امین خولي
أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد
ژانرونه
وفي الإجابة على هذا لم أكن أملك إلا وقد اللهيب وحمم البركان بين ضلوعي، ما دمت أؤمن دائما بأن القومية العربية أشد حقيقية من الهواء الذي نتنفسه معا، ومن التاريخ الذي عشناه معا والكتاب الذي نقرؤه معا، وقيم الحياء الجميل، ولهفة الأمومة، ومنزلة الأخ الأكبر، والانتماء للأسرة، التي نحياها معا، والفيلم المصري الذي نشاهده معا، والأغنية التي نستمع إليها معا والشعر العربي الذي نردده معا ...
وكأن الله شاء أن يزداد الجرح القومي في النفس إيلاما، فأحصل في عام الطوفان وكوارث المعمعان عام 1991 على جائزتين من الطرفين المتناحرين، جائزة العلماء العرب الشبان من مؤسسة عبد الحميد شومان الفلسطيني في الأردن، وجائزة الإبداع الفكري بين الشباب العربي من الكويت. يتقاتل الطرفان، ويجتمعان على تقدير خاص لكتابي «مشكلة العلوم الإنسانية»، تأكيدا على أن البحث العلمي العربي كالإبداع الفكري العربي لن تقف في وجهه الحدود المصطنعة، ولو كانت بضراوة الأسلاك الشائكة وحقول الألغام. ويلتقي تقدير الطرفين المتقابلين وفي صلب الزمن العصيب، تجسيدا لثابت باق يعلو على كل الكوارث ومؤامرات الفرقة، ومصداقا لقول أستاذ الأجيال الدكتور زكي نجيب محمود: «العروبة ثقافة لا سياسة»، وهذه الأولى - الثقافة عند الله وعند الناس خير وأبقى.
تبدو المتغيرات والوقائع آنذاك وكأنها تريد أن تعصف بهذا الثابت الباقي، وتؤكد أن سؤال القومية والهوية وخيار التقدم الحضاري ليس محسوما كما كنت أتصور، ومن ثم بدا لي الموقف الفكري القاصر على ميراث التقدم الغربي، والمنبت الصلة بتعينات واقعنا ومشاكله التي تستلزم المعالجة ... ذاك الموقف ليس مجرد بصر حسير، بل هو جريمة في حق الوطن، وكانت أزمة نفسية وعقلية طاحنة.
مثلت الأصول المنهجية التي استقيتها من صحبتي لأمين الخولي طوق نجاة ومرشدا لتدارك ما فاتني. ورحت أستقبل بفعالية بالغة مؤثرات نفر من أساتذتي العظام ذوي الطرح الأبعد لإشكاليات التجديد في الفكر العربي الحديث، وقرناء لهم في أنحاء شتى من الوطن العربي، وأيضا مؤثرات نفر من تلامذتي النابهين من شباب الباحثين الجادين في أطروحات الفكر العربي الحديث ومناقشاتهم المستفيضة. هكذا تجمعت عوامل عديدة فشهدت التسعينيات منحنى حادا في طريقة تفكيري وأبعاد معالجاتي وطرحي لما أخرجته من أعمال.
وتظل فلسفة العلم دائما هي البوصلة الموجهة لعقليتي ومسار أبحاثي. ومن حسن الطالع أن تواكب مع هذا تطور ملحوظ في فلسفة العلم إبان العقود الأخيرة من القرن العشرين، يتلخص في أنها انتقلت من وضع مبتسر - استمر طويلا - يولي ظهره لتاريخ العلم ولدوره في تمكيننا من فهم ظاهرة العلم فهما أعمق، فضلا عن دفع معدلات التقدم العلمي، ويكتفي بالنسق العلمي المنجز الراهن، ويفلسفه بما هو كذلك على أساس النظرة إليه من الداخل، أو النظرة إلى النسق العلمي في حد ذاته. انتقلت فلسفة العلم من هذا إلى وضع مستجد يرتكز على الوعي بتاريخ العلم، فيفلسف العلم في ضوء تطوره التاريخي، وعبر تفاعله مع البنيات الحضارية والاجتماعية، مما يعني تطورا ذا اعتبار في منطلقات وحيثيات وعوامل النظرة الفلسفية إلى العلم. وهذا التطور في الواقع هو تكامل النظرة إلى العلم من الداخل مع النظرة إليه من الخارج؛ أي باختصار نظرة فلسفية أشمل لظاهرة العلم، ترتكز - كما أشرت - على الوعي بتاريخه. وباستيعاب هذا البعد الجديد سرعان ما علمتني فلسفة العلم أن تاريخ العلم - وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات - هو التاريخ الحقيقي للإنسان وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد.
من هنا سهل علي اتخاذ الخطوة الأولى للخروج من ذلك الموقف الحسير، بل بدت واجبا أكاديميا، وهي أن أمد نطاق معالجاتي المصمتة لظاهرة العلم الحديث الأوروبية إلى المرحلة الأسبق منها، والمفضية منطقيا وتاريخيا إليها؛ أي مرحلة تاريخ الرياضيات والعلوم عند العرب. فانكببت بعزم أكيد على نصوص من تراثنا متصلة بالحركة العلمية التي كانت قمة الازدهار والعطاء في عصرها الوسيط، واكتشفت - لأول مرة - في الحضارة الإسلامية عقلا مبدعا باذخ العطاء، وعالما هائجا مائجا يفيض زخما وثراء. ورحت أطرح السؤال: كيف وصل إلى طريق مسدود؟ وكيف يمكن مواصلة ما انقطع؟ فتعود معاملات أصالتنا قوة دافعة للتقدم والازدهار والسؤدد، وإزالة ما يعتريها من وهن أو تصلد. في هذا الإطار خرجت أعمالي في التسعينيات وقد أصبحت إيجابيات الحضارة الغربية أدوات لدفع تقدمنا الحضاري وليس مجرد تراتيل نرددها. والهم ينطلق من إشكاليات يطرحها واقعنا نحن الحضاري. وضمن هذا السياق خرجت الفصول التي تمثل كتابا عن الآفاق الفلسفية لفكر أمين الخولي التجديدي. •••
كانت السطور السابقة التي أفاضت واستفاضت - رغما عني - ضرورية لكي توضح أن قراءتي لأعمال أمين الخولي - التي كانت هي الأخرى رغما عني - لم تأت مجرد اطلاع وتلق لأفكار وأطروحات، وهل يستطاع التلقي السلبي لأفكار أمين الخولي؟ واتضح كيف كانت بدايات ثورة في تفكيري، ثورة منهجية تعني استملاك أدوات جديدة للبحث والنظر، فيخرج إنجاز مختلف يحمل أبعادا لم تكن مطروحة فيما سبق.
من هنا لم يقتصر هذا الكتاب على مجرد عرض لبعض الأبعاد والآفاق الفلسفية للتجديد التي حاولت تعيينها واستكشافها في فكر أمين الخولي، ويحملها الباب الأول من هذا الكتاب - بفصليه - تحت عنوان «منهاج»، بل كان لا بد من إردافه بالباب الثاني الذي يحمل آفاق محاولاتي لتطبيق بعض من فرائد هذا المنهاج، لتفعيلها وتطويرها، طبعا بمصاحبة أدوات منهجية ومعرفية أخرى، لم تكن مطروحة في زمان الخولي، في النصف الأول من القرن العشرين. ألم يطرح أمين الخولي معادلته الشهيرة: التلميذ = الأستاذ + الزمن؟!
في المحاولات التطبيقية المنصبة على الهم الراهن، بدا لي أن جنوحات وترديات الفكر السلفي المتطرف الذي بلغ حد الإرهاب راجعة إلى أنه يفتقد على وجه التحديد أسسا منهجية حرص أمين الخولي - بوصفه شيخا أصوليا - على إرسائها وترسيخها. وبتطوير وتعميم هذا كانت أول محاولات التطبيق المطروحة في الباب الثاني، الفصل الثالث، وهي مواجهة عامة أو حوار مع الفكر المتطرف.
ثم أعقبته بفصل تال، هو تطبيق لتأكيد أمين الخولي على أن الإسلام دين العقل والتفكير يدفع للنظر العلمي في الكون و«قادر على تحرير العقل والعلم أكمل حرية يمكن أن تتحقق» فيستوعب على الرحب والسعة ظاهرة العلم. لكن الإسلام «هدي وإرشاد» و«ليس البتة درسا في الفيزياء أو الكيمياء» و«لا يقصد إلى شيء في العلم الرياضي أو الطبيعي» بتعبيرات الخولي الذي رفض بشدة وبحسم التناحر والجدل السطحي بين مضامين النظريات العلمية وبين النصوص القرآنية، لافتا الأنظار إلى أن الأولى متغيرة متطورة، والثانية مطلقة ثابتة.
ناپیژندل شوی مخ