فصاحت الفتاة وهي تلتفت وراءها التفات مذعور مطمئن قائلة: «أضحكني غلام الطبيب، تعالي انظريه.» وأشارت بأصبعها إلى الدهليز، فخرجت دنانير فرأت رجلا في لباس وقيافة لا عهد لسلمان بهما، ثم عرفت أنه هو بعينه، ولكنه قد اتخذ لنفسه عمامة كبيرة، ولحية طويلة قد دب فيها الشيب، وعليه جبة مثل جبة أحبار اليهود؛ فلم تتمالك عن الضحك وقالت له: «ويلك، ماذا أصابك؟»
فانزوى سلمان في بعض منعطفات الدهليز، حيث اختفى لحظة ثم ظهر وقد عاد إلى هيئته العادية، بقبائه وسراويله وطاقيته، وعادت لحيته صغيرة لا شيب فيها؛ فزادها تغيره استغرابا، وذهبت إلى القاعة لتروي للطبيب ما شاهدته وتبشره بقدوم غلامه، فرأته قد خرج ليراه لأنه سمع ما دار بشأنه. ولكنه لم يكد يدرك الباب حتى رأى زينب داخلة تجر ميمونة وراءها وتضحك ولا تعلم أن الطبيب هناك. فلما وقع نظرها عليه تهيبت واستحيت وأطرقت وأسرعت للاستتار وراء ميمونة.
فلما رأى الطبيب استحياءها تبسم واقترب منها وقال: «كيف حالك يا أم حبيبة؟» ومد يده ليتناول يدها فازدادت حياء وتراجعت حتى اختفت وراء ميمونة. أما هذه فلما وقع نظرها على الطبيب بغتت وصبغ الحياء وجهها لسبب غير السبب الذي أخجل زينب، وتلعثم لسانها واصطكت ركبتاها وتحيرت بين الإطراق خجلا وبين أن تحيي ولي نعمتها والمحسن إليها. أما هو فلما رأى دهشتها وارتباكها تجاهل وحياها وتحول إلى زينب يتلطف في تشجيعها لترد عليه السلام.
ولحظت أم جعفر ارتباك حفيدتها فحسبته من لقائها بهزاد على غير انتظار، فإنها لم تكن تعلم ما يضمر قلبها ولم يتفق أن لحظت منها شيئا يدل على أن شعور قلبها نحو بهزاد يجاوز الشعور بفضله عليهما؛ فنهضت واقتربت من ميمونة وقالت: «هذا مولانا وصاحب الفضل علينا، ما بالك لا تسلمين عليه يا لمياء.»
فلما سمعتها دنانير تسمي حفيدتها لمياء، أدركت أنها تريد إخفاء حقيقة حالهما على الطبيب. أما ميمونة فلما سمعت جدتها تدعوها إلى السلام على الطبيب تجلدت ومدت يدها، فتناولها وشعر بارتعاشها وبرودتها، ولم تخف عليه حالها، ولكنه ظل على تجاهله وابتسم لها كعادته ابتسام تلطف وإكرام وقال: «وأنت هنا يا لمياء أيضا؟» وعاد إلى مداعبة زينب.
فأطرقت ميمونة وقد توردت وجنتاها، ولو رفعت بصرها لرأى بريق عينيها وشعر بما ترميه من حاجبيها من السهام. ولكنه تغافل وحول نظره إلى دنانير، فرآها تراقب حركات الفتاة ولم يفتها ما كان يتجلى في وجهها من دلائل الحياء، وأدركت بفراستها وتمرسها بالحياة أن هناك شيئا وراء ذلك، واستغربت ما أبداه الطبيب من الفتور كأنه خالي الذهن مما يجول في خاطرها؛ فتحيرت وتمنت لو تمكنها الفرصة من تحقيق ظنها، فما لبثت أن سمعت الطبيب يقول: «أين سلمان؟ سمعتكم تتحدثون عنه.»
فأشارت دنانير إلى الدهليز وقالت: «إنه هنا. هل أدعوه إليك؟»
قال: «بل أنا ذاهب إليه.» وصاح: «سلمان!» وخرج من القاعة وترك أهلها على ما ذكرناه من الاضطراب والارتباك. فأجابه الغلام: «لبيك يا مولاي، أنت هنا؟»
فقال وهو يحتذي نعاله ويهم بالمسير نحوه: «قد استبطأتك وقلقت لغيابك.» ومشى نحوه وقال لدنانير: «سأعود إليكم بعد قليل.» فعلمت أنه ذاهب إلى المنزل الذي اعتاد الإقامة فيه أو المبيت فيه إذا جاء القصر المأموني، وهو من جملة أبنية القصر الكبير. فظل ماشيا وسلمان يتقدم نحوه حتى التقيا وخرجا من الدهليز إلى البستان ومنه إلى ذلك المنزل. •••
كان الطبيب يمشي مطرقا وسلمان يسير في أثره مهرولا، ولكنه رغم هرولته وطوله لا يستطيع اللحاق به وهو يمشي الهوينى لسعة خطواته. فلما وصلا إلى المنزل تقدم سلمان وفتحه، ثم خلعا حذاءيهما ودخلا، وهم سلمان بسراج على مسرجة فأشعله وأغلق الباب وراءه، ووقف حتى جلس الطبيب على وسادة في صدر الغرفة فوق البساط وأمره بالجلوس بين يديه فجلس منتظرا أمره، فلما استتب بهما الجلوس قال الطبيب: «ما وراءك يا ملفان سعدون؟»
ناپیژندل شوی مخ