فهذا الأمين، مع تهتكه وسكره وعلمه بانتهاكه حرمة الشرع والعرف وصمه الأذن عن النصح، لم يسعه إلا أن خجل أن يقابل في مجلس لهوه فتاة صغيرة؛ وما ذلك إلا حرصا على كرامته، ولعلمه بطهارة قلبها وصفاء سريرتها.
فلما أنبئ باستئذانها عليه تردد في الإذن وأكبر أن يظهر خجله من مجلسه هذا فينهض لمقابلتها في غرفة أخرى وهو الخليفة صاحب السلطان الأكبر مالك رقاب العباد، ولم يستطع ردها إذ لا عذر له في ذلك؛ فغلب عليه اعتزازه بالإثم فقال: «تدخل ابنة أخينا.»
وكان القدح بيده فوضعه على المائدة، واصطنع الوقار على قدر ما يستطيع، فلما رأى جلاسه ذلك جنحوا إلى التهيب وتولاهم السكوت، وألقوا أدوات الشراب من أيديهم. وأشار الأمين إلى الغلمان والجواري فتباعدوا، واستولت الحشمة على الجلسة، وسكت القوم كأن على رءوسهم الطير.
فدخلت زينب وعليها مطرف من خز قد التفت به، وخمار مزركش يكسو رأسها إلا بعض وجهها. وقد أشرق ذلك الوجه حياة وتجلت فيه الطهارة وسلامة القلب. وفي طهارة الأطفال رونق للناظر وهيبة للمتأمل وعظة للعاقل، ويستدل علماء الأخلاق من ذلك على ما فطر عليه الإنسان من الميل إلى الخير، وأنه إنما يساق إلى الشر بما يعرض له من أسباب المطامع أو يمارسه من اختلاف المشارب، وإذا أتى شرا فإنما يأتيه للدفاع عن نفسه أو ماله، وقد يظهر أنه مهاجم متعد ولو فحصت ضميره واستطلعت خبايا قلبه لرأيت أساس ذلك التهجم هو الدفاع عن نفسه.
فالأطفال مثال للفطرة الساذجة، لا يعرفون الكذب أو التملق أو الخداع. يقولون ما يعتقدون لا يخافون ولا يحاذرون، ولا سيما إذا ربوا كما ربيت زينب على أيدي دنانير؛ حيث تثقفت واستنار عقلها على قدر ما تسمح به سنها، واعتادت ألا ترد كلمتها. فلما رأت الجند يخالفونها ويلحون في أخذ ميمونة شق عليها الأمر وأكبرته، ولما زجرت إرادتها بكت وجاءت معهم كما تقدم، فدخلت لساعتها على عمها وقد أبرقت عيناها وفيهما أثر البكاء.
فلما رآها الأمين رحب بها ونهض لاستقبالها، فلم يبق أحد من الحضور إلا وقف تهيبا. ولم يروا بدا من إخلاء المجلس للخليفة وابنة أخيه، فخرجوا وغادروا المائدة وأباريقها وأقداحها وزهورها ورياحينها، وقد تبعثرت الفاكهة وأقداح الشراب ومنثور الأزهار وأضاءت منائر الشمع في جوانب الإيوان، وود الأمين لو تنطفئ لتخفي تهتكه.
فلما دنت زينب من عمها ترامت على ذراعيه وغلب عليها البكاء، فضمها إلى صدره وقبلها وقال: «لا بأس عليك يا ابنة أخي، ماذا أصابك؟»
أما هي فلما شمت رائحة الخمر في فيه نظرت إلى ما حولها مستغربة، فأراد أن يلهيها عن الاستفهام فقال: «ما بالك يا أم حبيبة ماذا تريدين؟ لماذا لم تدخلي دار النساء؟»
فقالت: «قد كنت هناك وأحببت أن أراك ولم أكن أعلم أنك على مائدة الطعام.»
فسره أنها تحسبه على مائدة الطعام فقال: «هل من حاجة نقضيها لك؟»
ناپیژندل شوی مخ