ذلك لأن الغناء هو لغة الحياة والوجدان ونشيد الوجود لكل موجود، فالطيور في خمائلها، والوحوش في مجاهلها، والدواب في أكنانها، والبلابل على أفنانها، تترجم عن حياتها، وتترنم بشعورها، كلما صفت نفسها وأحست بجمال الحياة، ونشوة الوجود. ولا شيء يعدل الغناء والموسيقى في تنبيه العواطف وإثارة الهمم، وتهيئة النفوس لقبول الكمالات، وتوجيهها توجيها حسنا صالحا. قال أفلاطون:
من حزن فليستمع إلى الأصوات الجميلة؛ فإن النفس إذا حزنت خمد نورها، فإذا استمعت لما يطربها اشتعل منها ما خمد وتحرك فيها ما جمد.
وقد كان بإسبارطة فتنة خطيرة شملت أنحاء المدينة، وانتظمت جميع سكانها، واستحال على ولاة الأمور إخمادها، ففكر بعضهم في جمع الموسيقيين وتوزيعهم بين المتنازعين - وفعلوا - فأشاعوا بينهم الأنغام والألحان، فصفت نفوسهم، وطابت قلوبهم، وهدأت أعصابهم، وزالت عنهم أسباب الخصام.
وروى أبو بكر الدينوري حادثة شاهدها فقال:
كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب، فأضافني رجل منها وأدخلني خباءه، فرأيت فيه عبدا أسود مقيدا بقيد، ورأيت قبالته جمالا قد ماتت، وبقي منها جمل ناحل كأنه ينزع روحه، فقال لي الغلام: «أنت ضيف مولاي اليوم ولك أن تشفع لي عنده، فإنه مكرم ضيفه ولا يرد شفاعتك.»
فلما حضر الطعام قلت: «والله لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد.»
فقال: «إن هذا العبد أفقرني، وأهلك جميع مالي.»
قلت: «ماذا فعل؟» قال: «إن له صوتا جميلا، وإني أعيش من ظهور هذه الجمال، فحملها أحمالا ثقالا، وأخذ يحدو لها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمه، فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل. ولكن أنت ضيفي، فلكرامتك وهبته لك.»
فأحببت أن أسمع صوته، وأصبحنا، فأمره أن يحدو بي على جمل قوي ليستقي الماء من بئر هناك. فلما رفع صوته هام الجمل على وجهه فوقعت على الأرض ، وما أظن أني سمعت قط صوتا أحسن منه!
والغناء والموسيقى وسيلة من وسائل التربية وعلاج النفس والجسم من الأمراض،
ناپیژندل شوی مخ