عادت دنانير إلى قصر المأمون فرأت عبادة أم جعفر في انتظارها على المسناة، وكانت قد شاهدت ما أصاب حفيدتها من القسوة والإهانة حين أخذها إلى الأمين، وحدثتها نفسها بأن تصحبها إلى هناك لكنها خافت أن يكون ذهابها سببا لزيادة النقمة عليها؛ فامتثلت لمشورة دنانير عليها بالبقاء في القصر واعدة بإرجاع ميمونة معها، فقضت بقية ذلك اليوم وطول ليله ساهرة وقد أخذ القلق منها مأخذا عظيما وأصبحت في اليوم التالي فجلست على المسناة ترقب السفن النازلة حتى رأت حراقة عرفت من شكلها أنها من سفن الأمين. فلما وصلت ولم تر ميمونة فيها صاحت: «أين ميمونة؟»
فأخذت دنانير بيدها وقصت عليها الخبر، ومنتها بقرب رجوعها، فقالت: «لا، لن ترجع. إن الأمين إذا عرفها لا بد أن يوقع الأذى بها. ويلي! لماذا لم أذهب معها فيصيبني ما يصيبها؟ لقد أضعت تعبي في خدمتها!»
وجعلت تندب سوء حظها وتبكي بكاء الثكلى، فأخذت دنانير تهون عليها حتى سكن روعها، ففكرت فيما تستطيعه في سبيل إنقاذ حفيدتها، ووقعت يدها على حق الزمرد الذي تحمله، فخطر لها أن تستخدمه في هذا السبيل. وكان الناس يتحدثون منذ أيام بمجيء زبيدة أم جعفر والدة الأمين من الرقة ومعها خزائن الرشيد، فقالت في نفسها: «لعلي إذا سرت إليها واستعطفتها باسم زوجها أن أثير عاطفتها بما في هذا الحق من آثار الرشيد فتتوسط عند ابنها لإطلاق سراح حفيدتي.» ولما خطر لها ذلك شعرت براحة وطمأنينة، واستشارت دنانير في الأمر فاستحسنت رأيها وقالت: «لم يبق لنا باب نطرقه غير هذا، ولعل هذه المرأة إذا رأت آثار زوجها وسمعت ما أصابك من البلاء تنسى حقدها. سيري على بركة الله.»
فخرجت عبادة في ظهر ذلك اليوم تقصد إلى دار القرار قصر زبيدة، وكان الأمر صعبا عليها ولكنها استسهلت كل صعب في سبيل إنقاذ ميمونة.
وركبت من قصر المأمون حراقة أوصلتها إلى قرب دار القرار، فهبطت هناك ومشت بثوبها الأسود تتوكأ على عكازها وقد بدا الانكسار في محياها، والانكسار يبدو في الشيوخ مضاعفا.
وبلغت باب القصر عند الأصيل، فرأت عنده جماعة من الشاكرية وقوفا بأسلحتهم، فوقفت وحيتهم فلم ينتبه إليها أحد، فاقتربت من أحدهم وقالت: «لعل مولاتنا أم جعفر في القصر؟»
فأجابها بقوله: «ماذا تريدين منها؟»
قالت: «أريد أن أراها وأتبرك بلثم ثوبها.»
قال: «إنها لا تأذن لأحد الآن، وإذا كنت تلتمسين إحسانا فليس اليوم موعده.»
قالت: «كلا يا ولدي، لا أريد شيئا من ذلك ولكن لدي حديثا أريد أن أقصه عليها.»
ناپیژندل شوی مخ