فأخذ الهرش السبيكة وأدناها من لهيب السراج وتفرس فيها فإذا هي ذهب لا ريب فيه، على أنه خاف أن يكون في الأمر خداع وهو قد اعتاد بحكم منصبه أن يسيء الظن بالناس وأن يرى الغش حيث تطلع وأين مشى؛ فجعل يزن السبيكة بيده ليمتحن وزنها، فلما رأى سعدون شكه قال بهدوء ورزانة وفي صوته لهجة العتاب: «لا تشك يا سيدي، وتستطيع أن تبيعها في سوق الصياغ غدا فتعلم صدق قولي. ولا ألومك على الشك؛ لأن الناس لم يتعودوا الصدق ولا علموا نجاح الكيمياء إلا قليلا، ويغلب فيمن يصح طبخه أن يستأثر بالذهب لنفسه.»
فخجل الهرش من هذا التوبيخ اللطيف وازداد احتراما للملفان سعدون وثقة به؛ فبادر يعتذر وقال: «حاشا لي أن أرتاب في صدقك، ولست حديث العهد بمعرفتك؛ فكم كشفت لي من المخبآت، وأعلمتني من الأسرار حتى صرت أعدك أخي، بل أعز من أخي!»
فقال: «أتكون مسلما ويكون أخوك صابئا؟ هل ترضى ذلك لنفسك؟» وضحك وهو يلف درجا كان يقلبه في أثناء الحديث وجعله في الجراب الذي أخرج السبيكة منه.
أما الهرش فأدرك أنه يمازحه فقال: «إذا كان الصابئة كلهم مثل الملفان سعدون فإنهم إخوتي جميعا، وأكرم بها من طائفة عندها علم النجوم و...» وسكت مصغيا كأنه يسمع صوتا ثم قال: «كأنني أسمع قرقعة لجم البريد.»
وكان الصابئ قد ربط الجراب وتأبطه وتحفز للنهوض فقال: «هذا بريد خراسان يحمل خبرا مهما. ألا تراني أتهيأ للنهوض من قبل؟»
فازداد الهرش إعجابا بمقدرة سعدون في فنه حتى علم أن البريد قادم من خراسان بخبر مهم؛ فنهض يصلح قلنسوته وينقل سيفه وقال: «صدق من قال إن لقرقعة لجم البريد رهبة. دعني أذهب لملاقاة صاحب البريد لعلي أستطلع منه خبرا، إني أسمع الصوت يقترب منا.»
ومشى مسرعا وسعدون يتبعه على مهل، وقبل أن يصل الهرش إلى باب الخان رأى بغل البريد وقف بالباب، وراكبه بجانبه ملثما وقد شد وسطه بهميان عريض، والبغل يلهث من التعب وقد تصبب العرق عن صدره وأرغى بعضه تحت اللجام، ثم سمعه يقول للخمار: «اسقني يا سمعان.» فأسرع الرجل إلى كوب ملأها ماء ودفعها إليه.
وكان الهرش قد وصل إلى الباب، فلما وقعت عينا حامل البريد عليه ترجل قبل أن يشرب وهم بتقبيل يده، فأومأ إليه أن يشرب ففعل ودفع الكوب إلى الخمار، ثم اقترب من الهرش فأسر إليه كلمة وجعلا يتهامسان، وسعدون واقف على عتبة الحانة مما يلي البستان لا يسمع شيئا، ولكنه لحظ مما بدا على الهرش عند إصغائه للرجل أن الخبر الذي يحمله من خراسان عظيم الأهمية. ولم يطل تهامسهما فاعتذر صاحب البريد وركب البغل وأطلق له العنان؛ فتحقق سعدون عند ذاك أن صاحب البريد يحمل خبرا ذا بال منعه من إطالة الحديث مع مقدم العيارين؛ فدخل سعدون الحانة فرأى الهرش مقبلا عليه والدهشة ظاهرة في وجهه يمازجها ارتياح، وآنس ابتسامة حول فمه تنفي انقباض أسرته، فأدرك بفراسته أن الخبر ذو صلة بالرشيد؛ لأنه في خراسان، وقد ذهب إليها مريضا. وشاع أن المرض اشتد عليه ولا يرجى شفاؤه. فلما سمع قرقعة لجم البريد ترجح عنده خبر موت الرشيد، فلما رأى الهرش مقبلا عليه تبسم وهز رأسه وقال: «لكل أجل كتاب!»
فبغت الهرش لقوله وعده نبوءة وأمسك بيده وانتحى به مكانا منفردا وهمس يقول: «هل عرفت بموته؟ وكيف ذلك؟»
قال: «رحم الله الرشيد، إنه مات غريبا وقد كنت أتوقع موته يوم خرج في هذه الحملة. عرفت ذلك من طالعه، وأراك سررت بموته، ويحق لك السرور كما يحق لسائر الأمراء والأجناد؛ لأنكم ستأخذون رواتب جديدة خصوصا أنت؛ فإنك أوفر حظا من سائر الأمراء؛ لأن الأمين إذا تولى الخلافة زاد في تقريبك.» وتنحنح وتظاهر بأن السعال شغله عن إتمام كلامه.
ناپیژندل شوی مخ