فقالت ميمونة: «يلوح لي أن بهزاد اختار السكن بجوار هذه الأنقاض استئناسا بآثار أجدادنا.» قالت ذلك وهي تسرع أمام جدتها وقد نبهها ذكر هذا الإيوان إلى شيء خطر لها، فلما توارتا عن المنزل قالت ميمونة: «أذكر أني سمعته يذكر أنه يتردد إلى إيوان كسرى للبحث عن بعض العقاقير الطبية والحشائش التي تنبت على أنقاضه، فلعله هناك الآن؟»
فقالت عبادة: «ربما كان هناك. اتبعيني لنبحث عنه قبل أن تغرب الشمس.»
في إيوان كسرى
صعدت عبادة وميمونة إلى الإيوان وهو في ظاهر المدائن من جهة الشرق، فخرجتا من البلدة وهما تحاذران أن يشعر أهلها بهما، وبالغتا في التقنع، فلما بلغتاه إذا هو قائم كالجبل العظيم وقد زاده الخراب وحشة. وكانت الشمس قد توارت وراء الأفق وتلاحمت الظلال وأخذت تتحول إلى ظلام.
وساعة الغروب من أوحش الساعات على الإنسان لقرب خروجه إلى الظلمة فيشق عليه فراق النور فتنقبض نفسه ويستوحش حتى إذا كان في قصره بين أهله وذويه، فكيف إذا كان في برية يغشاها الخراب وينعق فيها البوم؟ وقد كان هذا البناء رهيبا في إبان عمرانه فكيف به في خرابه؟ وللخراب وحشة في إبان النهار فكيف في الليل؟
على أن ميمونة شغلت عن الخوف بلهفة المشتاق، ولولا ذلك لكان لها في منظر ذلك القصر عبرة أي عبرة!
كانت خرائبه توحي بأن مصير الإنسان إلى الزوال، كما باد أهلوه وقد كان فيهم الأكاسرة والمرازبة والدهاقنة والأساورة ممن كان أحدهم لا تكاد الأرض تسع مطامعه؛ فكم ربطت خيولهم في باحة ذلك القصر! وكم دخلوه وعليهم الخز والديباج وعلى رءوسهم التيجان وفي أيديهم الصوالجة! وكم جاء الملوك والأمراء يلتمسون الهدنة أو يتقربون بالهدايا؟ وكم خضع لهم القواد وسيقوا إليهم بالأغلال والأصفاد يوم كان القصر آهلا بالنساء والأولاد وألوف من العبيد والجواري مما حمل إليهم أسرا أو هدية، وفيهم غلمان من أبناء الملوك وفتيات من بنات الأمراء ... وكلهم يرفلون في ألبسة الحرير، ويتوسدون الرياش الوثير بين مزركش ومطرز بألوان تبهج النظر وبين أنغام تطرب السمع.
وكم كان على شرفات الإيوان من الستائر الموشاة، يطل من ورائها الجواري الحسان يتطلعن إلى ما كان يقام في باحة القصر من الألعاب على الخيول كالسباق أو لعب الصوالجة. والناس كلهم فرحون يحسبون الحياة نعيما دائما!
فلو رآهم راء ثم جاء مع ميمونة في ذلك المساء ورأى الإيوان قد أصبح مقرا للحشرات، رياشه التراب وما نبت عليه من الحشائش والطحالب، ونمارقه الأشواك والأحجار، وقد تهدمت جدرانه وسقطت أساطينه وتصدعت أركانه، لاعتبر وتهيب وغلبت عليه الوحشة والرهبة ولو كان من الأبطال، فكيف إذا كان فتاة ربيت في مهاد الرخاء مثل ميمونة؟
فالتفتت إلى ما حولها فلم تر إلا خلاء قد تولاه الخراب، فاستوحشت وندمت على مجيئها، ولكن رغبتها في لقاء حبيبها شجعتها وثقتها بجدتها هونت الأمر عليها.
ناپیژندل شوی مخ