الدمقس، والمياه تجري تحته كالفضة الذائبة، أو سبائك الذهب السائلة، والطيور تغرد على الأفنان بأعذب الألحان. وقد خفت الرياح حتى كادت أن تكون أرواحا تهبط لتتصاعد وتتصاعد لتهبط في طراوة ورشاقة، وفي طيب كأنها تحمل أنفاس العاشقين.
وأخذت الأمير الفنان نشوة الطرب من هذا الجمال الباهر فاهتز النغم في أطواء نفسه، ونهض فنادى جواريه وغلمانه ليقيموا له مجلسا من مجالس أنسه. وأقبلت شارية،
5
وريق، وصدوف، ومعمعة، ومكنونة، ووراءهن الراقصات وحاملو آلات الموسيقى، وانتظموا في صحن القصر، وجلس إبراهيم على سدته، وغنت شارية ثم ريق بعض أغانيه وألحانه على عزف الآلات. وكانت مكنونة تقدم الكأس لسيدها آنا بعد آن حتى ثمل بلذة الألحان، ونشوة بنت الحان، فقام من مجلسه وتناول العود من صدوف، وجلس معهن يعزف ويغني. وكان أجمل أهل عصره صوتا، وأدقهم ذوقا، وأشدهم حبا للابتكار والتجديد، لا يميل إلى المحاكاة والتقليد، ويعيب على «إسحق
6
الموصلي» تعصبه للقديم، مع علو مكانته ونبوغه في صناعته.
وعلا صوت إبراهيم، وانسابت تغاريده في أجواز الفضاء، فهزت كل من سمعها وملكت عليه نفسه، فجلس الناس على شاطئ دجلة وفي البساتين القريبة يستمعون ويطربون، وسكرت الجواري والغلمان بعذوبة ما ابتكر هذا الفنان النابغ من أصوات وأوزان، وسقط الإبريق والكأس من يد مكنونة، وسالت الخمر وهي لا تدري لما نابها من نشوة الطرب والأنغام. •••
نهض إبراهيم بعد ما استوفى تغريدا وتطريبا. وفي المساء خرج إلى قصر أخته علية
7
بنت المهدي بالرصافة، وكان قصرا فخما جميلا بناه أبو جعفر المنصور لوالدها حينما كان وليا للعهد. وكانت كأخيها فنانة أديبة بارعة، بل هي أميرة في نسبها، أميرة في فنها وأدبها، مليحة الوجه واسعة الجبهة اتساعا كانت تتخذ لأجله العصائب المزدانة بالذهب والفضة والجواهر النفيسة، ويقلدها نساء بغداد في زينتها وزيها، ويأخذن عن ذوقها الجميل.
ناپیژندل شوی مخ