بلغت أنباء هذه الفتنة المأمون في «مرو» فاشتد عليه وتمثل له خطرها إن لم يسرع في إخمادها قبل أن تستفحل في دولته وتذهب بملكه، وأيقن أنه قد تجاوز الحكمة في التدبير وغفل عن السداد في الرأي والتقدير، فما كان ينبغي له أن يقدم على ما أقدم عليه فأغضب بني العباس وأثار العراق، ولم يكن من الكياسة أن يتسرع في تنفيذ رأي رآه قبل أن ينضجه التفكير الطويل.
رأى أن يعهد بولاية العهد لعلي بن موسى الكاظم لأنه في زمنه خير أبناء هاشم جميعا، ولم يجد أفضل منه يصلح للخلافة من بعده، ولعله كان ينظر في ذلك إلى مصلحة المسلمين وحدها، ولعله كان متأثرا باحترامه للعلويين منذ تربى في شيعتهم، بل من المؤكد أن مربيه الفضل بن سهل كان أكبر المؤثرين عليه في هذه الناحية، وأول المحبذين لهذا العمل، إذ كان علويا يخفي تشيعه كما كان البرامكة يفعلون.
ونظر المأمون في أولاد العباس وكان عددهم وقتئذ ثلاثة وثلاثين ألفا، فلم يجد بينهم من يصلح للخلافة إذا قورنوا بعلي بن موسى الرضا علما وتقى ودينا. وقد ولد علي سنة 153، وهو ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وكان هو أحد أئمة الشيعة الاثني عشر.
ولى المأمون عليا العهد من بعده، ولم يكن يتوقع أن يثور عليه الناس في العراق. بل لعله كان يتوقع، ولكنه لم يخش الثورة ولم يحفل بها وقد دان له المشرق والمغرب وأصبح لا ينازعه في السلطان منازع! •••
ثار العراق وقاد الثورة بنو العباس في بغداد، ونصبوا عمه إبراهيم بن المهدي خليفة للمسلمين، فرأى المأمون أن يعالج الحال بأحد أمرين: الأول أن يرسل جيشا لإخضاع إبراهيم وخلعه من الخلافة، والثاني أن يخلع عليا بن موسى من ولاية العهد فيرضي بني العباس ويرضي العرب.
ولكن العلاج الثاني قد يثير الفرس في خراسان وهم أنصار هذه البيعة لعلي، فلا بد من طريقة أخرى لا تثير الفريقين. ورأى المأمون أولا أن يخضع إبراهيم بن المهدي، فجند جيشا كبيرا بقيادة الحسن بن سهل وأمره أن يذهب إلى بغداد ويأتي بإبراهيم حيا أو ميتا ...!
وكان إبراهيم قد جمع الجموع، وألف جيشين: أحدهما بقيادة عيسى بن أبي خالد أحد القواد السابقين للمأمون، والثاني بقيادة إبراهيم بن عائشة. وخرج الجيشان فقابلا جيش الحسن بالقرب من بغداد، ودارت رحى القتال، فانهزم الحسن، وفر بمن معه إلى «سمر.» فطارداه حتى خرج إلى خراسان. •••
كتب النصر في أول الأمر لإبراهيم بن المهدي على المأمون، وكان نصرا مبينا زاد من إقبال الناس عليه ومبايعتهم له. وجلس إبراهيم على أريكة الرشيد ودعي «إبراهيم المبارك.» وسكن قصر الخلد ببغداد وتبوأ عرش آل العباس، وكان العرش من الذهب الخالص المرصع بالجواهر النفيسة، ووراءه حارسان بيد كل منهما سيف مسلول، وقد نصب العرش في صدر القاعة فوق سدة قائمة على أعمدة صغيرة من الأبنوس المنزل فيه العاج، وسقفها من الديباج الأسود المزركش برسوم فنية جميلة من الذهب، وازدانت حاشيتها من الأمام والجانبين بأهلة مدلاة فيها ورد ونجوم من الياقوت الأحمر والأصفر على نظام بديع. وقد لبس إبراهيم حلة الخلافة التي كان يلبسها الرشيد، وهي مؤلفة من ملابس سوداء وطيلسان أسود وقلنسوة قصيرة حولها عمامة سوداء من الحرير الموشى، وبين ثنايا العمامة عقود صغيرة من الجواهر، وفي مقدمتها طرة من أسلاك الذهب على هيئة عرف الطاووس.
ودخل عليه أخوه المنصور بن المهدي وابن أخيه صالح بن الرشيد، وابناه: هبة الله
2
ناپیژندل شوی مخ