كان لدراسة «جابر عصفور» أثر في الدكتوراه في تمهيد الفصل الثاني عن الأنواع البلاغية للصورة الفنية، وإشارته العامة عن أثر المعتزلة، ودراسة د. «مصطفى ناصف» عن الصورة الأدبية والإشارات إلى المؤثرات الروحية في بحث الاستعارة، وكذلك الاكتشاف الذي قامت به البعثة المصرية لجامعة الدول العربية في نهاية الأربعينيات باليمن بالجامع الكبير في صنعاء، باكتشاف كتاب القاضي «عبد الجبار الأسد أبادي المعتزلي» (359ه/969م-415ه/1025م) المغني في أبواب التوحيد والعدل، والتي احتفظ بها المفكرون الزيديون في اليمن، وقد خرجت نسخة الكتاب المحققة خلال السنوات القليلة الماضية، ففكرت في أن أدرس نشأة أهم مبحث في البلاغة العربية؛ مبحث المجاز، أدرس ظروف نشأته ومفهومه عند المعتزلة الذين تشير الدراسات السابقة إلى دورهم في تكوين هذا المبحث وإنضاجه، مع دراسة أثر القرآن الكريم في ذلك؛ في تحديد ماهيته ووظيفته في التعبير البليغ. وسجلت عنوان الدراسة للماجستير «قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة»، ومصر تحاول أن تستعد لمسح عار الهزيمة عام ثلاثة وسبعين.
11
حجرتي الضيقة اختنقت بكتب ومراجع المعتزلة، في شقتنا المختنقة بنا، أنظر إلى عبارة المفكر المعتزلي «إبراهيم بن سيار النظام» التي وضعتها لوحة معلقة أمامي على الحائط: «العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك؛ فإن أنت أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر.» وأقرأ مصادر المعتزلة التي خرجت للنور منذ سنوات تعد على الأصابع، لكن عملية تحقيق المجلدات اكتفت فقط بنسخ الكتاب دون شرح للمصطلحات أو توضيح للأفكار، ومحاولة القراءة والفهم صعبة جدا؛ ليال أقوم بتقديم الجمل وتأخيرها، وإعرابها كلمة كلمة للتأكد من فهم العبارة. الكتب مكتوبة بالطريقة التراثية من السرد والاستطراد، وزد على ذلك طريقة المعتزلة في جدال من خالفهم، وتصور حججهم للرد عليها؛ مما جعل مفاهيمهم وتصوراتهم اللغوية متناثرة في أنحاء مؤلفاتهم. وموسوعة القاضي «عبد الجبار»، ضخمة بأجزائها العشرين، المفقود منها الأول والثاني والثالث والعاشر والثامن عشر والتاسع عشر، فتوقفت بالبحث عند فترة نضج الفكر الاعتزالي في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي.
أدرس دور تفسير القرآن وتأويله كمنهج ووسيلة في بلورة مفهوم المجاز، ودور فرقة المعتزلة الكلامية في ذلك. والمجاز وسيلة لغوية لا تنفصل عن تصور عام للغة، فوجدتني أدخل في ثلاثة حقول معرفية؛ تاريخ التفسير القرآني، وتاريخ البلاغة العربية، وعلوم اللغة بشكل عام. والكتابات في علوم اللغة الحديثة بالعربية قليلة، فاعتمدت على المترجم منها، وذهبت للجامعة الأمريكية بالقاهرة لكي أجود لغتي الأجنبية للقراءة في هذه العلوم باللغة الإنجليزية.
بدأت دراستي بجمع كل الآيات القرآنية التي قام المعتزلة بتأويلها وأجروا عليها فكرة المجاز، فوجدت المجاز عندهم مجرد وسيلة؛ حتى تستقيم معاني الآيات مع مبادئهم الفكرية والعقلية المسبقة، وليس له إلا دور يسير في حجاجهم العقلي، فاتجهت بكل جهدي لفهم الفرق الدينية الإسلامية، وفهم صراع المسلمين الأوائل ودوره في نشأة الفرق والقضايا الفكرية؛ فالفكر لا يأتي من فراغ، بل من صراع في الواقع. وكان كثير من الباحثين قد أرجعوا نشأة الاعتزال إلى مؤثرات خارجية وأفكار وافدة. والمؤثرات الخارجية لا تمارس تأثيرا فعالا ما لم تكن الظروف الداخلية مهيأة لتلقي البذور وإنباتها؛ لذلك ركزت على الواقع ودوره في نشأة الاعتزال.
القول باختيار الإنسان لأفعاله ومسئوليته عنها ضد الدعوة الجبرية التي تستر وراءها النظام الأموي، والتي تقول إنه ليس للإنسان اختيار في أفعاله. وقد تعامل الأمويون بعنف ضد المفكرين الذين قالوا بحرية الإرادة الإنسانية باستثناء الحسن البصري (ت: 110ه/728م)؛ فقد قتل الخليفة «عبد الملك بن مروان»(65ه/685م-85ه/705م) المفكر المعتزلي «معبد الجهني» (ت: 80ه/700م)، وابنه قتل «غيلان الدمشقي» (99ه/718م)، وذبح الوالي الأموي «خالد بن عبد الله القسري» «الجعد بن درهم» (120ه/738م)، والذي كان مؤدبا ومعلما لآخر الخلفاء الأمويين، أسفل المنبر بعد صلاة العيد. وكان لجدال المعتزلة ودفاعهم عن العقيدة الإسلامية في مواجهة أصحاب الديانات الأخرى باعتمادهم الحجج العقلية، وليس على الأدلة من القرآن والسنة. والعقل عندهم مجموعة من العلوم الضرورية الملازمة للإنسان خلقها الله فيه.
وجدت أن مبادئهم أو أصولهم الخمسة، التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يمكن ردها إلى مبدأين أساسيين؛ التوحيد والعدل؛ فالله سبحانه عادل، ودليل عدله أن يكون هناك وعد ووعيد للتفريق بين المصيب والمذنب؛ لأن الإنسان مسئول عن أعماله في الدنيا، ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبط بمسئولية الإنسان هذه. وللحكم على مرتكب الكبيرة بأنه كافر أو مؤمن فقط فإن عدل الله يتطلب وجود منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر، وهو المبدأ الخامس؛ المنزلة بين المنزلتين، وهو جزء من عدل الله.
ومعرفة معنى كلام الله في فهم المعتزلة تشترط معرفة قصده سبحانه، ومعرفة حالة وقوع الكلام، ومواضعة الكلام. وقد اتفق المعتزلة وخصومهم من الأشاعرة على شرط معرفة مواضعة الكلام؛ أي معرفة دلالة الكلمة في اللغة؛ فقد اختلفا في أصل المواضعة ومصدرها، هل معنى الكلمة توقيف من الله، أم اصطلح عليه الناس؟ فالأشاعرة قالوا إن القرآن قديم؛ أي غير مرتبط بزمن نزوله على النبي، واللغة عندهم أصلها التوقيف من الله؛ استنادا إلى قول القرآن الكريم في سورة «البقرة»:
وعلم آدم الأسماء كلها . وقالوا إن الكلام صفة ذاتية قديمة. على العكس من ذلك قال المعتزلة إن القرآن مخلوق؛ لأن الكلام صفة من صفات الفعل الإلهي وليس صفة من صفات الذات؛ فإذا كان القرآن قديما فهذا معناه أن هناك قديما آخر مع الله، وهذا شرك في نظرهم، وذهبوا إلى أن المواضعة اللغوية اصطلاح بين البشر وليس توقيفا.
وانتهى القاضي «عبد الجبار» إلى أن العلاقة بين الاسم والمسمى علاقة يتعارف عليها الناس، و«ربط بين قصد المتكلم والمعنى الذي يدل عليه». واستخدم المعتزلة كلمة «المثل» الواردة بكثرة في القرآن للتعبير عن مفهوم المجاز، واعتبروا المجاز قرين الحقيقة بدءا من كتابات الجاحظ (ت: 255ه/870م) معتمدين على جهود المفسرين واللغويين في تعاملهم مع كلمة المثل في القرآن. ومع نمو حركة التفسير والتأويل تحددت عناصر المجاز، وأنواعه المختلفة كالكناية والتشبيه والاستعارة والحذف وغيرها، كوسيلة لرفع التناقض الظاهري بين كلام الله، وبين معرفتنا العقلية بعدله وتوحيده. أو بمعنى آخر يصبح المجاز وسيلة للتأويل وأداة رئيسية له. ومن الطبيعي - والحالة هذه - أن يتسع المجاز ليشمل كل ما اندرج تحته من عناصر تصويرية أو أسلوبية.
ناپیژندل شوی مخ