قال: «كلا يا مولاي؛ لأنها تعلقت بالفتاة ولم تبال أقوالنا وتهديدنا، حتى لقد حدثتنا أنفسنا أن نتركهما معا، وقد جاءت معهما أيضا القهرمانة دنانير؛ إذ عرضت نفسها للقتل وذكرت أنها تؤثر الموت على تسليم الفتاة، فأتينا بالثلاث معا.»
فقال: «وأين هن الآن؟»
قال: «هنا في دار النساء، وأم حبيبة تطلب أن ترى عمها الخليفة.»
فاكفهر وجه الفضل عند ذلك لبلوغ المسألة إلى هذا الحد، ولكنه كان واثقا بسلطانه على الأمين، ولا سيما إذا أطلعه على سر الفتاة وأنها بنت جعفر البرمكي، وأنه إنما أراد القبض عليها ليقدمها له فيرى رأيه فيها. فنهض وهم بالخروج، ثم التفت إلى ابن ماهان وقال: «صدق من قال: «إن في العجلة ندامة.» فلو أطعنا الملفان ما وصلنا إلى هذه المشكلة، ولكن لا بأس.» ثم التفت إلى سلمان وأشار مودعا وكان هذا قد وقف وحيا شاكرا، وقد اطمأن على ميمونة لمجيء أم حبيبة معها وطلبها مقابلة الأمين؛ فلا شك في أنه يحتفظ بالفتاة إكراما لبنت أخيه فتنجو من ابن الفضل.
ثم خرج من المجلس وقد غابت الشمس وأضيئت الشموع الكبيرة المشهورة بشموع الأمين.
وكان الأمين ساعتئذ في مجلس غناء أمر بإعداده، وحشد له المغنين والندماء. فأعد في إيوان كبير بين قاعات القصر، في وسطه بركة يتدفق فيها الماء من أنابيب على هيئة رءوس الثعابين ، وحولها أغراس الرياحين ومقاعد الجلساء والمغنين. وكان الوصفاء من الخصيان يقومون بخدمته هناك وفيهم السقاة عليهم الألبسة الثمينة الباهرة وهم في زي الجواري، وقد أرسلوا شعورهم جدائل مفردة ومزدوجة، وفي أيدي بعضهم الدفوف أو المزاهر أو العيدان يدقون ويغنون، وإلى جوانبهم الجواري الحسان في زي الغلمان وهن هدية إلى الأمين من أمه زبيدة.
وكان الأمين يغالي في اقتناء الجواري من أقاصي البلاد وينفق في استجلابهن الأموال. وقد ارتدى في ذلك المجلس لباس المنادمة، وهو غلالة صفراء مصقولة صقلا شديدا، وعلى رأسه عمامة خفيفة، وجلس على سرير من الآبنوس المنزل بالعاج، وبين يديه مائدة عليها أنواع الأطعمة والأشربة والرياحين، وقد فاحت رائحة المسك وغيره من الأطياب حتى ملأت الفضاء.
وبينما هو في مجلسه هذا جاءه الحاجب وقال: «مولاتي زينب أم حبيبة بالباب.» فبغت الأمين وظن مخبره واهما فاستفهمه قائلا: «ابنة أخي؟»
قال: «نعم يا مولاي.»
فتحير في أمره ولم يدر بماذا يجيب؛ إذ أكبر أن تقابله ابنة أخيه وهو في مجلس الشراب على تلك الصورة. ولم يكن سلطانه وقوة بطشه ليمنعا خجله من فتاة صغيرة يسترضيها الناس بتفاحة أو لعبة؛ لأن سلطان الأدب والحشمة أغلب في النفس من سلطان السياسة والشدة؛ ولذلك كان الأدب قوة، ولأدب النفس هيبة يجلها العقلاء وغير العقلاء، وصاحب الرذيلة مهما يعظم سلطانه وإن استغرق في المنكرات لا يزال في ضميره بقية من احترام الفضيلة وأهلها. ألا ترى أرباب المعاصي وإن تساهلوا في ارتكابها يستنكفون من أن ينتسبوا إليها أو يقال إنهم من أهلها؛ فهم أذلاء وإن عزوا، ويغلب عليهم الجبن في مواقف الإنسانية وإن كانوا أبطالا في مواقف القتال. إن مرتكب المعصية محكوم عليه بالمذلة والضعة من عند نفسه لاعتقاده أنه يخالف السنن الأدبية فضلا عن الدينية، وقد يكون سيدا مطلقا لا سلطان عليه ولا يخشى حكما ولا قصاصا، وربما كان معطلا لا يخاف عقابا ولا يرجو ثوابا، ولكنه يخاف شيئا لا صورة له في الوجود، ويخاف ما قيل عنه وما يقال له. وقد لا يضره ذلك ولا ينفعه، ولكنه فطر على التماس حسن الأحدوثة أو «الشهرة». ولولا هذا لكان الناس كالبهائم يأكلون وينامون.
ناپیژندل شوی مخ