فقالت: «وأين يقيم إذن؟»
قالت: «بلغني أنه يقيم بالمدائن كأنه استأنس بجوار إيوان كسرى أعظم ملوك الفرس وأعدلهم. وطبيبنا فارسي ...»
قالت: «عرفت أنه فارسي من كلامه؛ فإنه لا يحسن النطق بالعربية حتى الآن، ولو أقام هنا لاعتاد النطق بمخالطة البغداديين.»
قالت: «والمدائن قريبة منا؛ فهي على بضع ساعات من هنا جنوبا.»
قالت: «وقد كان ينبغي له أن يسكن هنا بعد ذهاب أبي وانتقالنا إلى هذا القصر البعيد عن المدينة لنتقوى به؛ لأنه من الجبابرة كما يظهر من كبر هامته. ومع كثرة ترداده علينا لا أزال إلى اليوم أتهيبه لما يقبض على يدي ليجس نبضي.»
قالت: «صدقت، إنه طويل القامة ولباسه المستطيل يزيده طولا، على أنه لطيف اللسان حسن الأسلوب قريب من القلب. ولكنه يغيب عنا أحيانا بضعة أيام متوالية، ربما احتجنا إليه في أثنائها فلا نجده، والأطباء كثيرون ولكنني شديدة الثقة بعلمه.»
فقطعت زينب كلامها ووضعت يدها على كتفيها تدل بمحبتها وقالت: «قولي له أن يسكن في أحد القصور هنا.»
قالت: «سأطلب منه ذلك وعسى أن يجيب طلبي. إني أرى سفينة صاعدة من الجنوب لعله قادم فيها.»
وكانت زينب في أثناء الحديث تنظر إلى مجرى دجلة وعيناها تتأملان ما على الشاطئ الآخر من النخيل القائم كالأصنام الهائلة، يتراءى من خلالها في عرض الأفق بر فسيح تغشاه الأشجار والأعشاب، تتخللها أبنية متفرقة كأنها أحجار كريمة نثرت على ديباجة خضراء، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل فوقعت ظلال النخيل على الماء واستطالت وتراءت في قاع النهر معكوسة كأنها نبتت جذورها عند الشاطئ وسعفها غائصة في الماء، وجذوعها بين ذلك تتموج بتموج سطح الماء وتظهر متعرجة كأنها مؤلفة من قطع مرصوصة بعضها فوق بعض على غير انتظام، فيتوهم من يرى تموجها أن الحياة قد دبت فيها فتلوت كالأفاعي تحاول الإفلات ممن قبض على أذنابها، أو أنها على وشك أن تتملص جذورها من الشاطئ لتنساب في الماء.
كانت زينب لاهية بهذا المنظر أثناء الحديث، فلما لفتت دنانير انتباهها إلى السفينة التفتت وقالت: «وهل يأتينا الطبيب في الماء أم في البر؟ إني أعهده يجيئنا على فرس.»
ناپیژندل شوی مخ