8
مع بداية السنة الثالثة أصبحت أذهب إلى الجامعة صباحا، ومنها إلى وردية المساء بقسم شرطة العجوزة، وبدأت الأسرة تتأقلم على الحياة في القاهرة؛ أمي تزداد خبرة في التعامل مع المدينة المزدحمة. كان «جابر عصفور» يدرس لنا تاريخ النقد الأدبي، وكان منخرطا في إعداد رسالته للدكتوراه عن «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب» بعد رسالته للماجستير عن «الصورة الفنية عند شعراء الإحياء في مصر»، وكنت قريبا منه نتناقش طوال الوقت، ومعجبا بالنظرة الكلية التي ينظر بها لموضوع بحثه عبر مجالات التراث المختلفة. وبدأ د. «عبد المنعم تليمة» يدرس لنا محاضراته المرهقة عن نظرية الأدب من منظور ماركسي، ويدخل بنا في رحاب بعيدة من الفكر الفلسفي للربط بين نظرية الأدب ونظرية المعرفة، وارتباط ذلك بالمنظور الفلسفي.
دخل علينا المدرج د. حسن حنفي، الشاب العائد من فرنسا، والحاصل على الدكتوراه من السوربون، ببدلته الأنيقة، وشاربه المهذب. ومن أول محاضرة تحدث عن الحوار والنقاش، ودور الطالب في المحاضرة، وعن التعلم المتبادل بيننا، يدرس لنا علم الكلام الإسلامي. وبدأ يتحدث عن البنية الهيراركية الموجودة في التراث الإسلامي من الأعلى للأدنى؛ الله، ثم الملائكة فالأنبياء والرسل، ثم المؤمنون المسلم منهم وغير المسلم، فالكفار، ثم الحيوانات فالنباتات، ثم الصخور. ويربط كل ذلك بالبنية السياسية في العالم الإسلامي بنفس النسق؛ الحاكم، ثم الوزراء فرجال الإدارة، ثم كبار الموظفين فالعمال والفلاحون، ثم الحيوانات. ويربط جوانب التراث المختلفة؛ السياسي والعقدي والنحوي واللغوي والفقهي. ويربط بين الماضي والحاضر بطريقة طازجة جاذبة.
ويخصص وقتا كبيرا للنقاش والحوار. كنت من أول المناقشين، فقلت: «يعني أنت تتصور بهذه البدلة الأنيقة والكرافات المستوردة من باريس أنك هتغير وعيي في المحاضرة؟ وأنا مطلوب مني بعد ذلك أخرج أغير لك المجتمع، هو حضرتك ناسي أني ممكن أتخرج من هنا وأروح أشتغل في التموين، أو مدرس في منطقة نائية، بمرتب لا أستطيع أن أعيش به؟ أنت كأستاذ لك هيبة ومكانة، هتغير مخي وتطلب مني أن أغير الواقع؟ التغيير يحتاج إلى عمل ثوري وليس إلى عمل أكاديمي؟» وجدته يبتسم، وهو قليل الابتسام، وامتدح النقد وقال: «يا صديقي هذه مشكلة، ويجب أن نفكر فيها معا، هل نبدأ بتغيير الواقع ليتغير الوعي، أم نغير الوعي ليتغير الواقع؟ أيهما الأسبق على الآخر؟ أيهما الأصل وأيهما الفرع؟» وسألني عن اسمي فأجبته، فقال: «يا نصر اعمل حزبا من أجل تغيير الواقع وأنا أنضم عضوا مشاركا فيه.» فقلت له: «اعمل أنت الحزب وأنا أنضم.» فضحكنا، وكانت بداية علاقة بأستاذ مختلف له رؤية. وقام بعض زملائنا السلفيين يعترضون على ما جاء في المحاضرة، أعطاهم كامل الحرية. وبعد أن فرغ أحدهم قال له: «يا صديقي أنت لم تقل شيئا، ما قلته هو خطبة عصماء مكانها المسجد، لكن نحن في جامعة، حاورني حوارا فلسفيا.»
في محاضرة النحو كان الأستاذ يشرح لنا الخلاف بين نحاة البصرة ونحاة الكوفة حول ما ينوب عن الفاعل في حالة حذفه. البصريون يقولون إذا وجد في الجملة مفعول به، يكون هو نائب الفاعل، ولا يمكن أن تتجاوزه إلى غيره. نحاة الكوفة يقولون إذا كان الفعل لازما، يجوز في هذه الحالة أن تأتي بالجر والمجرور أو الظرف ليكون نائب فاعل. وأنا في المحاضرة دار في ذهني سؤال: هل لهذا الخلاف أساس معتقدي؟ وما إن حاولت أن أطرح سؤالي هذا على أستاذ النحو حتى قال «أنت بتقول إيه؟! إحنا في محاضرة نحو، عندك سؤال في النحو قوله.» ولم يعط لنفسه حتى فرصة للنظر فيما أقول. وأصبحت مشغولا بهذه العلاقات والعلائق بين مجالات العلوم العربية والإسلامية المختلفة. وفي محاضرة الأدب المصري، وكان الأستاذ يشرح قصيدة مدح للشاعر تميم بن المعز لدين الله الفاطمي (337ه/948م-373ه/985م) في أخيه الأصغر منه الذي ولاه أبوهم الخلافة متخطيا للشاعر، فمدح الشاعر أخاه الخليفة:
يا ابن الوصي المرتضى يا ابن الإما
م المجتبى يا ابن النبي المرسل
ما بال مالك ليس يرميه الندى
إلا يوافق منه موضع مقتل؟!
والأستاذ يحاول أن يقنعنا أن مدح الشاعر لأخيه أيديولوجيا شيعية من تعظيم الإمام، وأشار إلي وقال: «أنت يا جدع يا تخين أنت واضح أن القصيدة مش عجباك.» قلت: «في الواقع يا دكتور مش عجباني، هذا مجرد نفاق وترديد لكلام سابق، وليس بها عاطفة ولا إحساس.» نظر الأستاذ لي وقال: «وهتكتب دا في ورقة الامتحان؟» قلت: «بالطبع لا.» وبدأت أذكر عليه كل الأحكام التي ذكرها هو على القصيدة. فقال الأستاذ: «طيب إيه رأيك أني قرأت الإلياذة ولم أعجب بها.» تصور الأستاذ أن نقدي هو إهانة للأدب العربي، وليس مناقشة من أجل التعلم. في هذه السنة حصلت على تقدير «ممتاز»، وكان إحساسا لذيذا على الرغم من مشكلات الوطن.
ناپیژندل شوی مخ