحكومة تخدمه ولا تسلبه، يريد من البرلمان أن يجتمع للنظر في مصلحته لا في مصلحة أعضائه، ويريد أن يكون أعضاء البرلمان خداما له لا سادة يستغلون ثقته، هذا ما أظن أنه صوت الشعب، وهذا ما يصح أن تبايع عليه الشعب.
وكان السيد ينظر إلي بوجه ينطق بالضجر، ولأول مرة لاحظت عليه أنه ينظر إلى وجهي نظرة ثابتة غاضبة.
ثم قال في استياء: قل لي يا سيد أفندي بالصراحة، هل صحيح أنك تريد الانضمام إلى محمد باشا خلف؟ هذا ما قيل لي ولكني أستبعده.
وبدأت أفهم الموقف على حقيقته؛ فقد سمع أني سأعمل داعية لمحمد باشا منافسه، فأراد أن يشتريني أولا، وضحكت من الفكرة؛ لأنها كانت مفاجأة.
فقال غاضبا: ماذا يضحكك يا سيد أفندي؟
فقلت له: أنا آسف. لم أقصد شيئا سوى أنه لم يخطر ببالي أن أقوم بالدعاية لأحد، ولست ممن يصلحون لمثل هذه الخدمة.
فقال في شيء من الحدة: قل لي رأيك بالصراحة، وأنت حر طبعا.
فقلت: ليس قولي غامضا يا سيدي، لست أصلح للدعاية إلا للمبدأ الذي أؤمن به.
فقال في فتور: أتتهم مبدئي؟
فقلت ثابتا: لم أعرفه بعد يا سيدي.
فقال في أنفة: هذه مناقشة لا فائدة منها، والوقت ضيق لا يحتمل مثل هذا، قل لي في بساطة أنك تقبل أو ترفض.
فصعد الدم إلى رأسي وقلت: ماذا أقبل وماذا أرفض يا سيدي؟ إنك لم تعرض علي فكرة، كل ما عرضته هو هذا الظرف الذي أمامي والورق الذي يمكن أن أبيعه في السوق السوداء.
فقام قائلا: أنت تتعدى طورك يا سيد أفندي. أنت تكلم السيد أحمد جلال.
فقمت كذلك قائلا: وأنت أيضا تكلم سيد زهير.
فصاح منفلتا من زمامه: هذه وقاحة!
وفي لحظة انفلت الزمام من يدي أيضا وقلت: بل الوقاحة أن تشتمني.
فاستشاط غضبا وقال: اخرس، أنت محتاج إلى أن أؤدبك حتى تعرف كيف تكلمني.
وتنبهت عند ذلك إلى أي حد انفلت الزمام منا جميعا، وإلى العاصفة التي هبت على غير انتظار.
أهكذا يصل الأمر بيني وبين السيد أحمد جلال؟ هذا الرجل الذي لم أره مرة في حياتي يغضب؟ أهي حمى الانتخاب أم هناك سبب آخر جعله يظهر في هذه الصورة التي لم أعرفها فيه طوال هذه السنوات؟
وأردت أن أتدارك الأمر فسكت مطرقا، ولم أجب على كلمته الأخيرة، ولكنه تمادى قائلا: سأعرف كيف أسحق غرورك هذا، سأحطمك.
فوجدت نفسي أضحك ضحكة عالية.
وزاد غضبه فقال: سأعرف كيف أحطمك وستندم قريبا.
فقلت في سخرية: وكيف تحطمني؟ هل أنت إله أيها السيد؟ ثم لماذا تريد أن تحطمني؟ ألأني لا أسخر نفسي لك؟ ألأني أرفض أن تشتري ضميري؟ إذن فاسمع أيها السيد، افعل ما تقدر عليه فلست أعبأ بتهديدك، افعل ما تقدر عليه فلست أرهب سطوتك، أنت لا تملك من أمري شيئا؛ لأني غير محتاج إليك في شيء، أنت لا تزيد في نظري على صندوق مملوء بالذهب في قاع المحيط.
وتركته مبادرا قبل أن يجيبني، وكان ينظر نحوي هائجا ينتفض من الغيظ.
ولما صرت في فناء المحلج واستلقيت الهواء البارد أحسست أن جسمي كله يشتعل حرارة، وخرجت متباعدا عن المكان الذي فيه السرادق حتى لا يراني أحد، وكان قلبي يغلي غيظا، ولكنه كان في الوقت عينه حزينا آسفا على هذه العاصفة التي ثارت فجأة.
كانت الساعة العاشرة من المساء عندما خرجت من محلج السيد أحمد جلال، وسرت في الطريق المؤدية إلى جسر الترعة وأنا موزع بين الرضا والأسف والقلق: أما الرضا فلأني كنت أحس وجودي منذ وقفت أمام السيد الكبير وجبهته برأيي ورددت عليه إهانته وتحديت سلطانه عندما هددني بأن يسحقني ويحطمني، وأما الأسف والقلق فلأني كنت أفضل لو لم أصطدم بالسيد أحمد مثل هذا الاصطدام الذي لم يدع سبيلا بيننا إلى الأمل في حفظ مظاهر المودة والمسالمة، فإني عندما خرجت من خدمته من قبل لم أقطع ما بيني وبينه قطعا يحول دون الرجوع إلى مصافاته؛ ولهذا لم أتردد في أن أذهب إليه لأبيع له قطن الشرنوبي، ولم يتردد هو في أن يبعث إلي لأكون معه في أيام الانتخابات، ولكن تلك المصادمة الأخيرة جعلت موقف كل منا نحو الآخر لا يقل عن موقف العداوة الصريحة، وما كنت أحرص على شيء مثل حرصي على حفظ مظاهر المودة بينه وبيني على الأقل، وقد تحرج الموقف بيننا فجأة، ولم يكن ليخطر ببالي أن ذهابي إليه في تلك الليلة يؤدي إلى مثل تلك المغاضبة.
سرت في الظلام أراجع نفسي وأجادلها، والدوافع المتعارضة تتقاذف بي حتى اقتربت من عطفة من العطفات الصغيرة التي تنتهي إلى الجسر، فلمحت عندها جمعا كبيرا من رجال ونساء وأطفال تعلوا أصواتهم في سكون الليل ، ولا يظهر منهم في الظلام إلا أشباح تتحرك في الأشعة الخافتة من مصباح ضئيل عند رأس العطفة، ولم أجد بقربي عطفة أخرى أستطيع أن أنفذ منها إلى المدينة حتى أتفادى المسير بين ذلك الجمع، فلم أجد حيلة سوى أن أتقدم وأشق طريقي، وكان الناس يتزاحمون ويتواثبون ويصفقون في زياط، ويثيرون الغبار القذر بأقدامهم حتى ضاقت أنفاسي من روائحه، فأسرعت في السير كاتما نفسي حتى اجتزت بهم وبدأت أملأ صدري من الهواء الخالص عندما بعدت عنهم، ولكني سمعت من خلفي صيحات مذعورة تنادي: «الإسعاف»، وأصوات أخرى تصيح: «لقد مات!» فتوقفت عن سيري ثم اندفعت بغير تفكير عائدا إلى موضع الزحام لأسأل من هناك عما حدث، وكان أول ما خطر لي أن هناك غريقا يحتاج إلى إسعاف، وتدسست بين الجمع حتى وصلت إلى قلب الحلقة، فإذا أنا أمام شخص حمادة الأصفر ملقى فوق كومة من التراب لا يعي شيئا، ومن حوله بركة قذرة من المواد العفنة التي طردها من جوفه، وشعرت بوخزة مؤلمة في رأسي كأن مسمارا دق في أعلى صدغي، وملت عليه في قلق لأستمع إلى دقات قلبه، وأنا متقزز من الرائحة الكريهة المنبعثة منه ومن الكومة التي حوله، وكان جسمه رخوا تغطيه رطوبة لزجة، وقلبه يدق ضعيفا، فلم أدر ماذا أفعل، فما كنت أقدر على أن أتركه هناك وأمضي في سبيلي، وما كنت كذلك أقدر على البقاء في ذلك المكان القذر لأشارك المتزاحمين حوله في الصباح عبثا أين الإسعاف، فأخرجت منديلين من جيوبي، وأخذت أمسح وجهه ورقبته ويديه مما علق بهما من القذر وألقيت بهما إلى جانب، وصحت في الجمع قائلا: هيا بنا أيها الرفاق نحمله إلى جهة نجد فيها الإسعاف.
ولكن الواقفين نظروا نحوي في تردد، ونظر بعضهم إلى بعض، فقلت لهم: أليس هنا صيدلية قريبة؟
فقال أحدهم: في السوق.
فقلت متوسلا: أرجو أن تساعدوني على نقله إلى مكان قريب نطلب منه الإسعاف.
فاستجاب ثلاثة من الشبان إلى ندائي، ومالوا في صمت إلى الجثة الهامدة ورفعوها معي، واتجهنا إلى ناحية «أبو الريش» وهي الأقرب إلى العمران، ولما سرنا نحو مائتي متر بلغنا الباب الخلفي لمحلج السيد أحمد جلال، فصاح الشبان في نفس واحد: هنا!
وعرجوا إلى الباب ليلقوا فيه حملهم قبل أن أجد وقتا لمناقشتهم، وهناك ظهر وجه حمادة في ضوء المصابيح الكهربائية القوية أبيض مثل وجه الموتى، وهب البواب ومعه ثلاثة من العمال يمنعوننا من الدخول، ولم يجدني نفعا أن قلت لهم إنه «حمادة الأصفر»، وتلفت حولي لأرى موضعا نضع عليه الجسد الذي نحمله، فوجدت دكة البواب فطرحناه عليها، وصاح البواب بنا غاضبا، ولكني لم ألتفت إلى أقواله، وأخذت أمسح العرق الذي كان يتصبب مني، وأخذ الشبان الثلاثة يتشاورون بالنظرات فيما يفعلون، وصاح أحد العمال بنا: «امشوا من هنا.»
فصحت به: «أما تراه يا رجل؟ نريد أن نطلب الإسعاف.»
فقال مهددا: خذه من هنا وانصرف.
فصحت به في غيظ: لقد كان في المغرب يهتف للسيد أحمد.
فصاح مرة أخرى في لهجة أعنف: قلت لكم امشوا من هنا، واقترب البواب والعاملان الآخران ليجعلاها معركة، ولكن حمادة تقلب في تلك اللحظة واختلج جسمه خلجات شديدة، وأخذ يطرد بعض ما تبقى في جوفه من الفضلات العفنة، فبعد البواب والعمال صائحين شاتمين، ولم نجد بدا من حمله والذهاب به عندما جاء البواب وأصحابه يعيدان الكرة علينا، فصحت بهم: قولوا للسيد إن هذه البركة العفنة هي بضاعته ردت إليه، هي الجنيهات الخمسة التي أخذها حمادة ثمنا للهتاف في المظاهرة.
وحملنا حمادة وسرنا به في الظلام على الشاطئ الموحش، وأخذ الشبان يبرطمون غضبا، واقتربنا من مخزن قطع سيارات قديمة، فأسرع الشبان إليه، وألقوا بالجثة عند بابه وعادوا أدراجهم مسرعين.
وجاء صاحب المخزن ينظر إلي في استنكار، فقلت له مستعطفا: بعض الماء من فضلك.
وملت على حمادة أدلك يديه، واستمعت إلى دقات قلبه مرة أخرى، وسمعت صاحب المخزن يدمدم قائلا: ما هذه الداهية؟
فقلت له: هذا بائس مسكين وجدته مغمى عليه في الطريق.
ويظهر أن الرجل أحس شيئا من الرحمة، فأتى بكوز من الماء فرششت منه على وجه الصريع وكانت دهشتي عظيمة عندما رأيته يتحرك، فناديته مسرورا ولكنه أخذ يطرد من جوفه فضلات أخرى، فبعدت عنه كما بعد عنه صاحب المخزن مشمئزا وهو يلعن قائلا: من يمسح هذا؟
فأخرجت له ورقة من ذوات نصف الريال وقلت له: أنا آسف لإزعاجك، وأرجو أن تدعو من يساعدك على تنظيفه.
فأخذ الرجل النقود صامتا، ونظرت إلى وجهه فوجدته ينطق غضبا وغيظا.
فناديت في حنق: حمادة!
فتحرك وأراد القيام ولكنه لم يقدر، فأسرعت إليه لأساعده، وكان جسمه لا يكاد يتماسك، ثم استطاع آخر الأمر أن يقوم مستندا على كتفي وقال بصوت ضعيف: سيد أفندي؟
فقلت: أتقوى على السير؟
فهز رأسه ولم يجب وسار يجر رجليه وأنا أكاد أحمله، ووجدت صعوبة كبرى في أخذ أنفاسي؛ لأن رائحته الكريهة كانت تنفذ إلى خياشيمي.
وكان من حسن الحظ أن مرت بي عربة نقل مما يحمل القطن، فصحت أنادي السائق أن يقف ليساعدنا، ولم يخيب الرجل رجائي، فوقف وجاء يساعدني، وسألت حمادة: أين يقيم؟ فأجاب في صوت ضعيف ساخر: لا أعرف.
فقلت لصاحب العربة: على طول.
وعزمت على أن أذهب بذلك العبء المخزي إلى أقرب قهوة، وأتركه بها ما دام قد أفاق، ووصلنا بعد قليل إلى قهوة صغيرة، فأجلسته بها، وبعدت عنه قليلا؛ لأملأ صدري من الهواء، وفي نفسي مشاعر شتى من الرثاء والاشمئزاز والعطف والنفور، وجاء خادم القهوة فطلبت له فنجانا من الشاي وقطعة من الليمون، ووقفت حتى رأيته يشرب، وكان وجهه ما يزال مثل وجه الميت وعيناه غائرتين وشدقاه منطبقين وجلد وجهه مكرشا وعليه خطوط زرقاء عميقة، وتبسم لي شاكرا فبرزت أسنانه كأنها في جمجمة رمة بالية.
وقال بصوته الحاد: لا شك أني سببت لك تعبا شديدا، أنا منحوس كما قلت لك يا سيد أفندي، ولكني لم أقل لك أتعب نفسك. ما كان يضرني شيء لو بقيت في الطريق حتى أفيق، هكذا أفعل كلما سقطت، وهذا ما أستحق، لا تؤاخذني فإني لا أحب أن يرحمني أحد، أكنت تسألني: أين أسكن؟
ثم ضحك ضحكة عصبية واستمر يقول: أين تقيم الكلاب الضالة؟ أين تقيم الحشرات؟ أقيم مثلها حيث أجد جحرا يظلني، في هذه المواخير التي أجد فيها مأوى، أراك تدير وجهك عني، لست أخشى أن تحتقرني ولا أطلب منك ألا تحتقرني، افعل ما شئت فلست أقدر أن أحتقرك أنا الآخر. تفضل أنت يا سيد أفندي. هل دفعت ثمن الشاي؟ هات لي قرشين أولا.
وفرك إصبعيه كالعادة.
فقلت متعجبا: كان معك خمسة جنيهات غير الجنيه الذي أخذته مني.
فضحك مرة أخرى قائلا: كانت في جيبي ... وأخذتها المرأة طبعا، هي حقيرة مثلي، ونحن نتعامل في صراحة، هي تسرقني وأنا أسرقها، هي تقول لي: يا وغد، وأنا أقول لها: يا ساقطة، ولكنها مع هذا تؤويني ولا يجرؤ أحد آخر على إيوائي، كانت المرأة الأخرى حقيرة مثلها، ولكنها وجدت من يخطفها مني، فأقفلت بابها في وجهي، ها ها ها ها.
أتعرف من هي؟ زينب التركية، زينب الشقراء، أتعرف من هو ...؟ صاحبها، الرجل العظيم الذي كنت أصفق له وأصفر وأهتف، كان ذلك منذ سنوات طويلة، رآها مرة عندما بعثتها إليه تطلب بعض النقود؛ لأني كنت مريضا، وهي بغير شك جميلة يا سيد أفندي، فأسعفني ببعض النقود ولكنه خطفها مني، أتفهم؟ وبعد أسبوع واحد طردتني من بيتها ها ها ها. النهاية يا عم سيد، عمر الشقي بقي، لم أمت عند ذلك وقلت لها: في داهية، وذهبت إلى زينب الأخرى، زينب الفلاحة التي أعيش عندها، وهي تعاملني وأعاملها كما يعامل الكلاب بعضها بعضا، أليس معك نقود يا بو زهير؟
فأخرجت من جيبي ورقة بخمسين قرشا وقذفتها أمامه، ودفعت إلى خادم القهوة ثمن الشاي، وكانت الساعة قد بلغت منتصف الليل.
فقلت لحمادة: أظنك تقدر على السير وحدك. ألا تحاول أن تكون رجلا؟
فضحك قائلا: ومن قال لك إني أريد أن أكون رجلا؟ اذهب إذا شئت ودعني، أنا حشرة، أنا كلب ضال، دعني أسرع، دعني أجري، طريق عفنة مظلمة كلها خوف وقذارة، خوف بالليل والنهار وخوف من أمامي ومن خلفي، قلبي وعيني وسمعي كلها مخاوف، الأمس مخيف والغد مخيف والحاضر فزع، وأنا أجري وأجري أطلب النجاة، ولكني أتعثر وأقع وأتخبط والطريق مظلم والأوحال تجعلني أنزلق، ومن ورائي أشباح كثيرة تطاردني، فأسرع لكي أتخلص، أتخلص من هذه الحياة ومن الأشباح التي تطاردني فيها، ولكني لا أرى أمامي طريقا للهرب، أتعرف الخوف يا سيد أفندي؟ هو الذي يجعلني أهرب، ولكني عندما أحاول الهرب لا أجد مكانا أهرب إليه، فأهرب من نفسي، أريد النسيان لأهرب، أريد المرأة لأهرب، أريد الخمر لأهرب، اذهب عني أنت ودعني.
وامتلأ قلبي غما مما سمعت، وكان منظره وهو يتكلم يشبه منظر المجنون الثائر، فانصرفت من أمامه حزينا أسائل نفسي: هل يستطيع أحد أن ينقذ ذلك المسكين؟ وعدت إلى المدينة وأقوال حمادة البائس اليائس تتردد في ذهني، وكانت الطرق خالية موحشة والدكاكين مغلقة، ولكن الجو كان رطبا لطيفا، ولما وصلت إلى كوبري السكة الحديدية اتجهت في الطريق المؤدي إلى شبرا، وهو طريق مظلم زاده السكون رهبة لولا رجل مخمور آخر يسير متطوحا ويغني: «الفجر أهو لاح قوموا يا تجار النوم!» هو الآخر يحاول الهرب والنسيان ولكنه يغني، وتركته ورائي لأنه كان يتقدم خطوة ويتأخر خطوة، كم بين الناس من هؤلاء المساكين الذي يحطمهم الخوف! أيستطيع أحد أن يمد إليهم يد المساعدة؟
وبلغت منزلي وكانت أمي وأختي تنتظران في قلق من غيابي، وحاولت أن أظهر لهما هادئا، بل حاولت أن أكون مرحا، ولكني استأذنت لأذهب إلى غرفتي، وما كدت أدخلها حتى وجدت نفسي أبكي بكاء مرا.
وكان ذهني يضطرم بشعور مختلط من الحزن والغم والرثاء والعجز والضآلة، كانت صورة حمادة تمر في خيالي في أوضاع شتى بين تاجر الأسواق المرح وبين قائد المظاهرة المهرج وبين السكير البائس المحطم.
وأخذت قلمي وجعلت أكتب ولا أدري ماذا أريد أن أكتب، ولكن الأشباح التي كان حمادة يتحدث عنها صارت تطاردني وأنا أكتب، وكان قلمي يسرع كأنه يريد أن يجد هو الآخر سبيلا إلى الهروب.
ولما تعبت من الكتابة وضعت يدي على رأسه فوجدته يتقد حرارة ، ولكني لم أتوقف عن الكتابة، وكلما فرغت من ورقة ألقيت بها على الأرض فتطير وتقع حيث تشاء، ولم أشعر بمضي الوقت وكنت لا أكاد أعي ما أكتب، وكلت يدي من الكتابة، ولكني لم أتوقف حتى فرغت من القصة، ولست أدري أكان فراغي منها هو الذي جعلني أحس الإعياء أم أن الإعياء هو الذي جعلني أفرغ منها، وقمت أترنح حتى استلقيت على سريري بملابسي، وكان رأسي يدور ويهتز كأن في داخله عاصفة، وكانت عضلات جسمي تنبض كما ترف العين، وأحسست في ظهر وعيي طرقا على الباب، ولم أعرف من الطارق، وكان آخر ما أذكر أني رأيت وأنا مغمض عيني كأن شريطا أغبر اللون يمر أمام بصري في سرعة.
الفصل الثامن
فتحت عيني على أثر لمسة فوق جبيني، ورأيت أمي جالسة إلى جانبي وهي تضع منديلا مبللا على رأسي، وشممت رائحة «كولونيا»، وكانت أختي منيرة واقفة على بعد خطوة منها جاعلة ذراعيها على صدرها، وتنظر نحوي في لهفة وعلى وجهها ابتسامة حزينة، ولمحت شخصا آخر يقف في الناحية الأخرى من المنضدة التي في وسط الغرفة، وسمعته يقول: «صباح الخير يا سيد.» وكان صوت عبد الحميد عباد، فهمست بصوت خافت: «ماذا جرى؟»
وقالت أمي في ابتسامة ضئيلة: كيف أنت يا سيد؟ وكانت الدموع تملأ عينيها.
وأردت أن أتحرك لأجلس، ولكن وسطي ومفاصلي وعيناي آلمتني، فعدلت عن الحركة وبدأت أسعل سعالا شديدا، فذهبت منيرة إلى المنضدة وملأت ملعقة من زجاجة هناك وجاءت إلي لأشربها، وقالت وهي تتظاهر بالمرح: «أخرج هذا البرد الذي ملأ جسمك.»
فاستسلمت لها وشربت الدواء، فمدت منيرة يدها إلي بمقياس الحرارة، ففتحت فمي هادئا كأني طفل مطيع، وعدت أسأل سؤال عندما أخرجت منيرة مقياس الحرارة من فمي فقلت: ماذا جرى؟
فقال عبد الحميد: «المسألة بسيطة. كنت غائبا عن الوعي منذ يومين، ثم بدأت تفيق الآن، وكانت حرارتك أربعين درجة فصارت الآن سبعة وثلاثين.»
ولم يدهشني هذا الخبر كأني كنت أعرفه من قبل، وبدأت أتذكر أني كنت أكتب قصة، فحركت رأسي لأنظر إلى أرض الغرفة قائلا: ألم تكن هنا أوراق؟
فقال عبد الحميد في مرح: عظيمة يا أستاذ سيد، ولماذا لا تكتب على كل ورقة رقمها؟ وجدت صعوبة كبيرة في ترتيب الأوراق قبل أن أقرأها.
فقلت في اهتمام: وأين هي؟
فقالت أمي: لا تجهد نفسك يا ابني.
وقالت منيرة: سأحضرها لك إذا شربت المرقة التي أعددتها لك.
وخرجت مسرعة فلم تسمع جوابي عندما قلت: لا أريد شيئا.
وقال عبد الحميد: لم أعرف أنك أستاذ في القصة.
فقلت في سرور: هل قرأتها؟
فقال: رائعة.
فأردت أن أتكلم ولكن السعال منعني وكان شديدا يكاد يمزق صدري.
ودخلت منيرة تحمل صينية صغيرة وضعتها على المنضدة، وقربتها من السرير قائلة: كن ولدا طيبا.
وجلست جنبي على السرير أخذت رأسي فوق ذراعها، وجعلت تسقيني ملعقة بعد أخرى، وكان عبد الحميد يتحدث عن القصة في حماسة، ثم قال: إنها تفيض حياة يا أستاذ سيد وأشخاصها يشعون حرارة. أهنئك. أهنئك بكل قلبي ولو جمعت ما كتبت من هذا النوع لكان كتابا بديعا.
فأزحت الملعقة التي كانت في يد منيرة وقلت: إنها أول قصة.
فصاح: مستحيل، أهذه أول قصة؟
وأخرج الأوراق من جيبه وجعل ينظر فيها.
ولم أرض أن أشرب شيئا بعد ذلك من المرقة، فحملت منيرة الصينية وخرجت بها فقلت لعبد الحميد: أظنك تجاملني.
فقال في هدوء: لو أردت المجاملة لما أرسلتها إلى بريد الأحرار.
فصحت: بريد الأحرار؟
وعاودني السعال الشديد فصاحت أمي: يا ابني، لا تجهد نفسك! ومع كل ألمي من السعال كان قلبي يهتز فرحا وزهوا.
وقلت في صوت خافت: أتظن الجريدة تنشرها؟
فقال عبد الحميد مبتسما: أظنه ينشرها من أجل عنوانها على الأقل.
وأخذت أتذكر العنوان فلم أذكره وقلت: لست أذكر عنوانها.
فتبسم عبد الحميد قائلا: وضعته أنا «الفيلسوف المحطم» أليس هذا عنوانا يستحق النشر؟
وعلى فكرة، كان الأستاذ علي مختار صاحب بريد الأحرار من أقرب أصدقائي في الدراسة.
لا مؤاخذة إذا تركتك الآن يا أستاذ سيد؟ وسأحضر في المساء بعد إلقاء دروسي.
واستأذن منصرفا فضغطت على يده شاكرا، ولكن يدي كانت ضعيفة، فقلت له: أشكرك بكل قلبي.
ولم أحسب أن ذلك المرض يطول بي خمسة عشر يوما كاملة، ثم لا يفارقني إلا هزيلا ضعيفا، فوق ذلك السعال الشديد الذي استمر يضايقني مدة شهرين، ولكن الضعف والهزال والسعال لم تعكر على السعادة التي غمرتني عندما عرفت من عبد الحميد أن بريد الأحرار ستنشر قصتي، وبدأت أخرج إلى المدينة بعد شهر من بدء مرضي، وكانت حركة الانتخابات تجتاحها وتلهبها، كانت جموع المظاهرات تتدفق وتتصادم كل يوم، وكانت اللافتات معلقة في كل مكان، فوق الأعمدة وعلى جدران المنازل وعلى أبواب الدكاكين، وكانت الأبواق المكبرة للصوت تصيح في كل ركن، وذهبت عند أول خروجي إلى مطبعة العجمي لأعرف ماذا تم في جريدة السيد أحمد جلال، وكان العجمي زميلا قديما في المدرسة، فوجدت عنده جمعا كبيرا من الموظفين والتلاميذ ووكلاء المحامين ووزاني المحالج يستمعون إلى خطبة يلقيها «مهني أفندي» وكيل الأستاذ زكريا إبراهيم المحامي، وسمعته يتكلم عن ثورة الشباب على «عملاء الإنجليز».
ولما رآني العجمي رحب بي، وقدمني إلى الحاضرين على أني كاتب دمنهور العبقري، وأخذ يتحدث عن قصتي «الفيلسوف المحطم» التي نشرتها «بريد الأحرار» في ذلك الصباح بالذات، فاستقبلني الجمع بالتصفيق، وطلبوا أن يستمعوا إلى كلمة مني، فاضطررت أن أقف خطيبا لأول مرة في حياتي بعد أن فرغ الأستاذ مهني من خطابته، وكانت خطبتي تدور حول الشعب المحطم الذي ينتظر من يأخذ بيده، ولا يجد من القائمين على حكمه إلا الطغيان والأنانية والمبالغة في تحطيمه، وأحسست وأنا أخطب أن المعاني تتدفق على لساني وكنت أجد صدى حماستي في السامعين الذين قاطعوا كلمتي بالتصفيق العالي.
ولما سألت العجمي عن الجريدة بعد انصراف الجمع قال لي: لن نعمل لحساب أحد من هؤلاء يا أستاذ سيد، وقد عزمت على ترشيح نفسي.
فكان ذلك نبأ سعيدا عندي ووعدته بأن أجاهد معه بكل ما أستطيع، حتى تضرب دمنهور مثلا في انتخاب المخلصين وإن كانوا من صفوف الشعب.
ومنذ ذلك اليوم أقبلت على معركة الانتخاب فجعلتها معركتي، وبدأت من ذلك اليوم بوضع خطة مع «أنصار الشباب» لنكتسح المرشحين من «المنافقين».
وأخذنا نعد اللافتات وكتبنا عليها بخط أيدينا عبارات تسترعي الأنظار مثل: «الأعيان أعوان الطغيان» و«متى يسقط البرلمان حكومة؟» و«برلمان الأعيان بناء من القش» وأمثال هذه من عبارات الدعاية الشديدة.
وكتبت بيدي لافتة وضعتها في وسط الطريق أمام مطبعة العجمي وعليها عبارة «أيها الشعب ... أنا الشعب»، ونسيت في وسط هذه الحماسة ذكر قصتي وما كنت أعلقه على نشرها من الاهتمام وكنت أقضي يومي كله وجزءا كبيرا من الليل في اجتماعات وخطابة وتدبير الخطط واجتذاب الأنصار، واجتمع لنا عدد كبير من شبان المدينة، ولكن صاحبي عبد الحميد أصر على الابتعاد عن هذه «المهزلة» وقال عندما فاتحته في الانضمام إلينا: لقد شاهدت هذه الملهاة التافهة مرارا حتى مللتها.
ولكن رفضه الانضمام إلينا لم يزدني إلا إصرارا على عزيمتي، وبدأت أحس أن إيمانا جديدا بدأ يقوى ويتجدد في نفسي، هؤلاء المساكين الذين تطحنهم الحياة لا يجدون لسانا ينطق بآلامهم، فعلينا أن ننطق نحن من أجلهم، هذه الألوف المؤلفة من الجياع العراة الجهلة لا يجدون من يعطف عليهم، وعلينا نحن أن نعمل من أجلهم، وكانت الخطب التي ألقيها تزيد يوما بعد يوم والأنصار الذين يحيطون بنا يتضاعفون ساعة بعد ساعة، واعتقدنا جميعا أن العجمي قد اجتاح منافسيه في الانتخابات بغير جدال.
وتواعدنا قبل موعد الانتخاب بأربعة أيام على عقد اجتماع كبير في مسجد التوبة بعد العشاء؛ لأننا كنا لا نقدر على إقامة سرادق كبير يتسع للجموع التي اعتادت أن تتوافد على محافلنا.
ولما بدأ الاجتماع تعاقب الخطباء واحدا بعد واحد يتحدثون عن الشباب المخلص والأحزاب المزيفة التي ضلت الطريق، والحرية التي تتطلب الدماء، والجهاد الوطني من أجل الجلاء، وجاء دوري فأعلن منظم الحفلة اسمي ووصفني بالأديب الكبير والخطيب القدير، وأضاف إلى ذلك عددا آخر من الصفات جعلني أخجل، وإن كنت في الوقت عينه امتلأت زهوا وثقة بنفسي.
وقمت لأتكلم فبدأت بطيئا هادئ الصوت، ورتلت بعض عبارات موزونة كنت نمقتها وحفظتها، وأضفت إليها ألفاظا رنانة وسجعات مختارة فطرب السامعون لها، وتعالى تصفيقهم إعجابا واطمأنت نفسي إلى ذلك وبدأت أتدفق، فمن شاء أن يكون خطيبا ناجحا، فعليه أن يتحقق أولا من الاستيلاء على عواطف سامعيه فيكون بذلك كأنه يعوم على اتجاه تيار الماء.
وكان لذلك الاجتماع دوي كبير في المدينة في اليوم التالي، وتحدث به الناس مرددين ما قيل، وتجادلوا فيه بمجالسهم، فمنهم من أنكره ووصفه بالدعوة إلى الثورة، ومنهم من رضي عنه ووصفه بالإصلاح، ولكن الجميع آمنوا بأن الأمر قد انتهى إلى فوز مرشح الشباب محمود العجمي.
ولم يبق على يوم الانتخاب إلا يومان، فاستقر رأينا على أن نضرب الضربة الأخيرة في الليلة المقبلة، وتواعدنا على الذهاب بعد العشاء إلى المسجد وأذعنا في أنحاء المدينة أنه الاجتماع الأخير، ولم ندخر وسعا في نشر الدعاية بكل ما استطعنا من الوسائل، حتى لقد استأجرنا ثلاث سيارات تجوب الأحياء، وفي كل منها مذياع لإعلان موعد الاجتماع ومكانه.
وبكرت قبل الموعد بنصف ساعة ذاهبا إلى المسجد، وكنت قد أعددت في نفسي حديثا ناريا تخيرت له مقدمة مسجوعة تأنقت في عباراتها، وكنت وأنا سائر في الطريق إلى المسجد أرددها وأستمع إلى جرس ترتيلها لأقدر موقعها من نفوس السامعين إذا بدأتهم بها، ولما وصلت إلى منعرج الطريق إلى الشارع الضيق الذي فيه المسجد، وجدت بعض جنود الشرطة يسدون منفذ الطريق وهم يلبسون الخوذ الحديدية، ويمسكون في أيديهم العصي الغليظة، وهب الضابط رئيسهم عن كرسيه فسألني عن وجهتي، فلما أجبته قال لي في جفاء: «إن المسجد مغلق.» فأدهشتني المفاجأة وأخذت أجادله فأمسك بكتفي في غلظة ودفعني قائلا: «تفضل!»
وهممت أن أدفعه كما دفعني، ولكني تذكرت أن ذلك قد يؤدي إلى عقد لا ينبغي أن أتورط فيها في ذلك الوقت، وانصرفت عنه في مظهر التحدي الصامت، ولما بعدت عنه وقفت مترددا أفكر في ذلك الطارئ الذي لم نتوقعه، ولم أدر كيف نستطيع أن نتدارك الأمر، وتلفت حولي لعلي أرى أحدا من أصحابي وأنا قلق حانق، فرأيت بعد بضع دقائق أربعة منهم يجرون أقدامهم في خذلان ويقبلون من ناحية طريق المسجد، فأسرعت إليهم ليفرغ كل منا حنقه إلى الآخرين، وكاد شعورنا بالخيبة يصرفنا إلى أن نيئس وننفض أيدينا من الأمر كله، ثم اتفقنا على أن نذهب إلى العجمي لنرى رأيه، ولعلنا نجد عنده بعض أصحابنا الآخرين فنتداول الرأي فيما نصنع بعد هذه الصدمة، وكانت أفواه الطرق إلى بيته مغلقة بجماعات من رجال الشرطة، فاضطررنا إلى أن نتفرق أفرادا ونتسلل من الحواري الضيقة إلى البيت، وكان العجمي هناك يغلي حانقا لأنه سبقنا إلى المسجد وحدث له مثل ما حدث لنا، واجتمع إلينا بعد قليل عدد كبير من أصحابنا وأغلقنا علينا الأبواب وأطفأنا الأنوار إلا شمعة ضئيلة في الغرفة التي كنا بها في آخر البيت.
وبعد ساعة من جدال عنيف أجمعنا الرأي على أن نقيم لنا سرداقا كما يقيم الآخرون سرادقات لهم، فإن الإدارة لن تجد سبيلا علينا ما دامت تبيح ذلك لغيرنا، وتبرعت في حماستي بخمسة جنيهات، واندفع بعض الأصحاب يتبرعون حتى اجتمع لنا ما يكفي لإقامة السرادق واستئجار الأثاث والمصابيح، ولم أعد إلى منزلي في تلك الليلة إلا في ساعة الفجر بعد أن اتفقنا مع الفراش على إقامة سرادقنا في فضاء واسع في جنوب المدينة.
وكان اليوم التالي آخر أيام الدعاية، ولا بد لنا من أن نضرب فيه ضربتنا الأخيرة، فتفرقنا في أنحاء المدينة نعلن على الناس نبأ الاجتماع في السرادق الكبير الذي يحمل اسم «شباب دمنهور».
وقضيت ساعتين بعد الظهر في إعداد خطبتي، ثم ألقيتها مرتين لأسمع صوتي وأقدر ما يكون وقعها في الأسماع، فلما حانت الساعة الموعودة كنت مستعدا مطمئنا، وخفق قلبي سرورا عندما ذهبت إلى السرادق فوجدته مزدحما بألوف من أهل المدينة، واستقبلني جمعهم بالتصفيق والهتاف كأني أصبحت زعيما.
وقدمني الأصحاب لأتكلم أولا، وصعدت متمهلا وأخذت أخطب هادئا واثقا من عطف الأسماع، فما هي إلا دقائق قليلة حتى كنت أشعر بأني أسبح مع التيار، وعلا صوتي شيئا فشيئا واتقدت حماستي حتى لم أجد داعيا إلى قراءة خطبتي، فوضعت الأوراق وتدفقت في الحديث، وتحركت وكانت المعاني والصور تتمثل لي وتستولي على انتباهي حتى كدت لا أبصر شيئا مما تقع عليه عيني، فلم أتنبه إلى شيء إلا عندما لمحت فجأة أن هناك حركة في الصفوف المتزاحمة في السرادق، وسمعت أصواتا تتعالى عند المدخل، فتوقفت قليلا لأرى ما تلك الحركة الطارئة، فإذا الصفوف المتراصة تتحرك ثم تسري الحركة فيما يليها وما هي إلا دقيقة قصيرة حتى صار السرادق كله إلى فوضى شاملة، وبدأ البعض يتماسك بالبعض عند المدخل، وتعالت الكراسي وهبطت واهتزت المصابيح وانطفأ أكثرها، وتدافع الناس خارجين إلى الطريق من كل جانب، فلم أفهم من كل ما حدث إلا أن الاجتماع قد فشل وحلت محله معركة.
وأسرعت إلى مدخل السرادق متحفزا للعراك، والغضب يكاد ينفجر بصدري، فلما بلغت مكان المعركة رأيت بعض أصحابي مشتبكين في صراع عنيف، فاندفعت معهم أضرب بيدي وقدمي، وأصابتني لكمات كثيرة لم أعبأ بما نالني منها، ولم أقف لأفكر في جدوى ذلك العراك بعد أن ضاع علينا كل تدبيرنا، وفيما أنا منصرف بكل جوارحي إلى المعركة رأيت جمعا كبيرا يهبط علينا من أقصى الطريق وفي أيديهم هراوات يلوحون بها في الهواء ويصيحون: «يلا من هنا.» فتركت أنا وأصحابي من كان في أيدينا من الخصوم، ووقفت مبهوتا لا أكاد أصدق عيني عندما رأيت في طليعة العصابة شخص حمادة الأصفر يحمل في يده هراوة أطول من قامته، ويشير بها نحوي قائلا: «يلا من هنا!» فأغماني الغيظ عن كل حكمة واندفعت نحوه آخذا بتلابيبه قائلا: «أنت تقول لي هذا؟» وأحاط بي أصحابه ووجوههم تنطق بالشر، فتخلص حمادة من يدي وارتد إلى الوراء، قائلا في وقاحة: «لا تمد يدك إلي، يلا من هنا، قلت لك.» فقلت في حقد: «أيها النذل، أيها العبد!»
فضحك ضحكة عالية حتى بدت أسنانه ونظر إلى أصحابه الذين اندفعوا نحوي وصاح بهم: «دعوه يا جماعة، ارفع يدك أنت وهو! ثم اتجه إلي قائلا: ما لك أنت؟ أنا نذل وعبد وكلب ابن كلب. ما لك أنت؟ يلا من هنا!»
ثم وضع إصبعيه في فمه، وصفر صفيرا عاليا وقال: «اسمعوا يا جماعة! يحيا السيد أحمد جلال!» فصاح الجمع بعده يرددون هتافه وصفر لهم مرة أخرى وصفق وضحك صائحا: «هيسه!» مع المد الطويل، فضحكوا جميعا وصاحوا مثله، ثم صفر مرة ثالثة مثل القطار ورفع هراوته إلى كتفه وجرى أمام أصحابه وهم من ورائه يصيحون وتركوني واقفا في مكاني الذي لم يبق به غيري، وكان حنقي لا يزيد عليه إلا خجلي وشعوري بالخيبة، وتلفت حولي كالمذهول فلمحت حمادة الأصفر يعانق مصطفى عجوة في آخر الطريق، وا أسفاه! وطفرت الدموع من عيني وشعرت بقلبي كأن يدا قاسية تعصره، أهذا حمادة الأصفر الذي أراه حقا؟ وعدت إلى منزلي يائسا أحدث نفسي أنها مأساة مضحكة مبكية، هكذا يحشد السادة عبيدهم المحطمين دائما ليضربوا لهم أعداءهم، حتى يتمكنوا بعد ذلك أن يعودوا إليهم ليجلدوا ظهورهم بالسياط!
الفصل التاسع
تيقظت من نومي في الصباح على صوت أمي وأنا دهش من أثر السهر والتعب، ورأيتها تمد إلى يدها بورقة، فسألتها ما هي فقالت: «جاء بها رجل وقال: إنها مستعجلة.»
وكانت الورقة بخط رديء بالقلم الرصاص وفيها: «سيد زهير شياخة أبو طاقية صناعته وزان، ينبه على المذكور بالحضور في الساعة التاسعة صباحا لأمر هام إلى مركز البوليس.»
فقلت في نفسي: مركز البوليس؟ ماذا أفعل هناك؟ وبدأت أتذكر ما حدث في الليلة السابقة، وكانت الساعة عند ذلك الثامنة، فالوقت متسع لأفطر وأشرب فنجانا من الشاي، وأرتب في ذهني الحوادث التي وقعت، وقمت مسرعا لأستحم وأتوضأ، وكانت الساعة التاسعة تماما عندما بلغت مركز البوليس، ولم أكن خبيرا بأسرار مكاتب المركز، فعرجت على أول حجرة قابلتني، وسألت الجندي الذي كان فيها، فلم يرد علي لانشغاله بتلميع حذائه، وذهبت إلى الغرفة التي تليها، ولكن المكتب كان خاليا، فما زلت أخرج من غرفة إلى أخرى لسبب أو لآخر حتى بلغت آخر الردهة، وكانت طويلة مظلمة فيها حائط على اليمين وأبواب على اليسار، ووجدت في النهاية غرفة مزدحمة بأخلاط من الناس عليهم مظهر البؤس والشراسة، فعرجت على اليمين في ردهة أخرى، فوجدت في صدرها حجرة صغيرة فيها مكتب يجلس عليه جندي ضخم له أربعة أشرطة حمراء على ذراعه، وشارب مفتول في وجهه، وهممت أن أسأله عن سبب دعوتي ولكني لم أجرؤ؛ لأنه بدأ في تلك اللحظة يصيح بأعلى صوته يخاطب شابا أمامه قائلا: من أنت؟ من أنت حتى تجيبني بهذه اللهجة؟
وكان الشاب الذي أمامه طويل القامة يلبس جلبابا من الصوف على زي أهل دمنهور، وعلى رأسه طربوش وفي قدميه حذاء، فاستنتجت أنه لم يكن من عامة الشعب، ولكني لم أر وجهه؛ لأنه كان متجها إلى المكتب، وسمعته يجيب في شيء من الأنفة: أنا علي الحفار؟
فصاح به الجندي: الحفار؟ تشرفنا يا حضرة، يعني حضرتك حفار قبور؟ أو هي صناعة الوالد؟
فقال الشاب في حنق: إذا كنت لا تعرفني فلا داعي لهذا الكلام، سألتني عن اسمي وهذا هو اسمي، وأنا تاجر من أهل البلد.
فقال الجندي: تشرفنا يا أفندم. أقوم لك وأضرب السلام؟ أهكذا تخاطبني وتصيح في وجهي يا قليل الأدب؟ أهكذا تكلم ...؟
فقاطعه الشاب غاضبا: لا تخرج عن حدودك.
فقام الجندي هائجا من مقعده، وخرج من وراء المكتب صائحا: حدودي؟ ما هي حدودي يا ولد؟ أنت قليل الأدب. قليل الأدب ألف مرة وتستحق التأديب.
وأقبل هاجما عليه فضربه على وجهه ضربة شديدة اهتز لها الشاب وثار رافعا يده للإجابة عليها، فأسرعت من ورائه بغير تفكير، وأمسكت بذراعه، فالتفت إلي غاضبا ونزع يده مني.
فقلت له أهدئه: تمهل يا أخي حتى لا يتعلل هذا الرجل بأنك اعتديت عليه، كنت واقفا هنا ورأيت كل شيء وسأشهد بما حدث.
واتجهت إلى الجندي قائلا: بأي حق تعتدي على هذا الشاب؟
وهدأ الشاب نفسه على مضض، ووقف ينظر نحو الجندي في حنق، فضحك الجندي واتجه إلي قائلا: وحضرتك محام؟
ونظر إلي يفحصني من أعلى طربوشي إلى كعب حذائي، فقلت له في غيظ: ليس لك حق في ضرب أحد، ليس الناس عبيدا لك.
وكان ما يزال واقفا فوضع يده في خصره ومد رأسه نحوي مثل ديك محارب، وقال: ومن أنت أولا؟ من أنت يا حضرة؟
فأجبته متحديا، اسمع أنت يا حضرة، أنا الذي أسألك من أنت حتى تضرب الناس وتشتمهم؟ القانون لا يسمح بهذا، ويجب أن تعرف الطرق القانونية التي تتبعها.
فتقدم نحوي ثائرا وقال: يظهر أنك تريد أن تعرف القانون. القانون هو هذا.
ودفعني في صدري بعنف ليخرجني قائلا: اخرج من هنا. ليس هذا المكتب قهوة لتدخله هكذا.
ولست أدري ماذا جعلني أفقد اتزاني عند ذلك، وأقدم على العمل الذي منعت منه الشاب، فإني اندفعت بغير تفكير، ورفعت يدي بقوة، ودفعت الجندي بقبضة يدي دفعة شديدة؟ صدره ارتد منها إلى الوراء، وهو يتطوح، وسخن رأسي فوقفت مستعدا لأعيد عليه الكرة إذا عاد لمهاجمتي، ولكنه لم يتقدم نحوي بل ذهب إلى مكتبته، وخبط بيده على الجرس صائحا: ما هذه المصيبة التي تصبحنا؟ ما هذا الشيطان الشرس الذي طلع علينا؟ يا قرني! يا علي يا مبارك! يا محمد يا بو زبطة!
ودخل جندي وراء آخر، فضربوا السلام ونظروا إلى الجندي، ثم التفتوا إلي وإلى الشاب الآخر في دهشة.
فصاح بهم صاحب الأشرطة الحمراء: خذوا هذا اللعين، خذوا هذا المجرم ابن المجرم.
فصحت: اخرس.
واندفع هائجا: سأعرف كيف أؤدبك. تضربني أنا؟ نهارك أسود، وتقول لي: اخرس؟ إلى السجن حالا! أما تسمع يا قرني؟ إلى السجن حالا! مالك واقفا هكذا يا علي يا مبارك؟ يا بو زبطة يا حمار!
فأحاط الجنود بي ليقبضوا علي، فارتددت إلى الوراء صائحا في ثورة: لا تقتربوا مني!
وتحفزت لأدافع عن نفسي، فتقدموا نحوي واحدا وراء الآخر، ودفعتهم عني واحدا بعد واحد، فغضبوا وهجموا علي هجمة واحدة يضربونني ويجرونني وصاحب الأشرطة الحمراء يصيح بهم: إلى السجن إلى السجن، حالا! المجرم! الكلب! ابن ال...
فما كدت أسمعه يهم بذكر أبي حتى انطلقت من فمي شتائم لا أدري كيف تدفقت من فمي، وكانت قبضة الجنود على ذراعي الاثنتين وعلى رقبتي مثل كماشات الحديد، فحملوني غصبا وقذفوا بي في عنف إلى غرفة، وأغلقوا بابها ورائي، وكاد يغمى علي من الألم والغيظ، فلم أتنبه إلى ما حولي إلا بعد لحظات، فقمت وأعضائي كلها تنبض ألما وجعلت أتحسس جوانب الغرفة المظلمة، فعلمت أني في جحر ضيق لا يزيد على مترين في مترين، وأرضه من البلاط وهواؤه عفن الرائحة.
وكادت روحي تزهق من الضيق والحنق والشعور بالإهانة والظلم، واندفعت مثل المجنون أصيح بأعلى صوتي، وأخبط على الباب بجمع يدي غير مبال ما يصيبني من الألم، وجعلت أنطق بشتائم مقذعة وألفاظ عجيبة لو سمعتها من غيري لضحكت سخرية منها، كنت أصيح قائلا: «افتحوا لي أيها المجرمون ... أنا الشعب ... افتحوا لي أيها اللصوص، وستجدون جزاءكم ... أنا الشعب ... أنا الشعب ...» ولكن صيحاتي وشتائمي كانت ترتد إلى أذني ساخرة ضاغطة قاسية، وكلت يداي من الخبط وخارت قواي وبح صوتي، فتكومت على الأرض مستندا إلى ظهر الباب، وخيل إلي أني انتقلت إلى عالم فظيع ممقوت ليس من عالم الإنسان، وأخذت أسأل نفسي: «أهكذا يعامل اللصوص والمجرمون؟» فلو كنت مجرما بادئا أو لصا صغيرا ثم عوملت هذه المعاملة لخرجت من هذه الغرفة وأنا مصمم على أن أكون قاطع طريق وسفاك دماء.
ومرت اللحظات بطيئة، وخيل إلي أنني سأبقى هناك طول حياتي بغير أن يهتم أحد بأمري، أو يقدر أحد على إطلاقي، كأنني حشرة أو فأر أو كلب، وعدت أسأل نفسي: أأنا الشعب الذي كنت أتحدث عنه في خطبتي في المسجد وفي السرادق؟ هل أنا الشعب الذي يخطب السادة وده في دعاياتهم الانتخابية، ومن أجله ينشئون مقالات التمجيد في الجرائد اليومية؟
وتصاعد برد البلاط إلى عظامي فأحسست قشعريرة في جوفي وألما في رأسي، وغثيانا في نفسي، فقمت منتفضا، وتضاعف حنقي حتى كدت أخرج عن وعيي، وأخذت أخبط الباب مرة أخرى بيدي الاثنتين وأصيح بأعلى صوتي وأشتم وألعن وأهدد، وعزمت على أن أواصل الخبط حتى تتحطم يداي ثم أخبط بعد ذلك بقدمي حتى تتكسرا، وبرأسي حتى يتفتت، ولست أدري كيف استطعت أن أستمر على الخبط والصياح هذه المدة التي مرت كأنها ساعات طويلة، ثم سمعت بعد حين صوت المفتاح يدور في القفل، وانفرج الباب وتدفق شعاع من النور في الظلام، وتنفست حانقا وأنا ألهث من الثورة، ولا شك أن منظري كان مخيفا؛ لأن الجندي الذي فتح الباب تنحى عن طريقي في فزع، وكانت يداي تلتهبان من الألم، ولكني لم أعبأ بهما وخرجت مسرعا فاتجهت إلى غرفة الجندي ذي الأشرطة الحمراء عازما على أن أقتص منه غير مبال ما قد يكون بعدها.
وصحت بأعلى صوتي عندما اقتربت من غرفته قائلا: «أين أنت أيها النذل الطاغية، أيها العنكبوت الحقير!» ولكني لم أجده وراء المكتب، فقلت مستمرا في صياحي: «أين صاحب الشوارب المصبوغة؟ أين العنكبوت الذي كان هنا؟» فضحك الضابط الشاب الذي كان جالسا وراء المكتب، وقال: «تفضل هنا.» وأشار إلى كرسي بجانبه، وكان وجهه يتألق بشرا كأنه يرى منظرا مسليا، ولكن منظره هدأ كثيرا من فورة نفسي، وكان فتى لا يزيد على الخمس والعشرين كأنه تلميذ حسن الهيئة، وأسنانه بيضاء تلمع من وراء ابتسامته، ووجهه الأسمر الوديع الذي خلا من الشوارب يخالف في كل شيء شكل صاحب الأشرطة الحمراء.
وأعاد الضابط قوله: «تفضل هنا.» مشيرا إلى الكرسي الذي أمامه، فجلست صامتا أفرك يدي وأنا أنهج من الجهد، وكان رأسي ساخنا وحلقي ملتهبا، فقدم الضابط إلى فنجان القهوة الذي كان أمامه فلم أتردد في أخذه شاكرا، وكان ألذ شيء عندي في تلك الساعة، وكان الضابط في تلك المدة مطرقا فوق المكتب ينقر عليه بقلم ذهبي في يده، وخاتمه الماسي يلمع بأشعة براقة مع حركة يده، ودق جرس التليفون فاستند إلى ظهر كرسيه، وابتسم وأخذ في الحديث متبسطا مسترسلا كأنه لا يريد شيئا سوى ذلك الحديث، فكان يشير بيده إشارات رشيقة معبرة كأنه يريد أن يؤثر في سامعه على الطرف الآخر من السلك، وكان أسلوبه في الضحك أنيقا له نغمة ظريفة سلت من نفسي كثيرا من حنقي، ولم أستطع أن ألتفت إلى موضوع حديثه؛ لأني شغلت عن ذلك بما كان يدور في رأسي من الأحاديث الحانقة.
ولما فرغ من الحديث اعتدل في مجلسه، ونظر إلي قائلا: هيه؟
فلم أدر بأي شيء أجيبه ولا كيف أعبر له عن سخطي واحتجاجي، وما ذنبه هو إذا كان صاحب الشوارب الطويلة قد أساء إلي وظلمني؟ وقلت له هادئا: لست أدري يا سيدي ماذا أقول لك، ولكني أهنت هنا وأوذيت واعتدي على حريتي ولن أتنازل عن حقي.
فنقر على المكتب قائلا: هذا شيء آخر. على كل حال الحاج أمين مخطئ، ولكنه رجل طيب، وكان يجب عليه أن يبدأ بكتابة المحضر بغير دخول في مناقشات لا فائدة منها، ولا ضرورة لها، على كل حال لا حاجة إلى تكبير هذه المسائل الصغيرة.
فصحت: أية مسائل صغيرة؟
فقال: هذا موضوع آخر نعود إليه فيما بعد، هل أنت سيد أفندي زهير.
فدهشت وكدت أعود إلى غضبي، ولكني قلت في استنكار: نعم أنا سيد زهير.
فقال: هناك بعض أسئلة صغيرة وإن كانت خطيرة، نعم هي أسئلة صغيرة يجب أن تستوفي الإجابة عليها أولا ...
ولكن التليفون قطع حديثه مرة أخرى، فاستند على كرسيه، وأخذ يتحدث متبسطا كما فعل في المرة السابقة، وبدأت أحدث نفسي في أثناء ذلك عما أصابني من الدفع والجر وعن الجحر الأسود المظلم، وقلت في نفسي غاضبا هل يريد هذا الشاب أن يترك كل هذا بمثل هذه السهولة ويسمي كل ما وقع لي «مسائل صغيرة»؟
ولما فرغ من حديثه قلت له في غضب مكتوم: أحب أن أعرف معنى كل هذا، لم دعيت إلى هنا؟ وماذا تريد أن تفعل لتقتص لي من هذا الجندي الفظ؟ أنا فرد من الشعب، أنا الشعب إذا شئت، فهل تهدر كرامتي هكذا، وألقى في السجن مثل كل عقور ثم يقال لي: «هذه مسائل صغيرة؟»
فقال الضابط مبتسما: حصل خير يا سيد أفندي. قل لي أولا هل خطبت في مسجد التوبة؟
فقلت في دهشة: وما علاقة هذا بموضوعنا؟
فقال في هدوء: هذا هو موضوعنا، هنا شكوى لا يمكنني أن أسكت عنها، كنت أتمنى أن تمر هذه الانتخابات بسلام، ولكن ماذا أصنع في هذه الشكوى؟
فصحت: أية شكوى؟ كنت أحسب أني دعيت لكي تسمعوا الشكوى التي عندي، كنا بالأمس ضحايا اعتداء فظيع من أنصار المرشح المنافس لنا، حسبت أن في هذا البلد حكومة تمنع الاعتداء وتحفظ على الشعب حريته، هذا ما حسبت أني مدعو من أجله.
فقال الضابط محركا يده في رشاقة: هذا موضوع آخر يا سيد أفندي.
ومد يده إلى دفتر وجعل يقلب صفحاته.
فقلت محاولا أن أكتم غيظي: وهل يمكن أن ننظر في هذا الموضوع الآخر؟
فقال في هدوء: لا بد أن كل الأمور تأخذ مجراها، هذه الشكوى أولا وهي تقول أنك اعتديت على الذات الملكية.
فصحت من المفاجأة: خبر أسود!
واستمر قائلا: وأهنت الحكومة، وحرضت على قلب نظام الحكم، وفرقت بين الطبقات.
فقلت متكلفا الهدوء: متى فعلت كل هذا؟
وأخذ قلبي يدق عنيفا، ونسيت الموضوع الآخر.
وقال الضابط: هذه أقوالك مكتوبة، وإذا شئت فاقرأها.
ومد يده إلي بالورقة وأخذت أقرؤها وأنا لا أصدق عيني. كانت بعض أقوالي هناك حقا، ولكنها كانت مقتطفات مقطوعة من هنا وهناك، ووضعت كأنها عبارات متصلة، فهي أشبه شيء بمواد الديناميت المتفجرة إذا أخذ كل منها على حدة كان مأمون الجانب، وأما إذا ركب بعضها مع بعض كانت مادة مدمرة، وبلعت ريقي مرارا وأنا أقرأ والضابط ينظر إلي صامتا وهو ينقر على المكتب بقلمه الذهبي، فلما فرغت من القراءة نظرت إليه مبهوتا، فقال باسما: هيه؟
فقلت في ثبات: هذا تشويه مقصود. هذا من نوع قراءة:
فويل للمصلين
بغير تكملة الآية.
فضحك مسرورا من التشبيه، وقال: ولكنها من أقوالك أليس كذلك؟
فقلت: نعم من ألفاظي ولكنها ليست أقوالي.
فسألني: أتعرف كاتب هذا البلاغ؟
فقرأت الاسم وقلت: لا. لم أسمع بهذا الاسم في حياتي.
فنظر إلي في دهشة وقال: ألم تكن وزانا في محلج السيد أحمد جلال؟
فقلت في أنفة: هذا كان من زمن.
فسألني: وكيف لا تعرف مصطفى البلقيني؟
فتوقفت حينا أفكر ثم هززت رأسي بإصرار وقلت: لا أعرفه قطعا.
فنادى الضابط الجندي الواقف عند بابه قائلا: هات مصطفى البلقيني.
وبعد لحظة عاد الجندي ودخل بعده مصطفى، وصحت في حنق: مصطفى عجوة؟
فقال الضابط ضاحكا: أنتما صديقان على ما يظهر.
فقلت مندفعا: لا يمكن أن أكون صديقا لهذا، هذا أكذب كاذب وأنذل نذل وأجبن جبان.
فقال مصطفى في استياء: اسمع يا حضرة الضابط، اكتب هذا في المحضر.
فصحت ثائرا: أي محضر؟ أنتم مجموعة من الحشرات القذرة! من الكلاب الضالة، لا تترددون في سفالة، من أجل لقمة تافهة يلقى بها سيدكم عند قدمه تبيعون ضمائركم، ولم تتدارى يا مصطفى يا عجوة في الذات الملكية والحكومة والطبقات وكل هذه الكلمات التي لا تفهم معناها؟ أما كفاك أنك جئت بهؤلاء المجرمين بنبابيتهم لتهدموا السرادق علينا؟ هذه طريقة قطاع الطرق التي تليق بك إذا أردت أن تخدم سيدك وتستحق مكافأته.
ونظر مصطفى عجوة إلى الضابط بابتسامة بلهاء قائلا: أتسمع يا سيدي؟
فتجاهلت قوله والتفت إلى الضابط قائلا: ليس في الأقوال التي قلتها في خطبتي سوى الطعن في الأنانية والفساد والظلم والطغيان، ليس في أقوالي سوى الاحتجاج على الرشوة وانحطاط الأخلاق العامة وتعريض سمعة البلاد للسخرية بين أمم العالم، ليس في أقوالي غير التحريض على مقاطعة اللصوص وأصدقاء الشيطان والقوادين ومصاصي الدماء وأصدقاء الساقطات وسماسرة السوء، ليس في خطبتي شيء عن ذات ملكية ولا غير ملكية ولا حكومة ولا طبقات، لم أقل سوى أوصاف عامة يريد الشعب أن يتخلص من أصحابها ومن عارها ومفاسدها، فإذا كان هذا يؤخذ على أني أقصد الذات الملكية والحكومة، فالذي يقول هذا هو الذي يجب أن يسأل عن تأويله هذه الأقوال العامة وتفسيرها بأن المقصود هو الذات الملكية والحكومة، هذا هو الجدير بأن يؤاخذ ويحاكم إذا كان الأمر يدعو إلى المؤاخذة والمحاكمة؛ لأنه هو الذي يوجه الإهانة، إنها تجارة رخيصة يستغلها مثل هذا النذل كما يستغل كل سلعة رخيصة.
ونسيت نفسي وأنا مندفع في أقوالي فلم أتنبه إلى أن التليفون دق مرة أخرى، وبدأ الضابط يتحدث بطريقته الخاصة، وسكت حتى فرغ من الحديث وخيل إلي أنه يتكلم مع شخص كبير؛ لأنه كان يجيب قائلا: حاضر يا فندم! حالا يا فندم!
وعجبت عندما وضع السماعة، ونظر إلى مصطفى قائلا: اذهب أنت الآن وسندعوك إذا احتجنا إليك.
ودهشت لهذا الانقلاب الفجائي، وكدت أقول له: «أريد إذن أن أعرف ماذا تنوي أن تفعل مع صاحب الأشرطة الحمراء، ومع الذين أفسدوا علينا حفلتنا الانتخابية.» ولكني كنت متعبا كارها للبقاء في ذلك المكان الذي تعذبت فيه منذ الصباح، وكان أحب شيء عندي أن أعود إلى بيتي لأستريح من أثر ما عانيت من الآلام والهزات النفسية مع ما كنت فيه من الضعف من آثار المرض.
وقال لي الضابط: «تفضل الآن أيضا إذا شئت، وسأدعوك إذا قضت الضرورة.»
فقمت فاترا وقام الضابط ليحييني باسما، وشكرته بكلمتين مبهمتين، وسرت خارجا أسأل نفسي عن معنى كل هذا، الجحر المظلم والذات الملكية والطبقات ومصطفى عجوة، ثم هذا الانقلاب السريع من التحقيق إلى التحية الباسمة، ولكني كنت في حالة إعياء، وكنت تلوح أمام عيني في كل خطوة أخطوها مناظر أسرة أريد أن أستلقي عليها.
وفتحت باب البيت ودخلت إلى غرفتي آخر الأمر متسللا؛ حتى لا يراني أحد، واستلقيت على السرير بملابسي.
الفصل العاشر
كنت أحسب أن النوم يسعفني لشدة تعبي، ولكني أحسست بأن كل عصب في جسمي مشدود إلى مداه، وأن كل عرق في بدني يرف، وأن هموم الحياة كلها تتجمع في أعماق صدري، فوضعت يدي تحت رأسي ونظرت إلى سقف الغرفة، وأخذت أعد عروق الخشب مرة بعد مرة لعلي أغفل وأغمض عيني، وهي حيلة كنت ألجا إليها لأصطاد النوم إذا شرد عني، ولكني أعدت العد حتى مللت، ورأسي ما يزال مشدودا كأنه يريد أن ينفجر، وجعلت أدقق في العروق القديمة السمراء، وكانت كثيرة العقد، وجلت بنظري في الألواح الغبراء اللون التي تحتها، وقد زالت عنها قطع واسعة من دهانها الجيري القديم، وكانت بعض أنسجة العنكبوت تلتصق في حناياها وزواياها، والعناكب السوداء في داخلها تتربص بفرائسها وتداعب خيوطها بأرجلها الطويلة راضية عن نفسها، ورأيت منها عنكبوتا ضخمة تتحفز لذبابة حمقاء تقترب من بيتها، فقلت في نفسي: «هذا هو!» ولو كانت في تلك العنكبوت شارة حمراء لما شككت في أن الله قد مسخ إليها الجندي الفظ صاحب الأشرطة الحمراء، ورأيت برصا كبيرا له لون أحمر قاتم، وكان واقفا في ركن السقف، فتعجبت كيف لا يهوي إلى الأرض وهو يمشي مقلوبا برجليه إلى أعلى، وكان غليظ الجسم كبير الرأس، وكان وجهه منقطا بآثار تشبه آثار الجدري كأنه وجه مصطفى عجوة، هذه الحشرات القذرة التي تتربص بفرائسها وتلتصق بأقدامها إلى السقف وتدلي رءوسها إلى أسفل!
وكان هناك ثقب في جانب اللوح يصلح أن يختفي فيه البرص ويتدارى عن عيني، ولكنه لم يفعل، حتى الأبراص لا تحب الجحور المظلمة، وأما أنا فإني أسجن في تلك الغرفة الخانقة ويغلق علي الباب، وما تزال قبضة يدي تؤلمني من أثر الخبط وما تزال أنفاسي تضطرب من أثر الغيظ.
ونظرت إلى الساعة التي في يدي، فوجدتها الثانية بعد الظهر، وأرهفت سمعي إلى حركة البيت فلم أسمع حسا، وكان عجيبا أن يكون الهدوء عميقا في يوم الجمعة وأمي وأختي بالمنزل، وشعرت بشيء من الخيبة؛ لأني بقيت في الغرفة وحدي، ولم يسأل أحد عني.
وعدت أنظر إلى السقف، وغاظني منظر البرص والعنكبوت فأغلقت عيني حتى أتجنب النظر إليهما.
ولم أدر كم كانت الساعة عندما بدأت أغفو؛ لأني لم أتنبه من نومي إلا بعد المساء، وكانت أمي جالسة في سكون إلى جانب سريري تنظر نحوي، والدموع تسيل من عينيها الحمراوين، فلما فتحت عيني قامت إلي وأهوت على جبيني تقبلني وهي تبكي بكاء مرا.
وقالت في بكائها: لم تعرض نفسك للأذى يا ولدي؟
وجلست على الكرسي تمسح عينيها، وقالت: لم نعرف ما حدث إلا من هذه الورقة التي تركتها على المنضدة، لم تقل لي كلمة وأنت خارج وتركتنا هكذا لا نعرف أين أنت ... ولما قرأت منيرة الورقة اصفر وجهها كأنه ليمونة، فعرفت أن في الورقة شيئا مزعجا ... إنها داهية كبيرة يا ابني، وحماك الله من مركز البوليس ومن كل ما يؤذيك، وأما عبد الحميد فالله يبارك فيه ... هذه دعوة خالصة من قلبي ... الله يحميه لأمه المسكينة ... لم أر أمه منذ سنين، ولما رأيتها وجدت كأني لم أنظر إليها منذ مائة سنة ... وطلبت منها أن ترجو عبد الحميد أفندي ليذهب معي إلى أحد المحامين وإلى مركز البوليس لنعرف السبب في دعوتك إلى هناك ... وفي دقيقة واحدة كان عبد الحميد أمامي، وأراد أن يخرج وحده ليعمل كل شيء وهو لا يعلم أن قلبي يشتعل ... هكذا الشباب دائما لا يعرفون قلوب الأمهات، ولكني قمت معه لأراك ولو من بعيد ... مركز البوليس؟ إنها داهية كبيرة، وركبنا عربة ولم أعرف ماذا قال عبد الحميد أفندي للسائق، حتى نزلنا أمام بيت السيد أحمد جلال ...
فوثبت من سريري وقلت في صيحة مبحوحة: السيد أحمد جلال؟
فقالت أمي: الله يستره السيد أحمد ويحميه يا ابني، والله لولا هو لما أمكننا أن نعمل شيئا ... ومن كان يقدر أن يكلم الحكام كما كلمهم؟ ... ومن كان يقدر أن يجعل المدير يأمر الضابط ...
فقاطعتها في ضيق: كانت الحجرة المظلمة أهون علي من هذا.
فصاحت وهي تخبط صدرها: الحجرة المظلمة؟ يا للمصيبة! قلبي أحس بهذا عندما عرفت أنك في مركز البوليس، حيث يذهب اللصوص وقطاع الطريق والفلاحون المجرمون ... الله يبارك فيك يا سيد أحمد يا جلال.
فعدت مستلقيا على ظهري، ووضعت يدي تحت رأسي، وعزمت على أن أستغرق في التفكير في العنكبوت؛ لأصرف نفسي عن سماع أقوال أمي، ووضعت أمي يدها على رأسي وأخذت ترقيني، ودخلت منيرة عند ذلك فقالت في مرح: الحمد لله على السلامة، كفارة يا سيد بك!
فلم أرد عليها، وفرغت أمي من القراءة فالتفتت إلى منيرة قائلة: لا تنسي أن تزوري مني يا حبيبتي، حماها الله وحمى الشباب جميعا، كانت تحيي أختك كأنها أختها وجلست طول الوقت جنبي ومالت على يدي وهي تسلم علي عند انصرافي.
يا رب يا ابني أعيش حتى أرى لك عروسا مثلها، كانت أمها من الفرحة مثل شابة بنت عشرين سنة، العقبى لك يا ابني، كان الباشا هناك ليقدم الشبكة.
وأحسست برأسي يدور لانتقال أمي في حديثها من موضوع إلى آخر، ولكني ما كدت أسمع ذكرها لمنى حتى تحولت كل أعصابي المشدودة إلى آذان، عروس مثلها؟ والعقبى لك يا ابني؟ والباشا يقدم الشبكة؟ فهل كان مصطفى عجوة صادقا؟
وقلت في صوت خافت: شبكة من؟
فقالت أمي: شبكة منى، وعريسها محمود خلف، الله يحمي الشباب يا ابني.
فطنت أذناي وحاولت أن أصرف النظر إلى السقف، ولكني لم أر أمامي شيئا، ودوت في رأسي رحى تقول كلمة واحدة: «شبكة منى!»
ولولا وجود أمي وأختي إلى جانبي لأدرت وجهي إلى المخدة وبكيت حتى أخفف الضغط الذي ملأ قلبي.
وقلت لأمي متكلفا الهدوء: أحب أن أستريح قليلا.
ووليتها ظهري كأني أريد أن أنام.
ولما أغلق الباب من وراء أمي وأختي وجدت نفسي أنفجر باكيا كأني طفل بائس، ومرت علي ساعة مظلمة قبل أن أسمع صوت أمي من خارج الباب تناديني: أنت صاح يا سيد؟
فقلت في فتور: من؟
فقالت: عبد الحميد أفندي هنا.
فقلت: سأحضر حالا.
وقمت مسرعا لأغسل وجهي أولا، وتعمدت أن أبدل قميصي، وأمشط شعري حتى أبدو نشيطا وذهبت إلى غرفة الجلوس، فأخذني عبد الحميد بين ذراعيه وكان قلبي يفيض بشكره، ولكني لم أقل له سوى كلمة عتاب: أهكذا تحملني جميل السيد أحمد جلال؟
فقال في جد: لم يكن أمامي إلا أن ألجأ إليه هو، أدركت من أول الأمر أنه هو الذي حرك عليك البوليس، وأنه هو الذي يقدر على صرف البوليس عنك.
وشعرت بكلمته تلذعني، ولكني لم أجب بل أخذت أقول في نفسي ساخرا: «أنا الشعب!»
وأخرج عبد الحميد من جيبه بعض أوراق، ثم مد إلي يده بظرف أنيق قرأت عليه اسم «بريد الأحرار»، فأخذته منه في فتور قائلا: ما هذا؟
فقال: هذا خطاب جاء إلي الآن من صديقي علي مختار، فاقرأه وقل لي رأيك.
وأخذت أقرأ الخطاب وعيناي تقفزان فوق الأسطر حتى بلغت آخره ووجدته يستحق أن يقرأ في عناية، فأعدت قراءته مرة أخرى ولا شك أن وجهي كان ينطق بما في نفسي من الاهتمام، محرر في بريد الأحرار؟ وعشرون جنيها في الشهر دفعة واحدة سوى أجر القصص التي أكتبها؟ خمسة جنيهات للقصة الواحدة؟
وأعدت الخطاب إلى صاحبي وأنا صامت وذهني مشتعل، وماذا بقي لي في دمنهور؟ أأبقى هناك لأحضر حفلة خطبة منى؟ يا للسخرية! ولكني تذكرت المعركة التي دخلت من أجلها الحجرة السوداء، وقلت لصاحبي في دفعه: لن أستسلم هكذا.
فقال: لست أفهم.
فقلت: سأبقى هنا حتى تنتهي المعركة.
فقال: حتى بعد هذا الجميل الذي قدمه السيد أحمد جلال؟
فقلت في عناد: بل من أجل هذا الجميل.
فقال في تهكم: ولكن المعركة كادت تنتهي أو قد انتهت.
فقلت متحديا: إنها لم تبدأ بعد، سيعرف السيد أحمد جلال أني لا أرهبه، سيعرف أنه لا يقدر على تحطيمي، لقد قال لي مرة إنه يستطيع أن يسحقني وأن يحطمني، وأظنه يحسب الآن أنه جعلني أعرف مقدرته على ذلك، لن أترك دمنهور حتى يعرف أنه لا يستطيع أن يحطمني.
فقال عبد الحميد في هدوء: إذا شئت أن تحارب وحدك فافعل. اجعلها معركة من جانب واحد مثل دون كيشوت إذا شئت.
فقلت في غيظ: لن أترك المعركة.
فقال: حتى بعد أن تنازل العجمي؟
فصحت: مستحيل!
فقال: هذه هي الحقيقة، لقد تنازل العجمي عن ترشيحه.
فقلت في مرارة: نذل آخر، لا شك أنه لم يكن في تمام عقله.
فقال ضاحكا: بل كان في تمام عقله؛ لأنه عرف مصلحته.
فقلت: إنها سخرية. عبث دنيء وإهانة للشعب الذي كنا نتحمس له، هل كنا نخدع الناس ونهزأ بهم عندما كنا نتحدث إليهم، لست أدري ماذا حمل ذلك الأحمق على هذا التنازل.
فقال في سخرية: كان تعويضه عظيما.
وامتلأت غيظا لقول صاحبي كأنه هو الذي تنازل عن الترشيح.
وصحت به: أي تعويض؟
فأجاب باسما: التعويض عن رسوم الانتخاب وعن الأضرار التي أصابته في هدم السرادق وعن أتعاب أنصاره الذين كانوا يقومون بالدعاية لترشيحه.
فقلت حانقا: النذل! أتعاب أنصاره ؟ هل نحن هؤلاء الأنصار؟ أكان العجمي يستأجرنا للدعاية؟ ألم يدفع له أهل المدينة تأمين الانتخاب؟ ألم نجمع نحن فيما بيننا أجرة السرادق؟ هل قال حقا إنه كان يدفع أجرا للأنصار الذين كانوا يساعدونه بالدعاية؟
فقال كأنه يريد غيظي: طبعا، وهذا ما يقوله الناس جميعا. هل يظن أحد أن هناك حمقى يساعدون مرشحا لوجه الله تعالى؟
وكنت أزيد غليانا كلما رأيته يضحك ساخرا، ولكني كدت أنفجر غيظا عندما استمر قائلا: واعلم أيضا يا سيدي العزيز أن محمد باشا خلف تنازل هو الآخر للسيد أحمد جلال، أما تزال تريد أن تخوض المعركة؟
فوثبت على قدمي كأني أتحفز لمصارعة، وتمنيت لو كانت الحجرة واسعة فأنطلق فيها صارخا كالمجنون ألعن وأشتم وأهتف بسقوط الأنذال جميعا، أهكذا تجري الأمور؟ ولم تنازل محمد باشا خلف؟ أكانت منى ثمنا لتنازل الباشا الأجوف؟
وقلت لصاحبي في حقد وحنق: سأسافر غدا إلى القاهرة في أول قطار.
ثم عدت إلى مقعدي خائرا كأن هذه الوقفة القصيرة كانت مجهودا شاقا، وأخذت أحدث نفسي بصوت عال: إنها مخزاة أن نعيش في مجتمع كهذا، الرجال عبيد يساقون بالسياط أو يشترون بالمال، والنساء أيضا يعرضون في أسواق الرقيق كما كانت الجواري تشترى، الذهب هو المعبود، ومن أجل الذهب يبيع الجميع كل ما عندهم حتى الحرية والكرامة، وحتى الحب، هي معركة أكبر خطرا لا تتسع لها دمنهور.
وكان عبد الحميد ينصت إلي وهو مطرق مستند إلى ذراعيه فوق المنضدة، وقال ولم يرفع رأسه: هذا صحيح يا صديقي، اذهب أنت وجاهد بقلمك وأعاهدك على أن أذهب أنا كذلك وأستمر على جهادي في مدرستي، لا أمل لنا في شيء إلا أن نعلم ونعلم ونعلم حتى تذهب هذه الأجيال الملوثة، ثم يخرج جيل جديد، أنا أعلم في المدرسة وأنت تعلم بقلمك في الصحافة حتى ينشأ جيل جديد يستطيع أن يفهم الحرية والأمانة والصدق.
فصحت مندفعا: هذا عين الخطأ يا سيدي، لست أقصد شيئا مما تقول يا سيدي، هذا خطأ يقع فيه كل الذين يفكرون بعقولهم وحدها. ماذا يعنيني من قلمي ومن مدرستك؟ إذا كان لا بد لنا أن ننتظر حتى ينشأ جيل يستطيع فهم الحرية والأمانة والصدق فلننتظر طويلا. لا أفهم هذا أبدا.
فقال: وماذا تفهم إذن؟
فقلت في غل: لا أفهم سوى ما يفهمه كل حي، أفهم أن أذهب لأجاهد، وأجمع الناس من أهل هذا الجيل نفسه ليجاهدوا، هؤلاء الذين أعيش بينهم وأراهم وأعاملهم هم الذين يقع عليهم واجب الجهاد من أجل حريتهم وكرامتهم وحقوقهم المسلوبة، لا شيء غير أن يقوم العبيد بالثورة من أجل حريتهم.
فقال في ثبات: هذا تكليف الطبيعة فوق طاقتها، العبيد لا يعرفون الحرية ولا يتحمسون لها ولا يجاهدون من أجلها، الأدب والعلم مثل قطرات الماء تنزل على الصخور قطرة قطرة فتذيبها وتحللها.
هذا محقق وإن كان يحتاج إلى زمن.
فصحت ساخرا: الزمن! الخرافة! ألست أنت الذي قلت إن الزمن لا معنى له إلا في عقولنا؟ ما هذه التشبيهات المضللة؛ الماء والصخرة والقطرات التي تنزل نقطة نقطة؟ هذه كلها مغالطات نلجأ إليها عندما لا نريد أن نعرض أنفسنا للمجهودات الشاقة أو الأخطار الشديدة.
فقال في تحد: كأنك تريد الثورة.
فقلت في غيظ: أتريد أن ترهبني بهذا السؤال؟ نعم أريد الثورة ولا شيء غير الثورة.
فهز رأسه قائلا: أنا أخالفك هنا. الثورة الشعبية تدمر ولا تفكر، ولو فرضنا أن الثورة نجحت فإنها لن تجد الشعب الذي يحسن الاستفادة منها. قد نرضى عن الثورة التي تدمر إذا جنينا من ورائها خيرا، ولكن الثورة التي لا يستفاد منها لا تكون إلا شرا محضا.
فقلت في عناد: وماذا يمنع من أن نستفيد من الثورة؟ لقد قرأت كثيرا عن ثورات التاريخ، وتعلمت من ذلك حقيقة واحدة خالدة، نحن جميعا من البشر وفينا جميعا عناصر الخير والشر، وفينا عناصر القوة والضعف، في نفوسنا الأنانية والتضحية، وفينا الشجاعة والجبن، وفينا العدل والطغيان، نحن ننطوي في الوقت عينه على السماحة واللؤم وعلى السمو والإسفاف، من الممكن أن تتغلب علينا عناصر الشر التي فينا، كما أنه من الممكن أن تتغلب علينا عناصر الخير، العبرة بالقوة التي تثير هذه العناصر أو تلك.
فقال في هدوء: عظيم يا سيدي، ولكن هل نسيت أنك تجعل كل الأمور متوقفة على شرط غير موجود؟ أين هذا المحرك الذي يبعث عناصر الخير؟ هذا المحرك لا وجود له إلا في داخلنا، وعلينا أن نخلقه في الناس بالأدب والتربية.
فقلت في عناد: المسألة مثل الحلقة المفرغة، لن نستطيع أن نصلح داخلنا ما دامت السيادة في أيدي الأنذال والأشرار والسفلة.
ولا نستطيع أن نصلح أمورنا إلا إذا أصلحنا داخلنا، حلقة مفرغة لا نعرف أين طرفاها.
ليس أمامنا إلا أن نثور على هؤلاء السادة المفسدين لنخلع عنا نيرهم ونحل في محلهم من يثير في الناس عناصر الخير، نحن الشعب، نحن العبيد المحطمون، علينا أن نثور إذا شئنا أن ننجي أنفسنا من العار ونحمي ظهورنا من ضرب السياط، الثورة ولا شيء غير الثورة!
فقال صاحبي في نغمة حزينة: قد أوافقك إذا أمكن أن تكون الثورة عاقلة لا تهدم بل تبني وتضع الأمور في أيدي الحكماء لا الحمقى، ولكن هيهات!
فقلت في تبرم: هادئ مثل الملائكة!
فرفع رأسه وكان وجهه محتقنا كما كان يحتقن في صباه إذا كبت شعوره، ثم قال: كنت دائما تتهمني بالهدوء وتقصد بذلك الفتور؛ لأني لا أرضيك بالتحمس الثائر، لا يا سيدي فأنت لا تعرف ما في داخل قلبي، لست أخشى الثورة ولكني أخشى الفوضى.
وضاق صدري من هذا الجدل، فقلت وأنا قائم: هذا أسلوبك في التفكير دائما: أنت تريد أن تنتظر مع الزمن مع أنك تؤمن بأن الزمن خرافة، وأن الحركة هي الحقيقة، وأنا أريد أن أستعجل الأمر بإحداث الحركة القوية التي تختصر الزمن.
فقام ومد يده مصافحا وقال مبتسما: هذا حسن يا صديقي، دعني أمد لك يدي لأقول لك: إننا مختلفان حقا في الأسلوب وإن كانت غايتنا واحدة، لعل في طبعك أن تكون مجاهدا في الطليعة، فدعني أنا لأكون مجاهدا في المؤخرة.
فقلت وقد شعرت بالأسف على عنفي: أحب أن تعرف يا صديقي مبلغ شعوري بأني مدين لك .
وشددت على يده في إخلاص، ثم قلت: سأحاول أن أعود إليك بين حين وآخر؛ لأتزود من أحاديثك، فإنك بمناقشاتك تفتح لي آفاقا جديدة ما كنت أراها.
وقمت لأشيعه إلى الباب وأنا شاعر بأني أشيع أستاذي.
الفصل الحادي عشر
قمت مبكرا في اليوم التالي لأسافر في أول قطار إلى القاهرة، وجلست للإفطار مع أمي وأختي، وأحسست عند ذلك بأني مقدم على خطوة خطيرة، سأفارق كل من لي في الحياة، وسأترك دمنهور التي عرفتها حارة حارة وبيتا بيتا ودكانا دكانا، وخيل إلي أنها أعز البلاد وإن كنت قاسيت فيها ما قاسيت، ولم أجد قبولا لأكثر من فنجان من الشاي باللبن، وقبلت يد أمي في شغف، وحملت حقيبتي وعرضت علي منيرة أن تسايرني في ذهابها إلى المدرسة حتى نبلغ المحطة، ونزلنا ودعوات أمي تشيعنا من فوق السلم، ولم أنس أن أقرأ الفاتحة لسيدي «أبو طاقية» عندما مررت قريبا منه، وأخذت أحدث أختي عن خطتي التي عقدت النية عليها: وهي أن أفارق دمنهور العزيزة إلى الأبد، وشعرت بغصة في حلقي وأنا أقول لها هذا، وكدت أحدثها عن منى، ولكني لم أجرؤ، فاكتفيت بأن قلت لها: هل أعددت ثوبك الجديد؟
ولكني ارتبكت عندما تذكرت أنها لم تدع لحفلة الخطبة إلا منذ ليلة، فأسرعت قائلا: عندك أسبوع كامل لتذهبي إلى خياطة ماهرة، ستكونين بغير شك أجمل فتاة هناك.
فقالت باسمة: ما عدا منى طبعا، إنها أظرف فتاة عرفتها وكأني لم أفارقها منذ كنا أطفالا.
وكان بودي أن أسألها: هل كانت سعيدة؟ وهل قالت لها شيئا عن خطيبها؟ وهل سألتها عني؟ ولكني لم أجرؤ، وتركتها تسألني عن نيتي في الإقامة بالقاهرة، وهل أعتزم الإقامة وحدي أم ننتقل جميعا لنكون معا، وأخذت أجيبها إجابات مبهمة؛ لأني كنت في الحقيقة لا أدري بم أجيب.
وبلغنا المحطة فصافحتها بهزة من يدي وأخرى من قلبي، وسرت مسرعا والحقيبة الخفيفة تهتز في يدي، وخيل إلي أن منظر الميدان وما حوله من الأبنية أجمل المناظر، وأن نسيم الصباح الرطب أروح الأنسام، وعرجت على شباك التذاكر، فاشتريت تذكرة من الدرجة الثالثة ودفعت جنيها من الجنيهات العشرة التي أخذتها من أمي قبل خروجي، ثم سرت لأهبط إلى المحطة فسمعت صوتا من خلفي يصيح قائلا: «يا أفندي.» فالتفت إلى ورائي، وكان أحد الحمالين يناديني قائلا: «نسيت بقية الجنيه.» فعدت إلى شباك التذاكر واسترددت ما بقي لي، ثم اشتريت نسخة من «بريد الأحرار» من بائع الصحف وكان منظرها في عيني بديعا، وأخذت أتأمل عناوينها الكبرى باللون الأحمر واللون الأسود والصور الأنيقة التي تزين صفحاتها، وداخلني شعور بالاعتزاز بأنها جريدتي.
وجاء القطار وكان الزحام شديدا، فاستطعت بعد جهد أن أدخل العربة وأضع حقيبتي على طرف الرف، ووقفت على مقربة من الباب، وارتكنت على ظهر المقعد الذي ورائي، وأخذت أقلب صفحات الجريدة على مهلي.
ولكن الحقول الخضر كانت تنتزع نظري من الصحيفة، فلم أستطع أن أقرأ شيئا، كانت جوانب الطريق بساطا أخضر من القمح والبرسيم تزدهر بما فيها من النوار والبقر والغنم والأطفال في ملابسهم الملونة، ورأيت طفلا عاريا كما ولدته أمه يتمرغ في طين بركة، فلوحت له بيدي ورد علي التحية بأن قذفني بحفنة من الطين، وبصق في وجهي من بعيد، مسكين هو الآخر؛ لأنه لم يعرف للتحية ردا سوى هذا، وفيما كنت سابحا في أفكاري شعرت بيد تسحب الجريدة من تحت إبطي، فالتفت إلى الوراء لأرى رجلا ضخما في المقعد الذي ورائي يبتسم لي قائلا: «تسمح؟» ولم ينتظر حتى أسمح وأخذ الجريدة قبل أن أقول له: «تفضل.»
ولما وقف القطار في المحطة التالية خلا المقعد الذي إلى جنب الرجل، فدعاني للجلوس وبدأ يحدثني، فقال: إلى أين؟
فقلت مختصرا: إلى مصر. - أنت موظف؟
وتمنيت لو سكت ولكنه استمر قائلا: أنت أبونيه؟ - لا. - لا مؤاخذة، أظنني كنت مخطئا، هو يشبهك تماما. - من هو؟ - علي أفندي مبارك الأبونيه. اسم الكريم؟ - سيد زهير. - تشرفنا، كنت في يوم من سنتين - ولا مؤاخذة - كنت أركب هذا القطار نفسه، فركب علي أفندي الأبونيه من دمنهور، وكنت لا أعرفه، وتعارفنا كما نتعارف نحن الآن، ونصب علي في جنيهين.
ولم أجد جوابا فبقيت صامتا.
واستمر يقول: من ذلك اليوم صرت أتوقع أن أراه كلما مررت بمحطة دمنهور، ومن العجيب أن الجميع يشبهونه؛ ولهذا سألتك هل أنت أبونيه.
فانفجرت ضاحكا وقلت: أشكرك، على كل حال لست أنا.
فضحك هو الآخر قائلا: لا مؤاخذة، يخلق من الشبه أربعين ...
ومد رجليه واستند إلى الكرسي قائلا: فرصة سعيدة على كل حال، أنا الحاج عبده صاحب محل الصابون العطري.
فقلت: مصنع؟
فأجاب ضاحكا: كل الناس يقولون هذا إذا سمعوا الاسم، ولكنه صالون حلاقة وأرجو أن تشرفنا، شارع المحطة بكفر الزيات، مع السلامة!
وكان القطار قد هدأ سرعته للوقوف في المحطة، فقام الرجل يستعد للنزول، وسألني أن أساعده على حمل ربطاته الكثيرة، فناولته إياها من النافذة وانشغل عني بمقاولة حمال المحطة حتى تحرك القطار.
وجلست إلى جانب النافذة في المكان الذي خلا من الرجل، وأخذت أنظر فيما حولي، ثم استرعى سمعي خصام رجلين من الركاب، وما لبث أن اشترك سائر الركاب في المناقشة، وأصغيت إلى حديثهم الحانق مرغما، وأنا أعجب من حرصهم على النزاع مع أنهم في رحلة، ولكني رجعت إلى نفسي فقلت: إن الخصام أمر طبيعي لا حيلة للناس فيه وإن كانوا في رحلة قصيرة، وهل حياتنا نحن إلا رحلة قصيرة مهما طالت؟
واستمرت المناقشة تخبو حينا وتستعر حينا حتى اقتربنا من القاهرة، فكانت تسلية مفيدة سهلت على الركاب قطع الوقت بغير أن يملوا، ألسنا نفعل ذلك عندما نقضي حياتنا في خصومات متصلة؟
ووصلت إلى القاهرة أخيرا وركبت الترام إلى «بريد الأحرار»، ولما صرت أمام المبنى الكبير وقفت في حيرة لا أدري ماذا أصنع بحقيبتي، ولو كانت حقيبة محترمة لما همني أمرها، ولكنها كانت قديمة من الورق المقوى ولا أعرف كيف أسمي لونها؛ لأني نسيت ماذا كان لونها عندما كانت جديدة، وكان لها قفل واحد سليم يعلوه الصدأ، وأما الآخر فكان يأبى إلا أن يمد لسانه إلى فوق كأنه يسخر مني، ورأيت على مقربة من الدار دكان بقال فذهبت إليها لعل صاحبها يرضى بإيداع الحقيبة عنده حتى أعود من مقابلة الأستاذ علي مختار، وكان صاحب الدكان رجلا كهلا له لحية وخطها الشيب وتبدو على ملامحه الطيبة، ولكنه بعد أن رد على السلام في بشاشة لم يرض أن أودع الحقيبة عنده خشية من أولاد الحرام الذين اعتادوا أن يضعوا في حقائبهم أشياء خبيثة يدسونها على الناس ليوقعوهم في التهم.
ففتحتها له وأنا في خجل شديد منها، وأخذت أنفض له كل قطعة فيها ليرى براءتها حتى قبل آخر الأمر أن يودعها عنده.
الفصل الثاني عشر
كانت المقابلة الأولى بيني وبين الأستاذ علي مختار مرضية لكبريائي؛ فقد استقبلني في مكتبه الأنيق مرحبا باسما وناداني قائلا: مرحبا يا أستاذ سيد.
وهو شاب صغير الجسم له نظرة تدعو إلى الإيناس وصوت مليء يبعث الثقة، ونظر في وجهي أو بقول آخر نظر في عيني ولم يفحص بنظراته ملابسي ولا حذائي، بل لم يلتفت إلى لحيتي التي طال شعرها، وهو في مثل سني، ويسترعي النظر بعنايته بملابسه وشعره ورباط رقبته، وفي يده خاتم يلمع في ضوء الكهرباء، وفي صدره دبوس ذهبي له فص لا يقل عنه لمعانا، ولم يقم لاستقبالي بل مد يده نحوي وهو جالس وأشار إلى كرسي بجواره ودق الجرس ثم طلب فنجانين من القهوة.
ولم يضع وقتا في كلام كثير، ولكني شعرت من أول لحظة بارتياح واطمئنان؛ ولهذا لم أتحفظ في كلامي كما كنت عازما من قبل. سألني: متى وصلت إلى القاهرة؟
فقلت: ظهر اليوم.
فقال: آسف إذا فاتتني فرصة الغداء معك.
فقلت ضاحكا: فاتتني أنا.
فقال باسما: وأين نزلت؟
فقلت: لا تزال حقيبتي عند الشيخ مصطفى حسنين، وهو بقال قريب من هنا.
فضحك ملء صدره قائلا: بداية حسنة.
وتذكرت كلمة مثلها قالها لي السيد أحمد جلال في موقف يختلف كل الاختلاف عن موقفنا هذا، ومع انصرافي التام إلى حديث الأستاذ علي مختار لم أملك نفسي من العودة حينا إلى صورة منى، أما من سبيل لأعلمها بأني أصبحت في القاهرة ومحررا في بريد الأحرار؟
وجاء الفراش يحمل القهوة فأتاح لي فرصة لتأمل صورة منى، لقد بدت لي في آخر مرة رأيتها فيها مثل الزهرة البديعة تظهر في بستان رائع من وراء السور الشائك، فرسمتها في قصيدتي وناجيتها كما أناجي الزهرة الجميلة التي لا أستطيع أن أمد إليها يدي، وها هي ذي الأيام تظهر لي أن ذلك الخاطر كان أصدق من نبوءة.
ولما رفعت بصري إلى الأستاذ علي مختار وجدته ينظر إلي فاحصا، فاعتراني شيء من الارتباك ولكني سارعت إلى التغلب عليه، وأخذ يسألني عن صاحبي عبد الحميد ففتح لي بابا واسعا من الحديث، وانطلقت أحدثه عن الاختلاف الذي بين نظرتي إلى الأمور وبين نظرته، بين الثورة السريعة وبين التطور الذي ينتظر مرور القرون قبل أن يهيئ الشعب للحرية.
وكان يستمع إلي في صمت كأنه يريد أن يسبر أغواري.
ولما فرغت من حديثي وجدته ما يزال ينظر إلي باسما وقال: أشكرك على الإسراع إلى إجابة رجائي، وأعتذر إليك من قلة المرتب الذي عرضته عليك.
فقلت مسرعا: هذا فوق الكفاية.
فتبسم قائلا: أنت رجل طيب فترضى هكذا سريعا، ولكن الجريدة تشق طريقها برغم كل شيء، وسنكبر معا.
فقلت متحمسا: أنا سعيد بأن أعمل معك يا سيدي.
فقال مبادرا: أحب أن أبين لك طريقتي في العمل حتى لا يداخلك شيء من سوء الظن عندما تعرف أنك ستبدأ عملك بقراءة البروفات، هذه هي طريقتي.
فقلت في سري: «هكذا أبدأ دائما: كتابة الأرقام على البالات هناك وقراءة البروفات هنا.»
وأخرجت من جيبي مجموعة من الأوراق فيها قصة جديدة، ومددت بها يدي نحوه.
فأخذها قائلا: قصة أخرى؟ أهنئك يا أستاذ سيد ببراعة أسلوبك، ولا تظن أني أقلل من شأنك عندما أطلب منك أن تراجع البروفات، هذه طريقتي عندما يدخل إلى الأسرة عضو جديد، أحب أن يتعرف هذا العضو الجديد إلى كل الأعضاء الآخرين وأحسن وسيلة لمعرفتهم هي قراءة أفكارهم في دقة واهتمام، ستعرف أفراد هذه الأسرة من ناحيتها الهامة وهي أقلامها.
فقلت مسرورا: هذه نظرة صائبة وأنا سعيد بأن أعمل معك .
ووقفت لأنصرف فمد إلي يده مصافحا، ولكنه وقف لي في هذه المرة قائلا: إلى اللقاء غدا في الصباح.
وخرجت من عنده وأنا أسأل نفسي أي صنف من الناس هو، ومع كل ما ظهر لي من بشاشته وأدبه خرجت من عنده وأنا أحس أنه أعمق غورا مما يبدو.
وذهبت إلى دكان الشيخ مصطفى فوجدته جالسا على الدكة عند مدخل الدكان وفي يده رغيف محشو بجبن يقضم منه، فلاقاني كما لو كنا أصدقاء منذ سنوات وقال لي: مرحبا.
وفسح لي مكانا إلى جنبه وأخذ يسألني عما جئت من أجله، ولما علم أني كنت مع الأستاذ علي مختار قال في حماسه: علي بيه؟
فقلت: أتعرفه؟
فأجاب ضاحكا! أراه كل يوم ولكني لا أعرفه.
وكنت لم أطعم شيئا منذ الصباح فقلت: أتسمح لي بشيء من الطعام؟
فمسح فمه بيده قائلا: رغيف وجبنة وحلاوة وسردين وكل ما تريد.
وقام ليجهز لي الطعام ثم وضعه على الدكة فوق ورقة قديمة من أوراق الصحف قائلا: تفضل بألف هنا.
وأخذت آكل بشاهية عظيمة وهو يبادلني الحديث، وأخذ يسألني عن قصدي حتى عرف أني جئت لأعمل محررا في الجريدة.
ولما عرف أني من دمنهور قال لي: تشرفنا، أحسن تجار أهل دمنهور.
فقلت مباهيا: وأنا كذلك كنت تاجرا.
ففرك يديه بعد أن فرغ من طعامه وقال: الحمد لله، رضا، اسمع يا أفندي، الأرزاق بالله فلا تحزن ولا تيئس، التجارة مثل المرأة اللعوب تضحك مرة وتغضب عشرين، هل خسرت كثيرا؟
فقلت: لم أخسر بل ربحت.
فقال في دهشة: ومع ذلك تترك التجارة؟ وماذا تريد من هذه الجريدة؟ تكتب فيها؟ ما هذه الخيبة! اسمع يا سيدنا الأفندي، إذا كنت لم تخسر في التجارة فارجع إليها حتى تخسر، اسمع نصيحتي ولا تشتغل في الجرائد، كلام فارغ، كل جريدة تشتم الأخرى وكل كاتب يقول للآخرين: «أيها اللصوص» «أيها الخونة» يعني إن الجميع لصوص وخونة، فماذا تريد؟ ارجع إلى التجارة وافعل مثلي، والله لو أعطاني علي بيه خمسين جنيها في الشهر لم أقبل أن أترك التجارة.
فضحكت قائلا: لست أصلح للتجارة.
فقال: قلت لك إنها كالمرأة اللعوب، تضايقك؟ لا تتضايق. تحزنك؟ لا تحزن، صالحها، ضاحكها راجعها بكل وسيلة، وإذا لم ترض عنك عاملها بالقوة، اضربها، العنها، جرها من شعرها، ولكن لا تيئس، الحمد لله، رضا!
وأخذ يقبل يده ظهرا لبطن.
فقلت له: يظهر أني لم أخلق لها.
فقال وهو يهز رأسه: مسكين! الله يساعدك.
ولما فرغت من طعامي مسحت يدي وفمي في منديلي، ودفعت له الثمن وقمت قائلا: تسمح لي بإبقاء الحقيبة عندك؟
فقال: مرحبا! محلك يا سيدي، تفضل في أي وقت لغاية الساعة العاشرة، أين تقيم؟
فقلت: لا أدري.
فقال: اسمع يا أفندي. اسم الكريم؟
فقلت: سيد زهير.
فقال: عاشت الأسامي، اسمع يا سيد أفندي، أنت رجل طيب ويظهر أنك ابن ناس طيبين، وعندنا غرفة في سطح البيت وكان فيها رجل طيب مثلك، فيها سرير وكرسي أسيوطي وكنبة وشباك بحري وقدمها أخضر، لم يبق صاحبنا هناك إلا سنة ثم انتقل بترقية، عقبى لك، سافر إلى الإسكندرية درجة ثامنة.
فضحكت قائلا: يا سلام! لا بد أنه كان متعلقا بآخر عربة في القطار.
فضحك هو الآخر قائلا: أقصد أنه نقل إلى الإسكندرية، وأنه موظف درجة ثامنة فنية، موظف فني مهم، قدمها أخضر مائة في المائة.
فقلت: وأين المنزل؟
فأشار إلى ورائه إشارة مبهمة قائلا: قريب من هنا، في الخدمة يا سيد أفندي.
وخرجت من الدكان أسير إلى غير قصد لأقطع الوقت حتى يأتي المساء، وجعلت أنظر حولي حتى لا أضل الطريق عند عودتي، وكانت المناظر متشابهة والأبنية كلها عالية كأنها توائم، لا يمكن تمييز أحدها عن الآخر، فعرجت على أقرب قهوة حتى لا أبعد في المسير، وكانت الساعة قد بلغت الثالثة والنصف.
وكان اسم القهوة «نادي الأدباء»، فسررت إذ وجدته فألا حسنا، وجلست في ركن على جانب الطريق، وطلبت فنجانا من الشاي، وأخذت أفكر فيما أفعل، وكان منظر الطريق مسليا كأنه فلم سنمائي لا تنقطع فيه الحركة، فخطر لي أن أقيد ملاحظاتي حتى لا تشرد مني تشبها ببعض من قرات عنهم من الأدباء، وفتحت عيني لكل ما يمر بي، وأخرجت كراسة صغيرة كانت في جيبي، وأخذت أنظر وأكتب، يا لها من لحظات سخف ما أزال أضحك منها كلما تذكرتها، وما أزال إلى اليوم محتفظا بهذه الكراسة الصغيرة كتذكار لهذه الجلسة.
وأضاءت الأنوار إيذانا باقتراب المساء، فقمت وكانت الساعة السادسة، فلما وصلت إلى دكان الشيخ مصطفى وجدته ما يزال جالسا على الدكة عند مدخل الدكان، وإلى جواره عدد من الناس يأكلون وهم وقوف ويتحدثون أحاديث شتى تتخللها السخرية، ويمضغون كلماتهم مع اللقم التي يقضمونها من الأرغفة التي في أيديهم، هي السياسة دائما.
فجلست على الدكة إلى جانب الشيخ، وشاركت في الحديث، وكان يدور حول ما يتناقله الناس من فضائح، كأن المدينة قد خلت إلا من أعوان الشيطان.
وكان الشيخ مصطفى محور تلك الأحاديث، يضيف إلى كل قول كلمة من رأيه تثير ضحكة عالية.
ولما صارت الساعة الثامنة صرت لا أحتمل البقاء طويلا، فقلت للشيخ: متى تعود إلى المنزل؟
فنظر إلى ساعته وقال: يا سلام! أتحب أن نذهب الآن؟
فقلت: أحب أن أستريح إذا أمكن ذلك، فنظر إلى أصحابه قائلا: عن إذنكم يا جماعة، تعالوا نتم سهرتنا في المنزل ونوصل صاحبنا هذا.
وأغلق دكانه وسرنا في حلقة صاخبة نتبادل الفكاهات عن كل ما يقع عليه بصرنا وأدهشني الشيخ؛ لأنه كان أكثرهم مرحا وطربا، حتى خيل إلي أنه شخص آخر غير الذي رأيته في ساعة الظهر.
ولم يكن المنزل بعيدا فدخلنا من بابه الخشبي القديم إلى ردهة مظلمة سرنا فيها على ضوء أعواد الكبريت، حتى بلغنا فناء مربعا فيه مصباح بترول صغير على حامل خشبي مثبت في الجدار، وفتح الشيخ الغرف التي في صدر الفناء حاملا إليها المصباح، ودعا أصحابه للدخول فيها حيث جلسوا على حصير حوله بعض «الشلت» الصغيرة، ثم عاد وأوقد عودا من الكبريت ليضيء لي الطريق إلى أعلى السطح حيث كانت غرفتي.
وكان القمر ساطعا فأغنانا عن إشعال الكبريت في السطح، وفتح الشيخ باب الحجرة، وأوقد مصباحا على رف خشبي فيها، فاستطعت أن أرى منزلي الجديد.
وكان هناك سرير قديم ولكنه نظيف، وكرسي أسيوطي و«كليم» صغير ومنضدة وكنبة، ولم أجد فرقا كبيرا بينها وبين الغرفة التي اعتدت النوم فيها بمنزلي، فأظهرت الارتياح وشكرت الشيخ، فاستأذن مسرورا عندما عرف أن الغرفة أعجبتني.
الفصل الثالث عشر
ألفت الحياة في القاهرة، وبدأت أعتاد ضجتها وسرعة حركتها وضخامة هيكلها، وبدأت أتذوق ما فيها من معالم القرن العشرين وأطلال العالم القديم.
فكنت في ذهابي إلى بيتي أمر بشارع فؤاد، وأنقل بصري فيه متأملا ما هناك من تبرج وبراعة وسذاجة وصراحة فيها شبه من بلاهة الطفولة المدللة المغرورة، ثم أمضي في سبيلي حتى إذا اقتربت من مسجد أبي العلاء وجدت نفسي في مدينة أخرى من بقايا عالم قديم كان يمتاز بالغموض والكبرياء والوعي الغريزي، ولكنه عالم اندثر ولم يبق منه إلا روح متمرد جبار يتحصن في بقايا الأطلال المتداعية حتى لا تقهره المدنية الجديدة.
فإذا اقتربت من بيتي، أو بقول آخر: إذا اقتربت من بيت الشيخ مصطفى حسنين خيل إلي أيضا أنني انتقلت من مدينة إلى أخرى أو من عالم إلى عالم آخر، ولست أدري ما الذي جعلني أرتاح إلى الإقامة في هذا الحي على ما فيه من قذارة وظلام وفوضى، فإني مع شعوري بكل ما فيه من عيوب كنت أجد في جوه شيئا مؤنسا ساحرا لا أدري ما هو.
وكانت عطفة الشيخ مصطفى لا تكاد تبلغ في سعتها أربعة أمتار، وكانت دائما مبللة بما يلقى إليها من الماء القذر من أعلى البيوت أو من أسفل الأبواب، وأما جدران البيوت فكانت عارية تبرز منها أسنان من الطوب الأحمر المتآكل، وتتخللها نوافذ لا تزيد على ثقوب تسترها قطع من الصفيح أو القماش أو جانب قفص من الجريد، ومع هذه فإنها أصبحت مألوفة عندي، وألفت غرفتي حتى صرت لا أجد فيها شيئا من الضيق عندما كنت أضطر للاستحمام في «محل الأدب» من صفيحة ماء، ولا عندما كان الهواء البارد يهب علي في ساعة الصباح من النافذة المكسورة.
وكنت في كل يوم أقضي ساعة بعد عودتي إلى المنزل لأعد عشائي مما أحمله معي من البيض والجبن والزيتون، ثم أجلس ساعة قصيرة أشرب بعض أكواب صغيرة من الشاي الذي كنت أتحرى في اختياره وأتأنق في إعداده، وأبدأ بعد ذلك في عمل الليل وهو القراءة والكتابة.
واشتريت مصباحا جديدا قوي الضوء حتى لا أتعب بصري بضوء المصباح الصغير الذي أعده الشيخ مصطفى لساكن غرفته، فكان ذلك يساعدني على الاستمرار في القراءة والكتابة إلى ما بعد نصف الليل أحيانا، ولكن النوم العميق الذي كنت أغرق فيه بعد هذا كان يجعلني أهب في الصباح نشيطا صافي الذهن مستبشرا.
هكذا قضيت الشهرين الأولين من إقامتي بالمنزل حتى رأيت يوما فطومة ابنة الشيخ مصطفى تأتي إلي في الصباح الباكر، وفوق رأسها صينية كبيرة عليها طعام من الفول المدمس والطعمية والبيض المقلي وفنجان من الشاي الثقيل القاتم اللون.
وشكرتها مخلصا على هذه الخدمة؛ لأني كنت بدأت أضيق بخدمة نفسي، فصارت الفتاة تحمل إلي إفطاري كل صباح فتضعه على عتبة الباب حتى إذا قمت من النوم وجدته ينتظرني، ولما مضت بضعة أسابيع أخرى بدأت فطومة تترقب الميعاد الذي أستيقظ فيه، فإذا أحست بأنني أتممت لبسي صعدت إلي تحمل الصينية، فتضعها على المنضدة، ثم تجلس عند عتبة الباب حتى أفرغ من الأكل فتحملها، وكان من الضروري أن أتفق على ثمن هذا الطعام، ورضيت فطومة بعد تمنع كثير أن أدفع كل شهر جنيها واحدا، ولكني كنت أدفع لها مائة وخمسين قرشا؛ لأن هذا أقل ما كنت أفطر به في المدينة فوق ما في طعام البيت من كرامة وراحة ونظافة، ولما مضت أشهر الربيع أصبحت في المنزل كأني أحد أفراد الأسرة، وصرت لا أغض طرفي كلما مررت بشقة الشيخ مصطفى، كما صارت فطومة تصعد إلى غرفتي في أوقات مختلفة من اليوم وتقضي معي أحيانا ساعة طويلة تثرثر وتغني.
وكانت فتاة في نحو الخامسة عشرة من العمر، ولكنها تبدو في أحاديثها ومعاملاتها أكبر سنا من هذا ، كانت وهي تنتظر فراغي من الإفطار تجلس عند الباب تقص علي أحاديث شتى من الشرق والغرب عن أمها وأبيها وجيرانها رجالا ونساء، وتعيد علي الأخبار التي تتلقفها من الطريق ومن حوانيت السوق، وكنت أعجب أشد العجب من إلمامها لما لا تلم به صغيرة مثلها، كما كنت أعجب من دقة نظراتها التي تنم عن أنها على مقدار عظيم من الذكاء الفطري.
وكانت لا تخجل أن تحدثني عن نفسها أحاديث تخجل الفتاة الصغيرة من مثلها، فقد عرفت منها أن شهاب أفندي الموظف الذي كان يسكن في الغرفة من قبلي كان يريد أن يتزوجها، وقصت علي بعض أخباره ونوادر مغازلاته، فكنت أشعر بالحرج من سماعها، وأنكمش في نفسي خجلا، ولكنها كانت تضحك مكركرة في مرح جريء عندما تلمح خجلي.
وأما عملي فإني اندمجت به بعد قليل ووجدت فيه عالما واسعا ممتعا بعد أن كنت في مبدأ الأمر شاعرا بالغضاضة من أني لا أزيد على قارئ بروفات، وقد تعرفت زملائي من قراءة بروفات مقالاتهم أكثر مما كنت أعرفهم من وجوههم، حتى صار لكل منهم في ذهني صورة مجردة تميزه عن الآخرين تمييزا واضحا.
وبدأ الأستاذ علي مختار يطلب مني الكتابة بعد أن قضيت في الدار الشهور الثلاثة الأولى، ولم ألبث إلا قليلا حتى طلب مني أن أستقل بباب خاص، فاخترت له عنوان: «أنا الشعب» مستعيرا تلك الصرخة التي كنت أصرخها وأنا في سجن مركز دمنهور، وكان الأستاذ يبدي إعجابه بأسلوبي «الحريف»، فشجعني ذلك على أن أطلق العنان لما كان يجيش في صدري من المشاعر الثائرة التي تجد وقودا كل يوم من أحوال الناس والسياسة، فصار لما أكتب صدى قوي على ما ظهر لي من الرسائل التي أخذت تنهال علي مع البريد كل صباح.
كانت الثورة تتأجج في النفوس من تحت الرماد، ولا يمنعها من الانفجار إلا الخوف من العسف.
وتطوع الأستاذ علي مختار بعد قليل بزيادة مرتبي إلى ثلاثين جنيها في الشهر، كما زاد أجري على القصة إلى عشرة جنيهات، فأصبح ما يصل إلي في كل شهر نحو خمسين جنيها، وهو دخل لم يخطر لي ببال في يوم من الأيام.
وهكذا صرت قادرا على أن أبعث إلى أمي ما يزيد على كفايتها.
والتحقت بقسم الصحافة بالجامعة الأمريكية، ووجدت في هذه الدراسة تسلية فوق ما فيها من فائدة؛ لأنها شغلت جزءا من الوقت الذي كنت أضيق به كلما خلوت من العمل.
هكذا قضيت في القاهرة شهرا بعد شهر بغير أن أذهب إلى دمنهور، مع أني عندما سافرت إلى القاهرة في أول الأمر كان يخيل إلي أنني لن أنقطع أسبوعا واحدا عن زيارة مسقط رأسي العزيز، ومنى! أنسيتها؟ ما أعجب أسرار النفس الإنسانية وما أشدها غموضا، لم أنس ذكر منى في هذه المدة يوما واحدا، ولكني كنت أتعمد أن أصرف نفسي عن التفكير فيها، كنت أحس شيئا يشبه الحنق كلما خطرت لي صورتها العزيزة، ولكنه كان مع هذا أبعد شيء عن الحنق عليها، هو شعور أقرب إلى الحنق على نفسي وعلى كل شيء آخر غيرها، وماذا يجديني الاسترسال في التعلق بها وهي لا تزيد على أمل بعيد يشبه النجم في السماء أو الأفق وراء الجزيرة أو السراب في الصحراء، كنت أصرف نفسي عنها عامدا كما يتعمد المسافر أن يصرف نفسه عن الحبيب الذي يفارقه خوفا من الانهيار في موقف الوداع، ولكن العجيب في أمري شيء آخر قد لا يخطر على بال أحد، وذلك أن فطومة الساذجة المسكينة الصغيرة بدأت تؤنسني كلما جاءت إلي تحمل صينية الإفطار.
وبعد مرور عدة أشهر بدأت تتجرأ في بعض الأحيان، وتدخل الغرفة لتجلس على طرف الكنبة بدلا من الجلوس على العتبة، وكنت أحيانا أضيق بها إذا تكلمت عن أشياء لا أعرف عنها شيئا، أو لا تهمني، أو تثقل على سمعي فأقول لها في عنف: «مالي وكل هذا؟» ولكنها كانت لا تغضب بل تضحك قائلة: «وما له؟»
وتبين لي بعد حين أن لها براعة في الغناء والفكاهة، فكنت لا أردها عن زياراتي، وأدعها تمضي على سجيتها كطفلة مرحة خفيفة الروح، وأجد في انطلاقها ما يرفه عني إذا كنت متعبا، وكانت أحيانا تثير رحمتي عندما تذكر أنها تشتهي شيئا، ولا تستطيع أن تشتريه فأعطيها ما تشتريه به، وأجد جزاء وافيا في تعبيرها عن سرورها بطريقتها الساذجة، إذ كانت تهب كالعاصفة وتطوق عنقي بذراعيها وتغني أغنية بلدية فيها مداعبة جريئة، فأنزع ذراعيها عن عنقي في ترفق وأعنفها تعنيفا يسيرا لا يزيدها إلا معابثة ومرحا.
ولكن المسكينة بدأت بعد حين تتكشف عن نواح أخرى لم أتوقعها من قبل، فقد حدث يوما أن جاءت إلي ومعها قطعة من مادة سمراء رفعتها أمام عيني بين أصابعها قائلة: احزر ما هذه.
فسألتها: ما هذا؟
وهممت بأن آخذها منها لأفحصها، فابتعدت عني ضاحكة، وقالت هامسة: نصف ريال.
فأعدت سؤالي: ما هذا؟
فضحكت قائلة: فرفوشة!
فسألتها متعجبا عن معنى «فرفوشة» فضحكت ضحكة عالية فيها شيء من التبذل، وقالت: كان شهاب أفندي يطلب مني كل يوم قطعة ويعطيني ريالا، ولكنها لك بنصف ريال، كنت أموت من الضحك عندما أسمعه يتكلم بعد أن يضعها في سيجارة ويشربها، ألا تعرفها يا سيد أفندي؟ جرب! ضعها في سيجارة وأشعلها تجد نفسك سعيدا.
وضحكت مرة أخرى قائلة: تعيش بها في الجنة يا سيد أفندي!
تعودت فيما بيني وبين نفسي أن أسمي هؤلاء السادة المزيفين باسم المساكين، ولكن هذا لم يعصمني من محاولاتهم في إفسادي، نعم فقد حاول بعضهم أن يساومني على ضميري كما تعود أن يفسد غيري.
دعاني يوما محسن باشا أحد كبار الزعماء، وكانت ليلة الاحتفال بذكرى وطنية، ولما جلست مع الزعيم قربني وأظهر لي ما لا مزيد عليه من الإكرام والإجلال، وبدأ يتملقني على مسمع من الحلقة المحيطة به، ووكد لي مودته وتقديره لحسن أسلوبي وطلاوة عبارتي وسداد آرائي، وبدأ يعرج على ما كنت أكتبه في مقالاتي تحت عنوان: «أنا الشعب» حتى قال لي بعد تمهيد طويل: أنا واثق من حسن قصدك، ولكن الناس قد يفهمون أنك تقصدني.
وكنت حقا أقصده بكثير مما أكتب في هذه المقالات فقلت له في بساطة: لست أكذب عليك فإني أقصد كل من يصدق عليه قولي.
فقال متمالكا نفسه: تعجبني فيك الصراحة دائما، وإنه لمما يسعدني أننا متفقان في الرأي.
فقلت في شيء من السخرية: هذا يسعدني أكثر.
فقال: إننا جميعا طلاب حرية.
فقلت في دفعة: المهم هو تحديد معنى الحرية.
فقال: المعنى واضح لا يحتاج إلى تحديد، الحرية هي الحرية، هي المبدأ الذي نجاهد من أجله.
فاندفعت قائلا في حنق: لست أفهم يا سيدي هذا اللفظ إلا إذا كان يترجم في حقائق، أين تكون الحرية بغير العدالة التي تكفل للجميع حقوقهم وترعى حرماتهم وتسوي بينهم في الواجبات؟ أين تكون الحرية إذا انعدمت الأخلاق العامة وفسدت النزاهة وعمت عبادة المال؟ أين تكون الحرية إذا كان السادة يسرقون ويضاربون ويضربون أمام أعين الجماهير أسوأ الأمثلة للأخلاق؟ ما هي الحرية إذا انعدمت المقاييس الأخلاقية وانفرط عقد الناس، وصاروا فوضى لا يؤمن كل منهم إلا بنفسه ومصلحته؟
فاحتقن وجهه ولكنه كظم غيظه وقال عاتبا: أما كان أولى بك لو جئت إلي، فأطلعك على الحقائق.
فقلت في ارتياح: هذا يسعدني، ولك يا سيدي أن تكذب ما تراه كاذبا من أقوالي.
فكبر قولي على الجالسين في الحلقة، وبدءوا يتدخلون في الحديث، وأدهشني أن الزعيم انفجر في أحدهم بدلا من أن ينفجر في أنا وصرخ فيه قائلا: اخرس أنت!
وأدهشني أكثر من ذلك أن ذلك السيد التابع خرس فعلا، وانزوى في ركنه صامتا مع أنه كان ينتفش إذا ظهر أمام الناس كالديك الرومي.
واتجه الزعيم إلي قائلا: إني فضلت أن أدعوك إلى هنا لأكلمك حتى تعلم أني لا أريد بك إلا كل خير، بل إني فكرت في أن أسند إليك وظيفة.
فابتسمت في سري وقلت له: أشكرك يا سيدي لأني لا أطلب وظيفة.
فزاد وجهه احمرارا، وبدأ يرفع صوته في المناقشة، وكان كلما سمع أحد أتباعه يتكلم يصيح به في جفاء قائلا: «اسكت أنت!»
وكانت لفتاته ونغمة صوته تدل على أنه كان ينفس من غيظه بالانفجار في هؤلاء الأتباع الذين يعرف أنهم حوله مثل الكلاب الأليفة.
واستمرت بيننا مناقشة طويلة، وكانت حرارة الزعيم تزداد شيئا فشيئا، ولم يطل انتظاري للانفجار المتوقع، فإنه أخذ بعد قليل يخبط بيديه على المكتب الذي أمامه، ويصيح بأعلى صوته: من لا يكون معي أحطمه! من لا يكون معي أكسره!
وخيل إلي أنني حيال مجنون هائج، فضحكت في رثاء، وكانت ضحكتي هذه المرة ظاهرة، وتذكرت موقفي القديم مع السيد أحمد جلال عندما قال لي هو الآخر إنه يحطمني، وقلت في نفسي: إن هؤلاء جميعا لا يعتمدون إلا على مقدرتهم في التدمير والتحطيم، فلننظر!
وقلت له هادئا: وماذا يدعوك إلى تحطيمي؟
فزاد حنقا من هدوئي، واستمر يخبط بيديه الاثنتين على المكتب كأنه ثور مسعور، وانتفخت أوداجه حتى كأنه يريد أن ينفلق.
وتذكرت موقفي القديم من السيد أحمد جلال، وما قلته له عندما هددني فاندفعت صارخا في وجهه: اعلم أنك لا تقدر أن تحطمني ولا أن تكسرني، ومن أنت حتى تحطمني؟ لست إلها ولست صاعقة، وما أنت إلا بشر مثلي، لا تصدق أنك تستطيع أن تحطم أحدا إلا إذا كان هو يحطم نفسه، إنك أنت تحطم نفسك بمثل هذا الغرور الذي يجعلك تظن أنك إله، ليكن سلطانك ما يكون فإنك لن تجد سبيلا علي؛ لأني لا أطمع في شيء عندك.
وقمت لأنصرف، فتمسك بي أتباعه وأجلسوني قسرا، وتعجبت من الزعيم الكبير عندما رأيته يهدأ على أثر دفعتي، بل إنه أخذ يخاطبني خطابا لينا، ويقول لي في هدوء: «إنك أسأت فهمي ولم أقصدك بكلمتي، وما أنت إلا مثل ولدي.»
ولم أبق في المجلس بعد ذلك إلا ريثما يهدأ الجو بعد المنظر العاصف، ثم قمت خارجا فقام ورائي عدد من الأتباع، وجعلوا يلومونني على أني رفعت صوتي في حضرة الزعيم الذي لا يجرؤ وزير على أن يرفع صوته أمامه.
فقلت لهم في هدوء: أحمد الله على أن لي صوتا أرفعه.
ثم مضيت من ساعتي إلى «بريد الأحرار» لأكتب مقالا آخر عن «الزعماء المزيفين».
الفصل الرابع عشر
عندما دخلت في اليوم التالي على الأستاذ علي مختار، بادرني قائلا: عظيم يا أستاذ سيد!
وكان منهمكا في قراءة المقال الذي كتبته في الليلة السابقة، فلما أتم القراءة نظر إلي حينا في صمت ثم قال: عندي مهمة لا يقوم بها على أتم وجه إلا أنت.
ومد إلي يده بتذكرة دعوة.
واستمر يقول: هذه دعوة إلى حفلة كبرى بمنزل الوجيه حسام الدين بمصر الجديدة ... حفلة استقبال أمير كبير وولي عهد دولة شرقية صديقة، ستكون في الساعة التاسعة من مساء اليوم، والآن الساعة العاشرة صباحا، لا تعتذر بشيء فلك أن تشتري من الملابس ما تشاء، وسيكون المصورون تحت أمرك، ستكون هذه الحفلة موضوع أحاديث المجالس والأندية والمنازل طوال الأسبوع المقبل، وستسهر الإدارة حتى ترسل إليها المقال الذي ستكتبه في وصفها، لك صفحة بيضاء تكتب فيها ما تشاء بغير مراجعة، وستكون عربتي الخاصة تحت تصرفك.
لست أقول لك: «ما رأيك» ولكني أقول: «ها هي ذي يدي، إلى اللقاء.»
ليس عندي شيء أقوله لك إلا أن تكتب كما تكتب دائما، وهذه مائة جنيه تصرفها كما تشاء.
وتبسم عاطفا وهو يضع أمامي ورقتين من ذوات الخمسين جنيها، فوجدت نفسي مثل رجل يرى نفسه واقفا أمام طيارة على غير انتظار، وشخص آخر يدفعه قائلا له: «هلم إلى نيويورك.»
أأقول له لا أريد أن أذهب؟ هذه هي الكلمة التي كدت أنطق بها لولا أنني سمعته يقول لي باسما: «لا تضيع الوقت في الوقوف هكذا يا أستاذ سيد. سنطبع عشرين ألف نسخة فوق ما نطبعه كل يوم.»
وخرجت من عند الأستاذ وأنا أسأل نفسي كيف يفكر هذا الرجل، وأي نوع من المقالات يريد مني؟ أهي دعاية للسيد الوجيه؟ أم هي دعاية للأمير ولي عهد الدولة الصديقة؟ أم هي خطة لا أعرفها للبدء في معركة؟ لقد علمتني الأشهر التي عملت فيها مع الأستاذ علي مختار أنه رجل عميق الأغوار.
وسألت نفسي إلى أين أذهب؟ ولكني ركبت عربة الأستاذ، وقلت للسائق أول اسم خطر لي: محل مانويل.
ثم قلت في نفسي: ماذا أصنع بهذه الجنيهات كلها؟ بدلة عظيمة وحذاء جديد طبعا من النوع اللامع وماذا أيضا؟ رباط رقبة ومنديل وقميصان مثلا، ثم ماذا؟ أظن أن البائع سيفتح لي أبواب الشراء على وسعها، فلا حاجة بي إلى التفكير في طريقة الإنفاق منذ الآن، وتحقق ظني فلم أجد صعوبة في صرف الجنيهات عندما دخلت إلى محل «مانويل»، كما لم أجد صعوبة في اختيار الملابس والألوان، أخذت النقود تطير مني كالعصافير، قميص بخمسة جنيهات ورباط رقبة بثلاثة، ولم يكن من المناسب أن يكون لي قميص واحد، أو رباط رقبة واحد، والبدلة بثلاثين جنيها والحذاء بخمسة، وتذكرت أني في حاجة إلى ملابس تحتانية؛ لأن مثل هذه البدلة لا يليق بها أن تعتلي ملابسي القديمة، وبعض مناديل حريرية وجوارب وعلبة سجائر وقفاز وبعض زجاجات عطور.
ومجمل القول أني صرفت أكثر الجنيهات التي أخذتها من الأستاذ، ولم يبق في جيبي إلا بعض جنيهات «فكة»، ولبست البدلة لأجربها فوجدتها بديعة كأنها مفصلة على قدي، ونظرت إلى صورتي في المرآة ولست أبالغ إذا قلت أني كنت وجيها حقا، بل إني كنت أوجه من محمود خلف، وتمثلت نفسي واقفا أمام منى أقول لها: «أما تعجبك هذه البدلة السوداء؟»
وحمل عامل المتجر ما اشتريت إلى السيارة، فنفحته بربع ريال ثم ركبت حتى وصلت إلى مدخل حارة الشيخ مصطفى، ولم تهمني نظرة السائق عندما أمرته بالوقوف هناك أمام حارة ضيقة قذرة، وطلبت منه في تعال أن يعود إلي قبل منتصف الساعة التاسعة من المساء.
ولم أجد صعوبة في حمل الربط التي اشتريتها؛ لأنها لم تكن ضخمة، وعرجت على بقال قريب من المنزل، فاشتريت منه رغيفا وبعض الجبن وعلبة من الفاكهة المحفوظة، وسرت إلى المنزل وأنا أتأمل في تفاهة الجنيهات المائة التي أحمل ما اشتريته بها في يدي اليمنى وتحت إبطي.
وقضيت بعد ظهر اليوم في الاستعداد للحفلة، فحلقت ذقني واستحممت وأكلت واسترحت إلى قريب من ساعة الغروب، ثم بدأت ألبس ملابسي من تحتانية وفوقانية، وشعرت بوقع خطوات فطومة خارج الباب، ولست أدري ما الذي جعلها تأتي إلي في تلك الساعة وأنا في ملابسي الأنيقة، فقد خجلت من الظهور بها أمامها.
ولما رأتني الفتاة وقفت أمامي تحملق في وجهي مندهشة، ثم شهقت وضربت صدرها بيدها، واندفعت نحوي تطوق عنقي بذراعيها قائلة: مبروك!
ولم أعرف كيف أرد هذه التحية العنيفة، وتمنيت لو كنت تذكرتها لأشتري لها هدية تفرح بها، وخطر لي بعد لحظة أن أهديها أحد المناديل الحريرية التي اشتريتها، فأخرجته من ربطته وقلت لها كاذبا: هذا المنديل هدية اشتريتها لك يا فطومة.
فمسحت يديها في ثيابها، وأخذت المنديل وهي تصيح في فرح قائلة: الله!
وجعلت تنظر إلى المنديل بعد أن نشرته أمام عينيها، وأخذت تصيح في فرحة عظيمة: «الله يخليك يا سيد أفندي.» ونفضته وثنته ونظرت إلى ألوانه معجبة، ثم جعلته حول كتفيها، وأمسكت طرفيه بيدها فوق صدرها، وتمايلت في تأنق إلى اليمين والشمال وهي تضحك قائلة: ألست أعجبك هكذا؟
وأخذت تسير متمايلة في الغرفة في زهو، ثم رفعت المنديل وشمت رائحته، وقالت في دهشة: الله!
رائحة الست هدى! ألا تعرفها؟
ولم أعرف من هي الست هدى؛ لأن فطومة كانت تغمرني في أحاديثها بأسماء لا حصر لها، ووددت لو انصرفت عني حتى أستعد للخروج، ولكني لم أجرؤ أن أطلب منها أن تخرج.
واقتربت مني وجعلت تفحص ثيابي قائلة: أين تذهب الليلة؟
فقلت بغير اهتمام: إلى حفلة.
فقالت في دفعه: فيها ستات؟
فأشرت برأسي: نعم.
وقلت لأصرفها: أريد أن أتم استعدادي للنزول يا فطومة.
فقالت في شيء من الحنق: طبعا! حفلة ستات، وتريد أن أذهب من عندك.
ووضعت المنديل على أنفها وشمته قائلة: هي هي الرائحة. هي الأخرى تذهب إلى الحفلات، ولكنها لا تريد أن تأخذني، أتدري لماذا؟
ونظرت إلي في خبث، ثم ضحكت ضحكة طويلة وهمست: «تقول لي إني ما زلت صغيرة الآن.»
وتقدمت مني مرة أخرى وجعلت تبدي إعجابها بلون رباط رقبتي بعبارات ساذجة، وقالت: حتى السنما لا أذهب إليها؛ لأن أبي لا يرضى.
أتدري لماذا؟
وهمست مرة أخرى: لأني صغيرة وهو لا يريد أن أرى الروايات التي تعلم الحب.
وضحكت ضحكة طويلة أخرى.
وتعلقت بذراعي فجأة وهي تقول: خدني معك يا سيد أفندي. سأضع المنديل هكذا حول كتفي، وسألبس الفستان الجديد، بجنيه المتر الواحد، اشتراه لي شهاب أفندي، وأراد أن أذهب معه إلى السينما من وراء أبي، ولكني لم أذهب، سأذهب معك ولن يعلم أبي؛ لأنه في كل ليلة يدخل إلى «المندرة» مع أصحابه ويغلقها، ويمكنني أن أخرج وأعود قبل أن يفتح الباب.
وعادت تضحك ضحكا طويلا.
واندفعت علي فجأة، فطوقت عنقي بذراعيها، ورفعت وجهها نحوي.
وكانت مفاجأة لم أتوقعها فذهلت ورفعت يدي إلى يديها لأبعدهما برفق، ولكنها تمسكت بعنقي ونظرت إلي نظرة التجاء قوية التعبير، فمسحت على رأسها برفق، وملت على وجهها المرفوع فقبلت جبينها قائلا: لا أستطيع أن آخذك هذه المرة يا فطومة، وأعدك أن أذهب بك إلى السينما في ليلة أخرى بعد استئذان والدك.
فحلت يديها في حنق، وصرفت وجهها عني نافرة وهي تقول: طيب خلاص!
ثم انفلتت مسرعة من الغرفة.
ونظرت خلفها وهي خارجة ولمحت صورتها وهي مطبوعة أمام ضوء القمر الذي يغمر السطح، ولأول مرة عرفت أن التي كانت أمامي امرأة لا طفلة، كان قوامها وهي تتحرك مسرعة في غضبها يشبه قوام أنثى من الوحش تنساب في غابة، جسم لدن مليء حسن التقسيم، وملامح يفيض فيها الشباب القوي، ودفعة وحشية تمتاز برشاقة تشبه رشاقة النمور في حركتها، ولا أدري كيف أصف شعوري وأنا واقف في مكاني أنظر في أعقابها؛ فقد كان مزيجا من العطف والنفور والإعجاب والتقزز مع شعور آخر من إدراك ما فيها من محاسن ومن لوم النفس على أني لم أتخذ معها موقفا حاسما، وارتميت على الكرسي الطويل حائرا حزينا مضطربا بين هذه المشاعر المتضاربة لا أدري ماذا ينبغي لي أن أفعل بعد هذا، فهل أصدمها صراحة وأقول لها أننا لا ينبغي أن نستمر في هذه المهزلة، وأننا من عالمين مختلفين لا يستطيعان أن يمتزجا؟ ولكن أتفهم فطومة قصدي إذا قلت لها مثل هذا القول؟ وهل يمكن أن نفهم أن تعلقها برقبتي هكذا مهزلة؟ وكيف يمكنني أن أعرف ما يدور في أعماق نفسها وهي تتعلق برقبتي؟
ولست أخفي أنني كنت في قرارة نفسي أخشى أن أصدمها، فإنها كانت بغير شك تدخل كثيرا من الأنس إلى وحدتي، فكيف تكون الحياة في هذه الغرفة الحقيرة بغير فطومة التي تحمل إلي إفطاري وتثرثر لي وتغني وتجمع ملابسي إذا اتسخت، وتعود بها إلي نظيفة مكوية، وتنظم لي حجرتي في عناية وذوق حتى أصبحت لا أحس بأني غريب عن بيتي. ثم هي فوق ذلك تبعث إلى وحدتي شيئا آخر أخفى من كل هذا على إدراك العقل، فإنها كانت تؤنسني بشخصها، ألم أكن حقا أشجعها على التعلق بي، وإن كانت لا أفطن إلى أني أشجعها؟ ألم أكن أبتسم لها كلما جاءت إلى غرفتي وأحييها وأعطيها شيئا من النقود بين حين وآخر؟
وانتقل بي هذا التفكير المضطرب إلى محاسبة نفسي وتشديد اللوم عليها، وانتهى ذلك إلى عزمي المؤكد على الانتقال من البيت حتى لا أدع لها ولا لنفسي فرصة أخرى لمثل هذا الموقف المحفوف بالمخاطر لها ولي أيضا، ونظرت إلى ساعتي فوجدت أن موعدي مع سائق السيارة قد فات، فقمت مسرعا وقفزت على السلالم القريبة من مدخل شقة فطومة حتى لا تراني، ولما بلغت الشارع كان المصورون وسائق العربة قلقين في انتظاري عند مدخل الحارة الضيقة وهم لا يعرفون أين منزلي، وفي لحظات كنا في الطريق إلى مصر الجديدة، وما زلت في أثناء السير أحس في أعماقي حزنا غامضا وأجادل نفسي في موقفي من فطومة؛ ولهذا لم أشعر بطول الطريق حتى وقفت العربة ووجدت نفسي أمام قصر السيد الوجيه حسام الدين، فنزلت وأقبل خدم القصر نحوي وانحنوا لتحيتي، ورددت على التحية متنازلا كما يفعل العظماء، واتجهت داخلا ولكني ما كدت أرى المنظر الذي أمامي حتى تسمرت في مكاني وسألت نفسي: أين أنا؟ هل أنا في مصر الجديدة أم في مصر القرون الوسطى؟ ومن أي سوق اشتريت هذه الجواري الحسان الواقفات في صفين على مدخل القصر المنيف.
نعم كان أمامي صفان من فتيات يلبسن ثيابا حريرية من طراز ألف ليلة وليلة تبدي محاسنهن وتصف أجسامهن وتظهر لين قدودهن، ولست أستطيع أن أصف ما اعتراني عند ذلك من الشعور، لم يكن شعوري كما ينتظر سرورا بالمنظر الرائع ولا افتتانا بالحسن البارع، بل شعرت بغصة في حلقي وثورة في قلبي، وكدت أصيح بالذين رأيتهم أمامي قائلا: ما هذا؟ ما هذا التجني على الإنسانية؟ ما هذا الامتهان للآدميين؟ هل عادت لنا عهود الرق التي كانت المرأة تشترى فيها لتكون متعة للعين أو لعبة للهو؟ ولولا أني كنت موفدا من «بريد الأحرار» لأؤدي وظيفتي الصحفية لوقفت حيث كنت، وألقيت محاضرة في كرامة الإنسان، ولكني تمالكت نفسي ودخلت بين صفي الفتيات كما يدخل المقاتل إلى ميدان حرب وقلبه مفعم بالقتال، ولم تطاوعني نفسي أن أنظر إلى يميني أو يساري، فاتجهت بعيني إلى الأرض، وكانت الأرض مفروشة بممشى من السجاجيد الفاخرة التي تزري بألوان الأزهار في أحواض الحديقة المحيطة من الجانبين، وكانت الأنوار الملونة على جانبي الممشى تخلع على الزهر بهاء فوق بهاء الربيع والأنوار الساطعة في القصر تنادي من بعيد بالعظمة والأبهة، وسمعت من خلفي نداء هامسا فالتفت فإذا هو مصور يستلفت نظري إلى صفي الفتيات، ويطلب أمري أن يأخذ لهما صورة، فقلت له في اختصار: «خذ أنت وأصحابك ما تشاءون فأنتم أخبر مني بما ينبغي.»
وتركتهم خلفي وسرت متجها إلى القصر، فصعدت على السلم الرخامي الواسع حتى إذا ما بلغت البهو كنت في جهد شديد أريد أن أستريح كأنني كنت في رحلة شاقة طويلة، فما كدت أدخل حتى عمدت إلى ركن من الأركان البعيدة وتهالكت على مقعد ووضعت ساقا على أخرى، واستندت إلى الظهر وأخذت أرقب من هناك من يدخلون من الباب ورأسي مشتعل بما يشبه الحمى.
وكان المرح يشيع في الجو الدافئ، والحسان الكثيرات يقلبن أبصارهن في الحضور من وراء أكتاف الرجال الجالسين حولهن، ويوزعن البسمات الفاتنة هنا وهناك.
ورأيت حسناء تجلس وحدها في ركن قريب مني، وتشعل سيجارة، وتضع ساقا على الأخرى كما فعلت أنا، ولست أدري ماذا جعلني أبتسم من تلك الحركة التافهة، فحسبت الحسناء أنني أبتسم لها فردت بابتسامة عاطفة، وجاء صاحب الدار الشاب عند ذلك، فحياها وتحدث معها بكلمتين في رقة، ثم أقبل علي يحييني، ولما عرف أني مندوب «بريد الأحرار» رحب بي ترحيبا كريما، ودعاني إلى استقبال الأمير، فقمت معه وبدأت أتعرف إلى بعض الوجوه المزدحمة قريبا من مدخل البهو، وكان هناك صحفي عرفته ذات يوم في دار النقابة، وهو شاب يمتاز بشخصية عجيبة استرعت نظري منذ أول جلسة، ولما رآني أسرع نحوي وصافحني ووقف إلى جنبي، والظاهر أنه استأنس بي عندما رآني كما استأنست به؛ لأننا كنا غريبان هناك، وأخذ الأستاذ عطية يحدثني أحاديث لاذعة عن الواقفين حولنا في همسات عالية شعرت منها بحرج شديد، وأشار في أثناء حديثه إلى الحسناء السمراء التي بادلتها الابتسام عن غير قصد، وأخذ يحدثني عنها قائلا: أتعرف من هذه الفاتنة؟
فقلت: لم أرها إلا في هذه الساعة، ولكنا تبادلنا الابتسام.
فضحك ضحكة عالية ثم قال بهمسته العالية: حاذر يا صديقي فإنها جبارة، هي الست هدى العبقرية.
وكدت أصيح عندما سمعت اسمها، وتذكرت اسم السيدة التي تحدثت عنها فطومة، واستمر الأستاذ عطية يقول: هي تجمع في شخصها عالما كاملا: صحفية وتاجرة وسياسية وموردة للجيوش وواسطة خير في كل شيء، وغير ذلك ما يخطر وما لا يخطر على بالك، ثم هي بعد ذلك صاحبة صالون مدهش للكبار من المصريين والأجانب ولكل من له موهبة من الشباب من الجنسين.
وضحك ضحكة عالية أخرى.
فقلت في فضول: وأين تسكن؟
فنظر إلي في خبث وقال: هكذا سريعا؟ هي تسكن في كل القاهرة، لها بيوت في كل الأحياء من السيدة إلى بولاق ومن جاردن سيتي إلى مصر الجديدة.
وحدثت حركة في المستقبلين عندما جاء الأمير وتسابق من هناك إلى التقدم بين يديه فوقفت في مكاني، وجعلت أقرأ الحركات من بعيد، وكان الأمير شابا أسمر الوجه وسيما تبدو عليه علائم الفتوة، وكانت تحياته تجمع بين التعطف والتحفظ ، واتجه في حلقة مستقبليه إلى مكان الصدر، وابتدأت بعد قليل مراسم الحفلة.
وأخذت أجمع في وعيي كل ما تقع عليه عيني، الحسان يتهافتن على الأمير كأنهن الفراشات يتدافعن نحو الأنوار، وسارع بعضهن إلى خدمة الضيوف في المقصف وهن شبه عاريات، فما هذه الملابس التي لا تستر إلا ما دون الأكتاف، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها نساء في هذا الزي بعيني، إنها ملابس تكشف عن مفاتن الجسم، وإن كانت تدعي أنها تسترها، وقدمت كئوس الشمبانيا فكانت تتلألأ في أيديهن وتباهي خواتيم الماس التي في أصابعهن.
وأقبل الأستاذ عطية على المقصف متعطشا إلى الشرب وإلى التمتع بالمنظر البديع، فبقيت وحدي أحاول أن أتناول ما أعرفه من الأصناف وهو قليل إلى جانب ما لا أعرف، وبعد أن لعب الشراب في الرءوس بدأ دور الموسيقى، وذهب الراقصون اثنين اثنين إلى المرتع الصقيل الذي يتوسط البهو الفسيح، فذهبت إلى ركني الأول الذي كنت فيه، وجلست واضعا ساقا على أخرى، وجاءت السيدة السمراء ذات العينين الواسعتين اللامعتين تتأبط رجلا أنيقا ... أهو السيد أحمد جلال حقا أم تخدعني عيني؟ وماذا يصنع هنا؟ وتذكرت في تلك اللحظة أنه أصبح نائب دمنهور، وأنه لا ينبغي له أن يغيب عن تلك الحفلة التي تحتوي كل العظماء ... وجلس معها في ركن قريب يتفرجان على الراقصين، ويميل إلى صاحبته بين حين وآخر هامسا ثم تنطلق منهما ضحكة مرحة.
وهم بنفسي أن أمر أمامه حتى يراني، ووددت لو أمكنني أن أسلم عليه، وأرى كيف يستقبلني ولكني لم أفعل، وبقيت في مكاني أقرأ الوجوه والحركات، وتدافع الراقصون في رشاقة وهم يتناظرون بلحاظ وانية، وكانت ملابس النساء تلمع تحت الأنوار كأنها قوس قزح، والوجوه الحسان السابحة فوق المرتع تبرق بالأدهان والألوان من فوق أكتاف الفرسان الذين يخاصروهن، ويجلن عيونهن النجل في الآخرين والأخريات يفحصن أيهن وأيهم أبهى رونقا، وكانت الظهور البضة العارية تتمم محاسن النحور الغضة السافرة، وأطراف الملابس الزاهية تتطلع نحو الصدور المرمرية كأنها تعجب من بعيد بمحاسنها، وتذكرت فطومة وضحكت في سري وأنا أقول لنفسي: «ماذا كانت تصنع لو كانت هنا؟»
وكان المصورون في شغل جاد يلتقطون المناظر وأنا ساكن في مكاني، فرأيت الأستاذ عطية يتجه إلى السيدة السمراء الجالسة مع السيد أحمد جلال ويطلب منها في ظرف أن تقوم لمراقصته، فقامت تراقصه بعد أن نظرت إلى السيد كأنها تستأذنه بابتسامة أنيقة.
وكانت الساعة عند ذلك الحادية عشرة، وجاء المصورون ليقولوا إنهم قد فرغوا من التصوير، فشعرت بارتياح إلى أني أستطيع أن أخرج من الحفلة، وقمت معهم خارجا بغير أن أحاول أن أستأذن السيد الوجيه صاحب الدار.
وتعمدت في خروجي أن أقترب من السيد أحمد جلال وأمر من أمامه، والتفت نحوه كأنني التفت عفوا ثم أظهرت دهشتي من رؤيته هناك كأنني رأيته فجأة، ومددت يدي إليه لأحييه ولا أستطيع أن أصف دهشته عندما رآني أمامه، فإنه قام مرتبكا وحياني مرحبا تحية صديق عزيز قديم، ودعاني إلى الجلوس معه، ولكني اعتذرت وحييته منصرفا برأس مرفوع، وداخلني زهو عظيم وسرور فيه كثير من الخبث عندما رأيت أمارات الدهشة والارتباك التي بدت على وجهه عند انصرافي.
ولما وصلت إلى العربة ارتميت على مقعدي كأني خارج من صراع عنيف، وبقي رأسي يدور بما فيه من الصور حتى وصلت إلى «بريد الأحرار»، ودخلت إلى مكتبي وأخذت أكتب وصف الاحتفال.
ولست أدري بأي أسلوب كتبت ولا ماذا كتبت، ولم يكن الأستاذ علي مختار هناك، ولكنه ترك أمرا بإعداد وصف الحفلة للنشر في الصفحة الأولى، وبقيت في مكتبي حتى قرأت البروفة، وخرجت ذاهبا إلى منزلي، وكان الإعياء النفسي والذهني قد بلغ مني مبلغا عظيما، فما كدت أخلع ملابسي، وأرقد على سريري حتى غبت في النوم فلم أشعر بشيء حتى ضحى اليوم التالي.
الفصل الخامس عشر
نزلت متأخرا في الصباح التالي من أثر السهر في الليلة السابقة، فلما وصلت إلى دكان الشيخ مصطفى كانت الساعة تقترب من الظهر، وحياني الشيخ قائلا: ألف مرحبا.
وكانت الألسنة منذ حين تلوك قصة الوزير الذي يستقبل قاصديه بعدد من المرحبات وهو يقصد الجنيهات التي يطلبها منهم لقاء قضاء حاجاتهم.
فقلت ضاحكا: لا أستطيع والله يا شيخ مصطفى.
فقال لي مقهقها: لا تخف يا سيد أفندي فأنا أعرف أنك لا تحتمل عشر مرحبات، وعلى فكرة أرجو أن تدفع لي المرحبا التي عندك؛ فقد كسروا صندوقين من «الكوكاكولا».
ولاحظت عند ذلك أن أمام الدكان عددا من الزجاجات المحطمة.
فقلت: ما هذا؟
فقال: الحمد لله يا سيد أفندي خلصت منهم بجلدي، يا حفيظ يا رب، تقول: ألفين تقول: عشرة آلاف، ولا بد من تكسير «بريد الأحرار».
فصحت في فزع: من هم؟
فقال الشيخ: غيلان! مجانين! أعوذ بالله يا أستاذ سيد. أخذوا كل الأرغفة وشربوا الكوكاكولا وكسروا زجاجها ولكن الحمد لله، كم شباك من بريد الأحرار وهتفوا بسقوط الخائن علي مختار وانصرفوا.
ولكن ما لي أنا؟
وأسرعت ذاهبا إلى الجريدة لأرى ما أصابها، ولم يكن بها سوى آثار تحطيم قليل، فذهبت إلى مكتب الأستاذ علي مختار لأعرف منه ما حدث، وكان ظاهر الوجوم يدخن سيجارته صامتا.
وبدأني قائلا: أتعرف ماذا حدث؟!
وكنت أتوقع أن يحدثني عن المظاهرة فقلت في دفعة: هذا إعلان إفلاس من الحكومة، هي لعبة قديمة أصبحت مرذولة.
فأشار بيده إشارة استخفاف قائلا: تقصد المظاهرة؟ هذا عبث لا يهمني، بعض صيحات وبعض ألواح من الزجاج وبعض مضايقات صغيرة، ولكنهم صادروا العدد، ألف جنيه خسارة على الأقل، مائة ألف نسخة كل نسخة بقرش.
وتبسم في مرارة وهو مستمر في حديثه: ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، وأنا آسف يا سيد أفندي؛ لأنك تأبى إلا أن تكتب بإمضائك، كان يمكنني أن أتحمل المسئولية وحدي وأحميك أنت لو كنت تكتب بغير إمضاء أو باسم مستعار كما نصحتك، فأنت مطلوب معي للنيابة في الساعة الثانية بعد الظهر.
ونظر إلى ساعته قائلا: أوه، قم بنا فإن الموعد قد جاء.
وقام عن مكتبه لنذهب إلى دار نيابة الصحافة، وأنا شاعر في قرارة نفسي أنني المسئول عن كل هذه المتاعب، ومما زاد ضيقي أنني كنت عازما على السفر إلى دمنهور في المساء بعد انقطاعي عن أهلي كل هذه الأشهر، ووقفت بنا العربة آخر الأمر أمام دار نيابة الصحافة ونزل الأستاذ علي مختار، ونزلت وراءه حتى دخلنا إلى مكتب السكرتير وكان مزدحما بالجالسين، فذهب الأستاذ علي إلى الجالس على المكتب وهمس له بكلمات.
فهز الشاب رأسه وتلفت حوله في فتور، ثم قام ودخل إلى مكتب محقق النيابة فبقى فيه حينا، ثم عاد إلى الأستاذ فدعاه للدخول.
وبقيت وحدي أتلفت حولي إلى وجوه الجالسين وكانوا أخلاطا لا أعرف منهم وجها، وتطلعت نحوي عيون كثيرة تفحصني، وكنت في ملابسي القديمة فخشيت أن تحتقرني الأنظار، فرفعت رأسي وسرت في هدوء واستعلاء نحو النافذة القريبة، فاتكأت عليها وأشعلت لفافة من صندوق السجائر الفاخر الذي اشتريته بالأمس، وجعلت أنفخ دخانها وأنا أدير بصري في الغرفة ثابتا.
ولم يطل بقائي هناك ثم رن الجرس وقام السكرتير مسرعا إلى غرفة المحقق وهو المدعي العام نظرا لخطورة التهمة.
ثم خرج بعد قليل ونادى باسمي، فألقيت عقب السيجارة على الأرض ودستها بقدمي في شيء من التحدي، وسرت نحو الغرفة رافعا رأسي، حتى دفع السكرتير الباب بيده، ونقر عليه بأصبعه مستأذنا فدخلت بغير أن ألتفت إليه، ووجدت نفسي في غرفة صغيرة ليس فيها سوى كرسي كبير من الجلد يجلس عليه الأستاذ علي مختار، وكرسي آخر يجلس عليه كاتب النيابة.
فالتفت حولي لفتة توحي بأني أبحث عن كرسي لأجلس عليه فقال المحقق هادئا: لا مؤاخذة فإن المقاعد قليلة، ولن نحتاج إلى وقت طويل.
وأخذ يقلب في ملف الأوراق التي أمامه على المكتب، وكاد الغضب يدفعني إلى أن أحتج لولا أن الأستاذ علي مختار نظر إلي باسما، وأشار إلى جانب كرسيه الجلدي لأجلس عليه، فوجدتها فرصة لإظهار ما في نفسي من التحدي، وجلست على طرف ذراع الكرسي ووضعت ساقا على أخرى.
ولم يخف عني ما داخل المدعي العام من الامتعاض، فشعرت بارتياح جعلني أنتظر هادئا.
وسألني قائلا بعد المقدمات المعروفة: ماذا تقصد بقولك: «هذا العهد التعس؟»
فقلت في فتور: لست أفهم أولا ما هي تهمتي، ما هو الموضوع الذي جئت من أجله؟ وأي مقال هذا الذي تشير إليه؟ وهل تقصد مقالا أم تقصد كلمة قلتها في الطريق؟
فقال في شيء من الامتعاض: طبعا هنا نيابة الصحافة، وهذا مقالك الذي كتبته بالأمس.
فقلت في دفعة: هذا كلام بسيط واضح ليس فيه غموض، أقصد هذا العهد التعس الذي نعيش فيه اليوم، هذا العهد الذي أهدرت فيه القيم الإنسانية وكل الأقداس القومية وكل أصول الحكم المستقيمة، حتى بلغ الأمر إلى ما نراه كل يوم ونسمعه كل يوم، وحتى أصبح الناس لا يستطيعون أن ...
وكدت أمضي في شبه محاضرة عن فساد الأحوال، ولكن المدعي العام قاطعني قائلا: هذا غير ما أقصد، فإني أسألك عما تقصد بكلمة العهد، فإن العادة أن تستعمل كلمة العهد إذا قصد الملك.
وكانت صدمة شديدة ذكرتني بالتحقيق الذي بدأ فيه الضابط في دمنهور، ولم أملك نفسي من الضحك قائلا: أهي اللعبة المعروفة؟
فصاح غاضبا: أرجو أن تزن ألفاظك يا أستاذ.
فقلت مندفعا: أظن أني أعرف كيف أزنها؛ لأني أقصد ما قلته تماما: هي لعبة قديمة؛ لأن هذه ليست المرة الأولى التي أسمع فيها مثل هذه القصة، إننا نكتب للقائمين بالحكم ولسنا نقصد من وراء هذا أن نخاطب الملك، الملك لا يحكم كما هو نص الدستور، فماذا يدعوكم إلى تأويل قولي على أني أقصد الملك؟ فهل كلمة العهد لا تقال حقا إلا إذا قصد منها الملك؟
لو كنا في بلد تقول في صراحة: إن الملك يحكمها حكما مطلقا. لكان هذا القول الذي تقوله يا سيدي المحقق معقولا، ولكنا في بلد يزعم أن له حكومة دستورية مسئولة تعود عليها كل تبعات الحكم إذا كان فاسدا، الملك يحكم بواسطة وزرائه، ولا يعفي الوزير من المسئولية أن يوجه إليه الملك أمرا كتابيا يخالف القانون. أليس هذا هو الدستور؟ سلني إذا شئت عن البراهين التي تدل على أن هذا العهد تعس حقا تجد عندي من الأدلة ما يكفي للبرهان على أنه تعس قذر نجس. إن الأولى بالمحاكمة هم هؤلاء الجالسون في مقاعد الحكم، فلا تحاورني بالتعريج على ناحية العرش فإنها لعبة قديمة كما قلت.
فضحك المحقق ساخرا وقال: يظهر أنك قديم العهد بالتحقيق في معنى كلمة «العهد».
متى كان ذلك التحقيق؟
فوثبت على قدمي قائلا: هل دعيت إلى هنا لأسمع سخرية؟ ما تهمتي حتى أعرف في أي موضوع تسألني؟ أم هو تحقيق غير محدد يشمل كل تحقيق سابق لا علاقة له بالوقت الحاضر؟ أحب أن تثبت في هذا المحضر أني محتج على سؤالي في موضوع سابق لا تعرف عنه شيئا إلا من كلمة عارضة قلتها.
فقال في جمود: لك أن تقول كل ما تحب، وهذا الكاتب يثبت كل ما تجيب به، فقل لي الآن ماذا كان موضوع تهمتك الأولى.
فقلت في تحد: لم توجه إلي تهمة.
فقال: ألم تقل إنها لعبة قديمة، وإن مثل هذه التهمة وجهت إليك من قبل.
فقلت: أقول لك: إنه لم توجه إلي تهمة، كانت لعبة أراد بعض خصومي أن يلعبوها فلم ينجحوا، أرادوا أن يهوشوا علي بألعوبة العيب في الذات الملكية، ولكن البوليس نفسه لم يجد من مصلحته التورط في اللعبة، فصرف الموضوع بغير أن يعلق عليه أهميته، حتى إنه لم يكتب لي محضرا. هذا كل شيء.
فاستمر في جموده وقال: من هو الطاغية الذي يفسد الأخلاق ويهدم تقاليد البلاد؟
فشعرت بالخطر ولم أتذكر أني كتبت شيئا من هذا فقلت في دهشة: أرجوك أن تقرأ لي الفقرة التي تشير إليها.
فأخذ يقرأ في هدوء: «وكان أول ما طالعني منظر هذه الفتيات في ثيابهن الحريرية الملونة ...»
فصحت قائلا: هذا مثال لم يظهر لأنه عدد الجريدة صودر.
فقال: ولكنك كتبت هذا أليس كذلك؟
واستمر في قراءته: «ألا ما أبدعها من ألوان زاهية مفصلة على قدودهن الرائعة الممتلئة بالحياة، ولكني لم أتأمل تلك القدود كما لم أتمتع بحسن الوجوه؛ لأني شغلت عن ذلك بسؤال خطير، فهل انتقلت القاهرة فجأة من القرن العشرين إلى القرون الخالية التي كان فيها الرجل يستطيع أن يشتري غادة هيفاء من السوق المجاورة؟ هل اشتريت هذه الفتيات كما يشترى البطيخ الحلو أو كما تشترى باقة الأزهار البديعة؟ إنها لنكسة شديدة أن نعود إلى العصور المظلمة في هذا العهد التعس الذي هوى به الطغيان إلى حضيض الفساد، ودنس فيه أسمى ما كسبته الكرامة الإنسانية.» ووقف المدعي العام عن القراءة، فنظر إلي كأنه يقول: إنه صرعني تحت قدميه.
فقلت في هدوء: أهذا كل ما هناك؟
فأجاب متحديا: ألا يكفيك هذا؟
فقلت: وأين ذكر الطاغية، لم أذكر سوى الطغيان.
فأجاب قائلا: هذا لا يهم فالجريمة تقع بغير حاجة إلى ذكر الشخص صراحة، العيب في الذات الملكية هو ذلك الشيء «الذي يمكن أن يمس من قريب أو بعيد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تصريحا أو تلميحا تلك الذات الملكية.»
فقهقهت قائلا: هذا تعريف بديع يليق أن يكون شركا لكل صيد كبير أو صغير سواء تكلم أو أشار أو تنفس أو سعل، لا يا سيدي، هذا كلام غير جدير بعقولنا، واسمح لي أن أمتنع عن الإجابة فإني أراها مهزلة.
وتجهم وجه المحقق حتى حسبته ينفجر غاضبا، ولكن في تلك اللحظة دخل علينا سكرتير المكتب وهمس في أذنه.
فقام في شيء من التأفف إلى غرفة مجاورة، وأغلق بابها حينا، وبقيت مع الأستاذ علي مختار وحدنا، فقلت له في دفعة: أنا آسف يا أستاذ علي؛ لأني سببت لك هذه المتاعب، لم أعرف من قبل أن مقالي هو السر في مصادرة عدد اليوم.
فقال الأستاذ علي: هي خطة مدبرة لا علاقة لها بمقالك ولا بمقالي، إذا لم يصادر العدد بسببك فإنه يصادر بأي سبب آخر، ألا تذكر أن هذه هي المصادرة الرابعة في بحر ثلاثة أشهر، ومع ذلك فقد كان القضاء يفرج عن العدد في كل مرة.
ودخل المحقق فقال: مبروك: أفرج عن العدد وأمامنا وقت طويل للاستمرار في التحقيق.
ولا أستطيع أن أصف الشعور بالخلاص الذي غمرني في تلك اللحظة، حتى أستطيع السفر إلى دمنهور.
وكان سرور الأستاذ علي مختار أشد من سروري وأوضح، فما كدنا نصافح المحقق، ونخرج من الغرفة حتى أمسك بذراعي وضمها إليه ونحن سائران قائلا: لن تبقى في السوق نسخة واحدة من عدد اليوم بعد هذه المصادرة المؤقتة.
فقلت: وأظنك تسمح لي بالسفر إلى دمنهور لقضاء يومين مكافأة لي على هذا.
فقال ضاحكا: هذا غير ممكن. علينا أن نستفيد من كل الظروف التي تتهيأ لنا، غدا صباحا سيظهر مقال من أعنف مقالاتك في مهاجمة الجبناء الذين يتدارون وراء العرش ليستردوا فساد حكمهم.
واضطررت أن أستأذنه قبل أن تغلق أبواب مكاتب البريد لإرسال حوالة بريدية إلى صديقي عبد الحميد عياد؛ لكي يوصلها إلى أمي كما أفعل دائما في أول كل شهر.
الفصل السادس عشر
مضى علي أسبوع وأنا لا أكاد أفيق لنفسي من غمرة العمل، وكنت لا أكاد أجد فراغا إلا في ساعة الظهر لأخطف لقمة صغيرة حيث أكون.
وذهبت في ساعة الظهر في أحد الأيام إلى دكان الشيخ مصطفى حسنين لأشتري غدائي، فسمعته يبادرني قائلا: البقية في حياتك يا سيد أفندي.
فقلت في لهفة: ماذا حدث؟
فقال: ألست من دمنهور؟ السيد أحمد جلال: تعيش أنت! وكنت لم أقرأ صحف الصباح من كثرة مشاغلي، فأخذت «الأهرام» التي مد الشيخ بها يده، وأخذت أقرأ: «جاءنا من مراسلنا في دمنهور أن المدينة روعت على غير انتظار في ساعة متأخرة من الليلة الماضية بوفاة محسنها الكبير وزعيمها الوطني العظيم السيد أحمد جلال!»
وتخاذلت قوتي فجلست على الدكة وأنا ذاهل أعيد قراءة الخبر مرة بعد مرة، كأني لا أصدق عيني، أما كان في تمام صحته وقوته في ليلة الاحتفال بدار السيد الوجيه جمال الدين منذ أسبوع؟
وكنت كلما قرأت الخبر مرة قلت في تأثر: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ولو كنت فقدت أعز الناس عندي لما شعرت بهزة أشد من الهزة التي شعرت بها عند ذلك، وامتزج في قلبي الأسف والرثاء والحزن والدهشة في وقت واحد، وغلبتني عيني فجعلتني لا أبصر من وراء غلاف الدمع، وسبحت في تأمل الحياة في خشوع العاجز الذي يظهر له عجزه على حين فجأة وهو ساه عن الحقيقة الخالدة في ضجة الحياة الزائلة، إنها دنيا صغيرة فيها أشباح تأتي صورها وتذهب فوق سحابة، ولكننا - معشر الفانين - نحسبها حقائق ثابتة.
وناداني الشيخ قائلا: أتعرفه؟
فقلت في صوت خافت: كان له فضل عظيم علي، ولكن الظروف قطعت بيننا ولم تطل به الأيام حتى أستطيع أن أوفي له ديني.
مات وما زال دينه باقيا في عنقي.
وهز الرجل رأسه متأثرا وقال: البقية في حياتك يا سيد أفندي، دنيا زائلة، دنيا فانية، هل ترك أولادا؟
فقلت: فتاة وحيدة.
وخفق قلبي خفقانا شديدا وأنا أتصور حزن منى الشديد في وحدتها.
فقال: أكان مريضا؟
فقلت: رأيته في أتم صحة منذ أسبوع.
فهز رأسه مرة أخرى قائلا: آجال يا سيد أفندي.
ولم أسمع ما قاله بعد ذلك؛ لأني انصرفت إلى أفكاري الحزينة وإلى منى.
وقمت مسرعا بغير أن ألتفت ورائي، وذهبت إلى دار الجريدة، فكتبت ورقة وسلمتها للبواب ليوصلها للأستاذ علي مختار إذا عاد في المساء، وذهبت من ساعتي إلى المحطة لأسافر في أول قطار أجده على الرصيف، وكان من حسن حظي أن وجدت قطارا يقوم بعد ربع ساعة، وكنت طوال الطريق غارقا في حديث داخلي مستمر، أين دمنهور وما للقطار يسير بطيئا؟ هكذا الدنيا تمضي سريعة بنا ونحن نستبطئ الأيام والليالي والشهور، والقطار يسير دائما إلى الأمام لا يرجع إلى الوراء خطوة، ويقطع الطريق شبرا شبرا حتى يجمع الأميال بعد الأميال لكي يصل أخيرا إلى دمنهور إلى الغاية الأخيرة كما تفعل بنا الحياة، هكذا بلغ السيد أحمد نهاية الطريق. الانتخابات والسرادقات والمظاهرات ومصطفى عجوة وحمادة الأصفر وكل ذلك ينتهي في لحظة، ووقف القطار في طنطا، وبدأ الناس ينزلون ويصعد غيرهم إلى العربة، كل هؤلاء يجتمعون ويتحادثون ويتجادلون ثم يهبطون من القطار لكي يستقبل القطار طائفة أخرى غيرهم حتى ينزل الجميع آخر الأمر إذا جاءت النهاية، وتذكرت يوم سافرت إلى القاهرة أول مرة ورأيت راكبين يتعاركان، هل هناك أحمق من راكب في قطار يعارك جيرانه؟ إنه لن يلبث أن يتركهم أو يتركوه!
وكانت عودتي إلى منزلي مفاجأة، وبكت منيرة عندما رأتني، وأما أمي فقد ضمتني إلى صدرها، وقالت في حزن: طبعا عرفت المصيبة الكبرى، مسكينة منى!
ووثب قلبي عندما سمعت اسمها، وقلت: هل ذهبت للعزاء؟
فقالت: طبعا يا بني، من كان يحسب أنه يموت هكذا؟ وماذا أخذ المسكين معه؟ إنها قسمة يا ابني، ومنى المسكينة! تكاد تقتل نفسها من البكاء، لو أنصفت الدنيا لكانت منى من نصيبك يا بني.
يا ليتها لم تكن غنية، منى الجميلة الوديعة! مسكينة.
وكدت أصيح: «ما الخبر؟» ولكني داريت لهفتي قائلا: وهل هي أول فتاة مات أبوها؟
فخفضت أمي صوتها قائلة: كفانا الله الشر يا ابني وكفانا شماتة الأعداء، لا أحب أن أعيد ما قيل؛ لأنه فظيع، وربنا يستر أعراض الناس.
فوثب قلبي إلى حلقي، وأردت أن أسأل أمي عن قصدها، فلم أقدر على النطق، واستمرت أمي تقول: الموت محتوم علينا جميعا، ولكن الفضيحة يا ولدي، إنها مصيبة، تصور يا ولدي أن امرأة لا قيمة لها تقتل الرجل، نعم امرأة حقيرة قتلته؛ لأنها ملأت المدينة بالفضيحة، والأدهى من ذلك أن يقوم رجل لا قيمة له أيضا، ويقلب المدينة من فوقها إلى تحتها بالتشنيع على السيد أحمد المسكين. أتعرف حمادة الأصفر؟
فقلت في حنق: لست أفهم ماذا تقصدين يا أمي بكل هذا؛ لأني لم أسمع بشيء عن السيد أحمد جلال سوى أنه مات، ما هذه الفضيحة؟ ومن هي المرأة التي قتلته؟ وما دخل حمادة الأصفر في هذا؟
فقالت أمي: من يصدق أن السيد أحمد جلال يتزوج بامرأة حقيرة؟ ومن يصدق أنها ولدت منه ولدا مع أنه كان مستعدا للتصدق بنصف ماله إذا ولدت له زوجته ولدا، ذهبت المرأة في كل أنحاء المدينة تعيد هذا القول لتفضحه، وقام حمادة الأصفر معها يساعدها، ورفع لها قضية في المحاكم، مسكين السيد أحمد جلال، بعد ثلاثة أيام من هذه الفضيحة رقد السيد أحمد مريضا ومات في ليلة واحدة، أيصدق أحد هذا؟
فقلت في هدوء: ولم لا ؟
فقالت في لوم: أنت أيضا تقول هذا؟
فقلت: لست أقول هذا وليس الأمر متوقفا على قولي، المهم هو هل هذه المرأة زوجته؟ هل عندها وثيقة زواج؟ هذا هو المهم.
فصاحت أمي: ما هذا الكلام يا ابني؟ لا يمكن! لا يمكن أبدا. أتقول كما يقول الناس يا سيد؟ عيب يا ولدي، هل كان السيد أحمد مختل العقل حتى يتزوج امرأة مثلها، إنها مصيبة! وتقول مع هذا أن المهم هو الوثيقة؟
وسبحت في تأمل هذه الأقوال صامتا وأمي تتحدث في صوت غاضب حزين بأقوال لم ألق انتباها إليها.
كنت أسأل نفسي: من تكون هذه المرأة؟ وما هو ذلك الولد؟ وهل هو حمادة الأصفر يظهر مرة أخرى بإحدى ألاعيبه الخبيثة؟ أتكون هي المرأة التي حدثني عنها من قبل في هذيانه: زينب الشقراء أو السمراء؟ وما السر في أنها لم تبدأ فضيحتها إلا في هذه الأيام مع أن علاقته بها إن كانت صحيحة تبدأ منذ سنوات؟ وكانت صورة منى دائما أمامي حزينة تبكي وتشعر بالذلة.
وتنبهت بعد حين إلى صوت أمي وهي تدعوني إلى العشاء، فقمت فاترا مستسلما وذهبت لأغسل رأسي من تراب السفر، وأكلت شيئا خفيفا حتى لا أظهر مبلغ اضطرابي واهتمامي، ثم قمت لأذهب إلى دار السيد أحمد المسكين؛ لأؤدي واجبي في العزاء.
وكان في فناء المحلج سرادق كبير في المكان الذي كان فيه السرادق الضخم في آخر ليلة ذهبت فيها إلى المحلج في أيام الانتخاب، فدخلت بنفس جياشة أسير على مهلي حتى جلست في أقرب مكان من السرادق، وأقبل مصطفى عجوة مسرعا نحوي وحياني شاكرا كأنه صاحب «المعزى»، وجلس إلى جانبي يهمس لي بعبارات المجاملة المعتادة، وأجبته بالعبارات المألوفة في الرد عليها.
ومال علي قائلا: أتحب أن تصعد إلى الدار للعزاء؟
فشعرت له بما يشبه الشكر وقلت: إذا كان ذلك ممكنا.
فقام آخذا بيدي حتى بلغنا الطبقة العليا وتقدمني إلى رأس السلم وصفق للخادمة وهمس لها بكلمات قليلة، وبعد لحظة جاءت السيدة نور في ملابس الحداد، وكنت لم أرها منذ أشهر طويلة، فما وقعت عينها علي حتى أجهشت بالبكاء، فاختنق صوتي برغمي ولم أستطع أن أنطق، واستغرقت السيدة في البكاء حتى اتكأت على حاجز السلم، ووضعت منديلها على عينيها مفحومة ... فاقتربت منها قائلا: تجلدي يا سيدتي.
فقالت: أشكرك يا سيد أفندي، وأرجو أن أراك قبل عودتك إلى القاهرة، نحن هنا وحدنا وأنت مثل ولدي.
فقلت متأثرا: هو مصابنا جميعا وأنا تحت أمرك في كل وقت.
ولما مدت يدها إلي انحنيت عليها لأقبلها، ولكنها سحبتها قائلة: الله يبارك فيك يا ابني.
وعدت إلى أسفل الدار وقد ملأني شعور المواساة والعطف، كما أرضيت كبريائي بأنني قد أصبحت موضع الأمل عند السيدة أم منى، ولما عدت إلى السرادق ذهبت أسير بين صفوف المعزيين لأحييهم شاكرا لهم سعيهم، وأخذت مجلسي على مقربة من الباب لأتلقى العزاء عند خروج المعزيين كأني أحد أفراد الأسرة، ومال علي مصطفى هامسا: لا شك أنك سمعت بكل شيء؛ لأن هذه البلدة مثل القدر تغلي وتفور بما فيها، وأهلها مثل السمك يأكل بعضه بعضا، سمعت حكاية المرأة طبعا والله يرحم الرجل الطيب، الشاهد يا سيد أفندي لو كان أطاعني من أول الأمر لأعطى حمادة الأصفر كل ما أراد، كان لا يريد أكثر من مائة جنيه، ولو أعطاه السيد ذلك المبلغ لما حدث شيء، ولكنه طرده وشتمه فخرج الخبيث يهدد، وأنا أعرف من هو حمادة الأصفر، تصور أن الرجل الطيب يسيء الظن بي عندما نصحته بأن يدفع لحمادة مائة جنيه، واتهمني بأني أريد مشاركته؟ الله يسامحه ويرحمه، هذه الدنيا مثل أحجار الطاحون تطحن من فوق ومن تحت، النهاية يا سيد أفندي! في ليلة واحدة راح الرجل الطيب وترك وراءه الدنيا تخبط تقلب، فماذا يأخذ محمد باشا إذا كانت الست زينب تخرج بأكثر التركة لابنها المحروس؟ يا سلام! فضيحة للسماء وخراب بيوت وربك يستر يا سيد أفندي.
وكانت الساعة عند ذلك قد بلغت العاشرة والنصف، وفرغ المقرئ من القراءة، وقمنا لأخذ العزاء من الخارجين، وانصرفت بعد قليل معتذرا إلى مصطفى عجوة بأني ذاهب إلى موعد هام حتى لا يسير معي، واتجهت نحو شاطئ الترعة لأعيد على نفسي في هدوء الليل ما سمعت من مصطفى.
وكان البدر ساطعا في السماء الصافية والجو دافئا والشاطئ ساكنا، فسرت على مهلي أفكر في هذه المعركة العنيفة التي تدور في طي الخفاء حول جثة رجل لم يمت إلا بالأمس، هذه المرأة تستطيع أن تصبح من أكبر أغنياء المدينة، وهذا الولد الذي لا يدري أحد من أين جاءت به يستطيع أن يصبح من أعظم السادة في البلاد، هذه الحقوق القانونية التي توزع بها المقادير الخطوط وهي مغمضة العينين! من هؤلاء الذين يملكون الألوف من الأفدنة وألوف الألوف من الجنيهات الذهبية؟ أبناء الإماء الذين يكبرون ليصيروا سادة وينسى الناس أنهم أبناء الإماء، وأبناء اللصوص وقطاع الطرق وأبناء تجار الحشيش وتجار الأعراض، وأبناء النساء اللاتي يبعن أجسادهن وأبناء وسطاء الخيانة والدنس ومصاصي الدماء، كل هؤلاء يبسطون سلطانهم على الحياة عندما يرثون الضياع ويملكون الخزائن، ها هم يريدون أن يزيدوا امرأة ساقطة وولدا دعيا!
والتهب قلبي بهذا التفكير حتى بدا لي أن منى أكبر من أن تكون صاحبة آلاف الأفدنة وآلاف آلاف من الجنيهات، لماذا لا تتجرد من هذه الأموال العفنة وتتركها للمرأة وولدها وتعود وهي إنسانة سليمة؟ لماذا لا تخلع هذه الأدهنة اللزجة التي تجعل الذباب يتساقط عليها: محمد خلف وابنه محمود الأبله؟ لماذا لا تعود إلي أنا ونهرب معا من هذا المستنقع العفن.
وضاق صدري وأحسست أن الهواء راكد خانق، وأن رائحته العطنة تكتم أنفاسي، وعرجت إلى أول طريق يتجه إلى داخل المدينة؛ لأذهب إلى بيتي وفكرت في التبكير صباحا؛ لأعود إلى القاهرة تاركا هذه المعركة السخيفة لأصحابها، وكانت الطريق حارة منحدرة قذرة فيها بعض القهاوي والحانات الحقيرة، مصابيح بترول خافتة الضوء على الجانبين معلقة فوق المداخل، وجماعات قليلة مهلهلة الثياب تشرب أكوابا من الشاي الأسود، ولم أدر ما الذي جعلني أنظر إلى الحانة المظلمة التي عرجت إلى الطريق العام من جانبها وكان في وسطها مصباح بترول زجاجي وفي صدرها منضدة طويلة عليها بعض زجاجات وأوان مبعثرة، وكان المصباح يلقي ضوءه الخافت على صاحب الحانة اليوناني وهو واضع يديه في جيبه أمام منضدة صغيرة يجلس عليها حمادة الأصفر.
يا له من فأر قذر يختار الجحر الملائم له، ووجدت نفسي أندفع داخلا كأني كنت أبحث عنه، وكانت الكأس التي أمامه ما تزال نصف مملوءة من خمر قاتمة اللون، وحملق حمادة في وجهي لحظة ثم وثب قائما وهو يترنح، ثم فتح ذراعيه وتقدم نحوي يريد أن يأخذني بينهما، وصاح صيحات مختلة لم أفهم ما يريد بها سوى أنها ترحيب مختلط بالأسف والاعتذار.
ورددته في شيء من التقزز؛ لأني لم أطق رائحته، فتراجع عني وكانت نظرته بلهاء منكسرة بعينين زائغتين وشفتين متدليتين ظهرت من تحتهما أسنانه الصفر «المشرشرة».
وصاح بصاحب الحانة بلسان معوج: ماذا عندك يا منولي؟ ما لك واقفا هكذا كاللوح؟ ألا تعرف من هذا؟ أشرف رجل في دمنهور وأحسن كاتب في الدنيا.
واتجه نحوي قائلا: تفضل يا سيد بك، تفضل وإن كنت لا أستحق أن تجلس معي، أنا وغد، أنا حشرة، أنا دون يا سيد بك، لك الحق في أن تغضب علي وأن تقول إني نذل ووغد وحشرة، قل لي ما تريد في وجهي فأنا أستحق.
هات الكرسي يا خواجة، نظفه؛ لأنه قذر مثلك ومثلي، ها ها ها، يا منولي يا خواجة الأنذال، يا خواجة الرعاع.
وجاء منولي بكرسي ومسحه بفوطته ونظر إلي مستفهما.
فجلست وقلت له: لا أريد شيئا.
فصاح حمادة: أقسم بالله أن تشرب شيئا، لا بد أن تشرب، بشرفي، ها ها ها، أليس عندك غير هذا الروم الزفت يا منولي؟
ورفع الكأس فأفرغ ما فيها، وخبط بها على المنضدة.
وذهب الخواجة فانتهزت الفرصة قائلا: اسمع يا حمادة، أحب أن تسير معي قليلا.
فقام يتطوح معي واتجهت به إلى شاطئ الترعة الخالي وقلت له في الطريق: أحب أن تقول لي الحق عن هذه القصة.
ما هي حكاية السيد أحمد جلال؟
فوقف ممسكا بذراعي وقال: النذل، الكلب مصطفى عجوة، أحلف لك أني لطمت على وجهي كالنساء عندما ذهبت إلى محلج السيد أحمد جلال بعد أن هدمنا السرادق الذي كنت فيه؛ لأن هذا المصطفى أعطاني خمسة جنيهات، أقف بالعصا في وجهك وأقول لك: «يلا من هنا» بخمسة جنيهات؟ أنا الوغد! أنا النذل! كنت لا أنتظر أقل من مائة جنيه، وحلفت بشرفي أن أنتقم منه لأجل خاطرك، وذهبت إلى زينب لأشكو لها ولكنها طردتني، ماذا أعمل؟ الصبر طيب يا سيد بك، وصبرت عدة أشهر وأنا ألطم وجهي وألوم نفسي وألعنها. بخمسة جنيهات أقف في وجهك بالنبوت وأقول لك: «يلا من هنا»؟!
وفي يوم من الأيام جاءت زينب إلي وقالت: إنها غاضبة على السيد أحمد جلال. نعم ذهب إلى مصر وعضو مجلس نواب وهناك الدنيا الواسعة والحسن والجمال والعظمة، والست هدى المشهورة، وأصبحت زينب لا تستحق أن ينظر إليها.
واتفقنا على الانتقام، أنا أنتقم لك وهي تنتقم لنفسها، وأخذت منها ورقة الزواج، وأعطتني نصف جنيه، وقلت لنفسي: سآخذ منه مائة جنيه، وذهبت بنفسي للسيد أحمد جلال وهددته بالفضيحة. نعم كانت الورقة في يدي قسيمة زواج صحيحة. زواجه من زينب.
وقلت له: إن الورقة معي، ولكنه طردني كالكلب، وذهبت إلى القهوة ودمي فائر وكان مصطفى هناك، فوضعت الورقة أمام عينه ليقرأها، وأراد اللعين أن يخطفها مني يحسبني سكران، ولكن قلت له: «بعينك» وفي ليلتها أحضرنا المأذون يا عم وخطفتها منه، نعم خطفت زينب منه بعد أن رفستني برجلها من أجله وهي الآن في يدي أنا، زوجتي! نهايته مات في ليلة واحدة ولا طبيب ولا زيطة ولا هيصة، ولكن مصطفى عجوة لم يمت؛ لأنه كالبغل كل يوم يزيد بالقنطار.
ثم سكت عن هذيانه، واستند إلى الحائط.
فصحت في سري أنطق: أيها النذل.
وأردت أن أشجعه على الحديث فقلت: مبروك يا حمادة! وهي ما تزال معك؟ زينب؟
فقال: من ليلتها، في نفس ليلتها، وهي التي دفعت الجنيه للمأذون وكل يوم ريال يا سيد بك، وزينب تقول لي: في داهية! والله لأفضحه، والولد! ابنه طبعا!» انتهى يا سيد بك ومهنى أفندي يقول: انتهى وصرنا من الأعيان! طلبت منه مائة جنيه فطردني، أما اليوم ولا عشرين ألف جنيه ولا خمسين ألف ولا مائة ألف! وأخذ يصفق بيديه ويغني صائحا: ولا خمسين ألف يا عيني! ولا مائة ألف يا ليل! ودار رأسي من اضطراب هذيانه ومن رائحة أنفاسه، وذهبت عنه مسرعا حتى وصلت إلى منزلي وأنا لا أكاد أقدر على التفكير في شيء، وغسلت وجهي واستنشقت بماء كثير لأذهب رائحة الخمر الرخيصة من خياشيمي واستلقيت لأستريح، ولكني لم أستطع النوم؛ لأن شريطا طويلا من مناظر مختلفة كان يسرع أمام بصري.
الفصل السابع عشر
كان أول ما خطر لي في الصباح أن أسافر إلى القاهرة وأبعد عن دمنهور وفي دخيلة وعيي أسئلة محيرة كثيرة، ولكني بقيت مترددا حتى صارت الساعة العاشرة، وتبدل عزمي إلى ضرورة البقاء حتى أرى خاتمة القصة المحزنة التي يمثلها حمادة الأصفر وشريكته زينب، ونزلت من البيت على نية الذهاب إلى صديقي عبد الحميد عياد، وعرجت في طريقي على قبر والدي لأقرأ عنده الفاتحة، ثم مضيت في سبيلي حتى بلغت مفترق الطريق بين شارع «أبو الريش» والحارة التي تتجه إلى بيت عبد الحميد، ومن العجيب أنني اتجهت بغير تردد إلى بيت المرحوم أحمد جلال كأنني كنت أقصد الذهاب إليه منذ البداية.
ولما دخلت إلى الدار وجدت جوه يبعث الكآبة والحزن، وقادتني الخادمة إلى غرفة الانتظار، وكان أثاثها فخما وأضواء النوافذ تنعكس على قطع البلور في ثريات السقف والأركان، ولكن الغرفة كانت مع هذا تبدو مظلمة، كانت التحف الثمينة منكسة على حواملها، والستائر والأبسطة مقلوبة على وجوهها، والصورة الكبيرة المعلقة في الصدر مجللة بالسواد تظهر رب البيت الراحل كأنه هو الحزين، وجلست أتأمل ما حولي وسبحت في تأمل معنى هذه الحياة وسخف أطماعها ومنافساتها ومصادماتها، فلم أستيقظ من سبحي إلا على شخص منى يشرق كأنه شعاع نور في بكرة الصباح، كانت هي بعينيها اللتين تشبهان زرقة البحر الصافي وقامتها الممشوقة يزيدها لبس السواد رشاقة، وقمت لأحييها، فنظرت إلي شاكرة وفي عينيها دمعة، فتجلدت حتى لا أبكي وغمرني حزن عميق كأني أنا أيضا مفجوع بوالدها، ولكني مع هذا الحزن العميق شعرت كأني سعيد؛ لأني رأيت منى على غير انتظار، ولم أجد كلمة أقولها سوى المجاملة المعتادة: البقية في حياتك يا منى.
فقالت بصوت ضعيف: أشكرك يا سيد.
واندفع الدم إلى وجهي أو هكذا خيل إلي عندما سمعتها تناديني باسمي، وقلت لها: علينا أن نتحمل الصدمة يا منى مهما كانت شديدة، وليس لنا من حيلة إلا أن نتحملها.
فأجابت في هدوء: أعرف أنه ليس لنا من حيلة إلا أن نتحمل الصدمة وقد حاولت جهدي أن أتحملها، ولكن فقد أبي على هذه الصورة كان أكبر من صدمة.
ثم ترددت ورفعت منديلها إلى عينيها.
وأدركت إدراكا عاما ماذا تقصد بقولها إن فقد أبيها على هذه الصورة كان أكبر من صدمة؛ فإن ما سمعته من أمي ومن مصطفى عجوة وحمادة الأصفر كان كافيا لجعل موته في تلك الظروف نكبة شديدة.
وصمتت لحظة ثم استمرت تقول: ليس من الهين علي أن أسمع أقوال القريب والبعيد وهم يتحدثون عن أبي الذي كان يملأ حياتي، والذي كنت لا أرى الدنيا إلا في حدود شخصه، ويؤلمني أن تبدأ معركة كلها مطامع وأكاذيب وسخافة ولم يمض على موته إلا يوم واحد، كل الأحاديث تدور حول ما خلفه أبي من المال، وأما هو فلست أجد أحدا يحس بفقده غيري.
ورفعت منديلها مرة أخرى إلى عينيها.
وقلت لها مجتهدا في إخفاء تأثري: تجلدي يا منى؛ فالحياة تمتحننا بأحزانها، لقد فقدت أبي عندما كنت في مثل سنك وأعرف كيف يكون فقد الأعزاء قاسيا، ولكن فقد الأعزاء وما فيه من الأحزان من سنن الحياة القديمة، وعلينا أن نأخذ من الحياة نصيبنا، لا مفر لنا من مواجهة الحياة على حقيقتها، وأن نستمد من أحزاننا كل ما نستطيع أن تهب لنا.
فقالت منى في توجع: وماذا تستطيع أن تهب الأحزان لنا؟ الفراغ الذي خلا من الوالد العزيز والحقائق البشعة التي تتكشف لنا في الأطماع والأحقاد، وهذه الأحاديث الخبيثة التي لا أظنك سمعتها بعد، وهذه المعركة الحقيرة التي يريدون أن يثيروها في المحاكم حول التركة العزيزة عليهم ولا يبالون فيها أن يمزقوا سمعة أبي ويلوثوها في سبيل المعركة، لست تعرف يا سيد أي نكبة هذه التي ألمت بنا.
فتجرأت ووضعت يدي فوق يدها وقلبي يسيل رحمة وقلت في صوت خافت: سمعت كل ما قيل يا منى.
ونظرت نحوي بعينيها العميقتين وكانت نظرة كلها ثقة والتجاء، ورفعت يدي عن يدها وقلبي ممتلئ بشعور شديد من المواساة، وبإيمان عميق بأن وقوفي إلى جانبها في ذلك الوقت هو همي الأول والأخير في الحياة.
وقلت لها مستمرا: لا تحزني هكذا من أجل أقوال لا يقصد من ورائها إلا تحقيق أطماع هزيلة.
فقالت في حرارة: إذا كان الأمر لا يزيد على أطماع فليأخذوا ما يشاءون وليتركوا أبي المسكين راقدا في سلام، ليأخذوا كل ما تركه أبي من الأموال ويدعوا لي اسمه كما كان شريفا نبيلا، خير لي أن أكون أفقر الناس وأنا ابنة السيد أحمد جلال الكريم النبيل من أن أكون أغنى الناس واسم أبي ملطخ بالأوساخ.
واندفعت تبكي بكاء شديدا.
ووجدت نفسي أبكي أيضا.
وقلت لها بعد أن خفت حدة البكاء: علينا أن نفكر في الأمر تفكيرا هادئا، واسمحي لي أن أشاركك في التفكير إذا لم يكن ذلك تدخلا فيما لا يعنيني.
فقالت في دفعة: وكيف لا يعنيك يا سيد؟
فزادت جرأتي وقلت في شيء يشبه التحدي: هل لي أن أتدخل في هذا الأمر؟ أليس هناك من لا يرضى عن تدخلي؟
فأجابت في شيء من الدهشة: ماذا تعني؟
فقلت في ثبات: ليس لي طبعا أن أفرض نفسي، ألا تظنين أن ذلك قد يغضب محمود بك مثلا؟
وشعرت كأن طعنة أصابت صدري عندما نطقت باسم «محمود بك».
ونظرت إلى وجهها لأرى أثر قولي فوجدتها مطرقة في وجوم وهي تعبث بأصابعها، ثم أجابت بعد حين قائلة: طبعا لك أن تتدخل وليس لأحد أن يغضب من ذلك.
ولو كان لي أجنحة عند ذلك لحلقت في الجو الواسع؛ لأن الحجرة كانت لا تتسع لي.
وقمت أستأذن قائلا: أشكرك يا منى.
ولما مدت يدها إلي خطفتها ملهوفا ولم أدر ما صنعت حتى كنت قد رفعتها إلى شفتي، ثم أسرعت منصرفا حتى لا أرى تعبير وجهها خوفا من أن ألمح عليه شيئا من الإنكار.
ولما صرت في الطريق تدافعت علي أمواج من الأفكار المضطربة تتوارد من جهات شتى، واتجهت حيث تحملني قدماي، فإذا أنا بعد قليل عند الحانة القذرة التي اعتاد حمادة الأصفر أن يجلس فيها، وكان جالسا هناك يشرب من كأس فيها الخمر الحمراء الداكنة.
ودخلت هاجما عليه كأني أخشى أن يفلت مني، ولما اقتربت منه قام يترنح، وفتح ذراعيه بحركة غير إرادية كأنه يريد أن يعانقني.
فأزحت يديه في شيء من الحدة وقلت له: أريد أن أكلمك كلمة يا حمادة.
فقال: ألست تحب أن تشرب شيئا؟
فجذبته من ذراعه في شيء من القسر وقلت له: الوقت ضيق وأريد أن أحدثك حديثا هاما فيه مصلحتك.
فقام وهو لا يكاد يستقيم من السكر، وسرت به خارجا من الحانة متجها به إلى شاطئ الترعة.
وكأنه أحس بالخطر، فقاومني وجاذبني قائلا: «لم تجرني هكذا.»
ولم أجبه حتى بلغت جانب الترعة، وكان خاليا من المارة والنسيم باردا والجو صامتا، وهززت ذراعه في عنف قائلا: اسمع يا حمادة، أنت تعرف ما كان بيني وبين السيد أحمد جلال عندما كنت أنت تخدمه وتجمع الجموع بالعصي لتقولوا لي: «يلا من هنا.» لا تحاول أن تحتج ولا أن تعتذر، فإني لا أقصد أن ألومك على ما فعلت، بل أريد أن أذكرك بأن السيد أحمد جلال قد انتهى وأنه لم يبق إلا امرأته وابنته منى، أنت تعرف أنهما امرأتان وحيدتان وسأقف بجانبهما، ولن أتردد في شيء إذا اضطررت إلى الدفاع عنهما، قل ما تشاء، واذهب في طول المدينة وعرضها فشنع علي كما تريد، ولكن اعلم أني سأستخدم كل الأسلحة في الدفاع والهجوم حتى أخلصهما من مؤامرتك القذرة.
فصاح في تحد: ما هذا الكلام يا سي سيد؟ أي مؤامرة؟
فقلت له وأنا أكتم غضبي: نحن الآن هنا وحدنا، فلك أن تقول لي ما تشاء، ولي أن أقول لك ما أشاء، نحن هنا وجها لوجه تتكلم بصراحة وحوش الغابة: ثعلب أمام ذئب أو ذئب أمام ضبع يريدان الفصل في معركة حتى الموت.
اسمع يا حمادة، أنا أقصد كل كلمة أقولها لك، ولن أتردد في أن أحطم رأسك بيدي مهما كانت النتيجة.
فضحك ضحكة وقحة، وقال مقهقها: كاتب عظيم والنبي، أهذه قصة تريد أن تمثلها معي؟
ثم عاد فضحك مقهقها.
فكدت أخبطه بقبضة يدي في أسنانه الصفراء، ولكني شعرت كأنه ألقى علي «جردلا» من الماء البارد، فتماسكت وعاودت الكرة: لست أهزل ولست أمثل، بل أقصد كل كلمة أقولها لن أدعهما لألاعيبك التي أعرفها.
ما هذه القضية التي تريد أن ترفعها؟ وما هذه المرأة التي تزعم أنها زوجة السيد أحمد جلال؟ وما ذلك الطفل الذي أخرجته من جرابك؟
فقال: وما دخلك أنت؟
وكدت مرة أخرى أصفعه، ولكني قلت: مثل دخلك أنت؟
فأجاب في سخرية: ألا يكفي تدخل محمد باشا؟ هو يتدخل في مصلحة نفسه، هو يريد أن يأخذ لقمة دسمة تستحق التعب، ولكن ما دخلك أنت؟
إلى أين تجرني يا سي سيد؟ دعني أذهب فلا محل لهذا الكلام، ما لك تجرني هكذا كالكبش العاصي؟ أتريد أن تذبحني؟ ها ها ها، اسمع يا سيد أفندي، أنت رجل شريف فدعنا نحن نتعارك كما نشاء، نحن الحشرات الحقيرة: أنا ومحمد باشا وزينب وأمثالنا.
ووجدت صعوبة في أن أمنع نفسي من أن ألكمه، ومددت يدي إلى كتفه وقبضت عليها في عنف، وهززتها قائلا: دع عنك هذه السخرية إذا أردت أن تعرف مصلحتك.
فقال وهو يتوقف ناظرا إلى وجهي: يعني؟
فقلت في دفعة: يعني أنك تخرج صدري وتثير غيظي وتدفعني إلى أن أمحقك. يعني أنك لا تفهم موقفك الحقيقي ولا مصلحتك.
فقال في حنق لأول مرة: تهددني؟
فقلت مستمرا في دفعتي: أتظن أني جئت بك من الخمارة إلى هنا لأتنزه معك؟
فقال في سخرية: قل لنفسك.
وظهر لي جسمه الضئيل كأنه طفل عنيد، وعجبت لشدة ثباته إذ رأيت أمامي شخصية صعبة المراس، وكان وجهه النحيل يشبه وجه ابن آوي إذا كشر عن أنيابه.
وفكرت في أن أسلك طريقا آخر غير التهديد، فقلت: لست أريد يا حمادة أن أضرب قبل أن أبذل كل جهدي في تسوية هذا الأمر بسلام؛ لأني أشفق عليك.
فأجاب في غضب: ومن طلب منك الشفقة؟ أنا أكره الرحمة ولا أحب أن تشفق علي، لا تظن أني أرضى بأن أكون موضعا للشفقة، لست أخجل من شيء ولا يهمني أن يقول الناس جميعا أني نذل ووغد ومجرم، ما لك أنت؟ أنا آخذ وألعن، وآكل وألعن، وأعيش مع زينب الساقطة، ويحلو لي أن ألعنها وتلعنني، أنا أصرف من كسبها وأعرف أنها ساقطة وأقوم بأية خدمة قذرة في نظير جنيهات قليلة لأصرفها عند منولي، ما لك أنت؟ اذهب عني ودعني.
وانفلت مني في عنف وأسرع منصرفا وهو يقول بصوت خافت: ما لك أنت؟ أنا قط ضال، أنا كلب عقور، أنا فأر قذر، أي شيء ولكني لا أرضى أن أكون موضعا للشفقة، لا أرضى أن أكون كبشا ولا حمارا، أخطف وأخبط! وأرقع، وأشرب الزفت أو أبلع السم! هذا كل شيء، من قال إني أطلب الرحمة؟
وأسرعت وراءه لأدركه حتى قبضت على ذراعه بشدة، وصحت به في ضجر: أتعني أنك عزمت على الاستمرار في المؤامرة؟ أنت تعرف أنها مؤامرة ملفقة، وأنا أعرف أنها كذلك.
فقال صائحا في وجهي: طيب، وماذا تريد؟
فقلت وأنا أهدئ نفسي: أريد أن أذكرك بأنك قلت لي بلسانك أنك مزور، هذا العقد الذي تهدد به لا يساوي مليما.
فصاح: من قال هذا؟
فقلت في ثبات: أنت. ألا تذكر أنك قلت لي إنك تزوجت من المرأة؟ أنسيت أنك تزوجتها وأنها دفعت الجنيه للمأذون؟ فمن هذا الولد الذي ولدته المرأة؟
فصاح في غيظ: كلام فارغ.
فقلت في هدوء: سنعرف أنه كلام ملآن. سأبين ذلك للنيابة لا لك أنت.
فوقف ينظر إلي في حنق وقال: تفضل. اذهب إلى النيابة.
فقلت: سأفعل بغير شك في صباح الغد إذا جاءت الساعة التاسعة صباحا، أمامك مدة طويلة تفكر فيها، ولكن اعلم أني أقول لك كلمتي الأخيرة، لن أرجع إلى الوراء أبدا، الآن فرصتك الوحيدة، ولن أقول لك كلمة أخرى سوى أني أعرض عليك الآن عرضا سخيا لا عن تردد في عزمي، بل لأني ما أزال أشفق عليك برغمي وبرغمك، مائة جنيه في نظير الورقة التي معك.
وكان ينظر إلي في أثناء هذا في دهشة وحشية، ثم قال بصوت حانق: لم أتزوج من أحد، وهذه الورقة التي معي لا أتركها بمائة ألف جنيه.
وتركني وانصرف مسرعا داخلا إلى حارة ضيقة، وسرت في طريقي على الترعة حتى وصلت إلى «كوبري فلاقة»، وأنا حائر مرتبك الذهن لا أدري ماذا أفعل.
وعدت إلى بيتي ودخلت إلى غرفتي، وارتميت على سريري بملابسي، والحيرة تملك علي كل مشاعري ومسالك أفكاري.
وكذبت على أمي، فقلت لها: إني تغديت في المدينة. لكي تتركني وحدي مع الأمواج المتدافعة في رأسي.
الفصل الثامن عشر
كانت الساعة السادسة والنصف مساء عندما جاءت أمي لتدعوني إلى مقابلة طارق عند الباب، فقمت في ضيق ونزلت لأفتح له، وكانت دهشتي عظيمة عندما وجدت أنه حمادة الأصفر بوجهه النحيل وأسنانه الصفر وقامته الضئيلة، فوثب قلبي وقلت له مبادرا: هيه يا حمادة!
فقال في جمود: لا تحسب أني جئت لأرجوك في شيء، أو أني خفت من تهديدك، ليس عندي عقود زواج ولا عقود طلاق، وكل أقوالك لا تخيفني، اسمع يا سيد أفندي، إذا كنت تحسب أن النيابة تخيفني فأنت مخطئ، وماذا تفعل النيابة بي؟ السجن؟ طيب يا عم، نذهب إلى السجن، أهذا كل ما تقصد؟ ألم أقل لك إني حشرة وكلب عقور ووغد؟ ولكن أموال السيد أحمد جلال حرام علي أنا وحلال بلال لك ولمحمود بن محمد خلف ووالده سعادة الباشا، أهذا ما تريد يا حضرة الأديب الكبير؟ طيب يا عم، خذ أنت نصيبك ونأخذ نحن نصيبنا. الفلوس لكم والنيابة لنا، أليست هذه هي القسمة العادلة التي تعودناها من الحياة؟ بس يا سيدي، هذا ما جئت لأقوله، وحول وجهه عني لينصرف، وثارت في نفسي مشاعر مختلفة فقد حزنت من أجله وأشفقت على بؤسه، ومع هذا هممت أن أركله بقدمي وأمرغه في تراب الحارة، وجمعت كل إرادتي وقلت له: لست في حاجة إلى أن أقول لك أكثر مما قلت أنت عن نفسك، فهل جئت لي حقا لتقول هاتين الكلمتين؟
فوقف وقال في مرارة: أتظن أني لا أفهم السر في هذه الحماسة الشديدة؟ ألست أنت الذي كنت أكبر خصم للسيد أحمد جلال؟ سبحان الله! سبحان الله يا أستاذ يا عظيم! هكذا تنقلب من حرب طاحنة إلى صداقة طاحنة لوجه الله تعالى؟ أتريد أن تقول لي إنك متطوع لخدمة محمود خلف لوجه الله؟
ومن العجيب أني بعد أن كنت شديد الرغبة في أن أركل هذا الرجل بقدمي فأحطم عظامه، بدأت أجد اهتماما شديدا بكلماته اللاذعة، ولأول مرة تبينت أني متناقض مع نفسي كما تبينت أن موقفي معرض للتهمة التي جهر بها ذلك الوغد، وكان أكبر ما يؤلمني أن يذهب ظن أحد أني أسخر نفسي لخدمة محمود خلف، ودعوته للدخول معي إلى البيت لأسمع منه كل ما عنده بعيدين عن الأنظار والأسماع، ولكنه مانع حتى جررته جرا من ذراعه، وصعدت به إلى غرفتي.
ولما صرنا وحدنا قلت له: اسمع يا حمادة. لست أبالي أن تكون أسفل مخلوق في العالم، ولكني أحب أن أقول لك كلمة، ماذا يهمك أنت إذا كنت أعمل لحساب محمود خلف أو غير محمود خلف؟ ماذا يهمك أنت إذا كنت سأستولي على سمسرتي في هذه الصفقة وألقي بك في السجن؟ ماذا يغير هذا من موقفك أنت؟ هل عزمت حقيقة على أن تستمر في مؤامرتك؟ وهل حقا لا تبالي أن تذهب إلى السجن من أجل مكيدة فاشلة؟ وأقسم لك برحمة أبي أني لن أتركك إذا لم تتنازل عن عنادك، فما رأيك الأخير؟
فتلوى في مقعده، وبقي مدة صامتا وهو ينظر إلي كأنه ثعبان يتحفز للهجوم ، وكان على وجهه شبح ابتسامة مسمومة.
ثم قال في مرارة: يعني انتهينا؟
فقلت في لهفة: كن عاقلا يا حمادة.
فقال: يعني نذهب إلى السجن أو نخرج من المولد بلا حمص؟ يعني يا سي سيد ليس أمامي إلا أن أختار بين السجن والموت جوعا؟ طبعا ستطردني المرأة إذا لم أذهب إلى السجن، وطبعا مصطفى عجوة يخرج لي لسانه قائلا: «رح في داهية يا حمار.» نعم أنا حمار وخمسين ألف حمار؛ لأني لم أرض بمائة جنيه، وقلت له: ولا خمسين ألف. لم أعرف في ذلك الوقت أن سيد أفندي زهير سيعود إلينا من القاهرة ليقول لي: يا وغد اذهب إلى السجن.
وقام واقفا يريد الانصراف، ولأول مرة رأيت عليه أثر الاضطراب والانخذال.
فجذبته من ذراعه لأقعده، فارتمى على الكرسي كأنه يتهدم وقال في ضعف: دعني أذهب يا سيد أفندي لأفكر في اختيار السجن أو الموت جوعا.
ونظرت إليه لحظة في صمت وخيل إلي أني أرى أمامي أنقاض إنسان محطم، وشعرت من أجله بحزن صادق، وقلت له في رقة: أنا مستعد يا حمادة أن أمد يدي إليك، وإن كنت واثقا أني أمدها إلى الثعبان الجريح الذي لا يتردد أن يفرغ فيها سمه إذا استطاع أن يصل بأنيابه إليها.
وكان ينظر نحوي نظرة خاوية تدل على أنه كان غائبا بفكره عني، وكان تعبير وجهه ينم عن ألم داخلي من معركة عنيفة، وشعرت بأنني حيال جدار منيع يحول بيني وبين الوصول إلى قرارة نفس ذلك الرجل الهزيل الجالس أمامي، وإن كنت أقدر على أن أصرع جسمه النحيل بضربة واحدة من يدي، كان واضحا أن ذلك الرجل ينطوي على فطرة وحشية عنيفة عنيدة تستعصي على إرادتي وتتملص من كل محاولاتي في تأنيسها.
ولبثنا مدة غير قصيرة ونحن صامتان، وكل منا يتحدث مع نفسه، وتحرك هو آخر الأمر واقفا، وقال: تريد أن تضحك علي يا أستاذ؟
فزممت شفتي بحركة غير إرادية، وقمت صامتا، وسرت أمامه مطرقا حتى خرجنا إلى الحارة، وهممت أن أدخل وأغلق الباب ورائي، ولكنه وقف مترددا ثم قال: يعني لا تريد أن أخرج بشيء؟
فقلت منفجرا: ابعد عني أيها الأحمق، ولا ترني وجهك هنا.
فقال في خشوع: أشكرك يا سيد أفندي. ليس هذا الكلام جديدا علي، كل الناس يقولون لي مثل هذا.
فقلت في جفاء: وماذا تريد؟
فقال في وقاحة: قطعة من الغنيمة.
ولم أجد فائدة في مناقشته، وقلت له في اختصار: وفي نظير ذلك؟
فوضع يده في عبه وأخرج منه أوراقا وهو يتراجع إلى الوراء كأنه يخشى أن أخطفها، فخفق قلبي شديدا، وقلت له في صوت أجش: وما أدراني ما هذه الأوراق؟ ما أدراني أنها تافهة لا تساوي قرشا واحدا.
فقال مترددا: لو كان لي شرف لحلفت لك به أن هذه هي الورقة التي تريدها.
وهز ورقة قذرة في يمينه.
فقلت متكلفا الهدوء: إذن نعود إلى غرفتي لأرى الورقة وأعطيك ما تريد.
فقال في عنف وحشي ووقاحة: لع يا سيدي! سأنتظر هنا المائة جنيه أولا.
وأدركت ما يقصد من ذلك، ولم أعجب من أن مثله يخشى أن يدخل معي خوفا من أن أحبسه في غرفتي وأغتصب منه الورقة، وقلت له هادئا: إذن فانتظر حتى أعود إليك.
ودخلت مسرعا فوثبت على السلم غير مصدق أنه ينتظرني حتى أعود، وكانت أمي مشغولة في حياكة ثوب لأختي، فاستعجلتها لتعطيني مائة جنيه من المدخر عندها، فقامت وهي تنظر إلي مستغربة ولكنها لم تسألني عن شيء، وذهبت إلى درج «الدولاب» الذي تحفظ فيه النقود، فأتت لي برزمة النقود كلها وقدمتها إلي وهي صامتة، فأخذت منها ورقتين من ذوات الخمسين جنيها، ورددت إليها الباقي، وأسرعت نازلا في لهفة، وشعرت بارتياح عظيم عندما وجدت حمادة ما يزال واقفا عند الباب، فمد يده إلي وأخذ الورقتين من يدي قبل أن يسلم ورقته ثم انصرف بغير أن يلتفت إلي.
ونظرت إلى الورقة التي في يدي لأرى ما هي، وتنفست نفسا عميقا عندما وجدتها ممضاة بالإمضاء التي أعرفها للسيد أحمد جلال، كانت ورقة زواج عرفي، ولم أستطع أن أقرأ من الأسماء التي عليها سوى اسم السيد المرحوم واسم مصطفى عجوة؛ لأن اسم الشاهد الآخر كان غير واضح المعالم كأن صاحبه أراد أن يستخفي.
وداخلني سرور لا أستطيع أن أصفه حتى لقد سألت نفسي: أأنا في حلم صوره لي التمني، أم أنا في يقظة حقيقية أقبض فيها بيدي على وثيقة يبلغ ثمنها مئات الألوف من الجنيهات، ومن فوقها سعادة منى وسمعة السيد أحمد جلال؟ وقفت ثابتا في مكاني قريبا من باب البيت لا أدري ماذا أفعل، وخلا ذهني من كل فكرة كأنه توقف عن الحركة، وأخرجت ساعتي فوجدت أنها صارت الثامنة من المساء، ولكن ذلك لم يحمل إلى فكري معنى، وأغلقت الباب ورائي، وصعدت إلى غرفتي، وأخذت أقرأ الورقة حرفا حرفا لأستوثق من أنها هي الورقة المطلوبة، وجاءت أمي عندما سمعت حسي، فقالت في هدوء: من كان معك يا سيد؟
فقلت: حمادة الأصفر.
فقالت في صيحة مكتومة: وهذه الجنيهات له؟
فقلت باسما: تفضلي يا أمي واجلسي هنا.
وأخذت أحكي لها كل ما مر بي منذ الصباح، فكأن تعليقها على ذلك أن قالت: الله يبارك فيك يا ابني!
ثم قامت ووضعت يدها على رأسي، وجعلت تقرأ والدمع يترقرق في عينيها.
ثم قالت: رحم الله الجميع يا ولدي؛ فقد كان السيد أحمد جلال رجلا كريما، حماك الله من الفضائح يا ولدي!
ولما خرجت أمي من الغرفة بدأت أسأل نفسي: ماذا ينبغي لي أن أفعل؟ وكان أول خاطر سنح لي أن أسرع إلى منى؛ لأخبرها أن المشكلة قد زالت، ثم أسلم إليها الورقة وأتمتع بالسعادة عندما أراها تبتسم لي شاكرة، ولكني لم ألبث أن سخرت من هذه الفكرة، وبدا لي أنها لا تزيد على محاولة تمثيلية سخيفة، ثم ماذا يكون لو أن منى سألتني كيف حصلت على الورقة؟ أأحكي لها كل ما صنعت، وأني دفعت الجنيهات المائة ثمنا لها؟ وهل يليق أن أذهب إلى هناك بعد الساعة الثامنة مساء؟ وخطر لي أن أبادر بالسفر إلى القاهرة في قطار الصباح الباكر بغير أن أخبر منى بشيء مما حدث ، وتأملت مقدار السعادة الكبرى التي أفوز بها إذا علمت منى من تلقاء نفسها فيما بعد بأنني أديت لها هذه الخدمة الجليلة في صمت بغير أن أنتظر منها جزاء، ولكني سخرت من هذه الفكرة أيضا، وبدا لي أنها أقرب إلى أن تكون إمعانا في الرياء.
وضاق صدري من هذه المجادلات الداخلية الجوفاء، فأعدت قراءة الورقة ثم مزقتها قطعا صغيرة في بطء وذهني سادر، وألقيت بالقطع في سلة المهملات، وقمت لأنزل حتى لا أبقى في الحجرة المغلقة وحدي، واتجهت إلى بيت صاحبي عبد الحميد، وجلسنا في المنظرة المألوفة، وكانت نظرة صاحبي تحمل معنى الدهشة وابتسامته تدل على التساؤل.
وقال في نغمة عتاب: أنت هنا منذ أيام؟
فقلت: منذ يومين اثنين ولكنهما كانا ممتلئين.
وأخذت أقص عليه ما حدث منذ عدت إلى دمنهور.
فقال مبتسما: حسن جدا يا دون كيشوت.
فقلت: أرجوك ألا ترهبني بسخريتك، فهل كنت لأترك منى وحيدة لرحمة قطيع من الذئاب.
فتبتسم قائلا: آه. هذا شيء آخر. أظنني بدأت أفهم، أنت تحبها؟
فقلت في جد: لا أكذبك، فأنت غير مخطئ.
فقال وما يزال باسما: وما هي الخطوة التالية؟
فقلت: لا شيء، سأسافر غدا صباحا.
فقال في دهشة: هكذا يفعل دون كيشوت!
فقلت: وما حيلتي؟ ماذا تفعل لو كنت في موقفي.
فقال وهو يقف: لست أدري تماما، ولكني كنت لا أسافر غدا إلى القاهرة، لم لا نذهب غدا إليها لتسألها بغير مقدمات: هل ترضى بك زوجا؟ أنت أصلح لها بغير شك من ذلك الشاب الأبله، ماذا تنتظر؟
فلم أجبه بشيء؛ لأني لم أجد شيئا أقوله، وأخذت أعيد السؤال نفسه، ولكني كنت مثل مذهول لا يعي ما يسمع.
ثم قمت ساهما وليس في ذهني فكرة، وأخذ صاحبي بذراعي حتى نزل معي إلى الباب بغير أن يقول أحدنا للآخر كلمة، وكنت ما أزال أفكر في السؤال الذي وجهه إلي ولم أهتد إلى جواب له، وكان هو كذلك يفكر ولكني لم أعرف فيم كان يفكر، ولما صافحته آخر الأمر طلبت منه أن يبلغ تحياتي للسيدة الكبيرة، وكانت دهشتي عظيمة عندما قال لي: إنها مريضة وإن الطبيب لا يسمح لأحد بزيارتها، وشعرت بخجل شديد وأنا أعتذر إليه من أني أخذت من وقته هذه الساعة لأحدثه عن نفسي وهو في مثل هذا الظرف القاسي، فلم يزد على أن أجابني قائلا: «حديثك عن نفسك أحب إلي، وماذا كنت تفيدني لو حدثتك أنا عن نفسي؟» هذا الصديق العجيب يسيطر على قلبه مثل هذه السيطرة كأنه عقل مجرد لا تتطوح به العواطف والميول، ولا يعصف به ضعف الإنسانية، ولولا أن له قلبا كبيرا يعرف كيف يواسي وكيف يشارك في الاهتمام بغيره، لقلت: إنه خلقة شاذة، ومهما يكن من أمري فقد انصرفت من عنده وأنا موزع القلب بين الإعجاب به والدهشة منه والحيرة بين التسليم بآرائه ورفضها.
الفصل التاسع عشر
عدت من دمنهور إلى دوامة العمل مرة أخرى، ولا أذكر أني كنت في يوم من أيام حياتي أشد قلقا وشعورا بالوحشة مما كنت في تلك الأيام، كنت أحس أن الحياة أصبحت فراغا خاويا ليس من فوقه سماء تظلني ولا من تحته وطاء يحملني، بل كنت ضيقا بنفسي حانقا عليها بغير أن يكون في حياتي المعتادة ما أشكو منه، كنت موفقا في عملي وكان الأستاذ علي مختار يزداد تقديرا لي يوما بعد يوم، وكنت دائما أوسع دائرة علاقاتي بزملائي من الصحفيين وبغيرهم من رجال السياسة والحكم، وأغتبط بما أجده عندهم من التقدير والتكريم، وكنت في حياتي الخاصة أشبه بأن أكون سعيدا خاليا مما يثير الهموم، ولكني مع هذا كنت أحس كأن قلبي في قبضة مارد جبار يعصره بغير رحمة، واستولى على قلبي خيال واحد لا يكاد يفارقني في ساعة من الليل أو النهار، فيتمثل لي إذا جلست لأكتب مقالاتي في دار الجريدة، وإذا سرت في طريقي أو جلست في حجرتي المنعزلة في المساء أو أغمضت عيني لأنام، بل إنه كان لا يفارقني إذا كنت غارقا في زحمة الناس وضجة الحياة الصاخبة التي لا يعرفها إلا من عرف مهنة الصحافة؛ كان ذلك خيال منى.
وفي الصباح عندما أذهب إلى بريد الأحرار كان أول سؤال أسأله: «هل جاء إلي خطاب؟» فإذا وجدت خطابا نظرت إلى خط العنوان في لهفة، فإذا كان من عند أختي ذهبت إلى ناحية وتفرغت لقراءته لعلي أجد فيه كلمة تشير إلى منى، ولكني كنت في أكثر الأحوال أطوي الخطاب خائبا؛ لأن أختي كانت تكتب لي عن كل شيء تافه، ولا تكتب لي عن منى كلمة، ولا أذكر أني تأخرت مدة يومين اثنين في الرد على أختي، كان قصدي من ذلك أن أجعلها تكثر من الكتابة إلي لعلها تقول لي الشيء الذي أنتظره، وإن كنت لم أحدد بالذات هذا الشيء الذي أنتظره، كان في ذهني سؤال واحد كبير غير محدد، وهو أني تركت دمنهور بغير أن ألقاها أو أبعث إليها بكلمة، بعد أن مزقت الوثيقة الخطيرة التي كانت في يد حمادة الأصفر، فلا أعرف إن كانت الأمور قد تطورت أو استقرت على صورة من الصور، فهل كنت حقا كما وصفني صاحبي عبد الحميد أحمق مثل دون كيشوت؟ هل مهدت حقا لمحمود خلف أن يصير زوجا لمنى؟ وما الذي منعني من أن أذهب إليها قبل سفري لأقول لها: إني مزقت الوثيقة التي كانت تخشاها ثم أجهر لها بكل ما نفسي وأعترف لها ولمن يحيط بها وبي بأني أحبها ولا أعيش إلا من أجلها؟ ما الذي حملني على التسلل هكذا من دمنهور بغير أن أنصف نفسي، وتركت الأمور بعد ذلك تجري في مجراها؟ أكنت أخشى أن تسخر مني عندما أفضي إليها بالحب الذي أحمله لها؟ أم كنت أخشى أن يسخر الناس مني ويتهموا الدوافع التي تدفعني؟ وماذا علي لو كنت جهرت لها وللناس وتركتهم يسخرون بي كما يشاءون؟ على أن الدنيا التي كانت حولي لم تعبأ بضيقي ولا بقلقي، وكان كل شيء يسير في مجراه مثل الآلة الضخمة التي لا تقف إذا اعترضها بائس مسكين، فحطمته في سبيلها، كانت جريدة «بريد الأحرار» تظهر كل يوم في الصباح على عادتها، وكانت المجامع والمصالح والأحزاب تضطرب فيما حولي وتغمرني في ضجتها بما أنطوي عليه من القلق والحيرة كما تغمر الدوامة الشديدة حشرة غريقة.
فإذا عدت إلى بيتي في المساء وجدت المصباح الضئيل يستقبلني في الدهليز المظلم، ثم أدخل إلى الفناء الرطب وألمح الغرفة التي يجتمع فيها الشيخ مصطفى ورفاقه بعد العودة من الدكان ليتموا السهرة وهم سعداء بالنسيان، ثم أصعد إلى غرفتي لأخلو مع كتبي وقلمي وهواجسي.
ومما زادني شعورا بالضيق أنني أصبحت مضطرا لخدمة نفسي بعد أن غضبت فطومة مني عقب تلك الليلة التي ذهبت فيها إلى حفلة استقبال الأمير الشرقي في قصر الوجيه حسام الدين، فإنها امتنعت من بعدها عن ترتيب غرفتي وإعداد إفطاري وغسل مناديلي وملابسي، وكنت لهذا مضطرا إلى أن أعمل بيدي كل ما أحتاج إليه أو أبحث عمن يقوم لي بعمله، وكان ذلك يحيرني ويزيد من ضيقي، وفكرت في الانتقال إلى مسكن جديد، ولكن الحالة النفسية التي استولت علي جعلتني لا أقدر على تركيز أفكاري في أمر من الأمور أو جمع إرادتي لتنفيذه، وهكذا مضت الأشهر بي حتى اشتد فصل الصيف بحره وبحوادثه الكثيرة التي بعثت إلى الجو السياسي حرارة أشد من حر الصيف، وزاد نصيبي من العمل فصار الأستاذ علي مختار يكلفني بأعمال مختلفة كلما جدت فضيحة من الفضائح المتعددة التي كانت تتوالى أسبوعا بعد أسبوع؛ فضيحة القطن وفضيحة تجارة المخدرات وفضيحة الراقصة التي رفعت رأس رئيس وزراء مصر عاليا في محافل أوروبا عندما عرضت رقصاتها المبتذلة في مواخيرها، وجزيرة كابري التي صارت بقعة مقدسة منذ حل بها الملك الخليع ليظهر للعالم أنه آمون المعبود الجديد الذي يركع له شعب من العبيد، فكنت في كل يوم أفرغ ضيقي وحنقي في مقال تحت عنوان: «أنا الشعب»، الذي أصبح يوميا بعد أن كان أسبوعيا، ومن أجل هذا كنت لا أكاد أفرغ من تحقيق في نيابة الصحافة حتى أبدأ في تحقيق آخر، حتى سماني زملائي ألمع نجوم القضايا السياسية.
وعدت في ليلة مبكرا إلى بيتي منقبض الصدر بعد صباح طويل قضيته في نيابة الصحافة، وعمل متصل في الجريدة بعد الظهر إلى غياب الشمس، وكانت ليلة شديدة الحر اجتمع لي فيها كثير مما يزيد ضيقي وهمي، من تعب الجسم وتوتر الأعصاب وخيبة الرجاء؛ لأني كنت أرسلت إلى أختي خطابا منذ أسبوع سألتها فيه بغير إبهام أن تخبرني عن أحوال منى، فجاءني الرد قبل خروجي من دار الجريدة ففتحته في لهفة وقرأت فيه كثيرا من الأحاديث المفصلة عن كل شيء سوى منى، لم تكتب لي منيرة عنها إلا جملتين صغيرتين في آخر الخطاب تقول فيهما أن منى بخير، وتسأل عن صحتي!
وكانت الليلة مقمرة فأردت أن أفرج عن نفسي بجلسة هادئة تحت السماء الصافية، وأخرجت الكرسي الطويل إلى السطح، واسترخيت في جلستي عليه مستندا برأسي إلى ظهره، وسبحت في سنة من القيظة الحالمة، هي بخير وتسأل عن صحتي! هكذا يقول الناس إذا تلاقوا في الطريق عفوا: «كيف صحتك؟» ثم ينصرف كل منهم في طريقه، هكذا أنا أسأل عنها وهي تسأل عن صحتي ويمضي كل منا في طريقه، أنا هنا في هذا البيت أناجي همومي وأحاول أن أفرج عن نفسي بالجلوس تحت السماء فوق سطح منزل الحاج مصطفى، ومن ورائي هذه الغرفة المسكينة، وأما هي فتسأل عن صحتي وتمضي في سبيلها، لتستعد ليوم الزفاف وتجهز الثياب والأثاث لاستقبال محمود خلف، ودارت في داخلي مناقشة عنيفة كأني كنت أنطوي على شخصين منفصلين يتنازعان في حدة وحرارة، وكل منهما يثير من ناحيته الآلام في قلبي، كأن أحدهما يخجلني من نفسي؛ لأني أتطلع إلى أمور لا ينبغي لمثلي أن يتطلع إليها ويتهمني في صراحة أنني أشبه المملوك في الأزمان القديمة عندما كان يتطلع إلى ابنة سيده، وكان الثاني يغضب ويرفض ويتهمني بالتقصير في حق نفسي وحق منى؛ لأني لم أتقدم نحو أمنيتي جريئا صريحا، ولم أواجه موقفي كما ينبغي للرجل الحر الذي يحترم نفسه أن يفعل، وكانت نتيجة هذه المحاورة الخانقة أنني لم أشعر بأنس إلى ضوء القمر، وخيل إلي أن الفضاء أشد ظلمة من جدران الجحر الأسود الذي عرفته في مركز دمنهور، وكما يفيق الحالم من نومه رأيت فطومة تصعد من السلم وتتسلل في ضوء القمر إلى الناحية الأخرى من السطح، ثم تقف هناك مطلة على الحارة الضيقة، ووجدت نفسي أنكمش في مكاني كأني أريد أن أختفي، وخطر لي أن أقوم من مجلسي فأدخل إلى الغرفة وأغلق بابها ورائي، ولكني بقيت ثابتا في مكاني كأني هامد لا أقوى على الحركة، وبقيت فطومة في مكانها دقيقة أو دقيقتين ثم ارتدت متجهة نحوي، وكانت تسير متباطئة وتتلفت حولها كأنها لا تراني، ولما اقتربت مني زاد انكماشي، ولكني لم أجد بدا من أن أعترف بوجودها، فتكلفت الثبات وقلت لها هادئا: مساء الخير يا فطومة.
فأجابتني في نغمة عابسة متحفزة: مساء الخير يا عيني.
ووقفت أمامي وكان وجهها مصفرا تحت ضوء القمر، ولكنها كانت صفرة تشبه لمعة الثوب الحريري الأنيق، أهذه فاطمة؟ كانت عيناها تأتلقان بنور خاطف من بين رموشها الطويلة المكحلة، وكانت ملامح وجهها تنطق بعاطفة ثائرة، كانت تلك أول مرة رأيتها فيها في مثل تلك الصورة.
كانت في زينة ثقيلة من الحلي في يديها وفي أصابعها، وكان قرصان واسعان يتدليان من أذنيها إلى قرب كتفيها ...
لست أدري هل كانت هذه الحلي ذهبية أم مذهبة، ولكنها كانت على كل حال توحي بأن أمامي امرأة ثائرة تتحدى، وخيل إلي أنها كانت أطول قامة وأرشق قواما من أثر كعبها العالي وثوبها الأنيق.
ووقفت أمامي واضعة يديها على جانبي خصرها الدقيق، فظهرت تقاسيم جسمها بديعة التناسق، وأما وجهها فكان يشبه زهرة ماردة في غابة استوائية، ولما ردت على تحيتي كان على وجهها شيء يشبه ابتسامة ضئيلة، ولكنها كانت أقرب إلى أن تكون دعوة لبدء معركة، فكأن مظهرها في جملته يشبه غجرية حسناء تمسك في يدها خنجرا، وتقف لتحاسب غريمها الذي أثار غضبها.
وقلت لها في صوت خافت: ألا تجلسين قليلا؟ أأجيء لك بكرسي؟
وهممت بأن أقوم لأحضر لها كرسيا ولكن ردها كان حاسما، فإنها هزت رأسها في سخرية وقالت: لأ مرسي.
وفتحت عيني من الدهشة؛ لأني لم أسمعها تنطق بمثل تلك النغمة من قبل، وبدأت أزيد انكماشا وارتباكا، وخطر لي أن أقف حتى لا أحادثها وأنا جالس ولكني ترددت ولم أفعل.
وقلت لها في تكلف سخيف: ليلة جميلة والحر بدأ يهدأ.
فقال وهي تهز رأسها مرة أخرى: ويحلو فيها الجلوس في القمر على انفراد، فلأذهب لأتركك وحدك.
فقلت في بساطة: بالعكس يا فطومة، يسرني أن أراك بعد هذه الغيبة الطويلة.
وكنت في الحق مخلصا في كلمتي.
وأحسست كأن إناء من الماء البارد صب على رأسي عندما ضحكت ضحكة طويلة، وأمالت رأسها إلى الوراء قائلة: آه، مرسي!
وبقيت في مكاني ناظرا إليها مأخوذا مسمرا، وامتلأت عيني من حسنها الوحشي المخيف، نعم كان حسنها بارعا مخيفا أو هكذا شعرت؛ لأنه زادني رهبة منها، وهممت أن أجمع إرادتي وأحل انكماشي وأقول لها كلمة مداعبة أو أطري على محاسنها بعبارة منطلقة تعيد مكان كل منا إلى سابق موضعه من الآخر، ولكني ذهلت عن كل لفظ يحمل معنى المداعبة أو الإطراء والمجاملة فلم أنطق إلا بقولي: ما هذا يا فطومة؟ أكاد لا أصدق عيني.
ولم أفطن إلى أني كنت غير موفق في كلمتي إلا عندما سمعتها، تجيب قائلة: يعني؟
فقلت مرتبكا: الحقيقة أني كنت لا أنتظر ... أقصد أني مسرور من هذه المفاجأة.
فضحكت مرة أخرى حتى كادت تترنح، وقالت في سخرية: كذاب!
فوقعت كلمتها مثل صدمة عنيفة على رأس مذهول، فلم أكد أتنبه إلى دلالتها، أهكذا تخاطبني فطومة؟ وما يحملها على كل هذا؟
وحاولت أن أهرب من المعركة، فقلدتها تقليدا أبله، وقلت: يعني؟
فضيقت عينيها وهزت رأسها وهي تقول: يعني أنك كنت تريد أن تقول شيئا آخر، ولكنك خفت.
فقلت محاولا أن أجعل صوتي مداعبا: أهي معركة مقصودة؟
فكانت كلمتي مثل عود الكبريت إذا أشعل لغما وانفجرت فطومة قائلة: معركة؟ إيه معركة؟ مقصودة؟ تحسب أني جئت إلى هنا بالقصد؟ العفو يا سيدي! لو عرفت أنك هنا ما وضعت قدمي على السطح، أنا أرمي نفسي؟ أنا أبحث عنك وأجيء إليك بالقصد. لست بلهاء ولا رخيصة ولا تحت فضلة، تحسب أني جئت أرجوك التنازل؟ ومن قال لك أني أهتم بسؤالك؟ لم يخطر ببالك أن تقف عند الباب لتسأل عن المريضة المسكينة. يا عيني! ألم تسمع أني مريضة؟ حتى الآن عندما تمر بباب الشقة لا تلتفت ولا تعتني كأني لا أستحق أن تقول لي كيف حالك يا فطومة يا بنت آدم، تظن أن الدنيا كلها خلت ولا أجد فيها من يسأل عني؟
وأخيرا جئت إلى هنا ووقفت أمامك وكسرت على نفسي بصلة، فلا أسمع منك إلا هذه الكلمة؟ تقول لي معركة مقصودة؟ حتى الكلمة عندما تكون على طرف لسانك وأعرف أنها في ضميرك، نعم أعرف أنها في ضميرك، ومع ذلك لا ترضى أن تنطق بها وتحسبني بلهاء، كذاب وألف مرة كذاب، وأنت تعرف أنك كذاب ومتكبر ومغرور، وتقابلني كأني خادمة، يا جامد يا بارد يا ثقيل!
وكنت أستمع إلى دوي العاصفة وأنا خاشع لا أتحرك ولا أنطق، ومن العجيب أني لم أشعر بالإهانة، بل لعلي كنت أقرب إلى الاغتباط، وأردت إلى أن أهدئها فقمت عن الكرسي باسما وقلت في بساطة: أشكرك يا فطومة، أإلى هذا الحد تكرهينني؟ إلى هذا الحد بلغ غضبك علي؟ الحق علي يا فطومة وأنا آسف وأقر لك بأني مخطئ.
ولكن هذا الاعتذار لم يهدئ غضبها، بل زادت قسوة في تعبير وجهها، واستمرت تقذفني بهجمات أشد وأعنف حتى ختمت قولها بدفعة هستيرية من البكاء، وكانت تقول في بكائها: الذنب ذنبي أنا، فطومة التي تأتي إليك كل يوم بصينية الإفطار وتغني لك ونجلس على الأرض عند رجليك، فطومة التي تقطع أصابعها في مسح غرفتك وغسل ملابسك وترقيع جواربك، فطومة التي تتمنى رضاك وتعرض عليك الذهاب للسنما، لا تستحق أن تلتفت إليها، والآن فقط تعتذر بأنك مخطئ وتقول: «الحق علي يا فطومة!» وانتهى الأمر كأني طفلة، كلمة لا تكلفك أي تعب تمن بها علي كأني سائلة أطلب منك الإحسان، لا يا سي سيد، وفر الإحسان لغيري ووفر الاهتمام لفتاة أخرى تليق بمقامك.
وانصرفت مسرعة قبل أن أتمكن من التمسك بها والاعتذار إليها حتى ترضى، وتركتني واقفا مثل شخص تعرضت له جنية وتركته مخبولا، وتسلقت على أشعة القمر.
وعدت إلى مجلسي كاسف البال حائرا، وجثم على صدري ضيق أشد أضعافا مما كان فيه، وغمرني شعور بالخزي كأني ارتكبت جرما، وكانت ألفاظ فطومة ترن في سمعي كأنها ضربات سوط وتأبى إلا أن تعود إلى كلما حاولت أن أبعدها، وكان رنين ضحكتها الساخرة يجعل قلبي يغوص في صدري، وقولتها: «كذاب!» التي خرجت من حلقها كانت كالقذيفة، لست أدري كيف تمكنت هذه الفتاة أن تعرف ما كان يدور في نفسي عندما هممت أن أقول لها: «إنك ساحرة في هذه الزينة وهذا الحلق الكبير!» مع أني لم أستطع أن أجد الألفاظ التي أنطق بها، هل كانت تفتش في أعماق صدري حتى عرفت أني تعمدت الكذب والهروب من حسنها الرائع المخيف؟
وأخذت ألوم نفسي على الرهبة التي شلت حركتي عندما وقع نظري عليها، فهل كان ينبغي لي أن أنكمش هكذا عندما رأيتها؟ ماذا جعلني أنظر إليها مأخوذا كما ينظر الصوفي المتعبد إلى كأس من الشراب المثلج وهو صائم في يوم صائف؟ الصوفي يتحمل العطش والحر ويرفض الكأس الحلوة المثلجة من أجل الجنة التي يعيش من أجلها، وأما أنا فلم تكن لي جنة أعيش من أجلها!
لم أكن أكثر من بائس يستعبد نفسه من أجل العبودية، ويشقي نفسه من أجل الشقاء ولا يرجو من وراء ذلك كله جزاء.
وسنح لي من خلال حيرتي وحنقي خاطر كأنه صوت يهمس في أذني مترددا خيفة أن يسمعه أحد غيري، خطر لي أن أنزل من ساعتي إلى شقة فطومة فأقف عند بابها أرجوها وأستسمحها حتى ترضى عني، ونظرت إلى الساعة فوجدتها العاشرة إلا ربعا وكانت أنوار القاهرة تتصاعد من بعيد صاخبة حارة.
نعم فما يزال الوقت مناسبا والناس لا ينامون في الصيف في مثل هذه الساعة، ولكني لم أتحرك من مكاني كأن ذلك الخاطر لم يكن سوى فكرة مجردة لا يقصد من ورائها عمل، وأخذت أسأل نفسي لماذا لم أنفذ عزمي على الانتقال من هذا المسكن مع أني وكدت ذلك العزم في ضميري مرة بعد مرة، ولماذا تحملت الحياة في غرفتي هذه المسكينة مع كل ما عانيته من المشقة في خدمة نفسي بعد انقطاع فطومة عني؟ ولست أحب أن أخفي أنني أخذت أتبين في تلك الساعة حقيقة لم أستطع أن أكابر فيها؛ لأنها ظهرت لي واضحة بعد أن كانت خافية عني في المسارب العميقة من نفسي، وهكذا نحن جميعا لا نعرف من أنفسنا إلا ما نريد أن نعرف، حتى تتبين لنا فجأة بعض الحقائق التي كنا نجهلها إذا أثارتها هزة قوية من أعماقنا، والقليل منا من يستطيع أن يتخلى عن المكابرة ويقر بالحقيقة التي كان يجهلها، ولكني لم يكن لي بد من أن أعترف بأني كنت متعلقا بهذه الفتاة الجاهلة الحمقاء الوحشية السخيفة، كنت أتعلق بها بجانب واحد من طبعي، ولكن الجانب الآخر كان يعرف أنها لم تخلق لي ولم أخلق لها.
كنت أتداري وراء فكرة العطف عليها أو الرثاء لها أو الإحسان إليها، وكانت كل هذه المظاهر تخفي عني ما تحتها، وهو أني كنت متعلقا بها تعلق الطبيعة التي لا تبالي العقل في تصرفها.
عند ذلك فقط عرفت كيف أفرق بين الحب والميل الغريزي، بين الطبع الذي يختار والطبع الذي ينجذب، بين أفق الحياة العليا التي تجمع الكل إلى الكل أبد الدهر وبين أفق الحياة الدنيا التي تدفع البعض إلى البعض ما بقيت الدفعة، بين السلام الذي يسري بين روحين عند التقاء نصفين شقيقين وبين الاضطراب والقلق الذي يفضي إليه تدوال التجاذب والتنافر بين طرفين غير متوافقين، عند ذلك فقط عرفت كيف أفرق بين فطومة ومنى، كنت أنجذب إلى فطومة ومع ذلك كنت أخشاها وأنفر منها، كنت متعلقا بها ولكني كنت في الوقت عينه أنكمش عنها وأرهب صلتي بها، كانت فطومة أنثى ولكنها لم تكن حبيبة، وما أشد خطأ من يخلطون بين التعلق وبين المحبة الكاملة!
وقمت من مجلسي فدخلت إلى غرفتي وبدأت أخلع ملابسي لأستعد للنوم الذي طاوع جفني بعد أن كان نافرا عنهما، وكان من عادتي أن أخرج ما في جيوبي من الأوراق لأضعها في طربوشي قبل أن أنام، فلما أخرجتها رأيت بينها الصحيفة الزرقاء التي جاءتني في الصباح من أختي، فجلست أقرؤها مرة أخرى وأنا أهدأ مما كنت في المساء، وكان عجبي شديدا عندما وصلت إلى آخر الخطاب، وقرأت الحاشية التي كتبتها منيرة؛ فقد ظهر لي أن للحاشية بقية على ظهر الصفحة، والعبارة الكاملة هي: «وأما منى فإنها بخير وتسلم عليك وتسأل عن صحتك وبهذه المناسبة أقول لك إن أمي كلفتني أن أكتب إليك هذا الخطاب مستعجلا لأرجوك أن تحضر إلى دمنهور ولو يوما واحدا لتقول لك شيئا هاما!»
وكنت قد رميت بالظرف في سلة الأوراق المهملة بمكتبي، ولم ألاحظ أنه كان مستعجلا لما كنت فيه من التعب، فما كدت أقرأ هذه الكلمة حتى هاجت مخاوفي وتحفزت كل مشاعري وقلت في نفسي: شيئا هاما! لا شك أنه يتصل بمنى، وماذا يكون يا ترى؟ وبغير أن أقف للتفكير لحظة نظرت في الساعة وكانت قد بلغت الحادية عشرة إلا ربعا.
فالقطار الصعيدي ما يزال ينتظر على الرصيف، وأستطيع أن أدركه إذا بادرت بالسير من لحظتي، وفي دقيقة واحدة كنت خارج الباب وجريت إلى الشارع لأبحث عن سيارة أجرة، فكنت في المحطة قبل سفر القطار بخمس دقائق.
الفصل العشرون
كانت عودتي إلى منزلنا في الصباح مفاجأة سارة عندما فتحت أمي الباب ورأتني أمامها، وصاحت قائلة: سيد؟ صباح الخير يا حبيبي، صباح النور!
وكانت منيرة واقفة وراءها تقول في مرح: طبعا يا ستي هل الهلال.
وصافحتني بعد أن تركتني أمي وهزت يدي قائلة: ها هو ذا لم ينقص شيئا يا أمي، أتدري يا سيد أنها حلمت بالأمس أنها رأت الهلال يظهر لها مثل خيط رفيع فاعتقدت أنك مريض؟ الحمد لله على السلامة!
وأخذت أمي تدعو لي ونحن صاعدون في السلم، واستمرت منيرة تتحدث من ورائنا قائلة: أتعرف يا سيد من كان عندنا أمس؟ ألا تذكر عمتنا «بهانة»؟ لم أكن أعرف أنها ظريفة هكذا، وعمي محمود وأولادهم عمر وسيد وحليمة.
وقالت أمي: اسم الله عليه سيد، عاشت الأسامي، الخالق الناطق هو سيد بعينه.
فقالت منيرة: أظنه أجمل قليلا.
وضحكنا جميعا ودخلنا إلى غرفة الجلوس وكنت شديد التلهف إلى سماع أخبار منى، ولكن منيرة استمرت في وصف عمتها وأولادها وزوجها السمين الذي أصبح غنيا يذهب إلى الإسكندرية في الصيف.
وقلت لأوجه الحديث إلى منى: وصلني الخطاب بالأمس ولكني لم أقرأه إلا في الساعة الحادية عشرة إلا ربعا؛ ولهذا أخذت القطار «الصعيدي» لأكون هنا في الصباح.
فصاحت أمي: الصعيدي! الحق علي يا ابني، طبعا انشغل بالك علينا.
فعادت منيرة تقول: الحمد لله على السلامة يا أستاذ، أظنها فرصة طيبة للذهاب إلى الإسكندرية بضعة أيام. «فيلا كولونا» محطة فلمنج أول شارع على اليمين، هذا هو العنوان الذي تركته عمتي حتى نجيب دعوتها، احفظ العنوان من فضلك.
وكانت تريد أن تمضي في حديثها ولكني قلت مختصرا: ماذا حدث لمنى؟
فقالت أمي: منى؟ هي بخير يا ابني! ما لها منى؟
فقلت: ألم تكتب لي منيرة أن أحضر لأمر هام يتصل بها.
فقالت منيرة: لم أقل إنه يتصل بمنى يا حضرة، لا بأس على الذاكرة!
فبلعت ريقي قائلا: ماذا حدث إذن؟
وتذكرت حقا أن منيرة لم تقل إن الأمر يتصل بمنى.
وقالت أمي: كنت من أسبوع هناك، مسكينة الست نور، من يوم رحمة المرحوم وهي دائما بخير، وجاءت منى إلى جنبي: الله يحميها وأفرح لك بعروس مثلها! والنهاية سمعت الست نور تشتكي من دفع عشرة آلاف جنيه لحمادة الأصفر.
وغلى الدم في رأسي وصحت أنا الآخر: عشرة آلاف جنيه!
فأجابت أمي: سألت الست نور هذا السؤال فقالت: إن محمد باشا دفعها، طبعا من مال المرحوم؛ لأنه الباشا هو الذي يتولى إدارة المحلج والأطيان، نسايب طبعا.
وقمت واقفا في غضب: لص طبعا! ألم تقولي لها إنه لص، ألم تقولي لها إنه نصاب أفاق دنيء متعصب.
فقالت أمي: أقول لها يا بني؟ أقول لها إن الباشا لص؟ عيب يا ابني؟ حزنت والله يا ابني من أجل الخسارة بغير الفائدة، وقلت في سري يا ليتك يا ابني ما تعرضت للخبيث المحتال حمادة.
حمادة يأخذ من الست عشرة آلاف جنيه؟ ما ذنبك يا بني تخسر مائة جنيه؟ قلت أرسل إليك كلمة حتى تعرف، لكن الشرح في الخطاب يطول وأنا أحب أنك تعرف كل شيء، وتتصرف مع حمادة الأصفر لتسترد منه المائة جنيه، كان يهون علي يا بني دفع أي مبلغ، والله يا بني كنت في الليل والنهار أدعو لك؛ لأنك حفظت جميل السيد أحمد جلال. ولكن حرام! أنت أولى بمالك ومالك حلال بعرق الجبين.
وكنت منصرفا إلى حديث حانق في ضميري واستمرت أمي تتكلم وأنا أستمع إلى أقوالها كأنها منبعثة من غرفة بعيدة، وكنت أفكر في الباعث الذي جعل محمد باشا يدفع عشرة آلاف جنيه لحمادة الأصفر إن كان قد دفعها حقا، لقد مزقت الورقة التي كان حمادة يساوم بها، مزقتها بيدي ورأيت عليها إمضاء السيد أحمد جلال التي أعرفها، لم يكن ذلك حلما وأمي تعرف أني أخذت منها الجنيهات المائة لأدفعها إلى حمادة.
وسألت أمي في دهشة حانقة: ألا تذكرين الليلة التي أخذت فيها المائة جنيه منك؟ ألم أقل لك إني دفعتها إلى حمادة؟ أكاد أشك في عقلي.
فأجابت أمي: الله يحميك يا بني ويحمي عقلك طبعا أتذكر فداك مائة جنيه وألف جنيه، ولكنك معذور يا بني.
فقلت مندفعا: لم يخطر في بالي أن هذا الخبيث يدور من الناحية الأخرى مثل الثعلب في حظيرة الدجاج ... حمادة يحلم بألف جنيه؟ حمادة يأخذ عشرة آلاف جنيه؟ لا بد أن في الأمر مؤامرة أخرى.
وكنت متعبا إلى حد الإعياء من السفر في الليل والقطار الصعيدي البطيء، ولكني فكرت في القيام من ساعتي للبحث عن حمادة الأصفر لأناقشه الحساب، وهممت بالقيام ناظرا في ساعتي وكانت ما تزال السابعة صباحا.
فقالت أمي في دهشة: إلى أين يا سيد؟ اقعد قليلا يا ابني ولا تضايق نفسك ، يا منيرة جهزي الشاي يا بنتي ولقمة صغيرة، مسكين يا ابني الحق علي لأني أزعجتك ... مسكينة يا بنتي، الله يرحم السيد أحمد جلال كان أمله ومنى عينه أن يرى عرس منى ولكنها آجال، النهاية يا ابني الحمد لله الموضوع انتهى، ولما أردت القيام قامت منى توصلني وقالت لي بلغي سيد أفندي أن الموضوع انتهى، والله يا ابني خرجت الكلمة من لساني وقلت لها: «الله يخيبه حمادة الأصفر؛ لأنه أخذ الثمن مرتين.» لا تغضب يا بني والله ما ملكت نفسي، واندهشت منى وقالت: «مرتين؟» ولما قلت لها الحكاية كلها ظهر عليها التأثر، وقالت: «لا بد لي من سؤال سيد عن الحقيقة.» وحلفتني أن أبعث إليها في أول مرة تأتي فيها إلى دمنهور، ولكني خفت أن الموضوع يبرد وقلت لمنيرة: يا بنتي سيد غاب عنا من شهور، اكتبي له يحضر في مسألة ضرورية، من جهة نطمئن عليك ومن جهة ثانية ...
وقلت مقاطعا أمي: إذن هي مؤامرة ثانية لعصابة أخرى من الأنذال بقصد السطو على منى، هذا الباشا يريد أن يلعب بها على ما يظهر ولا بد لي أن أقابله وجها لوجه كما قابلت حمادة الأصفر في المرة الأولى.
فقالت أمي في فزع: ماذا نقول يا سيد؟ تقابله وجها لوجه؟ يا ليتني لم أبعث إليك ولم أقل لك شيئا، ما لنا والباشا؟ لا تقابل الباشا وابعد عنه وكفاك الله شره يا بني، انتظر حتى تهدأ يا سيد ثم اذهب إلى حمادة الأصفر.
وجاءت منيرة بعد قليل فوضعت صينية الشاي على المنضدة وقربتها مني وأخذت تملأ الفناجين، وجاهدت نفسي حتى استطعت أن أنتظر، وعادت منيرة إلى حديث العمة وأولادها، ولكني كنت منصرفا إلى التفكير في المسلك الذي ينبغي لي أن أسلكه، كنت حائرا لا أدري من أين أبدأ، ولما فرغت من الإفطار كانت الساعة الثامنة من الصباح.
فقلت لأمي: أظن الأحسن أن تأتي منيرة معي إلى «البقالة الرشيدة» لتحدث منى بالتليفون وتخبرها بوجودي هنا.
فقالت منيرة: ما شاء الله! استفتاح عظيم أن أذهب إلى المحل في الساعة الثامنة وأطلب منه كلمة تليفونية، ألا ترى أنك أيضا في حاجة إلى غسل وجهك ومسح التراب عن ملابسك، كما أني لا أستطيع الخروج هكذا؟
وتذكرت عند ذلك فقط أني في حاجة إلى شيء من الاستعداد للخروج في المدينة، وأن الناس لا يستقبلون أحدا في بيوتهم في مثل هذه الساعة.
ولما صارت الساعة التاسعة كنت أكثر هدوءا واستراحة بعد أن اغتسلت وغيرت ملابسي التحتانية ونظفت ملابسي من الغبار، ولكني عندما عزمت على النزول كانت منيرة ما تزال تستعد وتمشط شعرها، ولما استعجلتها صاحت من داخل الغرفة: تفضل أنت فإني غير محتاجة إلى خفير.
فنزلت وحدي متجها إلى المحطة لأبعث تلغرافا إلى بريد الأحرار معتذرا عن غيابي، ثم واصلت سيري إلى بيت صاحبي عبد الحميد بعد أن استقر رأيي على الابتداء بزيارته.
واستقبلني عبد الحميد كأنه على موعد سابق مني، فصافحني في حرارة ولكنه لم يظهر دهشة، ولمحت على وجهه نحولا أشد مما لمحته في المرة السابقة، وكانت حلقة زرقاء تحيط بعينيه، وخيل إلي أن ظهره بدأ يتقوس، ولكن الابتسامة التي أضاءت وجهه أزالت عني شعور الوجوم الذي هجم علي عندما وقعت عيني عليه، ودخلنا إلى الغرفة القديمة، وبدأنا نتحدث في السياسة، السياسة دائما! وقلت لأغير الحديث: كيف أنت؟
فقال: كما تراني، وكيف حالك أنت؟
فقلت: كما كنت منذ سميتني دون كيشوت.
فابتسم صامتا وانتظر أن أستمر في الحديث فقلت: لم تكن مخطئا عندما سميتني بهذا الاسم، وأرجو أن تكون صديقا عاطفا كما كان سانكو بانزا.
فقال: إذا شئت أن يكون الشبه واضحا كل الوضوح، فأرجو أن أعرف هل تمكنت من الفوز بقلب الأميرة الجميلة.
فقلت: لك أن تقول ما شئت ولكن ...
فقاطعني قائلا: أليس من العجيب أنك لا تجرؤ أن تقول لها إنك تحبها؟ هل تحبها حقا؟
فقلت: ماذا يدعوك لهذا السؤال؟
فقال: الناس كثيرا ما يغرمون بالخيال ويفرون من الحقيقة، كثير من الشعراء الذين ملئوا الدنيا بكاء وغناء كانوا لا يحبون النساء أنفسهن بقدر ما كانوا يحبون صورهن الخيالية، فإذا أتيحت لهم الفرصة للفوز بمن يحبون سكت غناؤهم فجأة، وكثيرا منهم أصيبوا بالخيبة.
فقلت في حنق: وماذا تقصد بهذا؟
فقال في هدوء: أقصد يا سيدي شيئا بسيطا وطبيعيا، لم يفت الوقت بعد، لا تدر حول نفسك هكذا من بعيد وتترك خصمك ينتزع منك كنزك، وتساعده على أن يأخذه منك، إذا كنت حقا تريد «منى» فاذهب من ساعتك هذه إلى بيتها وافتح لها صدرك، وإذا أردت أن تمثل دور دون كيشوت إلى نهايته فإنك تستطيع أن تركع تحت قدميها وتقبل طرف حلتها الحريرية وتقول لها: «ها أنا ذا أضع قلبي تحت قدميك.»
ورنت كلماته الساخرة في أذني قاسية؛ لأنها مثلت لي الحقيقة. ألم أمهد لخصمي أن ينفرد في الميدان وفررت إلى القاهرة بغير أن أوجه كلمة إلى منى؟
وأخذت أسأل نفسي عن السبب الذي يمنعني من أن أفتح صدري لها كما يقول صاحبي. أأخشى أن تسخر مني؟ أهذا ممكن؟ ولكن إذا كان هذا ما أخشى فلماذا لا أواجه الحقيقة وانتهى؟
وجلست صامتا أنظر إلى أمامي، وانصرف صاحبي إلى داخل المنزل وتركني وحدي، ولو كنت في تلك اللحظة أعرف ما أريد حقا لقمت مسرعا إلى بيت منى؛ لأقول لها ما كان يضطرم عند ذلك في صدري، من يستطيع أن يملأ قلبي سوى منى؟ من يمكن أن أعيش من أجله غيرها؟ رأيت مئات من الفتيات والسيدات وكنت بفضل مهنتي أختلط بطبقات الشعب على اختلافها، رأيت الحسان والأنيقات والغواني والمغامرات والمطلقات والخفرات من كل سن ولون، فلم أجد فيهن من تسترعي مني التفاتة، وفطومة التي كانت معي منذ ليلة! ألم تتجل لي الحقيقة واضحة عندما رأيتها ساحرة الحسن ولكنها مخيفة؟ ألم أعرف أنها لم تخلق لي ولم أخلق لها؛ لأنها لا تزيد على أنثى، ألم أقل لنفسي إن الحياة كلها لا تحتوي على فتاة غير منى؟ فماذا يجعلني أتردد؟
ودخل صديقي في تلك اللحظة حاملا معه بعض الفاكهة، واعتذر بأن الخادم في إجازة، يالللأنانية، لم أسأله عن صحة أمه التي عرفت في المرة الماضية أنها مريضة.
وقلت له: كيف حال عمتي؟
فأطرق قليلا وقال: في رحمة الله يا صديقي.
وأطرق حزينا.
فتمتمت قائلا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وشعرت بوخزة شديدة من الأسف كما عتبت في ضميري على أمي؛ لأنها لم تخبرني.
وبقيت جالسا في صمت وتردد كأن ذهني متوقف، هذا الصديق الذي أضيق أحيانا بسخريته والذي يدهشني بقوة إرادته التي تصل إلى حد الجمود! هذا الصديق العجيب الذي يبدو لي أحيانا كالحجر الصلد مع أني أعرفه إنسانا كامل المروءة كبير القلب واسع العقل، كيف تجتمع كل هذه الأضداد في شخصية واحدة؟ وهذا الحزن الذي يفوح من نظرته ومن إطراقته ومن أنفاسه التي يحاول كتمانها! المسكين ينطوي على نيران تضطرم في أعماقه ولكنه لا ينفس عنها، والتفت إليه وتبادلنا ابتسامة ضئيلة حزينة وأحسست نحوه عطفا شديدا لم أستطع أن أعبر عنه بالألفاظ.
وقلت له: متى؟ أجاب: منذ شهر.
فأشفقت أن أنطق له بكلمة مواساة؛ لأني لم أجد كلمة تعبر عن حقيقة مواساتي، ومددت يدي إليه في صمت، فضغطت على يده وخرجت من البيت لا أدري إلى أين أتجه، هل صديقي هذا إنسان من البشرية الضعيفة؟ أهذا نقص فيه أم هو امتياز؟
وسرت في الطريق حائرا كئيبا، وكانت الحوانيت على الجانبين مزدحمة والشارع يموج بالناس، بعضهم يسرع نحوي ليحييني، وبعضهم يصيح بي بالتحية من بعيد وأنا أتكلف البشاشة والإجابة، وانحدرت في أول طريق على يساري نحو الترعة، وكانت هناك الحانة القذرة التي تعود حمادة أن يجلس فيها، ولكنه لم يكن هناك والخواجة مانولي ما يزال واقفا وراء منضدته العريضة ينظر إلى الخارج نظرة جوفاء، وخطر لي أن أدخل إلى الحانة لأسأل عن حمادة الأصفر ولكني لم أفعل، ولما بلغت جسر الترعة عرجت إلى اليسار حتى وصلت إلى كوبري قلاقة، ثم انحدرت إلى الشارع المؤدي إلى المدينة تاركا قدمي تحملاني حيث تريدان، وعدت إلى منزلي كاسفا حزينا كأني لم آت إلى دمنهور إلا لكي أقطع الطريق هكذا ذاهبا آيبا وأنا حائر حزين.
ولما وصلت إلى منزلي كنت ما أزال أحدث نفسي أحاديث متناقضة، ولقيتني أمي عندما أحست بمقدمي، فبادرتني قائلة: «هل قابلت الباشا؟» فهززت رأسي واتجهت إلى غرفتي، ولكني سمعت صوت منيرة وهي تناديني من المطبخ: أنت مدعو إلى الشاي عندي في الساعة الخامسة تماما، وسيكون ضيف الشرف الآنسة منى.
ولم أدر كيف استطعت أن أمنع نفسي من صيحة الدهشة التي كادت تخرج من صدري، ثم أخذت أسأل نفسي أين تكون هذه الدعوة؟ وفي أي موضع نستقبل منى؟
ودخلت إلى غرفتي وذهني يدور مسرعا، ماذا أفعل إذا أتت منى؟ هل أنزل إلى الباب لأستقبلها؟ وأين تجلس في هذا المنزل المسكين؟ إنها جرأة عجيبة أن تقدم منيرة على هذه الدعوة وغرفة الانتظار لا تزيد على ثلاثة أمتار في أربعة، ولا تطل إلا على منور بنافذة صغيرة.
ونظرت إلى الساعة فوجدتها ما تزال الحادية بعد الظهر، كأن عقاربها لا تتحرك، وقمت لأبحث عن شيء أقرأ فيه ووجدت على مكتبي قصة إنجليزية رخيصة، فجعلت أقرأ فيها لعلي أقطع بها الوقت، ولكن ذلك لم ينفعني بشيء؛ لأن ذهني كان يدور مسرعا، ولما ضقت بالقراءة رميت بالقصة على المكتب وقمت لأستريح، ومع كل ما كان في ذهني من الخواطر والهواجس غلبتني الحاجة إلى النوم، فلم أستيقظ إلا عندما نادتني أمي للغداء وكانت الساعة الثانية والنصف، وتكلفت أن أكون عاديا في مظهري وحديثي على المائدة، بل إني تكلفت شيئا من الخفة والمرح وقلت بعض كلمات مجاملة بالإعجاب بالطعام.
وسألت منيرة: ما هذا الشاي الذي تتكلمين عنه؟
فقالت: عندي يا أفندم، فهل تتنازل؟
وتبسمت هذه المرة صادقا.
وأخذ قلبي يدق في ضعف، وسألت نفسي هل أتماسك إذا قابلتها؟ أم أرتبك ويلتصق لساني بحلقي كما فعلت من قبل مرارا.
وأخذت منيرة تصف لنا الأصناف التي أعدتها للشاي، ودخلت أمي معها في مناقشة عميقة لم أفهم منها شيئا؛ لأنها كانت على مقادير الزبد والسكر والدقيق والبيض التي صنعت منها كعكاتها وأطباقها، ومنيرة تزعم دائما أنها في هذه الميادين لا تبارى.
ولما فرغنا من الطعام عدت إلى غرفتي وكانت الساعة الثالثة والربع، فما تزال ساعتان إلا ربعا بيننا وبين زيارة منى.
الفصل الواحد والعشرون
كانت الدقائق تمر بطيئة وأنا في غرفتي كأن عقاربها مسمرة، وكلما سمعت صوتا أو خبطة خيل إلي أنه باب سيارة منى، فأذهب إلى النافذة مسرعا حانق القلب فلا أرى شيئا، وأعود بالخيبة مرة بعد أخرى بغير أن يمنعني الإخفاق من العودة إلى التجربة، ولما ضاق صدري من ذلك خرجت من الغرفة لعلي أقطع الوقت بالحديث أو الحركة، فرأيت أمي تصلي العصر وهي في العادة تبطئ في الصلاة حتى يخيل إلي أحيانا أنها لا تريد أن تفرغ منها، فذهبت أبحث عن منيرة ولكني لم أجدها، فصعدت إلى السطح لعل الهواء الطلق والنور واتساع الفضاء تدخل الهدوء إلى نفسي، وكانت السماء صافية والحقول خضراء واسعة تترامى من وراء البيت إلى مدى البصر، واسترعى نظري وجود مجموعة من قصاري الزهر موزعة فوق السور ومنثورة في الأركان، وفي الركن الأقصى المطل على الحقول بعض مقاعد صغيرة من فوقها أغطية حريرية ومن تحتها قطعة نظيفة من الكليم، وطبلية مستديرة في الوسط عليها غطاء أبيض كأنها مائدة، فصار الركن كأنه مجلس أنيق في حديقة معلقة، وتبسمت مرتاحا لأن منيرة استطاعت بذوقها ولباقتها أن تحل مشكلة غرفة الاستقبال التي كنت أحمل هم الجلوس فيها، وأخذت أسير في السطح حينا وأنظر إلى ما حول البيت حينا، وكان الانتظار في الجو المفتوح أرفق بي، وحلت الساعة الخامسة آخر الأمر وجعلت أرهف سمعي انتظارا، ولكني لم أسمع حسا إلى أن صارت الساعة الخامسة والنصف ثم السادسة حتى بدأت أشك في حقيقة الزيارة الموعودة.
ثم سمعت ضحكة منيرة وهي صاعدة على السلم تتحدث في مرح، فقمت مسرعا ووثب قلبي ليستقبل منى، ولكني ما كدت أصل إلى أول السلم حتى وقفت مترددا وبدأ الارتباك يستولى علي، فتباعدت سائرا إلى الناحية الأخرى من السطح وانتظرت هناك، وظهرت منى صاعدة فأسرعت إليها محاولا أن أظهر هادئا، ورأيت على وجهها بسمة صغيرة تشبه ابتسام الدهشة، فمددت إليها يدي الاثنتين قائلا: «أهلا وسهلا ومرحبا.» ونظرت في عينيها لحظة قصيرة كأني أنظر إلى بحر عميق صاف.
وقالت منيرة: أنت هنا؟ وبغير إذني؟
ولكني كنت منصرفا إلى منى أقول لها: أي فرصة سعيدة!
وكان صوتي متهدجا ولكن الاضطراب الذي كان يغمرني وأنا وحدي لم يبق له أثر؛ فإن السفينة الضالة في المحيط وجدت آخر الأمر مرفأها.
وأشارت منيرة إلى الركن قائلة: تفضلوا.
لا مؤاخذة يا منى في استقبالك هنا، ولكنه أعظم كازينو في دمنهور، كازينو أبو طاقية من فضلك!
ونظرت منى إلى المقاعد وإلى قصاري الزهر ثم إلى الحقول الخضراء وقالت في ارتياح: هي الحقول التي كنت أعرفها وما أزال أذكر عندما كنا نخرج إليها في مثل هذه الساعة، كم سنة مضت من ذلك الوقت يا منيرة؟
فقالت منيرة ضاحكة: لا تكشفي عن أسرار سننا يا منى، قولي: منذ خمس سنوات.
فابتسمت منى قائلة: لم يحن بعد وقت إخفاء سننا، ربما أبدأ في ذلك بعد عام.
فقالت منيرة: يعني أنني على حق في البدء منذ الآن.
وضحكنا جميعا وجلست منى على مقعد وهي تقول: هل مضت كل هذه السنوات سريعا، ولم يتغير شيء سوى أنني كنت أرى الحارة أوسع مما هي الآن، كانت في نظري مثل عالم فسيح وكان الرصيف الذي أمام منزلنا كأنه ميدان.
وتذكرت تلك الأيام التي كانت فيها منى طفلة تركب فوق كتفي كلما رأتنى وتدلي ساقيها من أمام، فأجري بها كأني حصان وهي تهز رجليها وتضحك مكركرة وتأبى أن أقف.
السنوات تمر سريعة حقا وسوف تمر سريعة دائما، ومن يدري؟ هل نقف يوما بعد عدة سنوات إذا جمعتنا المصادفة مرة أخرى فتقول منى: إن السنين تمر سريعا؟ وهذه اللحظة التي نحن فيها ستكون هي الأخرى صورة تنظر إليها من بعيد لتقول: إننا اجتمعنا يوما هناك فوق السطح، وسأحدث نفسي قائلا: إنني وقفت أنظر إلى منى كما أنظر إلى روضة مزدهرة في فصل الربيع، وأحدث نفسي عنها بغير أن أقول لها كلمة، وسمعت منى تقول: كيف ترى دمنهور بعد عودتك إليها من القاهرة؟
فقلت كالحالم: أراها أعز البلاد وأجملها.
وقالت منيرة ضاحكة: طبعا لأننا هنا، أشكرك يا سيد بيه بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن منى، وعن أمي أيضا، مرحبا يا ماما!
والتفتنا جميعا لنرى أمي وهي مقبلة علينا بوجهها الأبيض السمين، هي أيضا ذات عيون زرقاء وكأني لم أر لون عينيها إلا في تلك اللحظة، كانت أمي تبتسم بكل جوارحها عندما أخذت منى بين ذراعيها قائلة: ألف نهار أبيض يا حبيبتي، شرفت يا منى! ويوم سعيد بحضورك إلينا، زيارة عزيزة يا حبيبتي!
وجلست على المقعد الذي أشارت إليه منيرة بحركة تمثيلية واستمرت أمي تقول: والله يا بنتي، بودي أن أزوركم كل يوم ولكن المشاغل تمنعني.
تعالي هنا إلى جنبي، ربنا يحميك ويفرح قلب ماما وقلبنا بك، إن شاء الله تكون صحتها متحسنة.
وجلست منى إلى جنبها قائلة: الحمد لله يا خالتي، وكانت تود أن تأتي معي.
وهمت منيرة قائمة وهي تقول: ما دمتم تعارفتم هكذا فاسمحوا لي أن أجهز لكم الشاي بصفتي مديرة الكازينو، كازينو أبو طاقية يا ماما!
وتلفتت أمي حولها قائلة: جميل والنبي يا بنتي، ومنور بوجودكم، تعال هنا يا سيد يا بني، والنبي يا بنتي ما رضي ينتظر للصبح وسافر على هنا في القطار الصعيدي، لما وصل إليه الجواب.
وجلست إلى الناحية الأخرى من أمي وبدأ وجهي يتقد.
واستمرت أمي تقول: الحق يا بنتي لما سمعت الحكاية قلت لمنيرة: «ابعثي لسيد قولي له يحضر حالا» عشرة آلاف جنيه يأخذها حمادة الأصفر؟ وبعد ما أخذ سيد الورقة منه؟
وسكتت لحظة من تأثرها فتنفست مرتاحا.
وقالت منى في هدوء: المهم يا خالتي أن المسألة انتهت بخير والحمد لله، وأنا آسفة لهذا التعب والسفر في القطار الصعيدي.
وابتسمت ناظرة نحوي.
فقالت أمي: وحمادة الأصفر الخبيث؟ حرام والله يا بنتي.
فقلت في دفعة: ليس المهم أن يأخذ حمادة الأصفر أو لا يأخذ، المهم أنني لا أعرف كيف تمكن من المطالبة، بأي وجه ذهب ليطالب؟ عندما سافرت من هنا في المرة الماضية كانت المشكلة كلها قد انتهت.
فقالت منى: علمت ذلك من خالتي، وتأسفت لأني لم أعرف في وقتها حتى أشكرك يا سيد، وهذا هو السبب في أني طلبت من خالتي أن تعرفني بحضورك.
فقلت في شيء من الخجل: لم أفعل شيئا يستحق الشكر يا منى؛ ولهذا تعمدت أن أسافر بغير أن أذهب إليك، لم أعرف أن هذه غلطة إلا عندما حضرت إلى هنا. بالأمس فقط عرفت غلطتي وآسف جدا؛ لأني تسببت في هذه الخسارة ...
وقاطعتني أمي: والله يا بنتي دعوت له ليلتها ودعوت لك أيضا، ولم يخطر في بالي أن حمادة خبيث لهذه الدرجة.
فقالت منى بصوت خافت: على كل حال انتهت المشكلة والحمد لله، وأود أن أقول: إن الفضل في حلها بكل تأكيد يرجع إليك يا سيد. من يدري ماذا كان يحدث لو لم تنتزع أنت الورقة من يد هذا الرجل؟ عندما سمعت أنه أخذ عشرة آلاف جنيه لم أصدق أذني، لن أنسى يا سيد أنك وقفت هكذا إلى جنبي في الوقت الذي كانت المعركة دائرة حول سمعة أبي.
فقلت متأثرا: أنا سعيد جدا يا منى بأن أقف إلى جنبك دائما، ولكني لا أفهم كيف توصل هذا الرجل إلى العودة إليكم بعد سفري، ماذا كان في يده حتى يأخذ هذا الثمن الفادح؟
فقالت منى: ربما كانت أنا المسئولة عن كل هذا؟ عندما علمنا بسفرك حسبنا أن الموقف لم يتغير، ومع أني كنت أشعر بأنك لا يمكن أن تسافر هكذا فجأة بغير أن تكون قد تدخلت في الموضوع كما قلت، فإني لم أعرف الحقيقة، وجاء محمد باشا يعرض علينا تسوية الموضوع مع حمادة، فلم أفكر في شيء سوى أن أخرس الألسنة النجسة وأن أوقف المعركة التي كانت تدور حول سمعة والدي.
فقلت في دفعة: ولكن لماذا يدفع الباشا عشرة آلاف جنيه؟ نظير أي شيء؟
فقالت: لم نفكر في شيء سوى أن تنتهي المشكلة.
واستمرت دفعتي: والباشا، كيف يدفع مبلغا مثل هذا بغير أن يعرف لماذا ؟ أهو أبله؟
اسمحي لي يا منى أن أقول: إني لا أفهم، لا مؤاخذة، لو لم يكن ذلك الشخص هو الباشا لقلت: إنه لص.
ووقفت قليلا ثم نطقت بصوت بكاء يحتبس: لا مؤاخذة يا منى؛ لأني أتكلم هكذا مع علمي بالرابطة التي تربطك به.
فضحكت قائلة: رابطة؟ هذا موضوع آخر، ولكن ماذا كنت أعمل؟ أكنت تنتظر مني أن أسأله هذه الأسئلة التي تذكرها؟
ولم أفهم قولها فسرت أخطو بطيئا نحو سور السطح وجعلت أجيل بصري في الحقول مفكرا في معنى قولها: «هذا موضوع آخر.» ولماذا ضحكت وهي تقول: «رابطة»؟
والتفت نحوها قائلا: إني آسف حقا يا منى. دائما أحاول أن أمسح غلطتي في غيري ولا أعرف غلطتي إلا متأخرا.
وجاءت منيرة تحمل الصينية الثقيلة لتضعها على المائدة المنخفضة.
وقالت: دائما لا تعرف غلطتك إلا متأخرا: ولهذا تقف هكذا كأنك لا تراني ولا تتقدم لمساعدتي.
فبادرت بحمل الصينية عنها وقامت منى أيضا معنا وجعل كل منا يعمل من جهته على تحويل الأكوام المكدسة فوق الصينية إلى شيء يشبه مائدة منتظمة: الفناجين وأطباق الحلوى والفطائر والشطائر التي كانت متراكمة بعضها فوق بعض.
وأخذت منيرة ومنى تتعاونان في الخدمة، وقدمت منى إلي فنجاني، فتمنيت لو وقف الزمن إلى الأبد وأنا أنظر إلى عينيها الباسمتين.
وقلت لها بصوت هامس بالفرنسية، بالكلمة التي حفظتها عنها: ألف شكر.
وتذكرت الورقة التي ما زلت أحتفظ بها في قرآني الصغير.
واستأذنت أمي لتنزل استعدادا للإفطار؛ لأنها كانت صائمة في يوم نصف شعبان، وذهبت منيرة معها لتعد لها إفطارها وحملت نصيبها من الوليمة في طبق كبير.
فجاءت منى بفنجانها ووقفت قريبا مني متجهة إلى الحقول، وأحسست قلبي يخفق في عنف وكدت أهمس لها قائلا: «أتعلمين أني أحبك كما لا يستطيع أحد أن يحب؟»
ولكني سمعت نفسي أناديها بصوت متهدج: منى!
وبعد أن نطقت باسمها ارتبكت ولم أعرف ماذا أقول لها بعد هذا.
وشعرت أنها انكمشت قليلا وهي تنظر نحوي.
وكان وجهي يتقد في ارتباكي ولكن نظراتها الصريحة الصافية كانت تتنفس بالسلام والثقة، وكان وجهها الخالي من كل زينة مصطنعة يشبه طلعة الفجر في بواكير الصيف، فامتزج ما في قلبي من الحب العميق الغامر بشعور آخر من الاحترام والرحمة القوية الغامرة، وصار أبعد شيء مني أن أقول لها كلمة تسبب لها حرجا، ولم يبق عندي أثر من الارتباك عندما قلت لها: عندي سؤال سخيف فأرجو عفوك، ولك أن تمتنعي عن الإجابة.
فقالت في بساطة: وماذا يمنعني؟
فقلت في همسة: هل لي أن أسألك عن نفسك؟ أأنت سعيدة؟ أقصد هل أنت سعيدة بهذه الخطبة؟
فقالت بغير تردد: لم أفكر في هذا.
فقلت في دفعة: في مستقبلك؟ في شركة حياتك؟ أهذا غير جدير بالتفكير؟
فقالت: ثق أني لم أفكر في هذا، كنت في حياة أبي أرى الدنيا كلها من خلال شخصه، وكان وجودي كله منطويا في وجوده، ولما فقدته فجأة ذهلت عن كل شيء حتى عن نفسي، وهذه العاصفة التي تعرفها، متى كنت أجد فراغا للتفكير في أي شيء؟
فقلت في عناد: عندك فكرة عامة على الأقل، أرجو ألا يكون سؤالي تطفلا.
فقالت في حرارة: بل إني أشكرك على اهتمامك، وكنت دائما واثقة في صداقتك.
وشعرت بأن النسيم يحمل إلى صدري إكسير السعادة وقلت في مرح: هذه الحارة تشهد بصداقتي القديمة، أليس كذلك؟
أتذكرين يا منى طفولتك هنا؟ أما تذكرين سوى أن هذه الحارة كانت فسيحة.
فتبسمت قائلة: أذكر أشياء كثيرة. بائعة الفول التي كنت أقلد نداءها، والشحاذ الأسود الذي كنت أفزع منه، وجحش عم إسماعيل الذي كان يأكل الخس من يدي، والرجل الذي كان يصور لنا تماثيل العرائس والخيل من الحلاوة العنبر.
وأضفت قائلا: وسيد زهير الذي كان يحسن الصهيل.
فضحكت ضحكة خجلى وقالت: وينزلق في يوم المطر حتى نقع معا في بركة الطين.
فشاركتها الضحك قائلا: لأنك رفضت أن أجري على مهلي، وهززت رجليك بعنف فوق صدري لأجري.
وجاءت منيرة في تلك اللحظة فقالت: أريد أن أشارك في الفكاهة.
فقلت: ما تزال مني تذكر يوم وقعنا في بركة الطين وأنا أجري بها كالحصان.
فقالت: ووقفت أنا على الرصيف أبكي معكما، ما لكما تقفان هكذا بفنجانين فارغين؟ إذن لماذا تعبت في صنع هذه الفطائر؟
فسرنا إلى الركن وأخذت منيرة توزع علينا أصنافها، ولا أدري أكانت في الحقيقة ممتازة أم كانت سعادتي تجعلني ألذ كل شيء حولي، كان ضوء القمر بديعا ورفيف النسيم منعشا وكل ما تذوق شهيا، وكان الحديث فوق هذا كله فكها ممتعا بفضل حضور منى وإشارات أختي وخفة روحها.
وكانت الساعة التاسعة عندما استأذنت منى للعودة إلى منزلها، وأصرت في هذه المرة بعد تساهلها في عدة محاولات سابقة.
ونزلت لأسير معها حتى تركب، وكانت عربتها واقفة عند رأس الحارة على مقربة من ضريح أبي طاقية، وكان الطريق لحسن حظنا جافا على غير عادة.
ومددت ذراعي لها لتستند عليها، وأخذت كفها في يدي وضغطت ساعدها إلى صدري عند قلبي.
وقلت لها: أكون أسعد الناس يا منى إذا وعدت أن أكون دائما صديقك القديم.
فقالت في بساطة: وهل أنت في حاجة إلى وعد جديد؟ لا فضل لي إذا قررت هذه الحقيقة.
فقلت بصوت متهدج: وما يترتب عليه؟
فقالت متهانفة بضحكة صغيرة: أن تزورنا مثلا كلما كنت هنا؟ لا تنس أنت.
فقلت في حرارة: هذا واجبي أنا، أو حقي أنا، وأما واجبك أنت أو حقك فهو أن تفترضي دائما أني واقف إلى جنبك.
تعرفين عنواني طبعا إذا جد ما يدعو إلى وجودي هنا، وأما أنا فعنوانك هناك أبعث إليه رسالات في الصباح والمساء وفي كل ساعة من ساعات الأيام.
وأشرت إلى السماء الصافية في ضوء البدر الكامل، وكنا قد وصلنا إلى الشارع فتركت منى ذراعي وركبت عربتها وعدت إلى بيتي كأني أسبح فوق الهواء، لم تقل لي شيئا صريحا عن خطبة محمود خلف، ولكنها كانت عندها أمرا غير جدير بأن تفكر فيه، ألا يكفيني هذا؟ ألا يكفيني أنها تركت يدها في يدي كل هذه المسافة بين البيت والشارع؟ ألا يكفيني أنها دعتني إلى زيارة كلما عدت إلى دمنهور؟ ها هو ذا غرض نبيل أعيش من أجله إذا أردت أن يكون لحياتي مقصد نبيل؛ لأنه هو الذي يجعلني أقدم على كل عمل نبيل، سأعيش لها.
الفصل الثاني والعشرون
عدت في الصباح التالي إلى القاهرة، وذهبت قصدا إلى دار الجريدة، وقبل أن أفرغ من كتابة المقالة النارية التي كنت أكتبها سمعت طرقا على الباب، وكانت دهشتي عظيمة عندما رأيت أمامي حمادة الأصفر. «ماذا جاء بك إلى هنا؟»
هذا ما صحت به في عنف يشبه التهديد.
ودخل حمادة الأصفر مبتسما وعيناه تلمعان لمعانا شديدا، ولكنه كان شخصا آخر غير الذي عرفته، كان يلبس ثوبا صوفيا نظيفا فاخرا مما يسميه أهل دمنهور بال «بنش»، ويبدو من فتحة صدره «قفطان» من الحرير، وتتدلى من كتفه «كوفية» ذات شراريب طويلة، وعلى رأسه طربوش نظيف، وفي يده منشة من الشعر الأسود ذات مقبض من العاج.
ولم أشك في أن هذا المظهر الأنيق ثمرة للسرقة التي أعرفها، ولم يجبني على صيحتي إلا بتلك الابتسامة الجامدة، وذهب إلى أقرب كرسي فجلس عليه هادئا كأنه يقول لي: «لست أعبأ بك.» فكدت أنفجر من الغيظ، ودفعت الكرسي الذي أنا عليه إلى الوراء، وقمت واقفا وقلت في حنق: من أذن لك أن تدخل عندي؟
فقال بصوت هادئ: هذا لقاء الضيف يا سيد أفندي؟ يا أخي لست شحاذا حتى تطردني هكذا، أهذا جزائي لأني حضرت إلى القاهرة في الدرجة الأولى لأبحث عنك، وكل يوم جنيه أجرة تاكسي أدور في كل مكان، ثم أذهب إلى غرفتك فأبقى في انتظارك إلى نصف الليل، ثم أنام على الكنبة بدون غطاء؟ الحمد لله لأني لا أريد منك الإحسان يا سي سيد، الدنيا يا أخي ساقية والقواديس العالية تفرغ والتحتانية تملأ، قل للساعي يحضر لي قهوة.
وصفق ليطلب القهوة.
فقلت له متمالكا نفسي: ألست تخجل من مقابلتي؟
فقال في جرأة وقحة: كل هذا من أجل المائة جنيه؟ هذه هي يا سيدي.
وأخرج ظرفا فوضعه أمامي على المكتب، فتهيجت وقلت: أرجو أن تذهب من هنا، أنت لا تستحق أن أجادلك.
فقال غاضبا : والله لولا أني أحترمك ... يا سلام يا سيد أفندي!
ودخل الساعي فوضع الفنجان أمامه وخرج، وأتاح لي فرصة قصيرة للتفكير في هذا الوغد، وأحسن الطرق في صرفه عني بغير أن أفسد على نفسي هدوءها منذ الصباح.
وقلت له: اسمع يا حمادة، لا أرى داعيا لهذا الحديث، ولست أملك وقتي فأرجو أن ينتهي هذا الموقف بسلام، أنت تعرف ماذا كان شعوري نحوك من قبل وماذا يكون شعوري الآن بعد أن حدث منك ما حدث. أنت رجل؟ أنت إنسان؟ ... لا داعي لكثرة الكلام؛ لأني لا أرى فيه فائدة، ليس بيننا ما يدعو للعتاب ولا للمناقشة، وليس يخفى علي أنك ما شاء الله أصبحت في نعمة عظيمة، فتفضل في طريقك أنت من هنا وأنا من هناك ولا أظن أحدنا في حاجة إلى لقاء الآخر فيما بعد.
ولكن حمادة لم يزد على أن وسع ابتسامته ونظر نحوي ثابتا وفي نظرته ما يقرب من العطف والتوسل.
فقلت له: أحب أن أعرف كيف تجرؤ على مقابلتي مع علمك بأنك نصاب محتال مجرم؟ ليس لي إلا طلب واحد وهو ألا تضيع وقتي. لا داعي لكل هذا اللف والدوران لتغطي الموضوع.
فعبس لأول مرة وقال في تحد: أغطي الموضوع؟
فقلت في دفعة: ألم أنتزع منك ورقة الزواج؟ وأدفع لك ثمنها؟
فهز رأسه باسما وقال: طيب!
فقلت في غيظ: كيف إذن تعود لتطلب الثمن من الفتاة المسكينة منى؟ لو عرفت أن مكرك يبلغ إلى هذا الحد لكنت بقيت في دمنهور لأوقفك عند حدك.
فضحك ساخرا وقال: الحمد لله يا سي سيد! لا يوجد في الدنيا رجل آخر يمكنه أن يوقفني عند حدي.
فقلت: هذا الأبله الأحمق يدفع لك عشرة آلاف جنيه من مال الفتاة المسكينة؟ وسرقة ونصب واحتيال!
فصاح: حيلك! عشرة آلاف جنيه؟ أي لص وأي نصاب قال هذا؟
فقلت في حنق: هل تنكر؟ هل تجرؤ؟ هذه الملابس وهذه المظاهر والدرجة الأولى في السكة الحديدية وتاكسي وكل يوم كم جنيه، كل هذا وتقول إنك لم تسرقه؟
فضحك ضحكة طويلة سمعتها كأني أسمع ضحكة شيطان، وكدت أقوم إليه فأقذف به من الباب، ولكنه نظر إلي ثابتا وقال: الله يسامحك يا سيد أفندي.
اسمع يا سي سيد حكاية ظريفة والله، بعد مقابلتنا في الليلة إياها جاء لي مصطفى عجوة يدعوني لمقابلة محمد باشا خلف، فذهبت.
والسلام عليكم ... عليكم السلام، اتفضل يا سي حمادة وهات قهوة يا ولد! وكيف الأحوال؟ والظرف والأدب، وقال لي الباشا: «اسمع يا حمادة، أنت رجل نبيه وعظيم وأحب أن تشتغل عندي.»
وبدأت أستمع إليه في شغف وبدأت أشم رائحة مكيدة.
وبعد لحظة صمت واستمر حمادة قائلا: أقول لك الحق. لعب الفار في عبي وقلت له: «خدامك يا باشا.» ولكني قلت لنفسي: «خد بالك يا حمادة!»
وعرض علي مرتب عشرين جنيها في الشهر مرة واحدة، قلت في نفسي: «عجيبة!» وحسست أنه يريد مني مساعدته في الانتخاب، لكني أردت معرفة قرار الحكاية وأظهرت الامتناع، وبدلا من إصراره على العشرين زادها إلى ثلاثين مرة واحدة، قلت: بس، لا بد أن الحكاية فيها لعبة.
وملت على مصطفى عجوة وسألته عنك، ولكنه هز لي رأسه، النهاية قلت: لا بد أن الباشا لا يعرف حكاية العقد وأنك أخذته مني، قلت في عقلي: «بعدك يا سيدنا الباشا!» وقلت له: «أرجوك مهلة إلى ساعة الظهر.» وخرجت أجري إلى بيتك وقابلت عم عبد الهادي الزيات على باب الحارة، وسألته عنك، قال لي إنك سافرت في الصباح وسلمت عليه من بعيد وقال لك مع السلامة يا بو زهير، وعنها ورجعت أجري للباشا ودخلت عليه كأني مجنون، وقلت له: «اسمع يا باشا! أنت تعرف أني أنا حمادة الأصفر لا أخاف ولا أخجل ولا أحد يخدعني، من قال لك إني حمار أو مغفل حتى تضحك علي في كل شهر بثلاثين جنيها؟ الورقة عندي والمحاكم موجودة وأعرف شغلي!» وأدرت له ظهري لأنصرف، فقام الباشا وأخذ يلاطفني وأمر الجميع بالانصراف ورد باب الغرفة علينا وبدأ يفاوضني، النهاية من هنا لهنا اتفقنا على ألف جنيه يقدمها إلي بصفة أمانة أكتب بها ورقة أعترف بأنها أمانة لشراء أقطان، ووعد بأن يشتري الأقطان مني بالسعر الحاضر، والمكسب لي لغاية شهر ديسمبر، وأنت تعرف الحظ إذا ابتسم يا بو زهير، في الصبح بسبعين ريال وفي المساء بثمانين ريال وبكره بتسعين ريال، النهاية في مدة شهرين يا عم سيد الألف وصلت إلى عشرة وأرجعت له الألف، ومزعنا المستند ورجعت إلى السوق من جديد حمادة أفندي وسي حمادة وحمادة بك، ولو كنت تتنازل وتزور مكتبي يا سيد بيه يكون أكبر شرف، عشرة آلاف جنيه؟ أنا أسرقها من محمد خلف؟ محمد خلف بن عم خلف المنجد، كل ثروته من سرقة الأيتام والأرامل والأمراء المعتوهين، الاختصاصي في نظارة الأوقاف وإيجارات الأملاك أنا أسرقه؟ لو كنت أعرف السرقة يا سيد أفندي، كنت أشبع وأكتسي على الأقل، ولا أخدم اللئام، ولا أنافق، ولا أشرب الزفت ولا أرتمي على أكوام الطين، لو كنت أعرف السرقة والنصب ما كنت أجري بسرعة للموت وأتمنى يومه، قل لي: دون، قل لي: حقير، قل لي: حشرة. أصدق، لكن: لص؟ لأ. لع! أبدا حمادة القذر الجائع العاري هو جسم حمادة؛ العظم واللحم والدم. ينافق ليأكل، ويشحذ ليأكل.
ويتذلل ليجد السقف في الليل، ويرضى بالإهانة من أجل القلب الجائع، ولكن من تحت الحمادة الجسم يوجد حمادة الصحيح - حمادة الحقيقي - لا يرضى أن يسرق أبدا.
ولو كنت طاوعت دفعتي في هذه اللحظة لقمت إليه وأخذته بين ذراعي، وقبلته بين عينيه المتقدتين كعيني الذئب، ولكني نظرت إليه كما أنظر إلى جدول الماء الصافي الذي يخرج من عملية تحليل مواد المجاري في مزرعة الجبل الأصفر، ماء رائق يتلألأ في نور الشمس، ولكن النفس تعافه؛ لأنها تعرف أصله.
وقلت لحمادة مخلصا: أنا آسف يا حمادة؛ لأني ظلمتك، مع السلامة.
وقام حمادة لينصرف، ولكنه وقف حينا في تردد ثم ضحك قائلا: بالله عليك صارحني بكلمة، لا أحب أن أزاحمك يا أستاذ سيد، وأريد أن تقول بالصراحة، ما شعورك من جهة فطومة؟
وفاجأني سؤاله فقلت في حدة: أما تنسى هذا الهراء؟ متى عرفتها؟
فقال في حماسة: لما طرفت الباب نزلت لي فطومة، الله يا سيد أفندي، والله عمري ما رأيت عينين تشبه عينيها، وسألتها عن اسمها، وكان صوتها مثل الكروان بالله يا أستاذ سيد صارحني.
فقلت في اختصار: قلت لك: لا داعي لهذا السخف، إذا كانت أعجبتك فتلفع بها وتفضل.
فهز يدي مرة أخرى قائلا: طيب يا سيد أفندي، تلفيعة حرير والله العظيم، ما رأيك في أن تقدمني للشيخ مصطفى حسنين؟
ومع أني كنت أعرف أن حمادة إذا رأى امرأة حسناء صار كالذبابة إذا اندفعت إلى طبق من العسل، فإني دهشت؛ لأنه تدله بفطومة في مثل هذه السرعة، ولكني شعرت بارتياح داخلي لست أدري سببه.
وقلت له: يسرني أن أفعل إذا مررت علي بعد أن أفرغ من عملي، إلى اللقاء الآن يا حمادة.
وعندما خرج من عندي وضعت يدي على رأسي وغرقت في أفكاري: أهذا هو الباشا الذي يريد أن يتكلم باسم الأمة ويحاسب الوزراء! أهذا هو الذي يريد أن ينتزع منى ليتجر بأموالها كما يتجر النخاس بالرقيق؟ وقمت ثائرا أتمشى في غرفتي وأسأل نفسي كيف أضرب ضربتي، ما لي أكتب في الفراغ وهذا الوغد يستحق أن يشنق؟
ودخل علي الساعي في هذه اللحظة يطلب مني المقال الذي لم أفرغ منه بعد، فاستمهلته قليلا وعدت إلى مكتبي وبدأت أقرؤه مرة أخرى، كنت في أول الأمر أحسبه مقالا شديدا يعجب الأستاذ علي مختار ويهنئني عليه، ولكنه بدا لي فاترا سخيفا لا يحمل معنى، ولم أفكر مرتين قبل أن أجمع أوراقه وأمزقها قطعا صغيرة ثم أرمي بها في سلة المهملات، وبدأت أكتب مقالا جديدا عنوانه: «هكذا يكون الباشا»، وفي نصف ساعة كنت قد أتممته ووقعته بإمضائي وأخذت أقرؤه مرة أخرى، لم أذكر اسم الباشا، ولكن أوصافه كانت بغير شك تشير إليه، ولولا علمي بأن الأستاذ علي مختار لا يحب أن يهاجم الأشخاص مهاجمة شخصية لكنت حددته بالاسم، ولكني ميزته حتى لا يخطئ أحد في معرفته.
الفصل الثالث والعشرون
لم أعجب عندما دعيت في اليوم التالي إلى نيابة الصحافة؛ لأني صرت منذ حين أحد نجوم الجرائم الصحفية، وكان موضوع التحقيق كالعادة مزيجا من تهم متعددة جاء في صدرها بالطبع ذكر العهد وماذا أقصد به، ودراسة فقهية طويلة لما جرى به العرف من إطلاق لفظ العهد على الملوك وحدهم، ودافعت عن نفسي قائلا كالعادة أيضا إننا في بلد دستوري لا يتحمل فيه الملك مسئولية الحكم؛ فالعهد لا يمكن أن يكون إلا للحكومة القائمة، فانتقل الحوار إلى تهمة الطعن في الحكومة والتحريض على كراهية النظام، وانتقلت بدفاعي أيضا إلى ذكر البراهين التي تدل على فساد الحكم حتى رأى المحقق الاكتفاء بأول برهانين، ورفض أن يثبت البراهين الأخرى التي هممت بأن أذكرها، ثم وجه إلي الطعنة الأخيرة التي حسبها القاضية؛ وذلك عندما سألني من تقصد بالباشا الأبله، الباشا اللص الذي جمع ثروته من سرقة الأيتام والأرامل والأمراء المعتوهين، والذي تخصص في نظارة الأوقاف وإيجار الأملاك وسرقة اليتامى؟
وشعرت بكثير من الحيرة في البحث عن طريقة أتحاشى بها إقحام شخص خلف باشا؛ إذ لا علاقة له بالحكم، فأخذت أبين أنني لا أقصد إلا المعنى العام الذي يشعر به الجميع، وهو أن السادة أصبحوا من الحثالة، فوجد المحقق فرصته وأخذ بتلابيبي.
واستمر التحقيق طول اليوم إلى أن دار رأسي من التعب وعرض المحقق علي كل ما كتبته من قبل في الأعداد السابقة، وما زال يضيق علي الخناق حتى قذفني آخر الأمر بالتعريف الجامع المانع للعيب في الذات الملكية.
فقرأ: «العيب في الذات الملكية هو ذلك الشيء الذي يمس من قريب أو بعيد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تصريحا أو تلميحا تلك الذات.»
فضحكت قائلا: تعريف جميل يصلح لأن يكون شركا رائعا!
وكان جوابه على ذلك أن قال: تستطيع أن تستريح الآن حتى نستأنف التحقيق فيما بعد.
فقلت محتجا: ما معنى هذا؟
فقال: الأمر بسيط يا سيدي، ستبقى تحت التحفظ حتى يتم التحقيق.
فصحت في حنق: أين نحن يا سيدي المحقق؟ رجل يستدعى في الصباح لكي يقال له في هذه الساعة أن ينتظر محجوزا حتى يتم التحقيق؟
فنظر إلي باسما كأن الأمر لا يستحق منه إلا ابتسامة، ثم قال: لك طبعا أن تطلب ما تشاء من البيت، وإذا شئت فلك أن تتصل تليفونيا بمنزلك أو بإدارة الجريدة.
ونظرت إليه في حقد وكانت ابتسامته ما تزال تثير غيظي، وتمثلت لي صورة غرفتي التي يمكن أن أتصل بها تليفونيا لأستحضر منها ما أشاء، ثم تذكرت الأستاذ علي مختار وجعلت أسأل نفسي: «ألا يعرف أني هنا؟ أهكذا يتركني لشأني كأنني لا أستحق أن يقف إلى جانبي؟»
وقلت للمحقق في حنق: لست في حاجة إلى شيء.
فرفع كتفيه قائلا: هذا شأنك، ولم أقل له شيئا سوى نظرة غاضبة وهو يهمس إلى الشرطي الذي دخل إلى الغرفة في تلك اللحظة، فحيا الشرطي صادعا بالأمر وأخذ منه الورقة التي مد بها يده إليه، وأخذني من ذراعي خارجا بي من باب الغرفة إلى حيث لا أدري.
وسرت معه وقلبي يغلي غليانا شديدا من الشعور بأني أمام قوة جبارة لا تتمثل في شخص بعينه حتى أتمكن من الدفاع عن حريتي أمامها.
كان الشرطي يقبض على ذراعي في شيء من الترفق، ولكني كنت أحس أنني لا أقدر على الانفلات منه أو مقاومته، ولأول مرة شعرت أن هناك شيئا هائلا مجردا عن الأشخاص والهيئات اسمه الدولة، هي التي تجرني من ذراعي إلى حيث تشاء ولا أستطيع أنا أو غيري من الأفراد أن يقاوم قوتها، ولم يكن في وسعي أن أحنق على ذلك الشرطي، الذي يجرني من ذراعي؛ لأنه كان يؤدي واجبه بغير أن يكون بيني وبينه ما يدعو إلى الخصومة أو الكراهة، ومن يدري لعل هذا الشرطي كان يعطف علي في قرارة نفسه؟ لقد كان فيما ظهر لي رجلا طيبا، وكانت نظرته نحوي مهذبة وديعة تنطق قائلة: «أنا آسف ولكن ما حيلتي؟»
بل إنه أظهر عطفه علي عندما مال نحوي هامسا: «أتحب أن تشتري شيئا؟»
فأجبته قائلا: «أشكرك».
وكانت عربة مغلقة تنتظر عند الباب الخلفي للمبنى، فركبتها وأغلق الشرطي الباب، وسارت العربة في طريقها وأنا منطو على نفسي، حتى وقفت آخر الأمر ونزل منها الشرطي ليأخذني من ذراعي، وعرفت عند ذلك أني داخل إلى قسم عابدين، حسنا!
ودخلنا إلى غرفة الضابط فحياه الشرطي ومد إليه يده بالورقة التي معه، فقرأها الضابط وأشار بيده نحو غرفة بغير أن يقول كلمة سوى أنه نظر نحوي نظرة فاحصة من أعلى رأسي إلى آخر ما يستطيع أن يرى مني وأنا واقف وراء مكتبه، ولم أجد ضرورة لإجابته بنظرة غاضبة؛ لأني شعرت بما يشبه الاستعلاء عن الاهتمام بالأفراد، ما لي وهؤلاء جميعا؟ إنهم يأتمرون بأمر آلة ضخمة لا يملكون لي معها ولا لأنفسهم شيئا.
وأدخلت إلى غرفة فيها مكتب صغير واحد ليس فيها شيء غيره من الأثاث، وتركني الشرطي فيها وأغلق بابها ولا أدري أذهب إلى سبيله أم بقي واقفا خارجها، ونظرت إلى ساعتي وكنت لم أفطن إلى النظر إليها من قبل فوجدتها الساعة الرابعة بعد الظهر، يا سلام! لم أفطر في الصباح ولم أطعم شيئا طول النهار، ومع هذا لم أجد فراغا للاهتمام بطلب الغداء، وهجم علي الشعور بالجوع وشعرت بأني ضعيف لا أكاد أقوى على الوقوف، فجلست على ظهر المكتب وكانت النافذة التي ورائي تطل على خلف مبنى القسم، وأستطيع أن أرى منها المتاجر من بعيد، فغيرت موضعي حتى أقدر على النظر إلى الخارج لأشعر بشيء من الائتناس، وسألت نفسي ألا يمكن أن أشتري شيئا آكله؟ ونزلت مسرعا عن المكتب فحاولت فتح الباب، ولكني وجدته مغلقا بالمفتاح، فخبطت عليه بيدي فلم يلبث أن فتح ورأيت على بابه شرطيا من جنود القسم، وهز رأسه إلي مستفهما فقلت له في هدوء: ألا يمكن أن أشتري طعاما؟
فقال بغير اهتمام: اسأل حضرة الضابط.
فقلت في شيء من الغضب: وأين هو؟
فأغلق الباب قائلا: سأسأله.
وكدت أثب لأمنعه من إغلاق الباب بالمفتاح ولكنه سبقني فأغلقه، وعدت إلى المكتب فوثبت جالسا فوق ظهره وجلست أنظر إلى المارة من بعيد وهم يتحركون في اتجاهات شتى، شاب يركب دراجة في وسط الطريق ويمر بخفة بين السيارات وهو يتلفت يمينا ويسارا كأنه بهلوان في سرك، ما أمهره في الركوب وما أشد مخاطرته! كأني به يستهين بحياته أو يتمتع بشعور المخاطرة، ولم لا يخاطر الناس بحياتهم في كل شيء؟ إن المخاطرة تبعث إلى النفوس نشوة النجاة دائما، فتكون الحياة كلها حية مثيرة إلى أن يحين القضاء المحتوم. الرقابة تحيل الحياة إلى سجن مثل هذه الغرفة التي أنا فيها، ولكن إذا كان هؤلاء الفتيان الذين يحاورون السيارات في الطرق من فوق دراجاتهم لا يريدون بعملهم هذا إلا أن يشعروا بأنهم يقومون بمغامرة، فلماذا أغضب أنا من أني أواجه مغامرتي؟
ومضى علي وقت طويل وأنا أتأمل وجوه المارة في الطريق، وأقرأ على كل منهم المعنى الذي تدل عليه مظاهرهم؛ فمنهم من يسير مسترخيا كأنه يحلم، ومنهم من يسرع كأنه يريد أن يدرك قطارا على وشك السير، ومنهم من كان لا يريد أكثر من التلفت إلى وجوه الآخرين.
وكان مما استرعى نظري أيضا طفلان؛ صبي وفتاة لا يزيد عمرهما على العاشرة، وكانا يقطعان الطريق ذهابا وإيابا، ويعبرانه من جانب إلى جانب كأنهما قطان ضالان، وكان كل منهما يحمل في يده علبة من الصفيح معلقة في ساعده بخيط، فيما يكاد يرى «عقب» سيجارة يسقط على الأرض حتى يهبط إليه كأنه صقر، وجعلت أتأمل وجهيهما وأتصور ما يكون شكلهما إذا زال في الوسخ عن وجهيهما ولبسا ثيابا غير الخرق الممزقة التي ترف فوق جسديهما النحيلين، ولم أشك في أنهما يكونان ظريفين رشيقين لو أكلا ولبسا كما يفعل الآدميون، ولكن أحقا يتغيران إذا غسل عنهما الوسخ؟ هل يمكن أن يتحولا إلى طفلين ظريفين؟ وكيف يمكن أن تزال الأوساخ التي تسربت إلى أعماقهما؟
وانقبض صدري عندما تمثلت الألوف الكثيرة التي وقع عليها بصري في كل مكان من هؤلاء الأطفال، وسألت نفسي كيف نستطيع أن نتمتع بالطعام والشراب، وكيف نطمئن في بيوتنا ومع أفراد أسراتنا وهناك ألوف من هؤلاء المساكين يسيرون هكذا كالقطط الضالة؟ وقطع علي تفكيري فتح باب الغرفة، ورأيت الشرطي الذي جاء بي إلى القسم وسمعته يسألني: أما تريد شيئا؟
فشكرته من أعماق قلبي، وقلت له: «هل تتكرم بأن تشتري لي رغيفا من الخبز وأي شيء يؤكل معه؟» ومددت يدي إليه بنصف ريال، ثم نظرت إلى ساعتي وكانت ما تزال الخامسة، كل هذا الوقت ساعة واحدة منذ دخلت في الغرفة؟ إن الذين يقيسون الوقت بالساعة لم يدخلوا إلى مثل هذه الغرفة ليسجنوا بها، أليس الزمن خرافة من تأليف العقل البشري كما قال صاحبي عبد الحميد عباد؟
وذهب فكري إلى دمنهور ومرت بذهني صور كثيرة، يا ترى كيف حال أمي وأختي؟ والحمد لله على أنهما لا تعلمان أني هنا، ومنى؟ هل تبلغها تحياتي التي أبعثها إليها كل صباح وكل مساء مع إشراق الشمس وطلوع النجم؟ لا بد لي من أن أسافر إليها غدا أو بعد غد إذا فرغت من هذا التحقيق السخيف، ولن أنسى غدا إذا قابلت الأستاذ علي مختار أن أعتب عليه عتبا شديدا؛ لأنه لم يعبأ بالحضور ليقف إلى جانبي أو قريبا مني، بل إنه لم يعبأ أن يرسل سكرتيره ليسأل عني.
وفتح الباب مرة أخرى ودخل شرطي جديد لم أره من قبل، فقال لي بصوت جامد: تعال يا أفندي.
ولم أجد ضرورة لسؤاله عن قصده فسرت وراءه قائلا في نفسي: «هذا شيء طبيعي لأني لا يمكن أن أقضي الليلة كلها هنا.»
وسار بي حتى وقف عند باب غرفة أخرى على بعد نحو خمس خطوات، وفتحها قائلا: تفضل هنا!
وظننت طبعا أنها غرفة أعدت لنومي، فدخلتها مرتاحا ولم أفطن إلى أن الرجل سيغلق الباب ورائي بهذه السرعة، وما كاد الباب يغلق حتى رأيت أني في غرفة مظلمة ضيقة لا تزيد سعتها على مترين في ثلاثة، وسقفها لا يعلو أكثر من ثلاثة أمتار، وكانت حجرة قذرة الجدران والأرض، عارية ليس فيها شيء سوى كرسي نصف محطم وبرش قذر ونافذة صغيرة لا أستطيع أن أصل إليها إلا إذا مددت طرف يدي. «وماذا أفعل هنا؟» هكذا قلت في سري وقلبي يتمزق من الغيظ ، وحاولت أن أجلس على الكرسي لأفكر فيما ينبغي أن أصنع، ولكنه كاد ينهار بي فقمت غاضبا، وقلت في نفسي: «هل أعود إلى الحماقة التي ارتكبتها في دمنهور عندما سجنت في الجحر المظلم فأقوم إلى الباب لأدقه بيدي ورجلي ورأسي كأنني مجنون؟» كانت الغرفة الأخرى على الأقل تؤنسني بنافذتها المطلة على الطريق، وأستطيع أن أجلس على المكتب الذي فيها، وشعرت بلسعة في أسفل ساقي فملت لأتحسس موضعها، فلمست يدي شيئا حسبته برغوثا فرفعته إلى كفي في حذر خوف أن يهرب مني، فإذا هي قملة طويلة تعجب كيف تصل إلى مثل هذا الحجم، ورميت بها بعيدا في اشمئزاز، وأخذت أخبط الباب في عنف، ولكني شعرت بلسعة أخرى فكدت أفقد صوابي، وخيل إلي أن البرش الذي هناك عش عامر بالقمل، وشعرت كأن بدني كله يلسعني، وكأن في كل قيراط منه دبيب قملة، وفزع الشرطي على ما يظهر من الدق العنيف ففتح الباب واستقبلني قائلا: ما لك يا أفندي؟
وكان كل همي أن أنفذ من الباب، فاندفعت خارجا وقلت بعد أن صرت في الممر: أهذه غرفة تعذيب من صنف جديد؟
وعند ذلك تبينت أن الشرطي كان صاحبي، وقد جاء يحمل في يديه أوراقا ملفوفة.
فقلت له وأنا أكثر هدوءا: أهذه غرفة نوم يا أخي؟ ادخل إليها دقيقة واحدة لتعرف أنها عش قمل.
فقال في سذاجة: الحاضر يا سيدي، وأين تنام إذن؟
فلم أملك نفسي من الضحك مع شدة غيظي وقلت له: شكرا لك على كرمك وأرجوك ألا تفكر في أمر نومي، سأقضي الليل واقفا في الغرفة الأخرى، ويمكنني أن أنام فوق المكتب إذا شئت، خل هذه الغرفة لضيف آخر يحتاج إليها.
والظاهر أن الفكاهة أعجبته فضحك قائلا: أمرك يا سيدي.
وأخذني من ذراعي إلى الغرفة التي كنت فيها قائلا: رغيف إفرنجي وجبن رومي وخيار أخضر، الكل ستة قروش.
ومد يده بالقروش الباقية من نصف الريال، فأشرت إليه أنها له، فتبسم راضيا ووضع الطعام على المكتب ثم قال: تصبح على خير.
وأغلق الباب وراءه، وتركني أحاول أن أفكر في خطة لقضاء الليلة.
فجررت المكتب قريبا من النافذة، وجلست عليه وبدأت آكل، وكنت مع كل ضيقي أحس جوعا شديدا، وكانت شهوتي للطعام عظيمة حتى أكلت الرغيف وأخذت أقشر الخيار لأستغني به عن الماء والفاكهة.
وكان من حسن حظي أن الغرفة تحتوي على مصباح كهربائي صغير، فكان نوره مساعدا للضوء المنبعث من الطريق في إزالة كثير من الوحشة التي كانت تخيم على صدري، وأخرجت من جيبي قصة إنجليزية مما تعودت أن أحمله معي دائما لأقطع به الوقت في الساعات التي كنت أضطر لقضائها في غرف الانتظار في جولاتي لتلقف الأخبار، وكانت في تلك الليلة لقية نفيسة، وشغلتني القراءة فيها عن التفكير في متاعبي، وهي قصة لأحد الكتاب الشبان يصور فتاة مثل الفتاة التي رأيتها تجمع أعقاب السجاير من الطريق، وكان من سوء حظها أنها كبرت وصارت حسناء، فاستطاعت أن تصبح خليلة ثم راقصة، ثم اجتذبت قلب أحد الشباب المنعمين، وكان من سوء حظها أنها أحبته، فألفت لها الأقدار مأساة، وألقت بنفسها إلى النيل من العوامة التي كانت تعيش فيها، هل تستطيع هذه الطفلة المسكينة أيضا أن تسترعي نظر الأقدار؟
وأخذت عيني تثقل للنوم فخلعت سترتي وجعلتها تحت رأسي ونمت فوق المكتب جامعا ركبتي إلى قرب صدري.
الفصل الرابع والعشرون
صحوت متعبا إلى حد الإعياء في الصباح، وكانت الساعة السادسة، فجلست على المكتب حائرا، وكان رأسي مصدعا ثقيلا ومفاصلي وأضلاعي تنبض بالألم، وقمت أترنح إلى الباب فدققته دقتين حتى انفتح، وكان الذي صبحني بوجهه شرطي عابس أصفر الوجه كأنه هو الآخر قضى ليلة مثل ليلتي.
وسألته: أأستطيع أن أغسل وجهي؟
فأشار بيده إلي بغير أن يتكلم، واتجه بي إلى دورة الماء ووقف عند الباب ينتظرني، وكانت النوافذ هناك محصنة بقضبان حديدية متينة هي الأخرى.
وشعرت بشيء من الانتعاش بعد أن غسلت وجهي بالماء البارد، وتمنيت لو أمكنني أن أتوضأ لأصلي فريضة الصبح التي تعودتها منذ صغري، ولكن كيف أخلع ملابسي وحذائي وأين أضعها؟ وهل أتوضأ ثم أسير حافيا إلى الغرفة على الأرض التي كنت لا أقدر على تمييز لونها من الطين الذي فوقها؟ فاكتفيت بأن جففت وجهي في منديلي، وعدت في حراسة الشرطي إلى مقعدي فوق المكتب، وكانت المتاجر ما تزال مغلقة والطريق خاليا، وكل شيء هادئا تحت أنفاس الصباح الرطبة، فلم أجد شيئا يشغلني عن الهواجس العنيفة التي انفردت بي؛ ولهذا مرت علي ساعة كانت من أطول ما مر بي في حياتي، ثم بدأت الحركة تدب شيئا فشيئا في الطريق، وكان من أول من ظهر لي هذا الطفلان البائسان اللذان رأيتهما بالأمس، وكانا يسرعان من رصيف إلى آخر كعصفورين جائعين يلتقطان رزقهما في الصباح مع فارق واحد، وهو أن العصافير تخرج عند مطلع الشمس من أوكارها التي تأوي إليها في ساعة الغروب، وأما هذان فليت شعري أين قضيا ليلتهما؟ هل هما أخ وأخته؟ أم هما شقيان آخى بينهما الشقاء وألف بين قلبيهما؟ أيكونان في الحياة الواسعة وحدهما بغير ثالث؟ وماذا يفعلان بهذه البضاعة التي يجمعانها بين الصباح والليل؟ وهل هي تكفي لإطعام هذين المسكينين؟
ورأيتهما يقفان من بعيد عند باب دكان فول مدمس ويتوشوشان، لست أدري أكانا يتآمران على سرقة رغيف أم كانا يتناجيان برائحة الفول الذكية؟ وسأسأت لهما وناديت بأعلى صوتي قائلا: اسمع يا ولد! يا بنت!
فتلفتا حولهما في فزع، ولكنهما لم يعرفا أين أنا حتى أشرت لهما بيدي من بين القضبان، فأقبلت الفتاة نحوي مترددة وبقي الولد بعيدا ينظر إليها مترقبا، فلما صارت على الرصيف المقابل للنافذة قذفت إليها بقرشين وقعا تحت قدميها وقلت لها: اجري افطري وقولي لصاحب دكان الفول يبعت لي طبق فول بزيت ورغيف وسلطة، هنا في القسم، هنا!
فتبسمت مرتاحة وهزت رأسها وأسرعت إلى الصبي فأخذته معها ودخلت معه إلى الدكان، وبعد قليل جاء صاحب الدكان ليسألني عما أريد فقلت له: أنا هنا محبوس في القسم وأريد أن أفطر؛ طبق فول بزيت وسلطة ورغيف.
فقال: والعساكر؟
فقلت: سلم الأكل لأحدهم واتركه معه.
وقذفت إليه بقطعة فضية ذات خمسة قروش، فاقتنع وذهب.
وبعد قليل فتح الباب ودخل الشرطي العابس يأمرني بالذهاب إلى المحكمة.
فقلت له: لم أفطر بعد.
فقال في جفاء: هل هنا مطعم؟
فقلت: لا. هنا قسم بوليس، هل حضرة الضابط هنا؟
فقال: حضرتك صاحبه؟
فقلت: نعم، أشكرك جدا، وكان الشكر موجها إلى صاحبي الشرطي الآخر الذي جاء في تلك اللحظة يحمل طبق الفول والخبز والسلطة.
وقال في بشاشة: صباح الخير يا سيدنا الأفندي، كنت في العربة عندما جاء الرجل بالأكل فعرفت أنه لك، ما لك يا حضرة الباشجاويش؟ حرام يا رجل! النهار طويل ولقمة الصبح تسند قلبه.
وكان في قوله الأخير متجها إلى الشرطي الآخر الذي حاول أن يمنعه من إدخال الطعام إلى الغرفة.
وانصرف الشرطي العابس غاضبا، ودخل صاحبي الآخر فوضع الطعام على المكتب قائلا: تفضل!
فقلت له: بسم الله يا أخي.
فقال: بالهنا والشفا.
ومد إلي يده بقرشين قائلا: بقية ربع الريال.
فتبسمت قائلا: هل أفطرت؟
وأشرت إليه أن يأخذ القرشين.
فقال مرتاحا: الحمد لله. أشياء رضا.
وذهب خارجا وأتى إلي بكوب من الصاج مملوء بالماء، وكنت قد بدأت آكل وأنا واقف، وتبادلنا ابتسامة صغيرة قبل أن يخرج قائلا: على مهلك يا أفندي!
وكانت الساعة الثامنة والنصف عندما وصلنا إلى دار النيابة، ولكن المكتب كان خاليا، فجلست في حجرة الكاتب ووقف الشرطي عند الباب يحرسني.
وكانت الحركة والطعام قد أعادا إلي نشاطي، وذهب ما كنت أحسه من التعب والوحشة، وبعد قليل دخل صبي المقصف ليرى هل بالغرفة أحد فطلبت منه كوبا من الشاي ورجوته أن يشتري لي علبة من السجاير لأتسلى بالتدخين.
ومهما يكن من الأمر فإني شربت ثلاثة أكواب متفرقة من الشاي بين كل منها والآخر نحو ساعة وأحرقت نصف علبة السجاير، ولم يحضر أحد إلى المكتب، حتى صارت الساعة الحادية عشرة، ثم جاء الكاتب آخر الأمر وقال لي في خفة: آسف لأن البيه مشغول في قضية أخرى، ولا يحضر إلى هنا اليوم.
فقلت متثاقلا: ومعنى هذا؟
فقال: لا شيء، التحقيق مستمر، غدا أو بعد غد ، لا بد أن ينتهي على كل حال.
ثم مد يده إلى الشرطي بورقة وخرج مسرعا يتلفت في الغرفة ويهز يده بظرف كبير يحمله، ونزلت إلى العربة المعهودة فركبتها مع الشرطي، ولم أعرف إلى أين حتى وقفت العربة، وقال الشرطي في صوت نحاسي: تفضل يا أفندي.
فقلت: إلى أين؟
فقال: الاستئناف!
يا خبر! سجن الاستئناف؟ دخلت إلى ذلك السجن من قبل مرة عندما ذهبت مندوبا عن الجريدة لأشهد إعدام أحد كبار المجرمين. كان منظرا لا أنساه أبدا عندما رأيت المسكين قبل أن تعصب عيناه ليصعد فوق المشنقة، فقد كان ينظر في فزع شديد إلى الحبل المعلق الذي سيحتوي على عنقه، وجعل يقول لمن حوله بصوت مرتعد: «اطلبوا لي الرحمة يا ناس!»
فلم أطق أن أستمر في موقفي؛ إذ كان من المؤلم لي أن أرى الرجل ينهار هكذا، لو نظرت إلى ذئب جريح يلفظ أنفاسه الأخيرة لما أعجبني منه أن يمأمئ مثل الشاة مستغيثا متخاذلا؛ فالأجدر به أن يموت ذئبا وحشا مستعدا للهجوم إلى آخر لحظة من حياته، كنت لا أتألم هكذا لو بقي ذلك الرجل جبارا سفاكا متحديا فظيعا حتى النهاية، ولكنه صار مثل أرنب في يد الجزار يرتعد ويطلب الدعاء بالرحمة.
ومن ذلك اليوم اعتقدت أن سجن الاستئناف هو الذي حول هذا الجبار إلى رجل منهار، ومن أجل هذا كرهته.
فهل أنا ذاهب إليه كما يذهب إليه القتلة؟
أأذهب إليه لأني أكتب مقالات أترجم فيها عما أحسه ويحسه الناس من غضب على الفساد والطغيان والحكم الذي يذلنا ويسقطنا ويدنس أرواحنا؟
ودخلنا سجن الاستئناف، ومنذ دخلته أصبحت مثل شيء تتلقفه الأيدي ولا إرادة له، سلمني الشرطي إلى المأمور، وسلمني المأمور إلى سجان، وسار بي السجان إلى الغرفة التي خصصت لي ورقمها 298، ومنذ اللحظة التي دخلت فيها إلى الغرفة صرت رقما مجردا سابحا في الفراغ، فرقم 298 يصعد إلى غرفته، ورقم 298 يدعى إلى النزول، ورقم 298 يتناول طعامه، وكانت الغرفة التي دخلت فيها أحسن مما كنت أنتظر؛ إذ كان فيها على الأقل سرير يمكن أن أتمدد عليه، وكانت بها نافذة عالية ذات قضبان متينة، ولم يضايقني إلا سواد لون السقف والأرض.
ولم يكن بي حاجة إلى التفكير في الذهاب إلى دورة المياه؛ لأن «الجردل» كان هناك في ركن الغرفة أستطيع أن أقوم إليه لأقضي به حاجتي بغير عناء، مرحى! لا شك في أن هذا السجن تأديب وتهذيب وإصلاح كما يقولون، ولا عجب إذا كان القاتل الجبار قد تحول فيه إلى جبان رعديد!
وجلست على السرير في شبه ذهول لا أكاد أتحقق من أني أصبحت سجينا، ولا أدري كم بقيت جالسا هكذا حتى دخل علي سجان ليضع لي غطاء نظيفا على السرير، ومع كل ما داخلني من الارتياح لذلك لم أظهر له اهتماما.
ثم جاء الرجل إلي ببعض الطعام، ولكنني لم أشعر بجوع، فرفضت أن آكل شيئا، وبقيت في حالتي الذاهلة حتى جاءني السجان مرة أخرى يدعوني إلى طابور النزهة مع سائر أرقام عالمي، فقمت خارجا لأن ساعة أقضيها في الهواء الطلق خير من الجلوس في الغرفة المغلقة.
ونزلت إلى فناء السجن وهو لا يزيد على قطعة صغيرة من الأرض تحيط بها الجدران العالية من كل جانب، وسرنا في طابور النزهة رقما وراء رقم، وجعلنا ندور حول الفناء مرة بعد أخرى، ولاحظت أن المساجين مثل سائر الناس لا يستطيعون التخلي عن الكبرياء مع أنهم يعرفون أنهم لا يزيدون على أرقام مجردة، فقد وجدت أن كثيرا منهم يتأنق في ملابسه ليظهر في الطابور كما ينبغي لمثله؛ وذلك بالطبع إذا كانوا ممن يسمح لهم بلبس الملابس الخاصة مثلي، وقبل أن ينتهي طابور النزهة دعاني مأمور السجن لمقابلته، فذهبت إليه وكنت ما أزال ذاهلا، وكانت دهشتي عظيمة عندما وجدته يستقبلني في بشاشة وعطف، ويجلسني على كرسي إلى جانب مكتبه، ثم أشار إلى حقيبة كبيرة في ركن الغرفة قائلا: «هذه حقيبتك.» وأعطاني سيجارة فأخذتها شاكرا، وداخلني شيء كثير من الأنس والارتياح وسألته: من جاء بهذه الحقيبة؟
فقال: لا أدري. رجل جاء وأراد أن يراك ولكن لا مؤاخذة فالأوامر مشددة ؟
ثم أخذ يحدثني عن نزلاء سجنه حديثا فكها يقطعه بالفكاهات المرحة، فأذهب عني ما كان بصدري من الضيق.
كان كل رقم من هؤلاء النزلاء يمتاز عنده بشيء يجعله جديرا بالتحدث، فالرقم 110 تاجر في خان الخليلي وهو متهم بتجارة المخدرات، وبلغت أرباحه في العام الماضي وحده مائة ألف جنيه، ولم يضبط لسوء حظه إلا في آخر مرة عندما اختلف مع رجل من أهل الصعيد على شراء صفقة كبيرة، كان الرجل يريد أن يشتريها بخصم 10٪ من ثمن القطاعي، ولكن التاجر أبى فأبلغ المشتري رجال البوليس عنه، وانقلب إلى مساعد لرجال الأمن حتى تمكنوا من ضبطه، وكان نازلا بالسجن تحت التحفظ حتى يتم التحقيق، ولكنه يكلف المأمور مشقة عظيمة في مراقبته حتى لا يعقد صفقات جديدة داخل جدران السجن، وقد لاحظت في طابور النزهة أن ذلك الرقم رجل ضخم يسير شامخ الأنف ويلبس جلبابا من الحرير الأبيض، ويمسك في يده منشة بيضاء أنيقة.
وأما الرقم 213 فإنه من صنف آخر، وقد لاحظت أنه يلبس بيجامة فاخرة من الحرير الملون، ويدلي من جيبها الأعلى على يسار صدره منديلا أحمر، وقال عنه مأمور السجن: إن الطعام الفاخر يأتي إليه كل يوم من المرأة التي يعيش في ظلها، وهي كل يوم تحمل إليه الطعام بنفسها وتبكي؛ لأنها لا تتمكن من رؤيته، وتهمته أنه طعن منافسا بالسكين من أجل المرأة.
وأما الرقم 190 فإنه رجل شاذ لا يكاد يقضي مدة السجن في جريمة خلقية حتى يعود إلى ارتكاب جريمة أخرى.
وكان المأمور خبيرا بكل أحوال رعيته يتحدث عن كل رقم منها كما يتحدث صاحب المزرعة الهاوي عن السلالات الممتازة من الحيوانات التي في حظائره.
ولما فرغ من حديثه أخبرني بأنه قد اختار لي غرفة ممتازة في الدور الأعلى فيها مصباح كهربائي وفراش نظيف، وعلى مقربة منها دورة مياه، وقال: إنني أستطيع أن آمر بشراء ما أريد من طعام، وأمر بحمل الحقيبة وصعد معي حتى أوصلني إلى غرفتي وهمس قبل أن ينصرف: يمكنك أن تقرأ الصحف عندي في الصباح.
فشكرته من أعماق قلبي وصافحته في حرارة، ولما دخلت غرفتي فتحت الحقيبة، وأخذت أخرج ما فيها وأرتبه في مواضعه، فالركن الذي يلي سريري للكتب، وما كان أكرم هذا الصديق الذي أرسل إلي، وهو بغير شك الأستاذ علي مختار، ومن ذا يمكن أن يفكر في غيره؟ ولم أضع شيئا في الركن الذي أمامي؛ إذ كان لا يصلح لشيء لقرب الباب منه، وأما الركن الثالث فقد كان يصلح لأن أعلق فيه شماعتين إحداهما على المسمار الأسفل والأخرى على المسمار الأعلى، ويمكنني أن أضع عليهما ما في الحقيبة من الأقمصة، وأما أدوات الحلاقة والملابس التحتانية والمناديل وما إلى ذلك، فلا يضرها أن تبقى في الحقيبة لآخذ منها ما أحتاج إليه في حينه، والمحل الصالح للحقيبة هو الركن المنعزل تحت قدمي السرير، وبالغ مأمور السجن في إكرامي فبعث إلي ببعض الأطعمة الخفيفة للعشاء مع فنجان لذيذ من الشاي، فعزمت على أن أكرر له شكري إذا نزلت في الغد إلى طابور النزهة، وهكذا وطنت نفسي سريعا على الإقامة في سجن الاستئناف، وبذلت كل جهدي في صرف فكرة إتمام التحقيق والقلق من الانتظار، وسلمت أمري إلى الله تعالى.
الفصل الخامس والعشرون
مضت أربعة أيام بغير أن أسمع شيئا عن التحقيق الذي وضعت تحت التحفظ من أجله، وكان مما زادني ضيقا أني كنت أسمع في كل يوم بالإفراج عن بعض الأرقام الأخرى، ومن بينها التاجر في المخدرات والشاب الذي يعيش في ظل المرأة والمجرم العائد صاحب الجرائم الخلقية، كل هؤلاء يفرج عنهم بكفالة مالية، وأما أنا فأبقى في السجن حتى يتم التحقيق، ومتى؟
وذهبت في اليوم الرابع لأحضر جلسة المعارضة، وتطلعت إلى الساعة التي أقف فيها أمام القاضي، ولم أجد في المحكمة من ينتظرني غير فراش مكتبي الذي اندفع نحوي مسلما ضاغطا على يدي وقال: تشجع يا أستاذ!
وقدم إلي سيجارة.
ولم يطل بي الانتظار؛ فإن القاضي أخذ يستمع إلى أقوالي في هدوء واعتدال، حتى تيقنت أن الحكم سيكون بالإفراج.
وكانت دهشتي عظيمة عندما أعلن القاضي أن الحكم بعد أسبوع.
ولما خرجت من الغرفة لم أكد أصدق عيني عندما رأيت أمامي وجه أمي الباكية، ولمحت إلى يمينها ويسارها عبد الحميد عباد ومنيرة وحمادة الأصفر، وسبح رأسي في الفضاء حتى كدت أسقط، لولا أن تماسكت وسلمت نفسي للأم المسكينة التي لم أفهم مما قالت شيئا، وجاءت منيرة وعبد الحميد يحاولان أن يهدئاها، ووجدت أن الموقف أشد من طاقتي، فحاولت أن أقول بعض كلمات أخفف بها لوعتها، ولكني لم أجد شيئا أقوله.
وكان الشرطي المكلف بحراستي أكثر إنسانية من أن يجذبني من ذراعي، فاكتفى بأن قال: «لا داعي لكل هذا، والعاقبة خير إن شاء الله.» فعاد إلي شيء من قوة الإرادة، ونزعت نفسي من يدي أمي في شيء من العنف وتكلفت قلة الاهتمام، وشددت ابتسامة على وجهي قائلا: لماذا تزعجون أنفسكم بالحضور إلى هنا؟ هذه شروط المهنة يا عبد الحميد، وأنت يا منيرة ألا تريدين أن تكوني صحفية؟ هناك صحفيات كثيرات أقل منك براعة في تمثيل أدوار البكاء، تعالي يا آنستي معي لتري أني أفطر عسل نحل وأتغدى كبابا.
وأنت يا حمادة!
فتقدم حمادة إلي ومد يده مسلما، وكان وجهه يدل على التأثر، فقلت له: أظنك أنت المسئول عن هذا؟ من أخبر هؤلاء غيرك؟
فقال: يعني يا أستاذ سيد أذهب لأسأل عنك وأعلم أنك في السجن ولا أبعث إليهم؟ يعني كنا كلنا نأكل ونشرب وننام في بيوتنا وأنت تأكل مع المساجين؟ كان لا بد أن أقول لهم ولا بد أن نهتم بك يا أستاذ، والمسألة بسيطة؛ تلغراف: «منتظركم اليوم بالمحطة لأمر هام يخص الأستاذ سيد.» والست الكبيرة دعت لي وهي مرتاحة مع منيرة هانم في بيت الحاج مصطفى، وأنا وفطومة وكلنا في الخدمة، ووالله ما يحمل لك الأكل غيري، يا سلام يا أستاذ! بعض خيرك والله! وكل يوم أطلب مقابلتك والمأمور يرفض، إن شاء الله ربنا يفرجها.
ووضع الشرطي يده على كتفي منبها، فنزعت نفسي لأسير معه وأخذت يد حمادة فضغطت عليها، وأبت أمي إلا أن تضمني إلى صدرها قبل أن أذهب، وكانت عينا منيرة غارقتين في الدمع وهي تسلم علي صامتة، وأما عبد الحميد فهمس إلي قائلا: أنا مقيم هنا فلا تفكر في شيء، وعندي كلام كثير أقوله لك قريبا.
وانصرفت مع الشرطي نحو العربة المنتظرة، وقاومت الدافع القوي الذي كان يدفعني للنظر إلى الوراء، ولما أغلق الشرطي الباب من ورائنا قذفت برأسي على كفي معتمدا بذراعي على ركبتي، وتمنيت لو أسعفني البكاء حتى أخفف من شدة الضغط الذي كاد يمزق كياني.
وقضيت الليلة الأولى بعد عودتي إلى السجن في أشد من الجحيم، فلم أذق طعم النوم فضلا عما كنت أعانيه من الآلام والهواجس، كما أني لم أذق طعاما في الغداء أو العشاء، بل وزعت ما جاءني على بعض المساجين الآخرين، ورجوت المأمور أن يرفض قبول أي طعام من الخارج من أجلي.
ولم تنقطع آلامي وهواجسي في اليوم التالي، وزادني غيظا أن الطعام استمر يأتي إلي برغم إلحاحي في رفضه، فكنت أوزعه على زملائي من الأرقام الأخرى، وأعدت الكرة مرة ثالثة على المأمور قائلا له: «إنني أحتج احتجاجا شديدا لإرغامي على قبول طعام لا أريد قبوله.»
والظاهر أن حمادة كان يحتال على إيصال الطعام إلي بإهداء بعض الهدايا إلى حراس السجن، فإن المأمور اضطر إلى إحضار رئيس الحراس أمامي وهدده بالعقاب إذا هو تساهل في إدخال أي طعام يأتي باسمي، وبعد ثلاثة أيام من هذا الاحتراق المستمر شعرت في الليل بقشعريرة شديدة والتهاب في الزور، وقمت في صباح اليوم الرابع لا أكاد أقدر على بلع ريقي، وترددت في أن أعرض أمري على المأمور فتحملت آلامي ولم أذق شيئا من طعام السجن الذي جاء إلي، ولو كنت في تمام صحتي لما وجدت له شهوة؛ إذ كان لونه ومنظره يكفيان لصد النفس عنه، ولما أقبل الليل خيمت على قلبي كآبة شديدة زادتني ألما على ألم وزادت حرارة جسمي حتى كنت أحسها في أنفاسي المكروبة ورأسي المصدع وأعضائي النابضة بالوجع، وخشيت أن يكون قد أصابني مرض خطير يقضي علي قبل الصباح، فتحاملت على نفسي حتى وصلت إلى الباب، فدققته لأدعو السجان، وبعد حين فتح الباب وسألني الرجل في لهجة اللائم عما أريد، فلما علم أن الأمر لا يزيد على أني مريض أجابني قائلا: وماذا أصنع لك؟
ثم أغلق الباب وانصرف عني بغير أن يزيد كلمة، ولم أجد فائدة في إعادة الكرة عليه فتهالكت على سريري، وألهاني الوجع عن التفكير في فظاظة ذلك السجان، وأغلقت عيني لأغريها بالنوم، ولكن سلسلة من أخيلة محمومة لا معنى لها أغرقت وعيي، وجعلت تتطارد وتتواثب في شبه حلم مضطرب، وعادت إلي القشعريرة أشد مما كانت في الليلة الماضية فقمت أبحث عن شيء أتغطى به فلم أجد شيئا، وجعلت أنتفض وأرتعد ساعة طويلة حتى زال البرد وهجمت علي حرارة شديدة كادت تزهق روحي.
وطلع الصباح آخر الأمر وطلبت من السجان أن يبلغ المأمور أني مريض، فما هي إلا ساعة قصيرة حتى جاء الطبيب ليفحصني، ولو كنت قطة مدللة لكانت عناية الطبيب بي أكثر من عناية ذلك الرجل الذي جاء إلي فنظر إلى وجهي ثم قال: ماذا تشكو؟
فأشرت إلى زوري قائلا: زوري أولا، وقد بدأت أسعل في آخر الليل سعالا شديدا، وجسمي هامد، ورأسي مصدع، ولم أذق النوم، وانتابتني في الليل قشعريرة شديدة.
وأظن حرارتي ...
ولكنه لم يصبر حتى أتم قولي.
فقاطعني ساخرا: يظهر أنك تعرف كل شيء، فلم يبق إلا أن تشخص المرض.
فقلت مغتاظا: وماذا أعمل وأنت تسألني؟
فقال في جفاء: هذا شيء عادي يحدث كل يوم.
وهم أن ينصرف.
فقلت في حنق: أليس لهذه اللوز الملتهبة دواء؟ أظن واجبك لا يقتصر على كتابة شهادة وفاتي.
فقال غاضبا: لم أنتظر تشريفك حتى تعلمني واجبي.
وأدار ظهره وانصرف، وسمعت وقع الأقدام تتباعد وأنا في شبه غيبوبة.
ولم أعرف ماذا حدث بعد ذلك حتى صحوت لأجد نفسي في غرفة أخرى وإلى جنبي سيدة في ملابس الممرضات، ولما هممت بالقيام قالت في لهجة أجنبية: أرجوك أن تهدأ الآن.
الفصل السادس والعشرون
مرت ساعة طويلة قبل أن أعرف أني في مستشفى الحميات، وأني نقلت إليه في الساعة السابعة من الصباح، وعاد إلي شيء من القوة في ساعة الظهر فاستطعت أن آكل الطعام اليسير الذي قدم إلي، ولم يأت الليل حتى كنت أقدر على الحديث، وجاءت السيدة التي رأيتها من قبل وهي كبيرة الممرضات فقاست حرارتي وكانت تزيد درجة واحدة عن الحرارة الطبيعية، وأخذت تحدثني وكانت نفسي مستوحشة فوجدت في ثرثرتها أنسا كبيرا، ثم أخذت تربط ذراعي من فوق المرفق ومن تحته لتأخذ عينة من الدم، فلما أتممت عملها أهدت إلي قصة لأتسلى بقراءتها، وهي امرأة في نحو الخمسين من عمرها وما يزال فيها أثر من نضرة الشباب والجمال، وزادتها طبيعتها العاطفة حسنا ورقة.
وبعد أن قضيت بضعة أيام في المستشفى بدأت العلاقة تتوثق بيني وبين من هناك من الممرضين والموظفين، بل توثقت الصلة بيني وبين حراسي وهم من جنود الرديف، وكان أقربهم إلى مودتي الفتى «مجاهد» الذي كان ينتظر انتهاء مدته في الجندية، ليعود إلى قريته ويتزوج من ابنة عمه «هنا»، فكان كلما جاءت نوبته وقف عند باب حجرتي في حديقة المستشفى واضعا بندقيته بين قدميه، وأخذ يحدثني عن نفسه وأهله وعروسه «هنا».
وكان لهذه المودة التي نشأت بيني وبين من في المستشفى أثر كبير في تخفيف وطأة السجن علي وفي تسهيل زيارات أهلي وأصحابي.
وكانت أول زيارة مفاجأة سارة بعد عشرة أيام من انتقالي إلى المستشفى، وذلك في الساعة التاسعة من المساء في ليلة مظلمة كان الحارس «مجاهد»، أو اللواء «مجاهد» كما كنت أسميه، يحدثني كعادته بلهجته الصعيدية الظريفة عن بعض مغامراته في حرب فلسطين، وعرى ذراعه فكشف لي عن جرح كبير فيها وأخذ يحكي لي قصة ويمزج وصفه الساذج بفكاهات ساخرة عن القنابل «الرفاسة» التي كانت دائما تضرب إلى الوراء كأنها بغال خبيثة، ورأيته يلتفت فجأة ويرفع بندقيته ويصيح في عنف: «من هناك؟» وخيل إلي أنه على وشك أن يضرب، فأجابه أحد القادمين قائلا: «عوض الله»، فعاد إلى وقفته الأولى، وتقدم عوض الله أفندي رئيس التومرجية ومن ورائه شخص يتعثر في معطف أبيض من ثياب الممرضين، ولم أعرف من هو حتى خرج من ظل الجدار وبدأت أشعة مصباح الغرفة تقع على وجهه فصحت قائلا: «حمادة! ماذا جاء بك إلى هنا؟»
وتنحى اللواء مجاهد حتى وقف على مسافة بضعة أمتار منا، ولأول مرة في حياتي أخذت حمادة بين ذراعي، وكان يحمل في يده ربطة وضعها على المنضدة قبل أن يعانقني وقلت له: «كيف عرفت أني هنا؟»
فقال ضاحكا: أمال يا عم، تهرب من السجن بغير أن تترك لنا العنوان الجديد؟
وقام فحل الربطة وأخرج منها صندوق السجاير وعلب الحلوى، وأخذ يقدم منها إلي وإلى عوض الله أفندي واللواء مجاهد، ثم أخذ يحدثني عن أمي وأختي وعبد الحميد والشيخ مصطفى وفطومة، كانت فطومة تريد أن تحضر معه ولكنها تكاسلت في آخر لحظة.
فقلت باسما: إذن لم تسافر إلى دمنهور.
فقال: ما لي أنا يا سيدي، هنا وطني.
فقلت: وانتهيت؟ أقصد عقدت العقد؟
فقال: اشترينا الملبس والشربات، وذهبت إلى المنزل على حسب وعد الحاج مصطفى، ولكن الست فطومة حلفت ما يمكن العقد حتى يخرج سي سيد من السجن، قلت: الحق معها، يا سلام يا أستاذ!
وكان عوض الله أفندي قد عاد إلينا بعد أن غاب في جولة بالمستشفى وطلب من حمادة أن ينصرف.
وقام حمادة بغير أن يتم حديثه، وكان وداعه حارا، وسار يتعثر في ذيل معطفه الذي استعاره من عوض الله ليستخفي به، وغاب وراء ركن البناء بعد قليل، وبقيت وحدي جالسا على الكرسي الطويل سابحا في تأمل هذا الرجل العجيب حمادة الأصفر، لم أستطع أن أعرف حقيقته منذ كنا أطفالا، ولا عندما كان يتمرغ في الأوحال، ولم أستطع أن أعرف حقيقته بعد وهو يتخطى الأسوار ويعرض نفسه للمتاعب من أجل زيارتي.
وقطعت الأخت مرسيديا كبيرة الممرضات سلسلة أفكاري عندما جاءت لتأخذ عينة الدم من ذراعي، وتعطيني الحقن كما كانت تفعل كل ليلة.
وقلت لها ضاحكا: أهي مؤامرة لنزف دمي؟
وكانت لها طريقة ظريفة في معاملتي تشبه طريقة الأم إذا أرادت أن تتغلب على مقاومة طفلها العنيد في رفق، فاستسلمت لها حتى فرغت والتفتت إلي قائلة: هذه مكافأة صغيرة على طاعتك. أظنها قصة تعجبك وهي من أحدث ما ظهر.
فقلت وأنا أنظر إلى غلاف الكتاب: أتعجبني من أجل هذه الصورة؟
وكانت صورة امرأة غجرية حسناء تكاد تكون صورة فطومة.
فقالت مرسيديا: هذه «ردمويا»، هي امرأة متوحشة لم تفسد المدنية طبيعتها الأصيلة؛ ولهذا تنطق بما يقول قلبها.
فأخذت أقلب الصفحات وأنظر إلى الصور الأنيقة التي فيها، وهي تمثل الغجر الذين يقيمون في خيامهم في قلب المدينة كما كان يعيش الإنسان الأول.
وكانت قصة مسلية مؤثرة في وقت واحد، فتاة غجرية حسناء يتهافت على خطبتها شباب القبيلة، وكان أحرصهم على الفوز بها «نمرادا» ابن شيخ القبيلة، وهو فتى ممشوق القامة، جميل الصورة، ولكن «ردمويا» رفضت حبه وقالت له تتحداه: «دمائي لا تألفك.»
ولم أستطع أن أقاوم ميلي للقراءة برغم تحذير الأخت مرسيديا، ألا أطيل السهر، وأخذت أقرأ في تمهل بغير أن أجد في مدخل القصة شيئا يسترعي اهتماما خاصا، ثم بدأت صور الأشخاص تتمثل في ذهني كأنها تخرج من وراء ضبابة، وبدأت آنس إليها وأعرفها، ولم أشعر بمضي الوقت حتى شعرت بيد تخطف القصة مني، وسمعت صوت مرسيديا تقول في غضب: الحق علي أنا! ألم أقل لك ألا تقرأ هذه الليلة؟ أهكذا تسهر إلى الساعة الواحدة من الصباح؟
ولم تتركني حتى رقدت في فراشي وسوت علي الغطاء وأطفأت النور وأغلقت باب الغرفة وأخذت الكتاب في يدها، ولم أستطع أن أنام فبقيت أستعرض مناظر القصة التي كانت تمر أمام عيني مثل فيلم ناطق.
أم ردمويا تقول لها: عجبا لك إذ ترفضين نمرادا! هل تخفين عني سرك يا ردمويا؟ أتحبين فتى آخر؟ حاذري أن يكون قلبك متعلقا بمن لا يهتم بك.
فقالت ردمويا ضاحكة: ألست أختار لنفسي يا أمي؟
فقالت الأم غاضبة: أيام الشباب قصيرة يا ردمويا؟ والزهرة تذبل سريعا.
فقالت ردمويا: لست حمقاء أو غبية يا أمي، ولا أريد أن أضيع حياتي، كيف أهب قلبي كما يوهب العبد؟
فقالت الأم في حنان: لا تنخدعي بالأوهام يا ردمويا، عندما يقول قلبك: «لا» قد يكون قصده «نعم»، هكذا نحن يا حبيبتي إذا تسرعنا.
فقالت ردمويا: لم أتسرع في شيء يا أمي، قضيت شهرا أغني وأرقص لعل قلبي يرضى، وقضيت شهرا آخر أحرق البخور كل ليلة لنجم الشعرى لعله يهديني، ولكن قلبي كان دائما يقول: «ليس نمرادا رجلي.»
فصاحت الأم غاضبة: لا تقول هذا فتاة أخرى في القبيلة، كلهن يبتسمن له ويرمينه بالحصى من أجلك.
فقالت ردمويا في تأثر: ليس هو رجلي، هو أنيق مثل عود السرو، وصوته ناعم كصوت اليمام، وهو ابن شيخ القبيلة الذي يملك الذهب، ولكنه لا يحسن إلا تسلق الشجر الأملس، لا يقدر نمرادا أن يذلل الجواد الحرون ولا يشق الأمواج الثائرة، ليس نمرادا رجلي.
فصاحت الأم في يأس: رجلك إذن خيال في السحاب أو شبح في ضوء القمر.
وتركتها ذاهبة إلى الخيمة في حنق: ووقفت «ردمويا» وحدها تحت السماء تنظر إلى نجم الشعرى وتحدث نفسها قائلة: ليس هو نمرادا.
هكذا كانت ردمويا تتحدث؛ لأنها تعرف قيمة حياتها، ولا تريد أن تضيعها، قضت شهرا تحرق البخور لنجم الشعرى ليهديها حتى لا تخطو خطوة حمقاء لأنها ليست مثلنا تتخبط مع الأهواء الزائفة في أخطر موقف في حياتها، فأين هي من منى التي تقول لي: «لم أفكر في أمر هذه الخطبة؟»
ومتى تفكر إذن؟ أم هي تريد أن تهب قلبها كما يوهب العبد؟
وتمنيت لو استطعت أن أكتب في يوم من الأيام قصة مثل «ردمويا» لأعلم الناس مسئولية المرأة في اختيارها؟ ولكن ماذا صنعت «ردمويا»؟ أين هي القصة؟ أوه! كان في وسع الأخت مرسيديا أن تتركها هنا بدلا من جعلي أنتظر حتى تأتي إلي في الساعة الثامنة من الصباح.
هكذا بقيت أحدث نفسي وأنا مغمض العينين، ولا أدري متى دخل النوم إليهما.
الفصل السابع والعشرون
أصبح عالمي بعد قليل محصورا في ذلك المستشفى وأهله؛ الأخت مرسيديا واللواء مجاهد والدكتور عوض الله أفندي، وكانت زيارات أهلي وأصدقائي تقطع رتابة تلك الحياة الهادئة التي بلغت مبلغ الركود، وتدخل إلى وحشتي شعاعا من الأنس، فكنت أنتظرها في تلهف وأتخذ من كل منها ذخيرة أتصبر بها حتى تحين الزيارة التالية، ومن عجيب الطبع البشري أننا نقبل ما تحتمه علينا الظروف، ونلائم بين أنفسنا وبين الأحوال التي نتقلب فيها، ولو لم تكن فينا هذه المقدرة على الانطباع بالظروف المتغيرة لما استطاع كثير منا أن يطيقوا حياتهم إذا تغيرت أحوالهم من اليسر إلى العسر أو من الغنى إلى الفقر أو من الجاه إلى الخمول، ولولا هذا الطبع لما استطاع إنسان أن يعيش يوما واحدا إذا فقد الحرية وهي الهبة الأولى التي تميز الحياة الإنسانية، وتجعل لها معنى، الطير والوحش إذا حبست وحيل بينها وبين حرية الفلوات والفضاء لا تطيق صبرا على الأسر، وقد تنتحر أو ترفض الطعام والشراب حتى تموت، ولكن الناس يتمسكون بالحياة وإن كانت في سجن مظلم تحت أطباق الأرض، وقد عجبت كثيرا وأنا في سجن الاستئناف من فتى كان محكوما عليه بالإعدام ولم يبق من عمره إلا أن تنظر محكمة النقض في أمره، ولكنه كان يأكل ويشرب ويضحك ويهرج، ولا يكاد من يراه يحسبه مهموما بشيء، ولو أنه خير بين الموت وبين البقاء في سجنه طوال حياته لما تردد في اختيار السجن مع كل ما فيه من ضيق وعذاب وألم لا يقاس به ألم الإعدام في لحظة قصيرة.
ومهما يكن من الأمر فقد استقر بي المقام في حجرتي المنعزلة في المستشفى أترقب زيارات أهلي وأصدقائي كما يترقب الطفل صباح العيد، وقد صار الناس جميعا في نظري أعزاء والذين كانوا أعزاء من قبل أصبحت حولهم هالة من الحنين تشبه القدسية، وأما أهل عالمي المحدود فقد أصبحت لكل منهم عندي شخصية خاصة به، ومكانة لا يملؤها سواه.
وقد جاءني الشيخ مصطفى حسنين ذات يوم، فلم أتمالك عيني من الدمع عندما عانقني وهو يبكي، هكذا نحن معاشر البشر نقيس الأشخاص والأشياء والأمور بمقاييس متقلبة تختلف مع أهوائنا ومع مشاعر الساعة التي نكون فيها.
وكان حمادة من أكثر أصحابي ترددا على زيارتي ومن أشدهم عناية بأمري، فلا يكاد يخلو يوم من زيارة يؤنسني بها وحده أو مع غيره، وكان قلبي يتوجع كلما تذكرت أن منى لم تسأل عني، أما سألت يوما عن أختي منيرة؟ أما عرفت أنها سافرت مع أمي إلى القاهرة لتكونا قريبتين مني؟ وهل يمكن أن يخفى خبر سجني عنها مع أن الأخبار تنتقل في دمنهور مثل تردد الصدى في الوادي الضيق؟
ولكن كنت أعود دائما إلى نفسي فأراجعها معتذرا عنها، فما أدراني أنها عرفت ما أنا فيه؟ وأما الأستاذ علي مختار فإنه لم يأت لزيارتي مرة، ولم يحضر في يوم جلسة من جلسات المعارضة، بل إنه لم يبعث إلي بكلمة مع أحد أتباعه، كان ساعي مكتبي هو الرجل الوحيد الذي جاء ليواسيني ويقول لي: «تشجع.» وهممت مرارا أن أسأل صديقي عبد الحميد عنه، ولكني تكبرت أن أسأل عن رجل يتخلى عني هكذا مع أنه شريكي في كل كلمة أنشرها.
وجاءني عبد الحميد عياد يوما وكان معه أحد أصدقائي من المحامين الشبان، وذلك في الليلة التي تسبق جلسة المعارضة الثالثة، وبدا لي صاحبي على غير ما كان منذ رأيته آخر مرة، عاد كما عرفته من قبل مستقيم العود حاد الملامح هادئ الحركات رصين النبرات، وكان في مظهره شيء كثير من العناية التي تقرب من التأنق، ودار أكثر حديثنا حول جلسة المعارضة، ولكن المحامي الشاب لم يكن يعرف شيئا عن القضية، وخيل إلي أنه لا يعبأ كثيرا بأن يعرف عنها شيئا، فشعرت من حديثه بكثير من الضيق حتى لقد تمنيت لو حدث شيء يحول بينه وبين حضور الجلسة، ولما انصرف بعد زورة قصيرة مع صاحبي عبد الحميد، هجم علي سيل من الهواجس حتى صارت الساعة الثانية بعد نصف الليل، واضطربت الأفكار السوداء حولي من كل جانب، وأخذت أسأل نفسي عما يكون إذا حكم القاضي باستمرار حبسي مرة بعد مرة، فهل تبقى أمي وأختي بالقاهرة تقيمان في غرفتي المحطمة؟ وهل عندهما ما يكفي لنفقتهما التي ضاعفتها عليهما بحبسي؟ أم أتركهما هكذا لصاحبي عبد الحميد ينفق عليهما وأنا كالمفقود في سجني؟ وقد جعلتني هذه الهواجس أشعر بأنني قد اقترفت جريمة شنيعة؛ لأني لم أفكر في أن ما يصيبني لا يقف عند شخصي، فلو كنت وحدي في الحياة لكان مقامي بالسجن لا يزيد على مغامرة تخصني ولا تمس غيري، ولكني جنيت على أمي وأختي وأرغمتهما على أن تغامرا معي بغير أن يكون لهما شعور الرضا الذي يصاحب المغامرة، وقد ألح هذا التفكير علي حتى صرت أقول لنفسي: «من أجل أي شيء أقدم على هذا التضحية؟ من أجل حرية بلادي؟ وكل هؤلاء الذين يستقرون في بيوتهم ألا يحسون شيئا من أجل حرية بلادهم؟ ألا يزعم الأستاذ علي مختار مثلا أنه مجاهد في سبيل الحرية؟ وأين هو الآن؟ أليس يقيم سعيدا في بيته؟ وماذا يكتب يا ترى في بريد الأحرار؟ لا شك أنه محا عنوان «أنا الشعب»، وجعل في مكانه عنوان قصة عاطفية تغري بالقراءة مثل «غرام غانية» أو «الحب المحرم».
وعندما بلغ بي التفكير إلى هذا المدى تنبهت إلى أن الجزع قد استولى علي وجعلني أنكر كل عقائدي وأبدل كل آرائي، فهل كنت هازلا عندما آمنت بالثورة وبالجهاد من أجلها؟ أهكذا أنكل عند أول صدمة وأسمح لضعفي أن يغلبني حتى أكفر بأعز ما آمنت به وأمحو بيدي تلك الصورة التي نصبتها أمام عيني لتكون أمنية كبرى تجعل لحياتي معنى؟ وأخذت أستعيد لنفسي ذكرى وقفتي عند قبر أبي؛ إذ خيل إلي أني أسمع صوته يقول لي: «إن الحياة تناديك يا ولدي.» وتذكرت أني عاهدته على أن أؤدي واجب حياتي، وماذا تكون قيمة هذا الواجب إذا كان أداؤه لا يحملني الآلام ولا يكلفني المتاعب؟
وثقل جفناي آخر الأمر بالنوم، ولكنه كان نوما متقطعا مضطربا، وقمت في الصباح الباكر لأستعد للذهاب إلى المحكمة وجاءت الأخت مرسيديا بنفسها لتحمل إلي إفطاري وتودعني معتذرة بأنها ستكون مشغولة عني، ولعلها لا تراني قبل خروجي، وقالت لي وهي تهز يدي: «أرجوك أن تسأل عنا بالزيارة بعد أن يفرج عنك، فسيفرج عنك اليوم بغير شك!» وقلت لها باسما: إلى اللقاء يا ملاكي.
فضحكت ضحكة عالية وقالت: لقد تعلمت الملاطفة هنا.
وانشرح صدري لكلمتها واستبشرت بالفرج القريب، وكان وداع عوض الله أفندي لا يقل عن وداعها بشرا وظرفا، وكان أسفي عظيما؛ لأني لم أودع اللواء مجاهد؛ إذ كان ذلك اليوم غائبا عن المستشفى.
ولما خرجت في العربة ذاهبا إلى المحكمة ظهرت المدينة أمام عيني باهرة، كأنها منظر أنيق لم يقع عيني عليه من قبل، وكنت أحس في بدني قوة جديدة من أثر العلاج الذي كان أكبر الفضل فيه للأخت مرسيديا، فاستقبلت نسيم الصباح في صدري رطبا عطرا يملؤني نشاطا واستبشارا، وكنت ما أزال محتفظا في جيبي بالمائة جنيه التي ردها إلى حمادة الأصفر وبعشرين جنيها أخرى كانت معي من قبل، فما كدت أرى صاحبي عبد الحميد واقفا عند باب المحكمة، حتى أخرجت المحفظة ودفعتها إليه بعد التحية قائلا: خذ هذه النقود فأوصلها إلى أمي، وأرجوك أن تحملها على العودة إلى دمنهور إذا حكم القاضي باستمرار حبسي.
فقال عبد الحميد باسما: فإذا رفضت؟ على كل حال أرجو أن يكون الحكم بالإفراج عنك.
ولم أجد وقتا للمجادلة؛ لأن الحارس جذبني في رفق من ذراعي ليسير بي، وقلت مختصرا: أترك كل شيء لتقديرك، وعلى فكرة أرجو أن تبعث إلي ببعض أعداد بريد الأحرار.
وكانت دهشتي عظيمة عندما رأيت عبد الحميد ينظر إلي مبهوتا وهو يسير إلى جانبي.
فقلت: ألم تسمعني؟
فقال في صوت خافت: لم أرد إزعاجك بالحديث عن بريد الأحرار.
فصحت: ماذا حدث؟
فقال: هي مغلقة من يوم القبض عليك.
فقلت في دفعة: والأستاذ علي مختار؟
فقال: هو مثلك سجين غير أنه يستعد لعملية جراحية.
فرفعت يدي إلى رأسي بحركة قسرية وهجمت علي موجة شديدة من حزن مختلط بالأسف على ما سبق من سوء ظني بالرجل.
واستمر عبد الحميد قائلا: وأحب أن أقول لك: إن مرتبك وصل إلى الوالدة في أول الشهر، فلا تزعج نفسك بالتفكير في شأنها.
وكنا قد وصلنا عند ذلك إلى قاعة المحكمة، وكانت المقاعد مزدحمة بمن فيها، ولمحت أمي وهي جالسة تمسح دموعها بمنديلها في الصف الثاني، وأما منيرة فكانت تنظر نحوي وهي جالسة إلى جانب أمي وتحاول أن تبتسم ووجهها يتحرك حزينا، وتعمدت أن أظهر طبيعيا فتبسمت لهما وحركت يدي نحوهما ثم أدرت بصري عنهما حتى لا تنفجر دموعي.
ثم أخذ القاضي في نظر قضيتي وهو هادئ، وكنت مشغولا عنه بما في داخل نفسي، ثم بدأت بعد حين مرافعة المحامي، والظاهر أنه لم يجد وقتا في الليلة الماضية ليقرأ دوسيه التحقيق؛ إذ كان دفاعه سقيما مترددا لا روح فيه، وختم مرافعته باعتذار سخيف يزعم فيه أني لم أقصد شيئا من وراء ما كتبت، وأنني أضمر لرجال الحكومة كل تقدير وتبجيل، فكدت أصيح به أن يسكت وشعرت بالدم يتدفق إلى وجهي ورأسي، وما كاد يفرغ من مرافعته حتى اندفعت أكذب ما قاله، وأخذت أبين في وضوح أنني لم أكن هازلا عندما كتبت مقالاتي، وأنني أشعر شعورا عميقا بواجبي في مجاهدة الفساد والانحلال بكل ما أملك من قوة، وهي قوة قلمي. ثم انطلقت أتحدث عما سميته «التفاهات المسكينة» التي أغرق فيها رجال الحكم أنفسهم، وأوشكوا أن يغرقوا فيها البلاد معهم، وختمت دفاعي بصيحة عالية ناديت فيها كل من يقدر الكرامة الوطنية والحرية ومصلحة البلاد أن يعمل على إزالة الحكم الفاسد حتى لا يجد في نفوس الأمة دعامة يستند عليها.
وكانت كلمتي الأخيرة مصحوبة بإشارة قوية من يدي وخبطت على القضبان الحديدية التي أمامي قائلا: «إن الحكام لا يستمدون سلطانهم إلا من الأمة، ويفقدون كل حق في السلطان إذا تخلت عنهم الأمة.» وكانت القاعة ساكنة في أثناء دفاعي كأنها خالية، ولما فرغت من قولي تلفت حولي وكانت الوجوه ساهمة شاخصة نحوي، وكان عبد الحميد ينظر إلي حزينا واجما، وأما أمي وأختي فإنهما كانتا تبكيان بكاء مرا.
ونطق القاضي قائلا: «الحكم بعد أسبوع.» هكذا دائما! وكان وجهه هادئا كأنه يقول: «عليكم السلام.» وخرجت من قاعة الجلسة، ونزعت نفسي من حلقة أهلي وسرت مع حارسي حتى ركبنا العربة وفي قلبي عاصفة، وسارت العربة بي وأنا مطرق لا أنظر حولي حتى وقفت آخر الأمر عندما سجن الاستئناف.
الفصل الثامن والعشرون
لم تكن رهبتي من السجن في هذه المرة مثل الرهبة التي وقعت في نفسي عندما جئت إلى سجن الاستئناف أول مرة.
وبدأت تستولي علي حالة من التجرد والتأمل صرفتني عن كل شيء، ووطنت نفسي على أسوأ ما أتوقع، واتجهت بقلبي إلى الله تعالى أن يثبت جناني حتى لا يتزلزل، واستكثرت من الكتب حتى صارت لي مكتبة منوعة أستطيع أن أتنقل فيها كما أشاء، وكنت أقضي وقتي بين التأمل والقراءة والصلاة، وما أشقى الذين تخلو قلوبهم من الإيمان إذا ألحت عليهم الكروب.
ولما جاءني خبر حكم القاضي بعد أسبوع برفض المعارضة واستمرار حبسي لم أبتئس منه، بل عزمت على أن أصرف نفسي عن التفكير في المعارضة حتى لا أزعزع فكري بالانتظار والتلهف والتساؤل، وجمعت كل إرادتي لأستفيد من وجودي بالسجن، فكنت أنتهز كل فرصة للتحدث مع زملائي، ووجدت في ذلك ذخرا عظيما من التأمل.
كنت أشعر في أول الأمر كأن بيني وبينهم سدودا منيعة يتحصنون مني وراءها، أو كأن لهم قواقع ينكمشون فيها كلما أحسوا محاولتي في الكشف عن ضمائرهم، ولكني استطعت بعد حين أن أصل إلى قلوبهم وما فيها من صفحات مطوية في الظلمات، والذين لا يعرفون من الحياة إلا الجانب الوديع الهادئ الآمن لا يعرفون من حقائق الحياة إلا قليلا، فالصفحات المطوية في أطباق قلوب هؤلاء تروي قصص المآسي التي جفت دموعها، وتحجر قلبها، وكثيرا ما كنت أسأل نفسي هل ولد هؤلاء هكذا؟ لا. لا! لقد ولدوا أطفالا أبرياء كما يولد الأطفال بغير شك، وكان من أقرب نزلاء السجن إلى مودتي ذلك السجين رقم 92 الذي ذكرته من قبل، وهو الشاب المتهم بالقتل وكان اسمه «نوفل»، وكان لا ينقطع عن الضحك والغناء والمزاح مع علمه بأنه لا ينتظر في الحياة إلا ريثما تنظر محكمة النقض في أمره، وكان يتحدث عن حكم الإعدام كما لو كان فكاهة، وقد جمعت بيني وبينه ساعات النزهة في فناء السجن، وكنت أحس نحوه عطفا عجيبا، كما كنت أحس منه عطفا عجيبا، ولم أستطع أن أدرك السر الذي جعل منه رجلا سفاكا للدماء مع كل محاولاتي التدسس إلى أغوار قلبه، وقد عرفت من أحاديثي معه أنه نشأ يتيما منذ قتل أبوه في معركة من معارك القبائل بالصعيد، وأبى أهله أن يدلوا الحكومة على القاتل ليبقى حيا حتى يكبر ابن القتيل فينتقم لأبيه.
وظلت أمه تلقنه عقيدة الانتقام منذ صغره، حتى أصبح الثأر عنده إيمانا مقدسا، فلما صار شابا جعل كل همه أن يتربص بالرجل الذي قتل أباه حتى تمكن من قتله ذات ليلة.
وجاءني نوفل ذات يوم في ساعة النزهة، وانفرد بي قائلا: أرجوك أن توصي أحد أصحابك بشراء شمعتين لي.
فضحكت قائلا: أتخاف من الظلام؟
فقال في جد: نذر للحسين يا عم سيد!
فظننت أنه سمع شيئا عن حكم النقض، وقلت له: مبروك! هل جد شيء؟
فضحك قائلا: جاءني الخبر من البلد، جاءني ولد.
فشعرت بحزن شديد وقلت في نفسي: مسكين!
وأما هو فاستمر قائلا: حتى لا يشمت بي أولاد عوكل.
فقلت: ومن هو عوكل؟
فقال في مباهاة: قاتل أبي.
فقلت: وماذا يهمك؟
فهز رأسه قائلا: كانت امرأته تشمت بي؛ لأني لم أخلف ولدا.
فقلت: ألست تخشى مصير هذا الطفل المسكين؟
فقال: من أولاد عوكل؟
فقلت: طبعا، أليست معركة دائمة؟ كل طفل يأخذ بثأر أبيه.
فقال: ولكن الثأر انتهى عندي. لم يفعل أولاد عوكل وإخوته كما فعل إخوتي وأعمامي، ترك أولاد عوكل أمرهم للحكومة وانتهى الأمر، وحسبوا أن نوفل انتهى وانقطع ولده.
ولكن الحسين جدي، وزارني في المنام يطالبني بنذره، اصنع الجميل يا عم سيد، واشتر لي شمعتين، الحسين جدي والولد سميته حسين، بودي والله يا عم سيد، بودي لو أطير ساعة واحدة لنجع الساقية وأعود، أوص لي على شمعتين بحق الحسين يا عم سيد.
واضطربت نبرات صوته وهو ينطق بكلماته الأخيرة.
ورفع يده إلى عينيه متأثرا ثم أسرع عني كأنه يهرب مني.
وأتى عبد الحميد بالشمعتين بعد ثلاثة أيام من ذلك اليوم ليهديهما إلى نوفل، وكانتا بيضاوين طويلتين منقوشتين من ذلك النوع الذي يكثر استعماله في الاحتفال بأسبوع الميلاد، وقد عقد لكل منهما رباطا من الحرير في أعلاها، ولكن نوفل المسكين لم يرهما؛ لأن موعد إعدامه كان في اليوم التالي، فلم ينزل إلى طابور النزهة في ذلك المساء.
ولم أبك في حياتي مثل بكائي المر في الليلة التالية، فإن ذلك الشاب الذي كان لا ينقطع عن الضحك والغناء والتهريج، مع علمه بأن حكم الإعدام معلق فوق رأسه كالسيف، قد تبدل فجأة إلى حالة فاجعة من الجزع والثورة منذ علم بأنه رزق ولدا، وقضى الليلة كلها يرسل من غرفته صيحات تشبه زئير الأسد الجريح، وكان في صوته نغمة جزع وحشي تهز أعماق قلبي، وتبعث الدموع من عيني. هو واحد من ألوف وألوف ساقتني المصادفة إلى طريقه أو ساقته المصادفة إلى طريقي، فلمحت منه لمحة من المآسي الإنسانية التي تنطوي عليها أطباق الحياة المظلمة، ولم أشعر يوما كما شعرت في تلك الليلة بأنني لا أعرف من الحياة إلا طرفا ضئيلا، وبأنني أكذب على نفسي وعلى غيري عندما أقول: «أنا الشعب.» لأنني أغضب وأنطق عندما أحس بالغضب، ولكن ألوفا من الألوف لا تستطيع أن تنطق؛ لأنها خرساء، وهناك ألوف من ألوف أخرى من أمثال الطفلين البائسين اللذين وقع بصري عليهما وأنا محجوز في قسم البوليس. هؤلاء ينشئون في العراء، كأنهم أعشاب البر التي لم يبذر أحد بذورها.
هم لا يقدمون للحياة شيئا، بل يسلبونها أشياء، ومع ذلك فالراعي لا يعبأ بقطيعه إلا عندما يشعر بالجوع فيذبح خرافه العجاف واحدا بعد واحد، إنه الراعي الأحمق الذي يستحق مصيره إذا فنى قطيعه وهلك هو بعد ذلك جوعا ... ولكن ما بال القطيع؟ ما بال القطيع ينتظر طويلا على الراعي الأحمق؟
قضيت تلك الليلة أحدث نفسي حانقا حزينا حتى طلع الصباح الذي حدد لتنفيذ الحكم على نوفل المسكين، ورفعت العلم الأسود فوق قلبي، وبقيت في غرفتي كأن ذلك المحكوم عليه بالإعدام أخي من أبي وأمي، واستمرت الدموع تنحدر من عيني برغم كل محاولاتي في التماسك، مع أن المسكين كان قد تخفف من كل أشجانه بالموت.
كانت أصداء الصرخات الوحشية التي أرسلها الفتى المسكين في الليل ما تزال ترن في سمعي وتصدع قلبي، وتمنيت لو استطعت البكاء، ولكني كنت أختنق بغير دموع، وكانت الليلة التالية من تلك الليالي الحارة الراكدة التي يتعثر فيها الخريف في شهر سبتمبر، وزادها شدة لسع البعوض الصغيرة الذي كان ينتشر مثل سحابة في الغرفة، واستلقيت كأني ضال مجهد في غابة كثيفة لا ينفذ البصر فيها، ويتصاعد من خلالها زئير الوحوش، واجتذب نور المصباح بصري كما كان يجتذب أسراب البعوض الصغير، وكانت تنبعث منه إلى عيني خيوط ملونة من الضوء تنساب متراقصة وتختلط فيها الحمرة بالزرقة والخضرة، وتتشكل في رسوم هندسية بديعة، وكلما أغمضت عيني ثم فتحتها، خيل إلي أن صورا ملونة تتطاير حول الصباح وتسبح في بطء، وتتواثب كالفراشات ثم تخبو ألوانها شيئا فشيئا حتى تزول، فاستغرقت في النظر إليها، وتصورتها كائنات خفية من أرواح جاءت تسبح في جو الغرفة كالجنيات الصغيرة المرحة التي صورها شكسبير في القصة التي كنت أقرؤها في الليلة السابقة، ولم لا؟ إن الأوهام تخفف عن البؤساء كثيرا مما يعانونه من الأثقال ولو إلى حين، وما معنى الحقيقة التي نتحدث عنها؟ ألا تكون الحقائق حقائق إلا إذا لمسناها باليد أو ذقناها بالفم؟ وما زلت مستغرقا في تأمل هذه الصور حتى سري عني بعض الشيء، وبدأت أسأل نفسي: «إلى متى أبقى هنا سجينا؟»
ثم هبت نسمة خفيفة قبل الصباح، فلطفت من زمتة الحر، وأحسست بأجفاني تسترخي.
الفصل التاسع والعشرون
كان الصباح التالي ألطف هواء، وكانت الساعات التي نمتها كافية لإعادة النشاط إلى جسمي، فاستقبلت اليوم هادئا منشرحا، وما أعجب طبيعة الإنسان! إننا ننظر إلى العالم، ونحسب أننا نراه خارجنا، وما هو إلا في داخلنا نحن، كانت الغرفة الضيقة هي هي والنافذة الصغيرة ذات القضبان الحديدية والأرض الحجرية الغبراء والسقف الأسود المطأطئ، كل ذلك كان باقيا لم يتغير، ولكن شتان بين صورة ذلك كله في عيني في الليلة الماضية وصورتها عندما طلع الصباح.
ولما جاء حمادة لزيارتي في الساعة العاشرة، استقبلته مشتاقا مستأنسا؛ إذ لم أره منذ أيام، ولكنه كان على غير عادته فاترا حزينا، وبادرني قائلا: أراك في خير يا سيد أفندي.
فقلت في دهشة: خير إن شاء الله.
فأجاب منكسرا: مسافر! راجع لبلدي يا عم. كفاية مصر وما في مصر.
فقلت: ماذا حدث؟
فأجاب: لا يا عم! ما لي أنا وما لها؟ أنا من هنا وهي من هناك؛ حد الله يا سيد أفندي، كانت ليلة زفت. تصدق يا سيد أفندي أن فطومة تقول لي كل هذا؟ يا فلاح، يا دون، يا حمار، ولا مؤاخذة يا أستاذ سيد.
فقلت محاولا تخفيف الأمر: أهذا كل شيء؟
فقال في حزن: لا لا يا سيد أفندي، تبحث لها عن حمار غيري، أذهب إليها بسيارة محملة بالهدايا وأتحمل وأصبر ويكون هذا جزائي؟
فقلت: ألا تخبرني ماذا حدث؟
فقال: اسمع يا سيدي. ذهبت إلى البيت وكانت ست فطومة تستعد للخروج. أتدري مع من؟ أتعرف الست هدى؟ النهاية، وحلف الشيخ مصطفى بالطلاق، وبكت الست فطومة، ورق قلبي لها واستسمحت الحاج مصطفى حتى قبل أن تذهب بشرط أن أكون معها، ونظرت إلي الست هدى تفحصني من رأسي إلى قدمي، ثم قالت: بكل سرور، ورحنا إلى بيت الست هدى في الزمالك، فيلا أنيقة وحديقة وصالة فخمة وجلسنا ننتظر الضيوف. كانت حفلة يا أستاذ فيها رجال ونسوان، وبعد ساعة امتلأت الصالة وصارت هيصة. تعرف من كان الضيف العظيم يا أستاذ؟ سي محمود خلف، يا خبر؛ وعرفت القصة من عنوانها وبدأت أفهم، وقلت لفطومة: «يلا بنا ...» وكأني كفرت. قالت: مستحيل؛ وهات يا فلاح ويا دون ويا حمار أخجلتني، ومع ذلك قلت لنفسي: «هدئ نفسك يا حمادة.» وبعد ربع ساعة جاءت الست هدى تضحك وتطلب فطومة للمقصف. أي مقصف يا ست هدى؟ ورنت الضحكة وقالت لي: «تعال معنا يا سي حمادة!» والبنت تكسف البدر والعيون كلها متجهة إلينا، وغلى دمي، وقلت: الأمر لله، هي المرة الأولى والأخيرة، وهدئ نفسك يا حمادة، وذهبت ست فطومة، وجلست أنظر إليها من بعيد وهي تضحك مع الضيوف، ولو كانت صاعقة نزلت على رأسي من السماء كان أهون علي يا سيد أفندي، وبعد قليل ذهب محمود إليها وكلمها وضحك معها، وأحسست برأسي تلف، فوقفت على رحلي وقلت: ليلته زفت، ولكن العيون كانت مفتحة لي، وأقول لك الحق، تسمرت في مكاني. النهاية يا أستاذ فاتت الليلة بالطول أو بالعرض، ورجعنا إلى البيت وطول الطريق أخجلتني يا فلاح يا دون يا حمار يا، يا، لا مؤاخذة يا سيد أفندي، وما صدقت أننا وصلنا إلى البيت وقلت: يحرم علي دخوله. أنا من هنا وهي من هنا. تبحث لها عن حمار غيري. من الليلة مسافر إلى دمنهور، وربنا يلطف بك وبنا يا أستاذ.
وكنت أنصت إليه في اهتمام وقلق، وشعرت بشيء كثير من الضيق والأسف. لم يكن عدول حمادة عن زواج فطومة هو الذي يزعجني، بل كان مصير فطومة، بهرتها أضواء المدينة كما تنجذب الفراشة إلى المصباح الذي يحرقها. أهي سوق رقيق جديدة؟ بخور يحرق للشيطان من جثت فطومة وأمثالها.
وتنبهت إلى صوت حمادة وأنا غارق في تفكيري، وكان يسألني قائلا: ما رأيك يا أستاذ؟
فقلت غائبا: في أي شيء؟
فقال: في زواج صاحبك عبد الحميد.
فقلت: هل يريد الزواج؟
فأجاب: أما كنت أقول لك إني أحب أن أعرف رأيك؟ إذا كنت تريد أن تزوجه الست منيرة كان بها.
فقلت: وهل هذا من شأني؟
فقال: ومن شأن من غيرك؟
فقلت: ماذا تقصد؟
فقال في تردد: أريد أن أسأل. المسألة بسيطة. أظن أن عبد الحميد أفندي يريد أن يخطبها، فإذا كنت توافق انتهينا، وأما إذا كان لك رأي آخر ... أحب أن أعرف؛ لأني أريد أن أبحث ...
وتردد لحظة فاتحا فمه في ابتسامة بلهاء، واستمر قائلا في تعثر: هل ترضى بي أنا ؟ سأبني لها فيلا والمهر كما تحب، والأشياء رضا والحمد لله.
فلم أتمالك أن قهقهت من المفاجأة، وقلت: الله يجازيك يا حمادة.
وخبطت على كتفه بيدي قائلا: ليس هذا من شأني، منيرة هي صاحبة الرأي الأول والأخير في نفسها.
واستمرت الضحكة البلهاء على وجه حمادة مدة طويلة، كما بقيت ضحكتي في قلبي طوال اليوم حتى جاءت منيرة لزيارتي في ساعة العصر، فكانت موضع فكاهتي معها.
ولست في حاجة إلى أن أعيد هنا أني قطعت الأمل في الخروج من السجن؛ إذ كان المدعي العام يسير في التحقيق على أكثر من مهله، ومرت الأسابيع تتوالى على وتيرة واحدة، فكنت أقضي الأيام والليالي في القراءة أو الكتابة أو في الحديث مع زملائي في السجن.
ولما بدأت السنة المدرسية سافر عبد الحميد إلى دمنهور، فصارت زيارة أمي وأختي مرة واحدة في كل أسبوع كلما جاء عبد الحميد من دمنهور.
ولم يقطع هذه السلسلة المتصلة من الحياة الرتيبة إلا حوادث قليلة في مدة الشهور الباقية التي أقمتها في السجن، وأولها إتمام النيابة التحقيق في قضيتي ورفعها إلى قاضي الإحالة الذي أحالها بدوره إلى محكمة الجنايات، وصدر الحكم آخر الأمر بحبسي ستة أشهر؛ لأن القضاء استطاع آخر الأمر أن يجد في مقالاتي جريمة العيب في الذات الملكية؛ ذلك الشيء الذي يمس من قريب أو من بعيد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تصريحا أو تلميحا تلك الذات.
وكان أثر الحكم عندي أقرب إلى أن يكون ارتياحا؛ لأني كنت أقمت بالسجن خمسة أشهر، ولم يبق علي من المدة التي حكم بها علي إلا شهر واحد، كنت مثل بحار في سفينة تتخبط في الضباب، وهو يمسك قلبه في كل خطوة حتى لا يستسلم لليأس، ثم رأى فرجة في الظلام ولمح الشاطئ أمام عينيه، فمنذ علمت بالحكم تبدل استسلامي إلى استبشار، وزال ضغطي على نفسي وكبتي لخلجات أملي، وبدأت أطلق العنان لأحلامي وسبحات خواطري، وكان كل يوم يمر يبعث إلي هزة جديدة من التطلع إلى الساعة السعيدة التي عرفت أنها آتية في موعدها.
ومن واجب الوفاء علي لهذه الأيام الأخيرة من إقامتي بالسجن - وقد نقلت إلى سجن مصر - أن أذكر هنا أنني مدين لساعاتها الهادئة بكتابة أكثر فصول هذه القصة التي بدأتها من قبل، وكان هواء الخريف أرفق بي، وبدأت الأيام تقصر، وكان ذلك يتيح لي فراغا كبيرا للقراءة والكتابة؛ لأني في العادة أكثر إقبالا على العمل في الليل.
وقد حدث أمر آخر كان له أثر كبير في نفسي قبل يوم الحرية الموعود بأسبوع واحد؛ إذ جاءني عبد الحميد مع أمي وأختي، وجرى الحديث بيننا حول ميلادي الجديد بعد خروجي من السجن، وكانت أمي تردد رغبتها في أن أذهب إلى دمنهور، وأنفض يدي من الكتابة التي تقذف بي إلى السجن.
وأما منيرة فكانت تعارض هذا الرأي، وترجو أن أقيم في بيت محترم حتى تستطيع زيارتي بين حين وآخر، وتتمتع بمشاهد القاهرة التي لم تزرها مرة واحدة في مدة إقامتي بالسجن، وقد علمت من خلال هذا الحديث لأول مرة أن بريد الأحرار عادت إلى الظهور منذ شهر بعد خروج الأستاذ علي مختار من السجن، فكان من الطبيعي أن أنحاز إلى رأي منيرة في البقاء بالقاهرة.
وقالت منيرة في حماسة: على كل حال لا يليق بنا أن نسافر إلى دمنهور قبل أن تقضي بضعة أيام مع منى.
وتمالكت نفسي حتى لا أصيح أو أثب من مكاني، وقلت في هدوء: أين؟
فقالت منيرة: هنا في القاهرة، نسيت أن أعطيك خطابها، أين هو يا أمي؟ هل أخذته مني يا عبد الحميد؟
فقلت محاولا أن يكون صوتي طبيعيا: ومتى بعثت بذلك الخطاب؟
فقال عبد الحميد: طلبت منيرة مني في الأسبوع الماضي أن أمر على بيت منى؛ لأسأل عنها وعن صحة السيدة الكبيرة، فأرسلت منى معي هذا الخطاب.
وأخرجه من جيبه وقدمه إلى منيرة.
فقالت ضاحكة: لماذا أخذته مني؟ كنت أحب أن أقرأه مرة أخرى.
وفتحته وأخذت تنظر فيه، وكان قلبي يدق عنيفا.
وقال عبد الحميد باسما: لم آخذه إلا لأنك قذفت به على مقعد السيارة.
فقالت منيرة: سأقذف به مرة أخرى؛ لأني لا أفهم منه كلمة.
ومدت يدها نحوي بالورقة الزرقاء، وكانت مكتوبة بخط صغير أنيق، تذكرته عندما وقعت عيني عليه. هكذا كتبت لي فيما مضى ورقة صغيرة بمثل هذا الخط تقول لي: «ألف شكر.» وأخذت أقرأ في صعوبة؛ لأني كنت أنا الآخر ضعيفا في اللغة الفرنسية.
قالت منى تخاطب منيرة بما يقرب من هذا المعنى: «كنت في هذه الأشهر الماضية أقاسي متاعب كثيرة ما بين مرض أمي وبعض «مشكلات عملية» أخرى، لم يسبق لي عهد بها، وكنت أنتظر منك زيارتي ولكنك انقطعت عني، حتى خفت أن تكوني مريضة، فأرسلت أسأل عنك وعلمت أنك سافرت مع الوالدة إلى القاهرة، وكان من الطبيعي أن أفهم من ذلك أنك سافرت للتمتع بمشاهدة العاصمة الجميلة، فعدت إلى مشاغلي الثقيلة، وكنت أتمنى لو كنت إلى جانبي، كما كنت أتمنى أحيانا لو كان سيد هنا ليتحمل بعض هذه المتاعب نيابة عني.»
ومن الواضح أني عندما قرأت هذه العبارة أعدت قراءتها مرارا، وشعرت بسعادة عظيمة، وقرأت بعد هذا: «لا يمكنك أن تتصوري برد دمنهور في هذا العام ولا تلك الأمطار التي لا تنقطع في الليل ولا في النهار، وهذا ما زاد صحة أمي اعتلالا؛ لهذا لم أحاول أن أعرف شيئا من أخبارك حتى زارنا الأستاذ عبد الحميد ليسأل عنا ويهدي إلينا تحياتك الكريمة، ولأول مرة عرفت منه السبب المؤلم الذي جعلك تسافرين إلى القاهرة، فأنت مثلي إذن بل أشد مني ضيقا. أنا آسفة من أجل سيد، وإن كان حبسه لا يدعو إلى الخجل، ولا عار عليه أن يحبس في تهمة صحفية، ولكنها على كل حال كانت مفاجأة شديدة الوقع علي وعلى والدتي، حتى إنها بكت وكادت تبكيني، ومما يدعو إلى الارتياح أن سيد سيخرج كما علمت بعد أسبوع واحد.
كان الأطباء قد أشاروا على أمي بتغيير الهواء، فعرضت عليها أن نسافر إلى القاهرة لنقيم بها بضعة أيام، فرحبت بالفكرة وأظن أنها ستكون فرصة طيبة لنرى المتهم البريء ونهنئه بالخلاص، ما دمنا لم نقدر على مواساته في أيامه القاسية، سأكتب إليك بيوم حضوري وإلى اللقاء يا منيرة، وأنا واثقة من أنك ستقومين مقامي في تقبيل يد الوالدة وإبلاغ اعتذاري إلى سيد ...»
وكان قلبي يثب عنيفا عند كل كلمة تذكرني منى فيها، ولم أرفع رأسي عن الخطاب حتى قرأته مرة أخرى ووقفت عند كثير من فقراته لأقرأها مرارا.
وحاولت أن أكون طبيعيا أيضا عندما رفعت رأسي آخر الأمر لأعيد الخطاب إلى منيرة، ولكني لم أستطع أن أخفي حماستي عندما سألتني منيرة عن رأيي الأخير في السفر إلى دمنهور عقب خروجي؛ فقد أجبتها سريعا: لا شك أننا ننتظر هنا.
وقبل أن يودعني عبد الحميد عائدا إلى دمنهور همس في أذني: أحب أن أحتفل بخروجك من السجن بطريقة لا تنسى.
فقلت في هدوء: هل تكون هنا في الأسبوع المقبل؟
فأجاب باسما: هذا يتوقف على إرادتك.
فقلت باسما: ماذا تعني؟
فقال هامسا: أعني أني أحب أن أسألك هل توافق أن أحتفل بخروجك في الأسبوع المقبل بطريقة مبتكرة؟ ما رأيك في أن أقيم لك احتفالا أقدم فيه شبكة منيرة؟
فانطلقت مني ضحكة لم أملكها وقلت: أتسألني أنا؟
فقال ضاحكا: أنا أيضا دون كيشوت بغير أن أدري. لم أجرؤ أن أسأل غيرك؟
فضغطت على يده قائلا: لا تكن أبله.
ولاحظت أنه تحاشى الاقتراب من منيرة وهو منصرف، كما لاحظت أن منيرة نظرت إلي في شيء من الارتباك وهي تودعني.
وامتلأ قلبي بعد انصرافهم بسعادة لا توصف، وكنت أردد الدعاء لأختي وعبد الحميد بالسعادة، وبقيت طوال الأسبوع الأخير أطوي في صدري الأمنية الكبرى التي أنتظرها؛ سأخرج من السجن وألقى منى.
الفصل الثلاثون
كما يولد الإنسان ميلادا جديدا، خرجت من بين جدران السجن، وبدت لي الدنيا في ألوان زاهية لم يسبق لي عهد بمثلها من قبل، صار الهواء يملأ صدري عاطرا، والضوء يملأ عيني بهيجا، ونضرة الأشجار ترطب قلبي إذا أظلتني ظلالها، وما كان أسعدني أن أسير في الطريق في ساعات الصباح الباكر ورذاذ المطر يتطاير في وجهي، أو عندما كنت أجول في حدائق الجزيرة في ساعات العصر والأزهار تتناجى بألوانها الباهرة. من قال إن في القاهرة شتاء؟ إنه ربيع باسم ذلك الذي استقبلني بعد خروجي من السجن وجعلني أزداد غراما بهذه الأرض العزيزة، وبعد أن مرت فرحة الأيام بعد خروجي، حقق عبد الحميد ما عقد عليه النية من التقدم إلى منيرة، ولم أسمح لأحد أن يسألني عن شيء في أمرها مكررا في كل مرة قولي: «ليس هذا من شأني.»
المرأة هي التي تختار وقد خلقها الله لتختار وعليها وحدها يقع كل العبء في الاختيار، هي التي ينبغي لها أن توجه حياتها ما دام الله قد وهب لها عقلا ووهب لها غريزة، النساء ينطقن بوحي الغريزة بأصدق مما تنطق العقول، وليس من الضروري أن تقول الفتاة: «نعم أرضى.» فإن ردمويا وحدها تستطيع أن تغني وترقص وتحرق البخور لنجم الشعرى، ثم تسأل قلبها ليهديها، فينطق لسانها في صراحة. لم تقل منيرة شيئا عندما سألها عبد الحميد: «أترضين بي يا منيرة؟» وكانت عند ذلك في غرفة الجلوس بمنزل عمة عبد الحميد في اليوم الرابع لخروجي من السجن، وكانت أمي تصلي في البهو المجاور، وكنت أنا غائبا في أول زيارة للأستاذ علي مختار.
وقد أخبرني عبد الحميد أنها لم تقل له شيئا، بل خجلت وخرجت من الغرفة صامتة، وكان مشفقا أن يكون قد آذاها أو سبب لها حرجا، ولكني كنت واثقا من رضاها، كان ذلك يبدو واضحا في كثير من الأحيان في الكلمة العابرة والنظرة السانحة، ولم يخب ظني عندما سألتها، عندما وجهت إليها سؤالي: «أترضين بعبد الحميد؟»
أجابت قائلة: «هذا من شأنك أنت يا سيد.» ثم انصرفت من أمامي.
وكانت سعادة عبد الحميد ظاهرة في نظرته الشاكرة عندما قلت له: «أهنئ نفسي.» وتم الاحتفال بعقد الزواج بعد يومين، وكان بسيطا وسعيدا.
وكانت مقابلتي للأستاذ علي مختار صدمة شديدة لم أكن أتوقعها، كنت متوقعا أن يهب واقفا ليفتح لي ذراعيه، وهممت أنا بأن أستقبله فاتحا ذراعي أيضا كما يفعل الشركاء في الجهاد عقب المعركة ، ولكني وجدته رجلا آخر غير الشاب الواثق بنفسه الهادئ المسيطر، كانت نفسه تقطر مرارة وهو يجيبني عن أسئلتي، وقال في حنق مكتوم: لن أقيم في هذا البلد بعد هذا.
فقلت ملطفا: هذا شعور مؤقت، وسيزول بعد قليل لنعيد الجهاد مرة أخرى.
فنظر إلي نظرة حانقة، ثم قال: من أجل من؟
فقلت محتجا: من أجل من؟ من أجل أنفسنا، من أجلك ومن أجلي، ومن أجل كل من يعيش ويتألم، من أجل أبنائنا الذين ما يزالون يتألمون؛ لا تدع هذا العارض ...
فقال في دفعة: عارض؟ أتسميه عارضا أيها الرجل وقد كاد يذهب بحياتنا؟ أما مرضت أنت كما مرضت أنا، وقاسيت أنت كما قاسيت أنا ما في قلوب هؤلاء من وحشية؟
فقلت في دفعة أخرى: فليكن يا سيدي، لم نكن هازلين عندما تعرضنا للمعركة، كنا نعلم أنها معركة عنيفة مع قوى طاغية، بل لقد عزمنا في بدء الأمر على أن نثير المعركة من أجل هذه القوى الطاغية.
فأشار بيده إشارة يأس قائلا: هي ألفاظ يا سيدي نحاول أن نخدع بها أنفسنا، أتعرف مقدار ما أصابني من الخسارة؟ أما عرفت أنني قضيت أسبوعين بين الموت والحياة.
فاندفعت قائلا: وماذا لو لقينا الموت يا سيدي؟
فضحك ساخرا لأول مرة وقال: هذا شيء آخر. هذا لم يدخل في حسابي يا سيدي، لست أريد أن أضللك، أو أن أقول كلاما ضخما لأخدعك؛ لأنني أعرف أنك تفهمني عندما أقول لك رأيي صريحا، عندما نقول: إننا نريد الجهاد، فإننا نقصد أننا نجاهد بآرائنا لا بأجسامنا، أظننا لم نقصد أن نموت الآن يا سيدي.
فقلت: إننا لم نمت بعد.
فقال مشيرا بيده مرة أخرى إشارة اليأس: هذا رأيك يا صديقي، وأما أنا فقد عزمت عزما أكيدا على أن أترك هذا البلد في أول فرصة، لا مقام لي هنا.
فقلت: إلى أين؟
فقال في ضيق: لم أفكر بعد. إلى أي ركن من أركان الأرض لأعيش إنسانا.
فأحسست أنني حيال رجل إما أن يكون محطما في ساعته تلك، وإما أن يكون طفلا ، وقلت في نغمة ساخرة: لم تفكر بعد، ولكنك تعزم عزما أكيدا؟
فقال في شيء من الغضب: ماذا نصنع هنا؟
فقلت: بل ماذا تصنع في غير هنا؟ هنا بلادنا ولا مفر لنا من أن تكون هي بلادنا، أي بلد يقبلك كأحد أبنائها؟
أتقبلك إنجلترا أو فرنسا أو أمريكا أو غيرها لتكون ابنا من أبنائها؟ لن تكون هناك إلا نزيلا غريبا تقضي أيامك في فراغ، أم تريد أن تذهب إلى بلد شرقي يمكن أن يكون أقرب إليك؟ أين؟ تعيش في تركيا؟ في سوريا؟ في العراق؟ في السودان؟ تعيش هناك على هامش الحياة وأهل تلك البلاد يجاهدون كما نجاهد نحن؟ هل ترضى أن تكون غريبا بين قوم يجاهدون من أجل أنفسهم وأنت ساكن؟ أم تريد أن تشارك هؤلاء في جهادهم وتتخلى عن الجهاد هنا؟
فسكت ناظرا إلي نظرة حزينة، وعلمت أنه يعاني صراعا عنيفا في أعماق نفسه، فأشفقت أن أزيده ضيقا وسكت آسفا، وقلت في نفسي: إن الوقت كفيل بإزالة الذكريات الأليمة.
ولكنه لم يلبث أن صدمني صدمة أخرى أعنف من الأولى عندما قال لي: على كل حال يا أستاذ سيد، هذا موضوع آخر ... أما عملنا في هذه الجريدة فسيستمر طبعا، وقد أطلب منك قريبا أن تقوم على إدارة الجريدة بدلا مني، سيستمر مرتبك كما كان على أن تكتب للجريدة قصة كلما أردت.
وشعرت بالدم يصعد إلى رأسي، أكتب قصة؟ الأمر أخطر من أن أكتب قصة؟ وهل أستطيع أن أكتب كل يوم قصة في الموضوع الواحد الذي يستولي على كل عقلي وقلبي؟ ما هو المصير الذي نتجه إليه؟ وهل يفرغ ذهني إلى أن أعيش مع الصور في قصة وأنا أرى الحياة من حولي تفور وتنفجر، ولا يدري أحد ماذا يحدث فيها غدا؟
وقلت مختصرا: أرجو لك التوفيق يا سيدي.
واستأذنت منصرفا حتى لا أزيده ضيقا إذا نطقت بالكلمات التي وثبت إلى طرف لساني.
وخرجت من عنده والأسف يختلط في قلبي بالحنق والحيرة والعجب، وخطر لي خاطر قوي أن أنقطع عن بريد الأحرار مهما كلفني ذلك من المتاعب، بل لقد هم بنفسي وأنا غاضب أن أعيد إليه مرتب الشهور الستة التي بعثت بها الجريدة إلى أمي في مدة السجن؛ ليكون جوابي شافيا لغضبة قلبي، ولكني لم ألبث أن سريت عن نفسي أثر هذه المقابلة، وأقبلت على الفضاء الطلق أعب منه حتى أروى بعد طول تعطشي إليه، وكان عبد الحميد في إجازة نصف السنة، ولكنه كان مشغولا عني برحلاته مع منيرة، فكنت أخرج وحدي كل صباح قاصدا أحد الأطراف البعيدة؛ لأقضي فيه يوما بعيدا عن ضجة المدينة؛ لأفكر فيما أستقبل به حياتي الجديدة. نعم كانت حياة جديدة بعد ميلاد جديد، وذهبت يوما إلى الأهرام مبكرا؛ لأتمتع بجولة إلى جانب الأثر الأشيب الذي يجتذب طلاب الروعة من أركان الأرض، وكان الناس هناك ينتشرون في الهضبة بعضهم يسير في جماعات مرحة، والبعض الآخر يسير مثنى، ولم يكن من يسير وحده غيري، فسرت في صحبة أفكاري حتى وصلت إلى قريب من الاستراحة الملكية، فتنبهت إلى صوت الحارس الذي يزجرني لأبعد، وقلت في سري: فرعون القزم هنا؟
ووثبت إلى صدري كل مشاعر الحنق الذي كنت أكبتها؛ حتى لا تعذبني في أيام سجني، هذا الرجل الذي تعذبت من أجله يقيم هناك ليتنزه، ولست أدري مع من يقيم في تلك الاستراحة، بنى فرعون خوفو هذا الأثر الخالد؛ لأنه كان يطلب مثوى لروحه، وهذا فرعون القزم يطلب استراحة لجسده، وتأملت من بعيد هندسة بناء الاستراحة ونقوش مداخلها، فبدت لي كأنها تسخر من نفسها، وقلت في نفسي: هكذا يزيف طالب المتعة فن القدامى، كان ذلك الفن في عصره رمزا للجلال الذي يملأ القلوب عندما كان الناس يؤمنون بشيء جليل في قلوبهم، ولكنه اليوم لا يزيد على حلية مزيفة، وبدت الاستراحة في عيني مثل مرقص خليع في هيكل عبادة، أما كان أولى بفرعون القزم لو بعد قليلا عن الأثر الجليل حتى لا تبدو السخرية واضحة؟ وأية سخرية؟ وماذا يصنع كل هؤلاء المنتشرون في الهضبة سوى أن يسخروا عند أقدام الهرم ولا يشعرون له إجلالا ، ما دام فرعون القزم يضرب لهم المثل في السخرية؟ ومن هذه الفتاة؟ هل أصدق عيني؟ أهذه فطومة؟
كانت فطومة تسير على مسافة مني وهي تميل على ذراع محمود خلف عند زاوية الهرم الشمالية، وكنت عند ذلك مرتدا من ناحية الاستراحة، ووقفت مترددا بين أن أذهب إليها لأصفعها، وبين أن ألتمس لنفسي مكانا أتوارى فيه، وغلب علي الرأي الأخير، فاتجهت مسرعا إلى حرف الهضبة الهابط إلى الغور المنخفض الذي تلوح فيه بركة ماء من بعيد، فانحدرت متعثرا فوق السفح، ثم بدا لي سخفي، فعدت أدراجي، واتجهت إلى المنحدر الذي يؤدي إلى محطة الترام، وكان رأسي مشغولا بصورة فطومة الغادة في ملابسها الأنيقة وحليها الكثير، وقوامها الرشيق وهي تميل على ذراع محمود، وتلفت قبل أن أهبط في المنحدر، فرأيتهما من بعيد بين الجموع الواقفة تتطلع في فضول نحو الاستراحة لتخطف نظرة من فرعون القزم، ثم خفضت رأسي كأني أتحفز لصراع، وأسرعت في حنق متجها إلى محطة الترام.
وقضيت مدة سيري إلى القاهرة مضطرب الفكر بين أحاديث مختلفة تتدافع ليحل بعضها محل بعض في عنف، ذلك الحكيم الذي صمم بناء الهرم الجليل كان شاعرا عظيما أو فيلسوفا كبيرا فوق أنه كان فنانا؛ أي إيمان ذلك الذي كان يحرك قلبه ويجعله يجرؤ على هذا العمل الهائل؟ وفرعون الصغير يعود في موكبه ولا يسمح للترام أن يسير حتى يمر الموكب، وفطومة ومحمود يبقيان هناك إلى جانب الهرم، وا خجلاه! الساخرون الذين لا يرهبون من شيء مقدس، والأغبياء الذين يقصر ذكاؤهم عن إدراك المعاني الجليلة يمرحون في تفاهتهم، ولا يحسون أننا جميعا في الطريق إلى الهاوية، وبدلت الترام عند الجيزة بغير أن أفكر، وسرت في ترام آخر بغير أن أفكر، كان ذهني يدور في أفكاره المضطربة عودا على بدء بغير توقف، وتنبهت آخر الأمر عندما قربت من ميدان قصر النيل، وكان هناك صف طويل من عربات الترام يسد الطريق، فنزلت لأرى منظرا لم يخطر ببالي، وكان الناس يتسارعون في كل اتجاه في هلع، ويقولون: «القاهرة تحترق .» فأسرعت إلى شارع سليمان باشا، وكانت النيران تندلع من شارع البستان، والجموع الهائجة تسيل بالطرق في كل اتجاه.
وجريت إلى ميدان سليمان وكان شعلة من اللهب. ماذا حدث؟ وجريت إلى شارع قصر النيل فعماد الذين فشارع فؤاد، وكنت ألهث من التعب، ولا أقدر أن أقف، كنت أريد أن أعرف إلى أين ينتهي الحريق. هل القاهرة كلها تحترق؟ هل هي ثورة؟ كان شارع فؤاد أيضا يشبه حاجزا من اللهب في معركة دموية، والجموع المتدافعة تنساب كمياه السيل في كل شعب من الطريق. جموع تقتحم المتاجر وأخرى تتدفق صائحة هائجة. أهكذا تندلع الثورة فجأة؟ ومررت أمام متجر مانويل الفخم، وكانت ألسنة اللهيب تطل من نوافذ الطبقات المتتالية كأنها تشير إلى الطريق تطلب الغوث، وأين الإسعاف؟ ولم يكن هناك أيضا رجال مطافئ كأن المدينة قد خلت من الحكومة، وانساب نهر من الجموع إلى ميدان الأوبرا ونهر آخر إلى شارع إبراهيم، وفي مقدمة كل فرع بعض أفراد يسيرون كأنهم طليعة، أهي ثورة مدبرة؟ لم لا وفرعون القزم يلهو في الصباح في مخبئه؟ وكان قلبي يثب كأنه يتداعى مع الأبنية المنهارة. أهذه هي الثورة؟ هي جانب لا ينفصل عن الحكم الضعيف المزيف، الذي لا بد أن ينتهي إلى الثورة، ومع كل ما كان في نفسي من الهم والغم شعرت بأن شيئا جديدا قد حدث.
وتذكرت أن أختي وعبد الحميد كانا يعتزمان أن يخرجا إلى المدينة في الصباح، فجريت نحو المنزل، لم تكن هناك سيارة لتحملني، وكنت متعبا ولكني اندفعت بقوة مضاعفة.
وبلغت المنزل آخر الأمر، وهدأت قليلا عندما رأيت أمي وأختي تنتظران في لهفة بالطبقة السفلى من الدار، وأخذتني أمي بين ذراعيها، ثم ارتميت على كرسي خائر القوى.
الفصل الواحد والثلاثون
سافر عبد الحميد ومنيرة إلى دمنهور بعد إقامة أسبوعين أطلقا عليهما اسم أسبوعي الجبن لا العسل؛ لأنهما لم يخرجا فيهما للنزهة في أرباض القاهرة في النهار أو إلى ملاهيها في الأماسي؛ لأن حريق القاهرة لم يدع لهما انشراحا إلى الجولات التي أعدا خططها، منازه طريق الأهرام وشواطئ النيل ودور التمثيل والسينما وأبهاء الفنادق الكبرى ومقاصف الريف، كل هذه كانت بين محترقة أو مغلقة، وكانت منيرة تخشى الخروج فوق هذا خوفا، أو - كما قالت هي - جبنا من أن تعترضها ثورة جديدة على حين غرة، كما اعترضتني يوم خرجت للنزهة عند الأهرام في الصباح، فإذا هي تثور وتحرق قلب المدينة في ساعة، وقد أصرا على أن يأخذا أمي معهما بعد أن عجزا عن حملي على الرجوع إلى دمنهور، ولست أخفي أنني ارتحت إلى هذا الرأي، فما كان من اليسير علي أن أتمسك بأمي لتعيش معي وأنا عاطل عن العمل منذ انقطعت عن بريد الأحرار.
ولما بقيت في القاهرة وحدي وجدتها غير القاهرة الأولى التي أقبلت عليها مملوءا بالأمل والحماسة، كان في جيبي ستون جنيها بعد أن قاسمت أمي في الجنيهات المائة والعشرين التي أعادها إلي عبد الحميد، وكان لا بد لي من الاقتصاد في النفقة لأستكفي بذلك المال الضئيل أطول مدة ممكنة ريثما تسوق إلي الأقدار عملا ليس في حسباني.
فاستأجرت غرفة في فندق صغير في حي سيدنا الحسين، وكان من السهل علي أن أجد هناك ما يناسبني من الطعام الرخيص، فكانت الأيام تمر بي موحشة في مدينة تموج كالبحر في أعقاب عاصفة، كل يوم شائعة عن مخاوف غامضة، والأرض تتزلزل تحت أقدام الحكومة الجديدة التي أعقبت حكومة الحريق، وحلقات القهاوي المتواضعة تتناقش في حنق، وأندية الجمعيات الشعبية تحفل كل ليلة بهواة السياسة، واستعنت على قضاء الوقت الموحش بارتياد تلك المجالس على اختلاف ألوانها ومشاربها، ولم أجد صعوبة في الاندماج فيها، فلم يمض إلا أسابيع قليلة حتى كنت من أركانها وأقطابها، وكان الجميع يقولون: إننا على حافة هاوية، ولا مفر لنا من التردي فيها، بأس مظلم في كل مكان، وحيرة مغلقة في قلبي وسؤال واحد يعاودني كل صباح وكل مساء: «أين أذهب؟» وكانت منيرة تبعث إلي في كل أسبوع مرة أو مرتين بخطابات لا تزيل وحشتي، بل تزيدني وحشة وانقباضا، وفي كل خطاب تعيد علي عبارة تختم بها حديثها، فتقول أحيانا: «منى تسلم عليك وتريد أن تراك.» وتقول في أحيان أخرى: «منى تهديك سلامها وتسأل عن صحتك.» فكنت أفرغ من قراءة الخطاب في شيء يشبه الحنق، وأضعه في جيبي مكررا في نفسي إنها تسلم علي وتسأل عن صحتي كما يفعل الناس إذا تلاقوا في الطريق، ثم أزيد على ذلك أقوالا أخرى أشد قسوة؛ لأني كنت في تلك الأيام قوي الشعور بأنني عاطل لا أعرف لنفسي وجهة أتجه إليها، ومع كل ما قاسيته من الوحشة والضيق والتعطل لم تسمح نفسي بأن أعود إلى بريد الأحرار، ولم أحاول أن أبحث عن عمل آخر، شيء واحد كان يبعث في قلبي بعض الراحة، وهو اتصالي بجمعية «شبان الفداء»، التي كانت تعقد جلساتها في بيت أحد أعضائها الطالب في كلية الشريعة؛ إذ كانت الخطب العنيفة التي تنطلق بغير تحرج ولا تحفظ كأنها قذائف من الرصاص تخفف من حنقي المكبوت، وكان نصيبي منها لا يفوتني كلما اجتمعنا، فأفرغ ما في قلبي من الحنق على الطاغية والطغيان والفاجر والفجور، غير متورع عن التصريح بأنه الفرعون القزم، ولست أدري كيف خفيت هذه الأحاديث عن آذان جواسيس الحكم، فإنها لو بلغتها لما احتاجت النيابة إلى تفسير أو تأويل في إثبات تهمة العيب التي قضت خمسة أشهر في إثباتها علي في المرة السابقة، ولكني كنت في كل مرة أذهب فيها إلى تلك الجلسات الحامية أعود إلى غرفتي في أواخر الليل بأعصاب مشدودة تكاد تتمزق، وكان يضايقني من المجتمعين في الأندية والقهاوي أنهم لا يستطيعون غضبا، إلا إذا تحدثوا عن غلاء الطعام والكساء أو كساد التجارة أو ما يماثل هذا من هموم الحياة، ولا يكادون يتحركون لفقدان الكرامة القومية أو الحريات أو العدالة؛ ولهذا كنت أقترب يوما بعد يوم من الشعور بالفشل، وأن الثورة التي آمنت بها وتمنيتها ووقفت كل أملي عليها لا وجود لها في القلوب، وبدأت أرى أن الثورة التي أرى علاماتها وأحس خفق أجنحتها في الظلام ليست سوى ثورة أبدان أو ثورة خذلان كتلك التي أحرقت القاهرة، وبدأت أشفق وأتوجس حتى امتلأ قلبي غما وهما ويأسا، وفي يوم من الأيام كنت أؤدي فريضة الجمعة في مسجد الحسين، ولا أستطيع أن أصف حالي وأنا قائم أصلي، كنت لا أملك دمعي وأنا أقرأ، وكأن كل عرق في بدني ينتفض من حزن غامض، وكان يستولي علي شعور يشبه شعوري عقب وفاة أبي وأنا فتى صغير، عندما خيل إلي أنني أعيش في فضاء لا وطاء من تحتي ولا غطاء من فوقي، وحاولت جهدي أن أتماسك، ولكن الدموع كانت تغلبني، ولما فرغت من الصلاة رأيت «خضرجي» ساعي مكتبي في بريد الأحرار جالسا إلى جنبي، وسمعته يقول لي: «أين أنت يا أستاذ سيد؟» ومضت لحظة طويلة قبل أن أستطيع إجابته قائلا: «كيف أحوالك يا أخي؟»
فقال وهو يصافحني: «حرما! تشجع يا أستاذ!»
فتذكرت كلمته التي قالها لي يوما وأنا في المحكمة، وشعرت نحوه بشكر عميق، وقلت مجيبا: جمعا إن شاء الله! أشكرك يا صديقي.
وضغط على يدي قبل أن يرسلها وقال: الأستاذ يسأل عنك كل يوم.
فقلت متكلفا الهدوء: وكيف حاله؟
فقال: مسكين يا أستاذ سيد، صار لا يطيق شيئا، انتهت مجالسه الحافلة التي كانت تؤنس الجريدة، وفي كل يوم مصادمة مع محرر أو آخر، وأظنه استخرج جوازا للسفر إلى أوروبا، ولم يخل قلبي من الشعور بالأسف والعطف، وتذكرت كيف كان يكرمني وكيف كان يشاركني في مشاعري، وقمت مع «خضرجي» خارجين من المسجد، فتمسكت به ليتغدى معي، وذهبنا إلى مطعم الدهان كما تعودت أن أذهب في كل جمعة كأنني أدخر منه ذخيرة لمدة الأسبوع، وقضينا معا بضع ساعات سعيدة بين الغداء وبين شرب الشاي في مقهى الفيشاوي، ولا أخفي أنني مع كل ما شعرت به من السعادة في مرافقة «خضرجي» والتمتع بحديثه، أحسست في كثير من اللحظات بما يشبه الخجل من أن يراني بعض معارفي جالسا مع ساع في بدلته الصفراء، وقد كبحت هذا الإحساس في حنق، وكررت لنفسي أن هذا الساعي لو وقف أمام الله إلى جنب محمود خلف لكان هو الأكرم مكانا.
وحدثني خضرجي حديثا بسيطا لم أشعر معه بمضي الوقت، ووجدته ملما بكثير من أسرار السياسة، فزاد قدره في عيني فوق ما كان له من قدر في نفسي، وتبينت أننا لا نلمح حقائق الناس إلا إذا فتحت شدائد الحياة أعيننا، كل منا يعيش في عالم يغلقه من حوله، ويقيم حوله الحواجز من كل ناحية، فلا يبصر الآخرين إلا من بعيد، ولا يميز بعضهم على بعض إلا بمظاهرهم.
واستمر خضرجي ينتقل من موضوع إلى آخر حتى استرعى اهتمامي بقوله عن الأستاذ مختار: أظنه صار يخشى التورط، كما يخشى النزول إلى البحر من نجا من الغرق.
فسألته: ماذا تقصد؟
فمال على المائدة التي بيننا قائلا: فضيحة الأسلحة! لا يرضى أن يكتب عنها، مع أنها تعيد توزيع الجريدة إلى أكثر مما كان قبل إغلاقها.
فقلت: وكيف ذلك؟
فأجاب: عندما قدمت القهوة منذ يومين لضيفه وجدتهما يتناقشان في شيء من الحماسة وأمامهما ظرف كبير، فوضعت الفنجانين ولمحت على وجه الأستاذ تلك السحابة التي أعرفها عندما يكون في حيرة، كان وجهه محتقنا ونظرته تطلب النجدة، ولا تؤاخذني إذا اعترفت لك أن الفضول دفعني إلى التجسس، فعندما خرج الأستاذ يشيع ضيفه فتحت الظرف، وقرأت عنوان الملف: «فضيحة الأسلحة الفاسدة».
ولما عاد الأستاذ طلب فنجانا آخر، وأخذ يقرأ الأوراق متمهلا ووجهه يزداد احتقانا، وعاد الضيف بالأمس، وكانت بينهما مشادة عنيفة، وأرسلني الأستاذ بعدها لأستخرج له جواز سفر إلى أوروبا. ألا ترى أنه يخاف من التورط؟
أين تقيم يا أستاذ سيد؟
فقلت في تردد: في فندق الأميرة الصغيرة.
فقال وهو يهم بالانصراف: سيسره جدا أن يعرف عنوانك، كل يوم يسأل عنك، إلى اللقاء يا أستاذ.
ومضى بعد أن حياني تحية حارة وشكرني، وبقيت وحدي أجتر ما سمعته على مهل مع كأس أخرى من الشاي، وخطر لي أن الأستاذ علي مختار ليس وحده الذي يشفق على نفسه من التورط، وأي عاقل لا يخشى أن يذهب إلى السجن بعد أن يذوقه مرة؟ ذلك السجن الذي يحول القاتل الجبار إلى جبان يرتعد هلعا، ولكني عدت إلى نفسي أقول: إن اللوم علينا إذا تركنا أنفسنا لهذا الخوف ينحرف بنا عن غايتنا، فلو خشي المجاهد في ميدان القتال أن يصاب بجرح مرة ثانية لما عاد إلى الميدان أبدا، والذي ينجو من الغرق مرة لن ينزل إلى الماء إذا لم يقاوم خوفه من الغرق.
وهكذا مضيت في أفكاري حتى صارت الساعة الخامسة بعد الظهر، فقمت أسير على قدمي نحو دار بريد الأحرار؛ لألقى الأستاذ علي مختار.
الفصل الثاني والثلاثون
لم نلبث بعد أن لقيت الأستاذ علي مختار أن بدأنا المعركة ثانية، وأخذنا نواجه الموقف في صراحة؛ ففي اليوم التالي لعودتي إلى «بريد الأحرار» نشر المقال الذي كتبته بعنوان عريض على أنهار الصفحة الأولى كلها: «الخيانة القومية الكبرى - فضيحة الأسلحة الفاسدة - نقتل أبناءنا بأيدينا!»
ولم يخف الأستاذ علي مختار شعوره الحقيقي عندما دخلت عليه في الصباح وكان يقرأ المقال؛ إذ قال لي بغير مواربة: هي معركة الحياة أو الموت يا أستاذ سيد.
فقلت: بل معركة الحياة يا سيدي، وهل تستحق الحياة أن نحرص عليها إذا استمرت هكذا؟
فضحك قائلا: كلمة جميلة عندما نسمعها بآذاننا فقط.
فقلت جادا: بل نجدها جميلة؛ لأننا نؤمن بها، من الطبيعي أن نحب العافية ونتحاشى الآلام والمتاعب، ولكن من الطبيعي أيضا أن نخوض معركة.
فقال باسما: قل أيضا إنها طبيعة مهنتنا، هذه هي الحجة التي تجعلني ألقي سلاحي، وعلى أية حال لم يصادر عدد اليوم، وهذا دليل على أن القذيفة أصابت هدفها.
وأدهشني من الأستاذ علي مختار أنه بدأ يتحول إلى شيء يشبه حاله الأولى بعد بضعة أيام، ونشط من الفتور الذي طرأ عليه، وعاد مكتبه في كل ليلة منتدى سياسيا يضطرم بالثورة.
ولكنه كان مع ذلك لا يخلو من التوجس؛ ففي كل صباح يبادرني عندما أذهب إليه قائلا: لم يصادر عدد اليوم أيضا.
وشغلتني المعركة العنيفة عن كل شيء حتى عن أمي وأختي وعن منى، وعادت الثورة تخفق في قلبي وتضطرم في كل مكان، وكنا نتوقع أن تندلع في كل صباح، وماذا كان يجعلنا نشفق من الثورة؟ كان اليأس يدفعنا إلى طلب التغيير ولو إلى حريق آخر، وكما يحدث للمقاتل إذا حمي القتال فجعله لا يفكر في شيء غير القتال، جعلتنا المعركة الصحفية لا نفكر في شيء سوى الفضيحة المقبلة؛ فضيحة القطن وفضيحة البورصة وفضيحة تجارة المخدرات وفضيحة الاغتيالات الجهنمية وعشرات أخرى، كل واحدة تثير زوبعة قبل أن تهدأ التي سبقتها، وفي غمار هذه المعمعة كانت منيرة تبعث إلي خطاباتها بغير انقطاع، وكل منها ينتهي بالعبارة المألوفة: «منى تسلم عليك وتسأل عنك.» فأطوي الخطاب في شيء من الحنق، وأضعه في درج مكتبي، وأرسل جوابا قصيرا أرد فيه التحية الجوفاء بمثلها: «أرجو أن تبلغي منى سلامي وسؤالي عنها.»
هكذا مضت الأشهر واحدا بعد واحد حتى أتى إلي خطاب من منيرة، فقرأته مسرعا، وكدت أضعه مع الخطابات الأخرى لولا أني وجدت تغييرا في الخاتمة: «منى تسأل عنك وهي متألمة منك.» فوضعت الخطاب أمامي، ونظرت إلى الفضاء حيث كانت صورة منى. ماذا تنتظرين مني؟ وأينا الذي يغضب ويتألم؟ هكذا قلت في نفسي ونظرت إلى الساعة فوجدتها الحادية عشرة، وقمت لأستأذن في إجازة قصيرة، وأسرعت إلى المحطة لأسافر، وأخذت معي كتابا لأقطع على قراءته الطريق حتى لا أحس طول السفر، وذهبت من تو وصولي إلى دمنهور قاصدا إلى بيت منى، وكانت الساعة الرابعة عندما طرقت الباب، وعرفتني الخادمة ففتحت لي غرفة الاستقبال.
وكان الجو حارا فخلعت طربوشي، ووضعت الكتاب الذي كان معي على منضدة، ومكثت بضع دقائق أنظر حولي إلى ما في الغرفة وأنا أفكر فيما أقول إذا لقيت منى، كانت الغرفة كما تركتها آخر مرة، الصورة الحزينة المجللة بالسواد، والستائر المقلوبة، والأواني المنكسة، وزادها كآبة شيء من الإهمال في الترتيب والتنظيف، وكان قلبي ممتلئا بالإشفاق والحزن عندما جاءت منى مثل زنبقة مشرقة، وملابسها السود تجعل على وجهها مسحة من الصفرة، وكان وجهها الباسم وعيناها الصافيتان تقولان مع لسانها: «مرحبا، الحمد لله على السلامة!» ومددت يدي الاثنتين لآخذ يديها وأضغط بهما على صدري، وأنا لا أدري ماذا فعلت، وكان خفقان قلبي يحول بيني وبين النطق، وقالت منى وهي تجذب يديها: أهكذا لا تأتي إلينا إلا بإنذار؟
فقلت في حرارة: كنت في الانتظار دائما.
وتركت يديها وجلست وقلبي يدق عنيفا.
وقالت في نغمة اعتذار: لو عرفت ما كنا فيه هذه الأشهر، لما تأخرت هكذا عن الحضور، في كل أسبوع ننتظر إلى الأسبوع المقبل بغير فائدة.
فقلت: وأنا أيضا في كل يوم أنتظر الصباح المقبل بغير فائدة، في كل يوم أنتظر برقية تنبئ بحضوركم، فلا يصل إلي إلا خطاب منيرة تقول لي: إنك تسلمين علي وتسألين عن صحتي كما يفعل الذين يتقابلون في الطريق. أهذه هي الإشارة المنتظرة؟
فضحكت قائلة: إذن فأنت الغاضب لا أنا! وماذا كنت تريد أن أقول غير أن أسلم عليك وأسأل عن صحتك؟ أتنتظر أن أرجوك الحضور حالا كما يفعل أصحاب الأعمال؟
فقلت بصوت متهدج: إذن فأنا أعترف بخطئي. كيف أنت وكيف صحة عمتي؟
وكنت على وشك أن أسأل عشرات من الأسئلة لولا أنها قامت قائلة: هي أكثر زعلا مني.
وقمت معها فدخلنا إلى حجرة السيدة وكانت جالسة على كرسي كبير إلى جوار سريرها، ومدت إلي يدها قائلة: الحمد لله على السلامة! أنت هنا أخيرا؟
فقبلت يدها وقلت: بل كنت هنا دائما.
فضحكت ناظرة إلى منى، وقالت: ومن يقدر عليه في القول يا منى؟ تفضل هنا يا سيد.
وأشارت إلى كرسي أمامها، وجلست منى على حرف سرير أمها.
فقلت مبادرا: لست أقول كلمة جوفاء يا سيدتي، فلو أطعت نفسي لكنت في كل يوم هنا.
وقالت السيدة وهي تمد رجليها متألمة: آه يا ولدي، ما أشد هذه الآلام التي أعانيها، كنا نود تبديل الهواء لعل هذه الآلام تفارقني، ولكن كيف أسافر هكذا، والمشاكل التي لا تنتهي، والقاهرة التي تحترق؟ النهاية يا سيد، الحمد الله على السلامة! لقد حزنت والله عندما علمت بما حدث لك، ولا أدري ما هذه السياسة التي تعذبون أنفسكم فيها، رحم الله والدك العزيز يا منى، كم قلت له أن يبعد عن السياسة، ولكن الحمد الله على كل حال يا سيد، قولي له يا منى كيف كنا نقول: «أين سيد؟»
فقالت منى ضاحكة: قبل أن يشرب القهوة يا ماما؟
وكانت الخادمة في تلك اللحظة داخلة تحمل صينية القهوة، فأخذت فنجانا كنت محتاجا إليه، واستمرت السيدة في حديثها، وكان كل حديثها أو أكثره عن محمد خلف باشا وولده محمود: الباشا يحسب عشرة آلاف جنيه على التركة، ويزعم أنه صرفها لحمادة الأصفر، مع أن الجميع يعرفون الحقيقة، وإيراد العزبة البحرية يهبط إلى النصف، خمسمائة فدان لا يزيد إيرادها على عشرة آلاف جنيه مع أنها من أجود الأطيان، والحديقة مائة فدان لا تأتي بأكثر من عشرين ألفا، الأسعار هابطة لورثة السيد أحمد جلال خاصة، والأقطان لا يبيعها بسبعة وعشرين جنيها؛ لأن البرلمان سيرفع الأسعار، ثم ينحل البرلمان والسيد محمود خلف يبقى في مصر ليمشي على هواه، ومع ذلك فالباشا يطلب تحديد يوم الاحتفال بالعقد كأن السيد أحمد جلال مات من عدة سنين، وإذا طلبنا التأجيل إلى بعد مرور سنة على الوفاة أصر الباشا على تصفية الحساب وأخذ الأطيان، كل الأطيان، ثمانمائة فدان من أجود الأطيان، ومن البساتين في نظير ديونه، ومنى تزيد الأمور تعقيدا بإصرارها على الرفض.
ونظرت إلى منى عندما وصلت إلى هذا الحديث، وقالت: انظر يا سيد كيف صارت عقول بناتنا؟
وقامت منى خارجة من الغرفة، فاستطعت أن أقول: أظن أن هذه الأمور تحتاج إلى روية، ولا فائدة من سردها هكذا.
فقالت السيدة: وماذا نستطيع يا سيد؟ نحن في يد الباشا.
فقلت: هذا ما أقصده بقولي: إن هذه الأمور تحتاج إلى الروية، حتى لا نضر بمصلحتكم ولا بمستقبل منى.
فقالت: حقا إن محمود ولد فاسد، ولكن هكذا الشبان اليوم، وأظنك توافق أن نتصرف بحكمة.
فقلت: المهم أولا أن نفرق بين تسوية المصالح وبين موضوع العقد.
فقالت: اسمع يا سيد يا ابني، أنت مثل ولدي والسيد أحمد كان يقول إنك شاب عاقل ومثل ولده، ويجب علينا أن نتصرف بحكمة . يعني يا ابني نضيع أنفسنا؟ ما معنى هذا العناد وكلما كلمتها قالت: «يكفينا أقل ما عندنا» ألست توافقني يا سيد على رأيي؟
وسكتت السيدة تنتظر جوابي، وكنت لا أعرف إلى تلك اللحظة ما السبب الذي حملني على الإسراع إلى دمنهور هكذا، وشعرت بأني في أحرج موقف وقفته في حياتي، وكدت أصيح قائلا للسيدة: «هل منى جارية؟ هل تريدين بيعها؟»
وقلت بعد صمت طويل: المسألة دقيقة يا سيدتي، وتحتاج إلى كل حكمتنا، وأول ما يهمنا هو منى نفسها.
فقالت: طبعا يا ابني، هذا ما أقوله لها، هي أول ما يهمنا طبعا، ولا نريد إلا أن نختار أحسن شيء لها.
فقلت في دفعة: هل تختارين لها محمود خلف؟
فقالت: جهل الشباب يمر يا ولدي.
فقلت: هناك شبان آخرون يا سيدتي، ويحسن أن نفرق بين تسوية المصالح وبين أمر الزواج.
فقالت في شيء من الغضب: أين هؤلاء الكثيرون يا سيد؟ أنرضى لها أحد هؤلاء الذين يتقدمون لها؟ صعاليك تعلموا وتوظفوا بعشرين جنيها، ويتجرءون على التقدم لها؟ ماذا تصنع بهم منى؟ أتختار أحدهم لتصرف عليه لتجعله إنسانا، ثم تقول للناس: «هذا رجلي؟»
فأطرقت صامتا وأظلمت الدنيا في عيني، وقمت قائلا: اسمحي لي الآن يا سيدتي، سأعود للحديث مرة أخرى.
وكنت أقول في نفسي: لن أدخل هذا البيت بعد هذا.
وقالت السيدة: أين ذهبت منى؟ هذا ما استفدناه من المدارس والكتب والعصر الحديث، يا حسرة علينا ما كنا نجرؤ على أن نقول كلمة.
ورفعت صوتها تنادي منى.
ثم التفتت إلي بنظرة التجاء قائلة: أرجوك يا سيد أن تساعدني.
وجاءت منى تنظر إلي صامتة، واستمرت السيدة تقول: ألست توافقني يا سيد؟
وخرجت الكلمات من فمي كأني أنتزع خيطا من شوك، وقلت: أظن الأمر كله يتوقف على رأي منى.
فقالت السيدة في نغمة عتاب حانق: ولكنها في حاجة إلى النصيحة.
وأطرقت لحظة مفكرا أعيد في ذهني كلمة السيدة عندما قالت في حنق: «ماذا تصنع به منى؟ أتصرف عليه ليكون إنسانا وتقول للناس هذا رجلي؟»
وقلت في نفسي في حسرة ساخرة: «ماذا تصنع بي منى؟»
والتفت إلى السيدة وأنا أكثر ثقة فقلت: أرجو المعذرة يا سيدتي إذا لم أجد نصيحة.
لم أقل رأيا عندما تقدم عبد الحميد لأختي منيرة.
فقالت السيدة: ولكن هذا موضوع آخر.
فقلت في إصرار: لو رفضت منيرة لكنت أوافقها.
فقالت في دفعة: ولكن منيرة تستطيع أن تجد كثيرين مثل عبد الحميد يا سيد.
فقلت في تحد: ومنى؟
فقالت: كم في المدينة مثل محمود خلف؟ بل كم في البلاد كلها؟
فقلت في شيء من الأنفة: اسمحي لي أن أخالف، المقاييس تختلف.
فقالت ووجهها يزداد حمرة: لا وجه للمقاربة يا ابني.
وتدخلت منى في الحديث قائلة: لماذا تتعبين نفسك يا ماما؟ ألم نتفق على ترك هذا الموضوع نهائيا؟
فقالت السيدة: ما معنى نهائيا؟ يعني أن نصفي حسابنا ونضيع ثروتنا؟
وبدأت بينهما مناقشة طويلة لم أتدخل فيها؛ لأنها تتصل بأرقام لا أعرفها، وكانت السيدة تنطق بها في حنق حتى خشيت على صحتها، وكنت في أثناء هذه المناقشة صامتا أفكر حانقا فيما قالته السيدة، ولكني لم أستطع أن أظهر ما ثار في نفسي، كانت كلماتها تصطدم بقلبي كأنها قذائف من الرصاص كلما سمعتها تساوم في منى، وخرجت مستأذنا أكاد أترنح وقلت وأنا أتكلف الهدوء: أرجو لك العافية يا سيدتي.
فقالت منى ضاحكة: النتيجة أننا نسينا ما كنا نريده من سيد، كنا ننتظر حضوره كل أسبوع لنسأله عن رأيه، ثم نضيع الوقت في أحاديث أخرى، ما رأيك فيما يعرضه الباشا علينا، يريد أن يأخذ الأطيان ليستوفي بها دينه. هذا كل شيء.
ووقفت صامتا لا أدري كيف أفكر في تلك المفاجأة، وماذا أعرف في هذه الشئون حتى أبدي رأيي؟
فقالت منى مستمرة: ليس المهم أن تقول لنا رأيك في الصفقة ذاتها، فهذا أمر يتولاه المحامي والخبير، وهما أعلم بهذه الأمور منا، الأمر كله يتعلق بك أنت، هل تستطيع أن تشرف على شئون المحلج إذا اتفقنا على التسوية التي يعرضها الباشا؟ لست أجنبيا عنه ولا عن الذين فيه وثقتنا فيك مطلقة ، ونظرت إلي باسمة.
فقلت بغير تفكير: دعي لي وقتا لأفكر.
فقالت: لا حاجة إلى العجلة في الجواب، أمامنا وقت طويل قبل أن يفرغ الجميع من إجراءات الاتفاق، وستكون معنا غدا بغير شك؛ لأننا ذاهبون جميعا إلى العزبة؛ منيرة وعبد الحميد وماما، وستعود ماما من هناك سائرة على قدميها. أليس كذلك؟
ونظرت إلى أمها التي كانت عند ذلك عابسة مطرقة تضع رأسها على يدها.
وخرجت لأنصرف صامتا، ولا أدري إن كنت قد تبينت عند ذلك ماذا قالت منى؛ لأني كنت في جدال عنيف مع نفسي.
وقالت منى ونحن سائران وهي تمسك بذراعي: هذه هي اللحظة الموعودة يا سيد، اللحظة التي تقف فيها إلى جانبي.
ونظرت إلى عينيها، وهي ترفع وجهها إلي، وكانتا مثل البحر الصافي العميق في يوم من أيام الربيع الهادئة، ودخلنا إلى غرفة الضيوف لأستعيد طربوشي وكتابي، فقالت منى: لم تقل بعد إنك ستأتي معنا.
وكان وجهها في عيني كما كنت أراه دائما مثل زهرة الفول في الصباح إذا جللها الندى، وعودها الرشيق مثل تمثال رائع، ولو أطعت نفسي لركعت عند قدميها قائلا لها: «معبودتي!»
وأخذت يديها فوضعتمها بين كفي، ورفعتهما إلى صدري في لهفة، وقلت في نفس مبهور: طبعا يا منى، وهل أرفض السعادة؟ هل أستطيع أن أقول لك: «لا»؟ ولكني أجد فيما تعرضين علي شيئا من المرارة، وإن كنت لا أدري كيف أرفض.
فقالت: أي مرارة؟
فأجبت في هدوء: لست أعرف كيف تنظرين إلي وأنت تطلبين مني أن أشرف على المحلج، لن أستطيع عند ذلك أن أقول لك الكلمة التي عشت هذه السنين راجيا أن أقولها لك يوما، لن أجرؤ أن أقولها لك إذا اشتغلت عندك، ولا فرق بين أن أكون في المحلج مديرا أو وزانا.
وتوقفت لحظة، ثم تهدج صوتي وأنا أستمر قائلا: لم يكن لي في الحياة إلا حلم واحد وهو حبك يا منى.
ورفعت يديها إلى شفتي فقبلتهما في حرارة.
واندفعت قائلا: حبك هو الذي يدفعني دائما، ويوحي إلي، ويجعل لي في الحياة غرضا ، ولست أحب أن أعرضه للسخرية حتى يقول أحد إنني أحب سيدتي، أو يقول أحد إنك تريدين أن تجعليني إنسانا وتقول للناس: «هذا رجلي.» وأنا آسف إذ أقول لك هذا، فإني أبدو لنفسي جديرا بالسخرية وأنا أقوله.
فأطرقت برأسها ويداها ما زالتا على صدري، ومالت حتى مس رأسها كتفي، وقالت بصوت منخفض: لم تقول هذا؟
وبغير أن أشعر بما فعلت ضممتها إلى صدري وقبلت جبينها.
الفصل الثالث والثلاثون
تمر علينا أحيانا لحظات طويلة أو قصيرة نكون فيها مثل الريشة في مهب الرياح المتعارضة لا نعرف لأنفسنا اتجاها، وهذا ما حدث لي بعد خروجي من بيت منى، لم أدر ماذا أريد ولا ماذا أحس، وتنازعتني دوافع متضادة كل منها يجعلني أشك في حقيقة آرائي وصدق مشاعري. منى تسألني أن أقف إلى جنبها وتقول لي هذه هي اللحظة الموعودة، وهناك في القاهرة معركة كبرى في سبيل الغاية التي آمنت بأن الحياة تناديني من أجلها، وها هي ذي منى تستمع إلي وأنا أقول لها في أول مرة من حياتي: «أنا أعيش من أجل حبك، وأخشى أن أكون موضعا للسخرية.» فتميل برأسها على كتفي قائلة: «لم تقول هذا؟»
وبقيت صورتها ونغمة صوتها تترددان في كل كياني، وأنا أتحدث إلى أمي وأختي وأستمع إلى تحياتهما الممزوجة بالعتاب على طول غيبتي عنهما.
ولما جاء عبد الحميد في ساعة الظهر كانت دهشته عظيمة لزيارتي المفاجئة، وسألني: متى جئت؟
فقلت: في قطار الصباح.
فصاحت منيرة: وأين كنت؟
فأجبت في نشوة: عند منى. ألم تبعثي إلي أنها متألمة مني؟
وأخذت عبد الحميد لنجلس في غرفة الجلوس، وأفضيت إليه بكل ما قلت وما قيل لي، فخبط على كتفي قائلا: لأول مرة تستحق احترامي.
ودخلنا في مناقشة طويلة بعد ذلك عندما ذكرت له تنازع أفكاري بين إجابة رغبة منى وبين تلبية نداء المعركة التي تناديني.
فما كاد عبد الحميد يسمع كلمتي حتى انفجر ضاحكا وقال: لا تكن أحمق بهذا القدر، تستطيع أن تكتب ما تشاء وأنت هنا، ولكنك لا تستطيع أن تقف إلى جنبها إلا هنا.
والمناقشة تخرج في كثير من الأحيان إلى مكابرة يندفع إليها كل من طرفيها مع الكبرياء، كأنها معركة يخشى كل منهما الهزيمة فيها، وهذا ما وقع بيننا لمدة ساعتين حتى جاء وقت الغداء وكل منا متمسك بآرائه، ومن العجيب أنني كنت أجادل صاحبي وأنا أحس في الوقت عينه بسرور خفي كلما وجدت في حجته قوة، كأنني كنت أريد من المناقشة أن أقنع نفسي بأن عملي سيكون في نظر الناس طبيعيا لا موضع فيه للسخرية.
وكان اليوم التالي من أسعد أيام حياتي، فذهبنا جميعا إلى العزبة وهي لا تبعد عن دمنهور بأكثر من عشرين كليومترا، وكانت قطعة جميلة من الهندسة والخصب والذوق الجميل، في تنسيق طرقها ونضرة زرعها وبهاء المسكن الأنيق الذي بناه السيد أحمد جلال قبل موته بعام واحد، وذهبت مع الأماني إلى أبعد مذاهبها عندما تخيلت نفسي مقيما في ذلك القصر مع منى، ومن حولنا ذلك الريف الجميل في معزل عن الناس جميعا، ومرحنا في ذلك اليوم السعيد، كأننا جميعا عدنا إلى الطفولة، حتى إن السيدة الكبيرة وأمي نفسها نسيتا أن للسن أو لآلام المرضى ضرائب لا بد من الاحتياط لها، ولكن العاقبة كانت على غير انتظار خاتمة طيبة لليوم السعيد، فقد عادت أمي من تلك الرحلة بذخيرة من المرح والنشاط كما عادت السيدة الكبيرة تسير على قدميها كما تنبأت منى، والشيء الوحيد الذي عكر بعض صفاء تلك الرحلة أن السيدة استمرت تجادل منى على طول طريقنا في العودة، وتصر على الاحتفاظ بالعزبة مهما كانت الظروف، ولكن منى تخلصت من المناقشة الحادة بضحكتها الوديعة قائلة: نستطيع أن نشتري أحسن منها. ولما عدت إلى القاهرة كانت الدنيا تبدو في عيني بألوان أخرى غير التي تعودت أن أراها، وبدأت أنظر إلى الأمور نظرة جديدة غير التي كنت أنظر بها.
كانت الحكومات تتعاقب في أسابيع قليلة، وكل منها لا تدري أين تضع أقدامها، وسألت نفسي مرارا أين تنتهي هذه المهازل التي يمثلها صغار في أسماء منفوخة، أساليب واحدة وإن تعددت الأدوار التي يمثلها كل منهم والنتيجة المحتومة واحدة، كنت كل يوم أسأل نفسي: «إلى أين نصير؟» ولم يكن لهذا السؤال إلا رد واحد: ثورة أخرى مثل التي وقعت في 26 يناير الماضي، ولم لا؟ غير أني كنت أعود دائما فأقول: «وماذا نجني من مثل تلك الثورة؟» وماذا يجني الجسم العليل الذي تسممت دماؤه من انفجار جلده بالقروح ذات الصديد؟
والآن تقترب نهاية القصة على فجأة كما تنتهي القصص الرديئة، وإن كنت أعتذر عن هذه النهاية المفاجئة بأنني لم أتعمدها؛ لأن المقادير هي التي جعلتها تنتهي فجأة، المقادير تصرف شئون الحياة كما تريد هي لا كما يريد الأحياء، بل إني أستطيع أن أعتذر عن المقادير نفسها، فأقول: إنها لم تدبر لهذه القصة نهاية بل دبرت لقصة جديدة. هكذا الحياة تسير في سلسلة من القصص التي تنتهي كل منها إلى بداية أخرى، ولا يستطيع أحد أن يعلل حوادث المقادير مهما أوتي من الحكمة، فكيف أستطيع أنا أن أعللها وما أوتيت من الحكمة شيئا؟ كل ما أفخر به أني آمنت بأن الحياة نادتني وأن للأقدار حكمة وأننا نتجه في الحياة كما توجهنا أسرار صغيرة عظيمة أو مواقف تافهة خطيرة، لا ندرك قيمتها في لحظتها، ولا نعرف أنها هي التي وجهت حياتنا إلا بعد أن نمضي على الطريق، ويصبح من المحال علينا أن نعود أدراجنا.
قد يقول البعض: إننا نملك مصائرنا، وإن الحوادث التي تقع لنا ما هي إلا نتائج محتومة لمقدمات ثابتة، وقد يكون هذا صحيحا، ولكن نهاية هذه القصة تخالف هذه السنة على ما بدا لي، وما أزال أراها من الأمور الغامضة التي تبعث الدهشة والعجب، ولقد بلغت بي الحيرة أنني عددتها كرامة من كرامات الأولياء أو معجزة من معجزات الإرادة الإلهية، وإلا فكيف كنت أتصور كل ذلك الانقلاب في الأسابيع القليلة التي قضيتها في القاهرة بعد عودتي من دمنهور؟
فقد اتفق وقوع حادثين في وقت واحد، بل في ساعة واحدة، وكانت فيهما نهاية القصة.
في صباح اليوم الثالث والعشرين من شهر يوليو وقعت الحادثتان معا، وأنا أسجلهما هنا؛ لأن بهما تنتهي هذه القصة، أو بقول آخر تبدأ قصة جديدة.
فأما الحادث الأول فهو أنني كنت جالسا إلى جانب المذياع أستمع إلى قرآن الصباح وإلى أخبار اليوم الجديد، فإذا صوت ينطلق معلنا قيام ثورة من الجيش! الجيش! الله أكبر! الجيش الذي كنا نخشى أن يكون هو عماد الطاغية الرهيب؟
الجيش يعود مرة أخرى ليثبت أنه من أبناء الوطن، وأن الطاغية يسخر منه كما يسخر من الأمة، ويعبث به كما يعبث بالأمة! إنها لكرامة من الولي الذي جاورته في هذه الأشهر الماضية، وكنت أذهب إليه كل صباح لأؤدي صلاة الفجر بعين دامعة، وقمت مسرعا لأصلي في مسجد الحسين؛ لأني في دهشة المفاجأة آمنت بأنها كرامته، وإلا فكرامة من؟ الأمة كانت لا تستطيع إلا ثورة مثل التي وقعت في يوم 26 يناير، ولكن هذه ثورة أخرى، ثورة بيضاء تعرف غايتها.
وأما الحادث الثاني فإني ما كدت أعود إلى شقتي المتواضعة في باب الخلق حتى وجدت برقية تنتظرني! «تم الاتفاق وفي انتظارك اليوم حسب الاتفاق. منى.»
وسرت كما أنا بوضوئي وخشوعي ودهشتي قاصدا إلى المحطة مخترقا طرق القاهرة المزدحمة بأمثالي من الذين خرجوا إلى الطريق ليسأل بعضهم بعضا في دهشة: «كيف حدث هذا؟»
وسافرت إلى دمنهور في قطار الصباح، وكنت على طول الطريق أفكر خاشعا وأسأل نفسي: «كيف يحدث هذا؟» واستقبلتني منى باسمة، وفتحت لها ذراعي، وكانت هي الأخرى تقول إذ تندفع إلى صدري: «كيف يحدث هذا؟»
ناپیژندل شوی مخ