وكان العيار والجندي واقفين ينظران إلى الرجل ، فتذكر العيار أنه رآه من قبل، ولما سمعه يذكر مقدم العيارين أجفل وتذكر أنه شاهده معه غير مرة؛ فرأى من الحكمة أن يخرج من ذلك المكان قبل مجيء مقدمه، فتحول وخرج. وأما الجندي فأحب البقاء ليطلع على ما عساه أن يكون من أمر هذا الاجتماع الذي يندر في مثل هذا المكان خارج المدينة؛ فجلس على وسادة فوق الحصير بقرب الحائط وجعل سيفه في حجره والحائط بينه وبين البستان.
أما الخمار فسره قدوم الملفان سعدون وما يتوقعه من قدوم الهرش مقدم العيارين؛ فقد يتعشيان أو يشربان فينال منهما ما يعوض به خسارته ذلك المساء؛ فمشى بين يدي الرجل، وكان هذا لطول قامته يخاف أن تعلق عمامته ببعض الأغصان فمشى مطأطئ الرأس حتى وصل إلى مصطبة مطلة على نهر جعفر تظللها شجرة كبيرة، وفوق المصطبة حصير عليه وسادتان، فأجلسه الخمار هناك، ثم تركه ريثما عاد بالسراج الذي كان في الحانة فوضعه على أرومة شجرة بجانب المصطبة، وسأله هل يحتاج إلى شيء من طعام أو شراب، فقال: «لا.» ثم اتكأ على إحدى الوسادتين ووضع العصا بجانبه وأخرج من كمه جرابا صغيرا وضعه بين يديه، وتشاغل بتمشيط لحيته بأنامله، منصتا إلى صوت ساقية تدور في بستان قريب. فتركه الخمار إلى الحانة فأتى بسراج آخر أضاءه، والتفت إلى الجندي فوجده وحده هناك، فسأله عن رفيقه فقال: «فر خوفا من قدوم «الهرش» أميره.» ثم سعل وقال: «عسى هذا الصابئ أن يعوضك ما خسرته علينا!» فقال: «إن شاء الله!»
وساد الصمت لحظة، ثم عاد الجندي إلى الكلام فقال: «لأمر ما تواعد هذا الصابئ على اللقاء هنا مع الهرش مقدم العيارين؟»
فقال سمعان: «هؤلاء الصابئة أهل سحر ونجامة لا تخفى عليهم خافية، ولعل الهرش يستعين به على كشف المخبآت.»
فهز الجندي رأسه موافقا، وأوجس خيفة من أن يطلع سعدون بسحره على دخيلة أمره؛ فسكت واشتغل الخمار عنه بالتقاط ما وقع على أرض الحانة من آثار الأكل والشرب استعدادا لمجيء الهرش.
ثم سمعا جواد الصابئ يصهل صهيلا قويا، وكان مربوطا بجانب الطريق يحرسه غلام، فأجابه صهيل مثله عن بعد، فاستبشر الخمار بأن أناسا من أهل الوجاهة قادمون إليه، ثم اقتربت الأصوات واشتد وقع الحوافر وظهر على الباب فارس وبين يديه غلام بلباس العيارين ما لبث أن صاح مناديا: «يا معلم سمعان.»
فخف الخمار إلى استقباله مرحبا، وأخذ يتأمل في لباسه الفاخر وقلنسوته القصيرة كسراويله، وإلى سيفه المدلى على ساقيه اللتين يحيط بهما لفائف من الجلد حتى الكعب فوق النعال، ثم سأله الغلام: «هل جاءك الملفان سعدون؟»
فقال: «نعم، هو في البستان.» وأيقن أن الفارس هو الهرش مقدم العيارين، فتقدم وأمسك بلجام الجواد والركاب حتى ترجل الهرش. وكان هذا قصير القامة ممتلئ الجسم قويه لا يزال سريع الحركة رغم كهولته، إذا مشى تبختر تيها وخيلاء، غليظ الشفتين خفيف اللحية والشاربين أشيبهما، وعلى جبهته ندبة غائرة من أثر جرح أصابه في قتال كاد يقضي عليه في صباه، وهو يفاخر أقرانه بهذا الأثر. وكان كبير العينين لا يبرح الاحمرار ظاهرا فيهما كأنه صحا من رقاد عميق. فإذا علمت أن الرجل أمير العيارين سهل عليك الحكم على أخلاقه. والعيارون يرتزقون بالسرقة والاعتداء ونحوهما، ولا رقيب عليهم ولا حسيب، وكثيرا ما كانت الحكومة تستعين بهم، فإذا أخلصوا لها نفعوها؛ لأنهم أقدر الناس على كشف أخبار الدعارة وتتبع اللصوص. وكانت الحكومة يومئذ تستعين حتى باللصوص أنفسهم، وعندها طائفة منهم تابوا عن اللصوصية فسمتهم التوابين وأجرت عليهم الأرزاق لتستخدمهم في كشف السرقات على أنهم ندر أن أخلصوا لها الخدمة ولم يكونوا مع اللصوص عليها. وإنما تكثر أمثال هذه المفاسد في عهود الحكومات الاستبدادية إذا ضعف صاحبها وطمع رجاله في الأموال وفسدت النيات وأصبح الناس عيونا بعضهم على بعض.
دخل الهرش مقدم العيارين بستان سمعان، في حين وقف غلامه بالجواد في منعطف الطريق، وأسرع الخمار في أثر الهرش حتى أوصله إلى المصطبة، فوقف له الملفان ورحب به، فجلس إلى جانبه وأشار إلى الخمار ألا حاجة بهما إلى شيء؛ ففهم أنهما يريدان الخلوة، فرجع إلى الجندي وأشار عليه بأن ينصرف لئلا يكون وجوده باعثا على شك، فانصرف أسفا.
أما الهرش فنظر إلى رفيقه وتبسم قائلا: «أظنني أبطأت عليك.»
ناپیژندل شوی مخ