فصغر صاحب البريد في عيني نفسه واحتقر الخبر الذي جاء به فسكت، أما ابن ماهان فالتفت إلى الهرش وقال: «إذا صح ما جاءنا به الملفان فإن الأمر جد خطير، وإني أبشره برياسة المنجمين في دار الخلافة، فاكتموا الآن ما سمعتم لنرى ما يكون.» وتناول من تحت وسادته صرة من النقود دفعها إلى المنجم وقال: «هذا أجر طريقك وثمن البخور.»
فتباعد سلمان ويداه وراء ظهره مستنكرا، ويد ابن ماهان ممدودة بالصرة، فالتفت إلى الهرش مستغربا، فضحك هذا وتناول الصرة وأعادها إلى مكانها وقال: «إن منجمنا لا يتعاطى هذه الصناعة رغبة في أجر، وإنما يبذل علمه في سبيل صداقتنا.»
فازداد الجميع إعجابا به وقال صاحب الشرطة: «لا بأس، سينال أضعاف هذا بما أرجوه له من التقرب إلى الخليفة.»
وعند ذلك تحفز سلمان للوقوف وقال: «اعذرونا فقد أطلنا سهركم.»
فلم يتمالك ابن ماهان عن النهوض احتراما له، وقد ذهب كبرياؤه وأحس بافتقاره إلى علم الرجل، وذلك شأن الناس مع أهل المعرفة؛ فإنهم يبدءون باحترام الظواهر حتى تظهر المعرفة فتكون العاقبة لها، وقد تجالس رجلا لا تعجبك بزته فتحتقره، ثم يتكلم فإذا رأيت منه علما انقلب احتقارك احتراما، وربما دخل عليك فلا تأبه له فإذا عرفت فضله خرجت لوداعه وزودته بالثناء والإعجاب. كذلك فعل ابن ماهان بالملفان سعدون؛ فقد استقبله استقبالا فاترا ظنا منه أنه جاء يتزلف إليه، فلما رأى علمه وترفعه عن الإنعام احترمه ووقف لوداعه وشيعه إلى باب المجلس راجيا إليه أن يأتيه في الغد.
ولما ودع ابن ماهان الهرش بالغ في الثناء عليه؛ لأنه كان وسيط معرفته بالمنجم؛ فتذكر الهرش غلامه حامدا وكان لا يزال في انتظاره بالباب فقال: «إني لم أفعل ما يستحق الثناء وإن نعمتك متوالية علينا.» ثم نادى حامدا وقدمه إلى ابن ماهان وقال له: «هذا غلام أضن به، وأحب أن يكون في رجال الشاكرية في قصر الخليفة، فرجائي منك أن تدخله في جملتهم.»
فتقدم الغلام وأكب على يد ابن ماهان فقبلها ووقف متأدبا، فقال له: «ادخل الآن إلى دار الغلمان وفي الغد تكون في جملة الشاكرية.» والتفت إلى الهرش وقال: «كن مطمئنا؛ فسيكون على ما تحب.» فأثنى وخرج.
أما ابن الفضل فكان أكثرهم إعجابا وارتياحا، وتوسم في الرجل نفعا فرافقه حتى خرجا من الباب ولم يبق معهما غير الهرش فأسر إليه بأنه يود أن يكلفه أمرا لا شأن للخلافة فيه، وألح عليه أن يجيئه في فرصة أخرى.
فأشار مطيعا وخرج مع الهرش، ثم ودعه وركب بغلته وسار ولم يبق من الليل إلا القليل.
خلافة الأمين
ناپیژندل شوی مخ