باب
المعتل الفاء المضمومة
أو المكسورة، كواو وياء، تقول: وُعد وأُعد وُقت وأُقت، والوجوه والأجوه، والوقود والأقود، والوسادة والإسادة، والوشاح والإشاح، على الإبدال منها، وهي مضموم مطردة لا خلاف فيه، وقد تبدل التاء من الواو أيضًا، في نحو تخمة، فإن كانت مكسورة، فمن النحويين من يتبع العرب فلا يبدل إلا ما روي عنهم إبداله، والياء يصح في كسرها وضمها لخفتها، فاعلمه.
وتقول في مستقبل وعد يعد، والأصل يوعد، لكن الواو لما وقعت بين ياء وكسرة استثقلت فحذفت تخفيفًا، ولا يدخل على هذا الذي قلناه يوعد ويوقن وما أشبههما، فيقال: هلا حذفت الواو منهما لوقوعها بين ياء وكسرة، أو هلا أبقيتها في يعد وما أشبهه، وكنت تقول: يوعد، لأن الأصل في يوعد يأوعد، لأنه مستقبل أوعد، وأوعد على زنة دحرج، وكما تقول: يدحرج فعل المستقبل، يلزم أن يقال يأوعد، لكنهم استثقلوا اللفظ بالهمزة فحذفوها تخفيفًا، وهي في النية، لأن أصل الكلمة يقتضيه، وإذا كان الأمر على ذلك، فالواو كأنها واقعة بين همزة وكسرة، إذا كانت الهمزة في النية، ومن مقتضى بناء الكلمة، فلا كون مثل يعد، ولا يلزم على ما ذكرناه فيه فأنت تعد، فالواو قد أسقطت، وإن لم تكن واقعة بين ياء وكسرة لاستنكارهم ثبات الواو في بعض بناء المستقبل من الكلمة وانحذافه في آخر، وهذا مما اتبع فيه الإعلال طلبًا للاطراد والاستمرار، وتقول في الأمر: عد، والأصل: أوعِد، لأن الأمر يبنى على المستقبل، لأنه بناء لما لم يقع، كما أن المستقبل بناء لما لم يقع، لكن الواو لما وقعت بين كسرتين صارت في حكمها لما وقعت بين ياء وكسرة فحذفوها تخفيفًا، فصار أعد، ثم استغني عن الهمزة المجتلبة لتحرك ما بعدها فصار: عد، وذلك أن الهمزة إنما تجلب في بناء الأمر إذا كان أوله ساكنًا، لأن الأمر الحاضر يبنى على المستقبل، ويحذف حرف المضارعة من أوله، فإذا كان بعدها الحرف الأول ساكنا، احتيج إلى ما يتوصل به فيجلب الألف لذلك، ولذلك كان الثلاثي كله في أول بناء الأمر منه ألف الوصل واستغني في الرباعي كدحرج وهرول عنه، تقول في الأمر منهما: دحرج وهرول، لأنك لما حذفت حرف المضارعة كان ما يليه متحركًا، فاستغنيت عن الأول، ثم جرى أكثر ما كان مبنيًا من الثلاثي بزيادة مجراة في نطاق ألف الوصل أوله عند الأمر، وذلك: كانطلق، واستخرج، واقتتلوا، وما أشبهها، فإن بنيت قلت: عد، وإن جمعت قلت: عدوا، وإن أمرت مؤنثًا قلت: عدي، وفي الثنتين: عدا، وفي الجمع: عدن، والعلة في جميع ذلك كالعلة في عد.
فأما مصدره: فالوعد، والموعد، واعتل عِدة، لأن الأصل فيه: وعْدة، فلما كان الواو في الفعل اعتل وسقط، ومن حكم المصدر أن يبنى على فعلة في صحته واعتلاله، وكانت الكسرة في الواو مستثقلة، حذفت الواو كما حذفت في الفعل، ولو كان فعله اسمًا لا مصدرًا لكان يصح لبعد الاسم من الفعل، وقرب المصدر منه على ذلك، ولكل وجهة، وقولهم: وِلدة، فاعلمه.
واسم الفاعل واعدُ، فإن جمعت قلت: أواعد، وهو فواعل فأبدلت كما أبدلت في تصغيره إذ قلت: أُويعد، وهو فويعل لتكرار الواو، ولأن التكسير من نجر التصغير، وإنما أبدل في التصغير لاجتماع واوين متحركين، والأولى مضمومة، فكأنما اجتمع ثلاث واوات، واسم المفعول موعود، وفعل المفعول وُعد للماضي، وللمستقبل يوعد، وقد صح الواو كما رأيت، فإن شئت أبدلت منها همزة، وقد مر ذلك.
فإن كان الفاء ياء كيسر، فإنه يصح في المستقبل، تقول: يسر ييسر يسرًا فهو ياسر، وينع الثمر ويعر الجدي، وذلك يصح في مصدره، والأمر منه واسم الفاعل. وفي الجمع تقول: اليسر وأيسُر وياسر ويواسر، ولن يعامل الياء معاملة الواو لخفتها وغلبة نقل الواو، وقد قلت إن الألف لا تكون إلا زائدة أو منقلبة في الفعل، وإذا كان كذلك فلا يقع موقع الفاء من الفعل فاعلمه.
1 / 1
فأما فعِل بكسر العين من المعتل فإنه يصح، تقول: وجِل يوجَل، لأن الواو لم يقع بين ياء وكسرة، لما كان مستقبله يفعل، والأمر أوجل، وقد قيل: أيجل وهذا كما قالوا في المستقبل ياجل، ومن حكم فعِل أن بعض العرب يكسر حروف المضارعة فيه، كما يفعل ذلك فيما زاد على ثلاثة إلاّ الياء وحدها، يقولون: أنت تِعلم، وأنا إعلم، ونحن نِعلم، وكذلك نِستعين، وتِسعين وإستعين، فأما الياء فلا يكسرونه لاستثقال الكسرة فيها جلي، وقد حكي فيما كان من المعتل أنهم يقولون: ييجل، قال الأخفش: لما قلبوا الواو ياء مع النون والتاء والألف مكسورة: تِيجل، ونيجل، وإيجل، ففروا من أن يردوا الواو مع الياء، فاحتملوا ثقل الكسرة في الياء وتكلموا به لئلا يختلف بناء المضارع في لغتهم.
فأما ما كان فاؤه ياء من هذا البناء كيئس ييئس، فإنه إذا كان الواو فيه يصح، فالياء أولى لما ذكرته من خفته، وأما يلغ فهو مستقبل فعل، وكأنه جاء في الأصل على يفعِل، بكسر العين، كأنه كان يولغ فوقعت الواو بين ياء وكسرة فحذفت استثقالًا، ثم ردوا من يلِغ إلى يلَغ لما كان حرف الحلق وهو الغين، ومثل ذلك يطأ ويسع ويدع، فأما يذر فهو مستقبل وذر، فمحمول على يدع، كما يحمل الشيء على نظيره، وما شذ في هذا الباب فجاء بكسر العين في المستقبل ولِي يلي، وومِق، وورِي الزند يرِي، وأحرف أخر، وهذا كما جاء في الصحيح، وحسِب يحسب ونعم ينعِم، ويئس ييئس، ويبس ييبس، فاعلمه.
فأما المهموز كأتى، فإنه يصح لأن الهمز حرف صحيح، تقول في المستقبل: يأتي، والأمر إئت، وليس هذا مما اعتل فاؤه في شيء.
فأما خذ، وكل، ومر، فهذه الثلاثة الأحرف حذفت فاؤها تخفيفًا، وقال سيبويه: إنما شذت لكثرة الاستعمال فيها، وسائر ما فاؤه همزة لا تحذف منه في الأمر، وقد ردت الهمزة في مر خاصة مع حرف العطف، قال الله تعالى:) وأمر أهلك بالصلاة (، ولم يرد في خذ، وكل، فأما سيبويه فزعم أن رده مع الواو بعد استمرار الحذف شذوذ ثان.
وقد علل المازني هذا المكان فذكر أن رد الهمزة كان لضعف الميم والراء، وذلك أن الميم بالغنة التي فيه أشبهت النون، والنون مشبهة بحروف المد واللين، قال: والراء في مخرجه تكرار فلا يستقر اللسان عند النطق به استقراره في الحروف الشديدة، قال: فلما ضعف الحرفان ويا برد الهمزة مع حرف العطف في بعض متصرفاته.
باب
المعتل العين
اعلم أن فعل من هذا الباب بفتح العين يساوي لفظه ولفظ فعِل بكسر العين من الواو كان أو من الياء، لأنهما بتحركهما وانفتاح ما قبلهما ينقلبان ألفًا، وذلك نحو: قال، وثاب، وسار، ونام، وهاب، وصار، والأصل: قوَل، وثوَب، وسيَر، وبيَع، بفتح الواو والياء، ونوِم، وخوِف، وهيِب، وصيِر، بكسر الواو والياء، فلما كانت تحركت أحرف العلة فيها كلها وما قبلها مفتوح انقلبت له ألفًا، والمستقبل: يقول، ويثوب، ويسير، ويبيع، وينام، ويخاف، والأصل فيها: يقْوُل، ويثوُب، ويسيِر، ويبيِع، وينوَم، ويخوَف، فألقيت حركة حرف العلة على ما قبله فانقلبت - إذا كانت فتحة - ألفًا، وبقيت - إذا كانت ضمة أو كسرة - واوًا وياء.
وإنما اعتل هذا اتباعًا للماضي، لأنهم كرهوا أن يعتل الماضي ويسلم المستقبل، وإنما قلنا هذا لأن ما قبل حرف العلة كان ساكنًا، ولولا اعتلال ماضيه لكان يسلم، وهذا وأمثاله يسمى اعتلال الاتباع، ولهذا صح المصدر، فقالوا: قولًا، وسيرًا، ونومًا، لما لم يحصل فيه ما أوجب اعتلالًا إذا كان حرف العلة ساكنة وما قبله مفتوح.
فأما حوِلَ وعوِرَ فإنما صحا لأنهما منقوص احولّ واعورّ، بدلالة أبنية نظائرهما، وكما صحا صح اسم الفاعل منهما، تقول: هو حاوِلٌ، وعاوِرٌ، فاعلمه.
1 / 2
وقد جعلوا فعل من بنات الواو، ولا يجيء مستقبله إلاّ يفعل، ومن بنات الياء لا يجيء إلاّ يفعل لئلا يختلف البابان ويدخل أحدهما في شيبة الآخر بالاعتلال، وفعِل بكسر العين منهما يلزم مضارعه يفعل، لأن نظيره من الصحيح يكون كذلك، نحو: حذِر يحذر، وعلِم يعلم. والأمر من القول: قل، لما كان مستقبله يقول، والأصل: إقْوُل، فألقيت حركة الواو على القاف، كما في المستقبل، فالتقى ساكنان: الواو واللام، فحذفت الأمر من السير، قالوا: سيْر، والأصل: إسْير، فألقيت حركة الياء على السين كما فعلوا في المستقبل، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وطرحت الهمزة للاستغناء عنها، وكذلك الأمر من النوم: نمْ، إنْوم، فألقيت حركة الواو على النون ثم حذفت لالتقاء الساكنين فاستغنيت عن الهمزة، ونظائر هذه الأبنية الثلاثة في الأمر على ما قلناه. والذي يدل على أن أحرف العلة من هذه الأبنية حذفت لالتقاء الساكنين بعد نقل الحركة عنها إلى ما قبلها، أنها ترد إذا تحركت لام الفعل، تقول: قولا، وسيرا، وناما، وفي الجميع: قولوا، وسيروا، وناموا، وفي المؤنث: سيري، وقولي، ونامي، وفي جميع المؤنث لما سكنت لام الفعل ثانيًا حذفت، تقول: قلن، وسرن، ونمن يا نسوة، والاعتلال فيها كما ذكرنا من قبل. فإن كان فعلت بفتح العين، حول في بنات الواو إلى فعُلْت، وفي بنات الياء إلى فعِلْت ليمكن إلقاء حركة عينيهما على فائهما، تقول: قلته وبعته، والأصل: قولته وبيعته. فردا إلى قولته وبيعته، ثم ألقي حركة الواو والياء على ما قبلهما فيهما، فاجتمع ساكنان في كل واحد منهما، فحذف الأول لاجتماعهما، وإن كان فعِلت بكسر العين، لاحتاج فيه إلى تغيير نحو: هبْت، وخِفت، كما أن فعُلت بضم العين لا يحتاج فيه إلى تغيير، نحو: طلت تطول فأنت طويل، والأصل: هيِبت وخوِفت فألقيت حركة الواو والياء فيهما على ما قبلهما، فالتقى ساكنان فحذف الأول منهما لاجتماعهما. فإذا بنيت في هذا الباب لما لم يسم فاعله، كان لفظه واحدًا، تقول: قيل وبيع، وخيف، والأصل: قوِل، وبُيِع، وخوِف، فألقي حركة الواو، والياء، على ما قبلهما، فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، فصار: قيل، وبيع، وخيف، وإذا عديتها إلى نفسك كان على صورة ما هو إخبار عنك، تقول: خِفت وبِعت وهِبت، أي خافني غيري، وهابني، وباعني، والأصل: خوِفت، وبيِعت، فألقيت حركة الواو والياء على ما قبلهما فاجتمع ساكنان فحذفت الواو والياء لهما فصارا: بعت، وخفت، ومن العرب من يقول: بوع الشيء، وقول القول، ومنهم من يشم، وكسر الأول أجود، فاعلم.
واعلم أنه لو وقع مكان حرف العلة همزة لصحت، إلاّ ما أجمعوا على حذفه في رأيت، ولهذا أجمعوا على: بريّة، ورويّة، والنّبيّ وقريش كلها لا همز في كلامها، وهذا ما روي عن النبي ﵇ أنه خاطبه بعضهم فقال: يا نبيءَ الله، بالهمز، فقال: لست بنبيء الله إنما أنا نبي الله.
والنحويون كلهم على أن هذا من الهمز من النبأ الذي هو الخبر، وقد ذهب بعض أهل اللغة إلى أنه لا يمتنع أن يكون من النبوة وهي الارتفاع، كأنه أعطي أرفع المنازل لما كلف من أداء الرسالة.
فأما الروية فلا خلاف أنه من رأوت، والبرية بعضهم يجعله من البرى وهو التراب، والأكثر أن يكون من برأت، أي: خلقت، فإذا قلت: رأيت، فمستقبله يرى، والأصل: يرأى، فحذفت الهمزة استخفافًا وألقيت حركتها على الراء فصار يرى، ثم بني الأمر على المستقبل فصار للحذف إلى العارض فيه واطراده في حكم ما قد اجتمع فيه إعلال فتقول إذا أمرت: ريَا هذا، وهو من الفعل افعل، وهذا الأصل فيه إرأ على مثال: إسعى، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على الراء، ثم استغني عن الهمزة المجتلبة لتحرك الراء فصار ريا، هذا ولو وقفت على هذا لكنت تقول: رَه، وإنما زدت الهاء لأن الحرف الواحد لا يتأتى فيه الابتداء به والوقف عليه، فإن ثنيت قلت: ريا، والأصل: أرأيا، وفي الجمع روا والأصل أرأيوا، فلما حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الراء قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فصار: روا، لأن الهمزة حذفت من أوله استغناء عنها. وفي المؤنث تقول: ري، والأصل: أرأيي، وفي الثنتين: ريا، وفي النساء: رين، والعلة في جميعه على ما تقدم.
1 / 3
واعلم أن اسم الفاعل من هذا الباب يعلّ فيبدل من يائه وواوه همزة، فتقول من قال: قائل ومن سار: سائر، والأصل: قاول، وساير، فلما كان اسم الفاعل يبنى على الفعل، وكان الواو والياء قد اعتلا فيه، ووقعا في اسم الفاعل مكسورين بعد ألف أعلا أيضًا استثقالًا للكسرة فيها، ولاعتلالهما فيما انبنى اسم الفاعل عليه لما تحركتا، وما قبلهما مفتوح، فأبدلت الهمزة منها لمجانسة الهمزة للألف التي قبلهما.
فإن بنيت اسم المفعول من بنات الواو قلت في قال: مقول، وفي سار إليه: مسور إليه، والأصل: مقوول، فألقيت حركة الواو على القاف فالتقى ساكنان وهما الواوان، فحذفت واو المفعول عند سيبويه، أو الواو الأصلي عند الأخفش فصار مقول، ولم يجيء صحيحًا من بنات الواو في مفعول إلاّ حرفان، جاء: ثوب مصوون، وهو اسم المفعول من صانه يصونه، والقياس: مصون، وهو المستعمل، ومسك مدووف، وهو من دافه يدوفه والقياس مدوف وهو المستعمل، وهذان حكاهما الكسائي، وتقول في بنات الياء: كلته فهو مكيل، وبعته فهو مبيع، والأصل: مكول ومبيوع، فألقيت حركة الياء على ما قبله، فالتقى ساكنان ثم بينهما اختلاف، فمنهم من يقول: حذفت واو المفعول ثم كسرت الكاف والياء لمجاورتهما الياء فصار: مكيل، ومبيع، ومنهم من يقول: حذفت لام الفعل هو الياء ثم أبدلت من واو المفعول ياء لئلا يلتبس بناء الواو ببنات الياء وكسرت ما قبل الياء بعد الإبدال لمجاورته للياء فصار: مكيل، وقد أتموا بنات الياء خاصة، قالوا: ثوب مخيوط، وبرّ مكيول.
وقال: غبِن الرجل فهو مغبون، وقال: وإخال أنك سيّد معيون، وهذا لخفة الياء، وعلى هذا يجيء فيما كان من فعل أيضًا إذا كان من بنات الواو كخاف وما أشبهه، تقول: هو مخوف فاعلمه.
واعلم أن ساء يسوء، وناء ينوء، كقام يقوم، وعاد يعود، وفاء يفيء، وجاء يجيء، كسار يسير، وباع يبيع، وشاء يشاء، كخاف يخاف، في كل أحكامها إلاّ اسم الفاعل فإنه يجتمع فيه همزتان، فتقلب الثانية ياء استثقالًا لاجتماعهما، تقول: هو جاء وشاء وفاء، وكان الخليل يقول في هذا: إنه مقلوب، والطريقتان صنفان.
باب
ما اعتل لامه
اعلم أن الواو والياء إذا كانتا لامين متحركتين وما قبلهما مفتوح قلبتا ألفًا، إلاّ أن يختل بناء الكلمة بالقلب أو يدخل بناء في بناء، وذلك مثل: سرى، وغزى، وسعى، فيقول: غزا يغزو، والأصل في مستقبله: يغزو، فاستثقلت الضمة في الواو وقبلها ضمة فأسكنوها فصار يغزو، أو من السرى يسري، والأصل: يسريُ، ومن السعي: سعى يسعيُ وهذا جاء على فعل يفعلُ، والأصل: يسعيُ، فقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
واعلم أن مستقبل ما كان من بنات الواو، وهو على فعَل بفتح العين، يفعُل بالضم، ومن الياء يفعِل بالكسر، على حد ما كان فيما اعتل عينه، وفعِلتُ بكسر العين يدخل عليهما أيضًا، نحو: شقِي، غنِي، وهما من الشّقوة والغنية.
وأما فعُل بضم العين، فيختص به الواو نحو سرُو ويسرُو، وسخُو يسخو، ولا يكون في الياء كراهة أن يصيروا إلى ما يستثقل بالقلب الذي يلزم فيه، وكذلك في الباب المتقدم اختص هذا البناء بالواو نحو: طال فهو طويل.
فأما الباب الأول فقد جاء فيه منهما نحو: وجَز فهو وجيز، ويسَر فهو يسير، وهذا البناء لا يكون أبدًا متعديًا عند أصحابنا، وكذلك إذا قلت: هم يغزون، ويرمون، وأنتِ تغزين وترمين، الأصل: تغزوون، وترميون، وأنتِ ترميين، وتغزوين، والعلة واحدة، لأنها تثقل الضمة في الواو، والياء وقبلهما ضمة وكسرة، فنزعوها فالتقى ساكنان، فحذفت الواو والياء فصار: هم يغزون، ويرمون، وأنتِ تغزين، وترمين، ثم يبنى الأمر في كل ذلك على مستقبله فيقول من الغزو إذا أمرت رجلًا: أغزُ، كما يقول في الصحيح: أبعُد، وإنما ضممت ألف الوصل: لضمة العين، وذلك أنهم كرهوا أن يكسروا فيرتقوا من كسرة إلى ضمة في البناء، وقولي: في البناء احترازًا من أن تكون إحدى الحركتين إعرابًا أو مجتلبة لالتقاء الساكنين، وكذلك كقولك: فخذوه عضُدًا، وكما تقول: قلِ الحقّ، ألا ترى أنك ارتقيت في هذه المواضع من كسرة إلى ضمة، أو من ضمة إلى كسرة، ولم يعدوه ثقلًا لما لم تكن حركة الإعراب ثابتة، ولا حركة التقاء الساكنين لاستثقالهم ما ذكرت، لم يكن في الكلام فُعِل ولا فِعُل.
1 / 4
ولا يدخل على هذا الذي قلناه بناء ما لم يسم فاعله كضُرب، لأنهم تعمدوا فيه أن يكون على بناء لا نظير له، فصلًا بين الفعل، وهو خبر عن الفاعل، وبينه، وهو خبر عن المفعول، فأما دُئل وهو اسم دويبة، فهو حرف واحد شاذ مختلف فيه، فهو في حكم ما لم يجيء لشذوذه وللخلاف الواقع فيه، فإن قيل ولم كرهوا افْعِل ولم يستثقلوا افْعُل، قلت: إن الهمزة كانت تفتح في بناء الخبر، والكسرة مستثقلة لما ذكرت، فلن يبق إلاّ الضمة، وكأنه إذا قابلته ضمة أخرى فكان جرمهما من نمط واحد كان أخف عليهم، على ذلك باب الإمالة، وإدناء الحرف من الحرف، وإن ثنيت قلت: اغْزوا، وهو افعَلوا، فاستثقلت الضمة وقبلها ضمة فأسكنوها، فالتقى ساكنان فحذفت الواو الأولى، لالتقاء الساكنين، وكانت أولى بالحذف، لأن الثانية واو الضمير، ولو حذفت لعاد الفعل إلى بناء الواحد، ولام الفعل إذا حذفت يستدل بالمبقي من بناء الكلمة عليها، فتقول في المرأة: اغْزي، وهو افْعَلي، والأصل: اْزوي، وفي الثنتين اغْزوا، وفي النساء: اغْزونَ، وهو على افْعلن على أصله، وإن أمرت من السُّرى قلت: اسْرِ، وفي الاثنين: اسْريا، وفي الجماعة: اسْروا، وهو من الفعل افعلوا، والأصل: اسرَيوا، وفي المرأة: اسْري، وهو افعلي، والأصل: اسْرَيي، والمحذوفة الياء الأولى لما أعلت لأن الثانية للضمير، وفي الثنتين: اسْريا، وفي النساء: اسْرينَ، وهو افْعَلنَ على أصله، وإذا أمرت من السَّعي قلت: اسْعَ، وفي الاثنين: اسْعيا، وفي الجمع: اسْعُوا، والأصل: اسْعَيوا، فقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فالتقى ساكنان، فحذفت الألف لالتقائهما، وكان الألف أولى بالحذف لأن الواو للضمير.
فإن قيل: هلا ضممت العين لمجاورتها للواو لما زالت الألف، قلت: إن الفتحة لم يجز إسقاطها لأنها دالة على الألف، وفي المرأة تقول: اسْعَي وهو افعلي، والأصل: اسْعَيِي، وفي الثنتين: اسْعيا، وفي الجمع: اسْعَيْن، وهو افعلن على أصله.
واعلم أن الضمة تستثقل في الواو والياء وهما حرفا علة، ولذلك كان مضارع هذا الباب في الرفع ساكن الآخر كيغزو ويرمي، والفتحة مستخفة، فلذلك كان يعرب في النصب، تقول: لن يغزو، ولن يجري، وعلى ذلك يجري اسم الفاعل في هذا الباب، والذي يدل على استثقالهم الضمة والكسرة في أنفسها أنهم يقولون في عضُدٍ: عضْدٌ، وفي كبِد: كبْد، فيسمنون وسطهما، ولا يقولون في جمَل: جمْل، فإن أخبرت عن امرأة في هذا الباب قلت: غزت، ورمت، حذفت لام الفعل لسكونه، وسكون التاء الداخلة عليه. فإن ثنيت لم ترد الكلام، تقول: غزتا، ورمتا، لأن التاء وإن تحركت فإن الحركة لا تلزمه إذا كانت حصلت فيه لسكون الألف.
وما جاء على فعِل يفعَل، كجَري يجري، وشجِي يشجى، فالكلام فيه كالكلام في سعى يسعى، لأنهما اجتمعا في كونهما على يفعل، والعلة في جميع ما لم تذكره فهو كمثل ما تقدم، فلم يجب تكريره، فاعلمه.
واعلم أن اسم الفاعل في هذا الباب يعتل في الرفع والجر كما اعتل الفعل فيقول في يسري: هو سارٍ، وفي غزى: هو غازٍ، والأصل: غازوٌ، وساريٌ، فاستثقلت الضمة في الواو والياء وقبلهما كسرة فأسكنتا، فالتقى ساكنا التنوين والياء، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين التنوين والياء فحذفت، ومتى سقط التنوين عاد الياء، تقول: هو الساري، والغازي، فإن وقفت على غازٍ قلت: هذا غازٍ، لأن التنوين في النية فلا تثبت الياء لئلا يلتقي ساكنان بهما. وإن وقفت على الغازي أثبت الياء لأنه لا تنوين، ومن العرب من يحذف الياء ههنا أيضًا، ولا خلاف عند الإضافة في ثبوتها، وكذلك في جمع النساء، وتقول: غوازٍ، وسوارٍ، وذلك لأن التنوين لما دخل عوضًا من إعرابه، إذا كان هذا البناء مما لا ينصرف لكونه على زنة مساجد وما أشبهه، جرى مجرى الواحد، ولذلك حذف الياء في الكتابة منهما.
1 / 5
ومن أصحابنا من يقول: إن الياء من هذا الجمع ألزم حذفه تحقيقًا لا قياسًا، فلما سقط عاد التنوين لنقصان البناء عما لا يجب صرفه، وفي النصب تثبت الياء في الكلَ تقول: رأيت قاضيًا، وغوازيَ، لأن الفتحة مستخفة، ولما دخل الإعراب في موضع النصب في غوازٍ منع الصرف على ما وجب وتقول في اسم المفعول من الواو: مغزوٌّ على أصله، ومن الياء: مرميّ، والأصل: مرمُويٌ، فلما اجتمع الياء والواو وكانت الأولى ساكنة أبدلت من الواو ياء ثم أدغم، لانكسار ما قبلها، تقول: غُزِي، ووُعِي، والأصل: غُزِو، وفي التثنية: غُزِيا، وفي الجمع: غزُوا، والأصل: غُزِيوا، وكذلك تقول في الرمي: رُموا، والأصل: رُمِيوا، فاستثقلت الضمة في الياء وقبلها كسرة فأسكنوها فالتقى ساكنان، فحذفت الياء ثم ضمت الميم والراء لمجاورتهما للواو فصار: رُموا وغُزوا.
باب
ما اعتل فاؤه ولامه
اعلم أن هذا الباب يجري أوله على ما اعتل فاؤه، وآخره على ما اعتل لامه، وذلك كقولك: وشى يشي، ووفى يفي، ووعى يعي، وإنما يعتل فاؤه في المستقبل والأمر لوقوع حرف العلة فيه على الحد الذي يقع فيه: وعد يعد، ويعتل لامه فيهما لوقوع حرف العلة فيه موقعه من: جرى، وسعى، وغزا، فتقول في مستقبل وشى، ووعى: يشي، ويعي، والأصل: يوْشي، ويوْعي، فلما وقعت الواو بين ياء وكسرة حذفت، وتقول في الأمر: عِ يا هذا، وشِ ثوبك، والأصل: اوْعِ، واوْشِ، فلما وقعت الواو بين كسرتين حذفت، ثم استغني عن الهمزة المجتلبة، فإن وقفت عليه قلت: عِهْ، وشِهْ، وإنما ردت الهاء لأنهم يبتدئون بمتحرك ويقفون على ساكن، وهذا لا يتأتى في الحرف الواحد، فإن ثنيت قلت: شِيا، وعِيا، وفي الجمع: شُوا أثوابكم، وعُوا حديثنا، قال الله تعالى:) يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم (، والأصل: اوقِيوا، على افعلوا، فأسقطت الواو لما تقدم فبقي: اقْيُوا، فاسثقلت الضمة في الياء وقبلها كسرة فنزعوها، فالتقى ساكنان الياء والواو، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين ثم ضمت القاف لمجاورته للواو، واستغني عن الهمزة المجتلبة لتحرك ما بعدها فحذفت فصار: قُوا، وعُوا.
واعلم أن ما كان على فعِل: كولي، ووري الزند يري لما جاء مستقبله على يفعل صار بناء الأمر فيه على حد ما ذكرناه في: وقى، ووعى، فتقول في الأمر: لِ بلدنا يا رجل، و: رِ نارًا يا زند، وهذا لوجاء على أصل الباب وهو يفعل بفتح العين لكان الأمر منه: اِولِ واوْرِ لأن فاءه كان يصح في المستقبل كما يصح في: وجِل يوْجَل، ولكن لما جاء على يفعِل بكسر العين، جرى الأمر فيه على ما ذكرناه.
فإن أمرت مؤنثًا من: وعى، ووشى، قلت: عِيْ، وشِيْ، والأصل: اوْعي، واوْشي، أسقطت الواو لما تقدم، ثم استثقلت الياء وقبلها كسرة فسكنت وحذفت لالتقاء الساكنين، وفي الثنتين: قِيا، وعِيا، يستوي ما للمذكر والمؤنث، كما استوى في سائر الأبواب، وفي النساء: عِينَ، وشِينَ، والأصل: اُعِينَ، واُشِينَ، على: افعلنَ، وفاء الفعل سقطت كما تقدم، وكذلك الهمزة المجتلبة.
فصل
يشتمل على أمثلة من هذه الأبواب الأربعة أفردنا أحكامها والقول فيها ليأنس الناظر بما يتقدم قبلها من ذكر ما مضى.
اعلم أن افتعل من باب ما اعتل فاؤه يجيء مدغمًا وهو الوجه المختار، وذلك كقولك: اتَّعد، واتَّهب، واتَّزن، واتَّأس، واتَّبس، ومعنى اتَّهب: قبل الهبة وكذلك اتَّعد معناه: التزم العدة وقبلها، وكذلك اتَّزن معناه: قبل الوزن، واتَّأس من اليأس، واتَّبس من اليبس، والأصل فيها: اوتعد، واوتزن، واوتهب، وايتأس، وايتبس، فأبدل من الواو والياء تاء ثم أدغم الأولى في الثانية، ولو تركوهما على أصلهما لتبعا ما قبلهما، ومن العرب من يتركه على الأصل، وإنما صلح الإدغام بين الواو والتاء لتقارب الحرفين وتناسبهما في كونهما من حروف الزوائد والإبدال، ألا ترى أن تقول: تخمة، والأصل: وُخمة، وتُكأة والأصل: وِكأة، وتقول: تقي يتَّقي، والأصل: وقى يقي، وتقول: اتكأته، والأصل: أوكأته، وإنهما في مخرجهما يتقاربان، ألا ترى أن التاء من طرف اللسان، وطرف الثنية الأعلى وأنه لا منبع للحرف بعد إلاّ الشفة التي منها الواو، فلما تناسبتا من هذه الوجوه طلب فيهما الإدغام لاجتماعهما.
1 / 6
واسم الفاعل والمصدر يبنيان على الفعل، فتقول: متَّعد، ومتَّزن، وبينهما اتِّعاد واتِّزان، ومتى كان الفعل متعديًا كان اسم المفعول على ذلك أيضًا، إلاّ أنه ينفصل عن الفاعل بانفتاح الهاء فيه، فتقول: هو متَّهب له، لما صلح أن يقول: اتَّهبته.
واعلم أن اسم المكان والمصدر اللذين يكونان بزيادة الميم يكونان في هذا الباب على مفعِل نحو: موعد، ومودِق، وموزِن، ومورد، وموضِع، إلاّ أحرفًا شذت: كموهَب اسم رجل بفتح الهاء، وإنما هو مصدر وهب، ويدل على أن الأصل فيه مفعِل بكسر العين قولك: موهِبة الله حسنة، وموحَد، إذا قلت: جاء القوم موحَد موحَد، كما تقول: جاء القوم أُحادَ أُحادَ، وموكَل اسم موضع، وكان القياس فيه أن يقال: موحِد، وموهِب، وموكِل.
فأما ما اعتل عينه، فالمصدر على مفعَل، مفتوح العين، ويعتل كما اعتل فعله نحو: المقال، والمزار، والمقام، والمرام، وإن جمعت صحت الواو لبعد الجمع من الواحد وكونها في موضع الحركة، تقول: مقاوم، هذا في بنات الواو، لأنه كله يفعُل بضم العين، وفي بنات الياء جاء في المصدر مفعَل بفتح العين، وهو القياس نحو: المعاش، وجاء فيه مفعِل بالكسر أيضًا نحو: المحِيض، والقياس في مفعِل في مثله أن يكون اسم المكان لأنه جاء كله على يفعِل بكسر العين، وأما ما اعتل لامه، فمفعَل منه مفتوح اسمًا كان أو مصدرًا، نحو: المغزى، والمدعى، والمرعى، والمرسى، والمجرى.
واعلم أن اسم المفعول، واسم الفاعل من الأول يصحان كواهِب، وموهوب، وواعد، وموعود، وإن بنيت أفعَل كأوعَد، وأورق، وأورث، فإنه يثبت الواو، وكذلك في اسم الفاعل، والمفعول، تقول: موعِد، للفاعل، وموعَد، للمفعول، ومصدره يكون على إفعال، كإيْعاد، وإيْراق، تنقلب الواو ياء لانكسار ما قبله، وعلى هذا انقلابه في مثل: مِيعاد، ومِيزان، ولو بنيت منه استفعل لصح الواو أيضًا، تقول: استوهب، وفي المصدر ينقلب أيضًا لانكسار ما قبله، تقول: اسْتيهاب، واسْتيراق، في مصدر استورق، فاعلمه، وقس ما لم نذكره على ما ذكرناه.
وأما ما اعتل عينه كقال، ونام، ودام، فإنه يعتل في: أفعل، وافتعل، واستفعل، وانفعل، وما أشبهه بانقلاب عينه، تقول: أقالَ يُقيل، واقتالَ يقتال، واستقال يستقيل، وانقاد ينقاد، وانقلاب العين في هذه المواضع إما أن يكون لتحركه وانفتاح ما قبله، ألا ترى أن اختار أصله اخْتير، واقتالَ أصله اقْتول، وانقاد أصله انْقود، وإما أن يكون لإلقاء حركة العين على ما قبله، ألا ترى أن أقال أصله أقول، وأن استقاد أصله استقود، واستقال أصله استقول، واستمال أصله استميل.
واسم الفاعل والمفعول يعتل في الكل، تقول: هو مَقيل، والمفعول: مُقال، ومستقيل، ومستقال، وهو مختار، والشيء مختار، يكون للمفعول على وزنه للفاعل، وهو منقاد، والعلة في انقلاب العينات في هذه المواضع على ما تقدم.
وإن بنيت لما لم يسم فاعله قلت: اخْتير، واعْتيد، وابتيع، فعل به على ما فعل في قيل، وسير به، وفي هذا من اللغات مثل ما قيل في قيل، وبيع، فاعلمه.
وقد جاءت أحرف صحيحة في هذا الباب كأغيلت المرأة، واحولَّ، وهي أحرف قليلة أرادوا في تصحيحها التنبيه على ما اطّرد في الباب من الاعتلال، والمرجع في جميعه إلى السماع، فأما: اجْتوروا، فإنما صحيح لما كان في معنى تجاوروا، فكما صح الواو في تجاوروا صح ههنا، وهذا كما قالوا: حوِلَ، وعوِرَ، لما كان في معنى: احولَّ، واعورَّ، وكل هذا يجري مجرى الشذوذ، وكذا قوله تعالى:) اسْتحوذ عليهم الشيطان (هو مما خرج من الباب المطرد لينتهوا به على أصل الباب، وهذا عادتهم في جميع أبواب الإعراب أن ينبهوا على الأصول المرفوضة بأحرف يسيرة.
فأما مصدر ما انقلب لنقل الحركة إلى ما قبله كأعاد، وأقال، واستقال، واستعاد، فإنه يزاد فيه الهاء، تقول: استقالة، واستعاذة، وإقالة، وإعادة.
وقال النحويون: زيادة الهاء هنا بدل من نقل حركة العين إلى الفاء، وقد تحذف الهاء في بعضها، وذلك كقوله تعالى:) وإقامَ الصلاة وإيتاء الزكاة (.
1 / 7
واعلم أن مثل معيشة، ومصيبة، فالياء فيهما في موضع الحركة، لأنها من الفعل مفعُلة، ومفعِلة لكن الكسرة استثقلت فيها فنقلت إلى ما قبلها حملًا على الفعل لكونهما مصدرًا واسم فاعل، والقياس في جمعها تصحيح حرف العلة، وترك الإبدال منه، إذ كان يهمز في الجمع ما كان مدةً في الواحد لا عينًا، نحو: عجوز وعجائز، وصحيفة وصحائف، ورسالة ورسائل، فتكون معايش جمع معيشة، ومصاوب جمع مصيبة، فأما قولهم: مصائب فمما شذ عن القياس، وإن كثر في الاستعمال، كأنهم توهموها فعيلة.
واعلم أن فاعل في هذا الباب، وتفاعل، وتفعَّل، وفعَّل، وافعلَّ، وافعالَّ، ومصادرها، كلها تصح لانفتاح حرف العلة فيها وسكون ما قبلها.
واعلم أن الواو تنقلب إلى الياء في هذا الباب كثيرًا، فمن ذلك: حلَت حِيالًا، وصامت صيامًا، والأصل: صوامًا، وحوالًا، لكنه لما انكسر ما قبل الواو، واعتل الفعل، تبعه المصدر في الاعتلال، ولو سلم الفعل لسلم المصدر أيضًا، ألا ترى أنك تقول: جاورته جِوارًا، ولاوذته لواذًا، ومما قلب: سوط وسياط، لما سكن الواو في الواحد وضعف، وقع بعده في الجمع ألف قريبة من الطرف، قلبت ياء لانكسار ما قبله، ولو تحرك الواو في الواحد، كطويل وطوال ولم يكن بعد ألف في الجمع كعود وعِوَدة لسلم.
وإذا انقلبت الواو في الواحدة انقلبت في الجمع نحو: ديمة وديَم، ومثل هذا في القرب والبعد: سيايد في جمع سيّد، ودياوير في جمع دَيَّار، ومثله ما تبع الواحد في الاعتلال: صائم وصيَّم، وقائم وقيَّم، وهذا لقربه من الطرف، ألا ترى أنه لو بعد لصح، ونحو: قوَّام وصوَّام، وإذا اجتمع واو وياء فأيهما سبق الآخر بالسكون يقلب بالواو ياء، ثم يدغم الأول في الثاني، على ذلك: سيِّد وهيِّن، وديَّار، وقيَّام، وكيَّة، وليَّة، ومرميّ، ومقضيّ، فاعلمه.
فإن قيل: فلم قلت: تغازيت، وتعاطيت، ومستقبله لا ينكسر عينه، قلت: هذا مبني على عاطى، وغازى، لأن التاء دخل عليهما فاستمرا على ما كان، ومثل هذا حملهم مستقبل شقيَ، ورضيَ، على الماضي في القلب إلى الياء فقالوا: هما يرضيان، ويشقيان، لما قالوا: رضيت، وشقيت، فتقدير: صلَّى يصلِّي، فعَّل يفعِّل، والأصل: يصلي، وكذلك أعطى يعطي، وقد تقدم القول في أن أفعل الأصل في مستقبله أن يجيء: يُأفعِل، على زنة: دحرج يدحرج، فكما يقال: يدحرج، يجب أن يقال: يُأفعِل، والماضي من هذه الأبنية التي ذكرناها انقلب آخره لتحركه وانفتاح ما قبله، كما مثلت في: أعطى، وصلَّى.
فما الفعل من الحوَّة والقوَّة، فحوي وقوي، يصح الأول من حرفي العلة فيه لئلا يتوالى إعلالان، فتختل الكلمة، وعلى ذلك تقول في الحوَّة: احْواوى يحْواوي احْويواء، هكذا حكاه الأصمعي، وذهب النحويون في مصدره إلى أنه يقال: احْوياء، ولأن الواو والياء إذا اجتمعا فأيهما سبق الآخر بالسكون يقلب الواو ياء ويدغم الأول في الثاني، وقياس ما حكاه الأصمعي أنه صحح المصدر لصحة الفعل، وقد يتفق في هذا الباب موافقة فعل الواحدة من المؤنث فعل الجمع منها في اللفظ، تقول: أنتِ تصلِّين، وهو من الفعل تفعِّلين، كان الأصل: تصليين، فاستثقلت الكسرة في الياء وقبلها كسرة فأسكنوها، فالتقى ساكنان فحذفت الياء الأولى لالتقائهما فصار تصلين، والياء في تصلين ضمير الفاعل، والنون علامة الرفع، وتقول في الجمع: أنتن تصلِّين، هذا من الفعل: تفعّلن، وهو على أصله، فالياء لام الفعل، والنون ضمير الفاعلات، فاعتبر كل ما وافق لفظ الواحدة فيه لفظ الجمع بهذا، وقدَّره بالصحيح، فاعلمه.
واعلم أنه لا يكون اسم آخره واو وما قبله مضموم، ولهذا قلبوا: أدْلٍ، وأحقٍ، وهما جمع: دلوٍ، وحقوٍ، بلى، قد جاء في الأفعال نحو: يغزو، ويدنو، وهذا كاستثقالهم الواوين في الجمع وقلبهم لها ياء نحو: عصيّ، وجثيّ، ويدل على استثقالهم لمكان الجمع أنه لو كانتا في الواحد لصحتا، وذلك كقولهم: عتا عتوًّا، ومن العرب من يقلب في المصدر أيضًا، على ذلك قوله تعالى:) أيهم أشدُّ على الرَّحمن عتيَّا (.
1 / 8
واعلم أن الواو والياء إذا كان جاريًا في إعراب، وقبلهما ألف ثالثة فصاعدًا، أبدل منها همزة، نحو: غذاء، وسقاء، وبناء، وكساء، وهذا كانقلابهما إذا تحركتا وقبلهما فتحة، ولم يمنع مانع من القلب، فإن لم يكونا حرفي إعراب أصلًا وفرعًا، أو كانت الألف ثابتة لم يقلبا نحو: شقاوة، ونهاية، وراي، وآي، جمع رآية وآية.
والعام أن ما اعتل فاؤه ولامه، فإن البناء بالزيادة منه يصح فيه الأول، تقول: أوكاه يوكيه إذا شده، فصح فاء الفعل كما ترى، وعلى هذا إذا بنيت استفعل، تقول: استوكى، وتفعَّل: كتوقَّى، وتفاعل: كتواقى، وتواصى القوم، وقياس الآخر في الكل كقايس ما اعتل لامه، بلى قد يتفق فيه الإعلال بالإدغام، وذلك كقولك: اتَّقى، افتعل من وقى، والأصل: أُوْتَقى، فأبدلت من الواو ثم أدغمته في الثانية.
فإذا بنيت فعِل مما اعتل لامه كرضي، وصلي، فإنك في اتصال المضمر به تقول: رضُوا فتضمر عين الفعل، وصلوا بالأمر، وكذلك في بنات الياء تقول: حيُوا حياة طيبة، ولو بنيت منه فعلوا بفتح العين لفتحت عين الفعل في اتصال ضمير الغائبين به، تقول: دعَوا، ورمَوا، وإنما كان كذلك لأن الأصل في صلوا صليُوا، وفي بقوا بقيوا، فاستثقلت الضمة في الياء وقبلها كسرة فنزعوها، فاجتمع ساكنان الياء وواو الضمير، فحذفت الياء ثم ضمت اللام والقاف لمجاورتهما لواو الضمير، والأصل في دعَوا ورمَوا: دعووا ورميوا، فقلبت الياء والواو لتحركهما وانفتاح ما قبلهما، فالتقى ساكنان: الألف وواو الضمير، فحذفت الألف وبقيت الفتحة في الميم والعين ليكون دلالة على الألف الساقطة، فلا يلتبس باب فعِلوا بباب فعَلوا، فاعلمه.
ويستوي بنات الياء والواو إذا جاوزت الثلاثة، لأن الواو ينقلب ياء في المستقبل البتَّةَ، فجعل الماضي على الياء أيضًا، على ذلك اغْزَيتُ واسْتَغْزَيْتُ، وتَغَازَيْنَا، وإن كان من الغَزْو، فاعلمه.
باب
التضعيف
والتضعيف أن يتكرر الحرف الواحد في العين واللام، كردَّ، ومدَّ، وفرَّ، وقلَّ، وكما تكرر الحرف الواحد في هذين الموضعين، فإنه قد يتكرر، وإن كان قليلًا في موضع الفاء واللام، وذلك كقولك: قلقَ، وسلسَ، وأقل من هذا تكون الفاء والعين، لم يجيء في كلامهم من هذا إلاّ قولهم: دَدَن، وهو اللهو، قال عدي:
أيُّها القلبُ تعلَّلْ بدَدَنْ
وقد يحذف اللام منه فيقال: دَدٌ، وجاء في الحديث: ما أنا من ددٍ ولا ددُ منِّي. وجاء أيضًا: سيف ددانٌ، أي كهام، ولا ثالث لهما، وإنما سلِّط الإدغام في المثلين إذا اجتمعا والمتقاربين لاستثقالهم اجتماعهما.
وحكي عن الخليل أنهم يستثقلون ذلك كاستثقالهم الحديث إذا أعيد مرتين، وهذا مستثقل إذا تؤمل دوران اللسان في مواضع الحروف، ألا ترى أن من تكلم بالحرف الواحد مرتين يحتاج أن يدير لسانه في موضع ذلك الواحد مرتين فيصير كتقييد اللسان، ويشبه تصرفه مشي المقيد إذا أعاد رجله في الموضع الذي كان رفعها منه، والمقارب في المخرج سبيله في هذا كنحو من سبيل المماثل.
والإدغام هو: أن يوضع اللسان على موضع الحرف، فيعتمد عليه اعتمادة شديدة، ويرفع عنه رفعة، وفي هذا رد الحرفين إلى صورة الحرف الواحد، فالإدغام في باب المضاعف لأدائه إلى ضرب من التخفيف فيما يستثقل، كإعلال في باب المعتلات، فاعلمه.
واعلم أنه إذا اجتمع حرفان من جنس واحد في كلمة واحدة، الأولى ساكنة، والثانية متحركة، فإنه لا بد من الإدغام، فإن كانت الأولى متحركة أيضًا، فمتى كان فعلًا، أو اسمًا جرى مجرى الفعل، فإنه لا بد من الإدغام، وهذا الذي ذكرته احتراز من مثل: الطَّلل، والشَّرر، والبدد، والسُّرر، وما أشبهها.
1 / 9
فإن كانت الأولى متحركة والثانية ساكنة سكونًا غير لازم كقولك: اردد، وامدد، وازرر، وما أشبهها، فإن بني تميم يدغمونه أيضًا بعد أن يلقوا حركة الأولى على الساكن الذي قبله، ولهم في مثل هذا لغات، فمنهم من يقول: ردّ، يبنيه على الفتح، لأن الفتحة أخف الحركات، ومنهم من يقول: رُدَّ، فيتبع الضمة، ومنهم من يقول: ردّ، فيبنيه على الأصل في التقاء الساكنين، وأهل الحجاز يظهرون التضعيف في مثل هذا، ويأتون على الأصل، فإن كانت الأولى متحركة والثانية ساكنة سكونًا لازمًا، فإنه يجوز الإدغام، وعلى ذلك: مررت ومررنا، وسررت وسررنا، وما أشبهه، بل يجعلون الحذف بدلًا منه، تقول في ظللت: ظلت، قال الله تعالى:) الذي ظلتَ عليه عاكفًا (، وفي مسست، مستُ، وربما ألقوا حركة العين على الفاء، فيقولون: ظلتُ، ومستُ، وعلى هذا قولهم: علماء بنو فلان، وبلعنبر، وبلهجيم، يريدون: على الماء، وبني العنبر، وبني الهجيم، وهذه آخر مسألة في كتاب سيبويه، وقد جاءوا إلى مثل: تداركوا، وتطيَّروا، فراموا الإدغام فألجأهم ذلك إلى إدخال ألف الوصل، قال تعالى ﷿:) اطَّيرنا بكَ وبمن معك (الأصل: تطيرنا، فلما أسكن الأولى عند الإدغام أدخل عليه ألف الوصل ليتوصل به إلى النطق بساكن، فقال تعالى:) بل ادَّارك علمهم في الآخرة (، وكما جعلوا الحذف بدلًا من الإدغام فيما تقدم، كذلك جعلوه بدلًا منه في مثل: تتذكرون، وتتوقفون، وما أشبهه، فقيل: تذكَّرون، فالمانع من الإدغام ههنا هو أنه لو أدغم لاحتيج إلى ألف الوصل، لسكون أول الكلمة، وألف الوصل لا يدخل على الفعل المضارع، فاعلمه.
واعلم أنه لا يدغم حروف المد واللين في أمثالها، لكونها مدات لا معتمد لها في مخارجها، ومن العرب من لا يحقق الهمزتين إذا اجتمعتا، بل تسلط عليها التليين والحذف، ومن كان هذا لغته لم يدغم الهمزة في مثلها.
وحكى سيبويه أن ابن أبي إسحاق كان يحقق الهمزتين، يقول: أأنذرتم، على لغة، فصح إدغامها في مثلها، فكما منع مانع من إدغام الحرف في مثله، فقد اتفق ما منع من إدغام الحرف في مقاربة، وإن كان يدغم ذلك المقارب في الممتنع، وهذا يرجع إلى فضل قوة أحد الحرفين على الآخر، وذلك كإدغامهم اللام في الراء، وامتناعهم عن إدغام الراء في اللام من حيث كان الراء حرفًا فيه تكرار، فلو أدغم في اللام لذهب تكراره، وكان ذلك إجحافًا به من حيث وجب إخراجه إلى صورة اللام، ثم إدغامه، وكان أبو عمرو يجوّز هذا ويقرأ به، يقول: نذله، يريد: نذر له، وهنا جميلة من شروط الإدغام، وبابه يطول، وليس القصد إلى تقصيه، وإنما أحببنا أن نرى الإدغام يجري مجرى الاعتلال فاعلمه إن شاء الله تعالى.
واعلم أن التضعيف في بنات الواو والياء يتفق، وذلك كحييت، وعييت، وأصييت، وأعييت، وكما تقدم ذكره في الحوَّة والقوَّة، والعين في جميع ذلك يصح، ويعتل اللام لأنه موضع التغير، وإذا كان كذلك، فإنه يجري حيِيَ على باب خشي، وأُحيي على باب أُعطي، فإذا جاء موضع يلزم لام خشي فيه الحركة لزمت لام حييت وعييت أيضًا، وتكون حِ الخيار في الإدغام والتضعيف، تقول حييَ زيد، وحيِّ زيد، وعيي عمرو، وعيِّ عمرو، وتقول: هو يحيى، كما تقول: هو يخشى، وهو يعيى، كما تقول: هو يعطى، ومن قال: حيي فلم يدغم قال في الجمع: حيُوا بالتخفيف، فحذف كما قالوا: عمَوا ورضَوا وخشَوا، ومن قال: حيّ فأدغم، قال في الجمع: حيُوا، فلم يحذف.
باب
الهمزة
اعلم أن الهمزة أثقل حروف المعجم، لما يلحق المتكلم بها من الكلفة في إخراجها من منبعها، إذ كان فيها كالتهوّع، ولذلك لحقها ضروب من التحقيق والإبدال والحذف وبين بين، وفي العرب من يحقق الهمزتين، وكان ابن أبي إسحاق يقرأ بمذهبهم.
1 / 10
واعلم أن الهمزة تحقق أولًا مفتوحة كانت أو مضمومة أو مكسورة، نحو همزة أب وأم وإبل، فإذا لم تكن أولًا فإنها لا تخلو من أن تكون ساكنة وما قبلها ساكن، أو متحركة وما قبلها متحرك، فإذا كانت ساكنة وما قبلها مفتوح، فإنه يبدل منها الألف إذا خففت، تقول في لم أقرأ: لم أقرا، وفي رأس: راس، فإذا كان ما قبلها مكسورًا فخففت، أبدل منها ياء، تقول في: لم أجيء، لم أجي، وفي: ذئب، ذيب، وإذا كان ما قبلها مضموم أبدل منها الواو، تقول في: لم أبوء، لم أبو، وفي جؤنة، جونة، وجيت، ونوت، إذا خففت، فهذا إذا كانت ساكنة وما قبلها متحرك، فإن كانت متحركة وما قبلها ساكن وحذفت هي تخفيفًا إذا لم يحقق في: كمءٌ، كمٌ، وفي مسألة، مسالة، وفي: مرأة، مرة، وقرئ في قوله تعالى:) الذي يخرج الخبّ (، وإنما هو العبء، والجزء، إذا خففت، هذا إذا كان الساكن الذي قبلها غير مدة، فإذا كانت مدة فإنها لا تخلو من أن تكون ألفًا، وحكم الهمزة بعدها إذا خففت أن تجعل بين بين، ومعنى ذلك أن تخرج الهمزة بين الحرف الذي حركتها منه، وبين نفسها، فإذا كانت حركتها كسرة أخرجت بين الياء والهمزة، على ذلك: قايل، وبايع، وما أشبههما، تقول إذا حققت الهمزة: بائع، وقائل، وإن كانت ضمة أخرجت بين الواو والهمزة نحو: التساؤل، وإن كانت فتحة أخرجت بين الألف والهمزة نحو: سأل، تقول إذا خففت: سال، وكذلك قولك: السماء فوقي، ومن السماء نزل، وهذا لا يحكمها إلاّ المشافهة، فإن كانت المدّة التي قبلها ياء مكسورًا ما قبلها، أو واو مضمومًا ما قبله وأريد تخفيف الهمزة التي بعدها، أبدلت منها بعد الواو واوًا، وبعد الياء ياء، ثم أدغمت ما قبلها فيها، تقول في خطيئة خطيّة، وفي بريء بريّ، وفي مشنوء ومقنوء، مشنو ومقنو، فإن كان ما قبلها ياء مفتوح ما قبله، أو واو مفتوح ما قبله، فإنه يجري الهمزة بعدها إذا خففت مجراها إذا كان قبلها واو مضموم ما قبلها، أو ياء مكسور ما قبلها في الإبدال والإدغام، تقول في مصغر أفؤس جمع فأس، وهو أُفيئس، وإذا خففت: أُفيّس، وكذلك إذا خففت: رأيت بقرًا أو إبلًا، تقول: بقْرا أو بلاّ، فإن كانت الهمزة متحركة وما قبلها متحرك، فإنها تخرج إذا خففت بين بين، وإذا كانت مفتوحة وقبلها كسرة أو ضمة فإنها تجعل ياء خالصة، أو واوًا خالصة، فالأول نحو قرأ ويقرأ، وسأل، ومئين، وضئين، وشؤون، ورؤوس، ودئل، وسئل، وتخرج الهمزة بين الألف والهمزة، وبين الواو والهمزة وبين الياء والهمزة، وأما قولهم: سالت في سألت، فإنما هو لغة، قال الشاعر:
سالتْ هذيلٌ رسولَ اللهِ فاحشةً ... ضلَّتْ هذيلٌ بما قالت ولم تُصبِ
والثاني نحو جؤن في جمع جونة، إذا خففت تقول: جُوْن، وفي مئَر جمع مئَر، فأما مثل قولهم: يستهزئون، فإن سيبويه يخفف همزتها بأن يجعلها بين بين، والأخفش يجعلها ياء خالصة لانكسار ما قبلها.
واعلم أن الهمزتين إذا اجتمعتا في كلمتين نحو: السفهاء ألا، فمنهم بعد من يحقق، ومنهم من يخفف الأولى منهما، حملًا على قولهم: دينار وقيراط من المضعف المبدل منه، ومنهم من يخفف الثانية حملًا على ما أجمع عليه من قولهم: آدر، وآدم، وهي أفعل من الأدرة، والأدمة، فاعلمه إن شاء الله، فعلى هذا تقول: السفهاء، ولا تجعلها بين الهمزة والياء نحو: على البواء، إن أردت، ومذهب سيبويه أن يجعل المضموم ما قبلها واوًا خالصة، والمكسور ما قبلها ياء خالصة، فاعلمه إن شاء الله تعالى.
فإن اجتمعا من كلمة نحو: أأنذرتهم، فسيبويه زعم أن الخليل كان يرى تحقيق الثانية فيجعلها بين الألف والهمزة إذا كانت مفتوحة، وبين الواو والهمزة إذا كانت مضمومة، وذلك نحو: أوْنبِّكم، وبين الياء والهمزة إذا كانت مكسورة، فذلك نحو: أئِبلي رعت موضع كذا، فاعلمه.
وقد كنا قلنا: إن الهمزة حرف صحيح، وإن كان مستثقلًا، وذكرنا في أواخر الأبواب الماضية أن شرطه الباء والتاء، ونبهنا على ما شذ بالاعتلال من بابه لكثرة الاستعمال، نحو: أرى، وترى، ونحو: خذ، وكل، ومر، وسيمر القول فيه ما يستحكم معه العلم بتحقيقه إن شاء الله.
1 / 11
تقول فيما فاؤه همزة: أزم إذا مضى، يأزم أزما، فهو آزم، والمفعول مأزوم، والأمر إئزم، كما تقول: عزم عليه يعزم عزمًا فهو عازم، والمفعول: معزوم عليه، والأمر اعزم، على هذا كل ما كان فاؤه همزة من الثلاثي وغيره، أمره كأمر الصحيح، فإن كان الهمز عينًا وذلك نحو: ذأمه ذأمًا، ورزأت الشيء أرزؤه رزءًا، والأمر منهما: اذأم، وارزأ، وإن كان لامًا فكذلك نحو: سبأت الخمرة أسبأها سبأ وسباء، والأمر: اسبأ، واجتماع حروف العلة مع الهمز كاجتماعها مع الصحيح من الحروف، تقول: ناء ينوء نوءًا، إذا نهض، كما تقول: قال يقول قولًا، والأمر: نوءْ كقُل، وناء اللحم ينيء نيئًا، وجاء يجيء جيئًا، كسار يسير سيرًا والأمر منه جيء كسر وأنأت اللحم كأسرت الرجل وتقول: وأرت أرةً أأرها وأرا، كما تقول: وعدته أعده وعدة، والأمر: إرْ، كعِد، وتقول: بأوت ... .
... فأنا قريب من الأرض لانحنائي، وإذا أردت الجلوس نأت الأرض عني لما عليه مفاصلي من عصياني.
مسألة من الغريب
البارحة اسم لليلة يومك الذي أنت فيه وقد مضت، والبارح من قولك: ما برحت، أي ما تنحيت ولا غبت، والبارح من الظباء الذي يوافق يساره يسارك، وهذا عندهم يتشاءم به، والسانح خلافه وهو مبارك عندهم، قال ذو الرمة:
خليليَّ لا لاقيتُما ما حييتُما ... من الطَّيرِ إلاّ السَّانحاتِ وأسعدا
ومثل للعرب: من لي بالسّانح بعد البارح، يقوله الرجل يوعد بالإحسان بعد الإساءة إليه، وقد يتيمن بعضهم بالبارح ويتشاءم بالسانح، قال زهير:
جرتْ سنحًا فقلتُ لها أجيزِي ... نوًى مشمولةً فمتى اللِّقاءُ
قوله: نوى مشمولة، أصابها الشمال، والشمال تفرق السحاب، وأجيزي: أي اقطعي، كأنه خاطب الظباء متحسرًا أي أنني على نوى من صفتها، وسيري فيها، هذا إذا جعلت النوى مفعول أجيزي، ويجوز أن يجعلها في موضع الرفع، وتجعل مفعول أجيزي محذوفًا، أو تجريه مجرى إذ هي، ويصير الخطاب للنفس على طريق التفجع كأنه قال: هذه نوى مشمولة، ومعنى: فمتى اللقاء في الوجهين تلاين واستبعاد، والبارح: طلوع الكوكب بالفلاة في المشرق، ونوؤه سقوطه في المغرب، فللكوكب نوء وبارح، والبارح: ريح حارة تهب في الصيف، وأيام البوارح: وهي رياح أنجم معروفة، النجمة الريدان والجوزاء والشعري والعقرب، قال ذو الرمة:
مرَّا سحابٌ ومَرَّا بارحٌ ترِبُ
وأنشد الأصمعي:
أيا بارحَ الجوزاءِ مالَكَ لا ترى ... عيالكَ قد أمسَوْا مراميلَ جوَّعا
وقال: الشعر للص أحب أن تهب عليه منها الريح فتمكنه الخرابة وهي سرقة الإبل تعفي الآثار، قال: وقد استبطأها آخر فقال:
أيا بارحَ الجوزاءِ مالَكَ مُضربا ... وقد غنى مال الشَّيخ غير قعودِ
والبارح الهم والشوق يبرح ويشق، ويقال: أصابه برحٌ بارح، وبراح: اسم للشمس معدول عن البارحة الزائلة، مثل حذام، ويقال للرامي إذا أخطأ: برحى، لزواله عن المقصد، ومرحى، إذا أصاب، وكذلك: أيحا، كأنه من المرح.
مسألة
الفرق بين قول القائل: كل هؤلاء أصحابك، وبين قولك: كل أصحابك هؤلاء، أن أقول: كل هؤلاء أصحابك، كل واحد منهم صاحبك، وجائز أن يكون له أصحاب غيرهم، وإذا قال: كل أصحابك هؤلاء، فالفائدة أن جملة أصحابه هم هؤلاء، ولا يجوز أن يكون له أصحاب غيرهم، فإن قيل: ما معنى قولك: كل، وكيف جاز أن يضاف إلى الأصحاب، والكل هم الأصحاب، والشيء لا يضاف إلى نفسه، بدلالة أنه لا يحصل له بذلك تخصيص، قلت، أما معنى كل، فهو اسم لأجزاء الشيء وأحاده، فعلى هذا الوجه أضيف، وكذلك وجب إضافة بعض لأنه بمنزلة جزء، وكان أبو علي الفارسي ﵀، يستدل على جواز دخول الألف واللام على كل واحد منهما بأن سبيلهما سبيل الأجزاء، والجزء، فلما لا يمتنع واحد منهما من حرف التعريف، كذلك قولك: كل وبعض، ولذلك لزمتهما الإضافة، قال أبو علي: وهذا قياس قول سيبويه، ومثلهما: النصف والثلث وغيرهما مما يلزمه الإضافة من أسماء أجزاء الشيء، فكما لا يمتنع شيء منهما من الألف واللام، فكذلك هما ولا فصل.
مسألة
1 / 12
يقال: زال الشيء يزول زوالًا، إذا فارق ولم يثبت، وأزاله غيره، فهذا لا يتعدى، وزال الشيء من الشيء يزيله زيلًا إذا مارَّه، وهذا يتعدى إلى مفعول واحد، وما زال يفعل كذا، يزال: بمعنى ما برح، وقال سيبويه: يقال منه زايلت بمعنى بارحت، فدل هذا على أنه من الياء، وإذا كان كذلك فكأنه لغة في زال يزول فيكون على هذا: فعل يفعل من الياء، وذاك على: فَعَل يَفْعِل من الواو، وقد أخرج ما زال وما برح جميعًا إلى باب العبادات، وجرد كلاهما للزمان، فدخل على المبتدأ والخبر ومعناهما الإثبات، لأن زال ضد دام، وبرح ضد ثبت، وبدخول الحرف الثاني عليهما وهو ما صارا للإثبات، لأن نفي النفي إثبات، وبانتقالهما إلى باب العبادات لم يكتفيا بالفاعل واحتاجا إلى الخبر. وحكى أبو علي الفارسي ﵀ أن بعض أهل النظر فرق بينهما بأن قال: برح لا يستعمل في الكلام إلاّ أن يراد به البَراح من المكان، ذكر المكان أو لم يذكر، لقيام الدليل عليه، قال أبو علي: وهذا فاسد، ألا ترى قول الله تعالى:) وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتَّى أبلغ مجمع البحرين (، ومن المحال أن يبلغ الموضع المذكور ولم يبرح مكانه، وإذا لم يخل قوله لا أبرح في الآية من أن يكون في معنى البراح من المكان والمضي عنه، أو في معنى لا أزال، وامتنع أحدهما فما بقي إلاّ الآخر. قال: ويدل على أن معناهما الإثبات امتناع العرب من جواز قول القائل: ما زال زيد إلاّ راكبًا، وما برح عمرو إلاّ منطلقًا، كما امتنعوا من جواز: دام زيد إلاّ راكبًا، أو ثبت زيد إلاّ ساكتًا، وللمعترض على أبي علي فيما رده أن يقول: وجدت قولهم: لم يزل، مستعملًا في صفة القديم تعالى، تقول: لم يزل الله تعالى قادرًا وعالمًا، ولم يبرح، غير مستعمل في صفاته، لا يقال: لم يبرح القديم كذا، ولو استويا في المعنى لجريانه على حد واحد في الجواز والامتناع، وإذا قد اختلفا فيما ذكرته فلاختلاف معناهما، وإذ لا يقال في جواب هذا هو أن يزال لما لم يستعمل فيما وضع له في الأصل استعمال يزول، وكان منقولًا إلى باب العبادات بهذه للبنية التي لم يشتهر بإفادته معنى الزوال، صار كأن معناه ولفظه لا مناسبة بينهما وبين معنى الزوال ولفظه، فصلح بعد النقل لدخوله في صفات القديم تعالى.
وما برح، استعمل في الزوال من المكان والبراح منه والمضي عنه قبل النقل كثيرًا، واشتهر بإفادته هذا المعنى اشتهارًا بينًا، فلما كان أمره قبل النقل كذلك نزهوا القديم ﷿ بعد النقل عن وصفه به لاختيارهم أشرف الألفاظ لصفاته، ولاستغنائهم بما زال عنه، ويكشف هذا ويوضحه أنهم وصفوه تعالى بعلام الغيوب، وامتنعوا من استعمال: علامة، وإن كان أبلغ في المعنى مكانه، لما في لفظه من صورة علامة التأنيث، وأنهم لا يقولون في صفاته معلِّم، وإن كان قد قال:) الرحمن علم القرآن (لاشتهار لفظه معلِّم بالمحترف له، فقس على ما أصلته لك تصب إن شاء الله.
مسألة
الإمَّرُ: الضعيف الرأي، ويزاد فيه الهاء، فيقال: إمَّرة، قال:
ولستُ بذي رثْيةٍ أمَّرٍ ... إذا قيدَ مستكرهًا أصحبا
ووزنهما على ما قال سيبويه: فِعَّلَ وفِعَّلة، ولا يجوز أن يكون أفعلة لأمرين: أحدهما أن أفعلة لا يكون صفة ولا أفعل، والثاني: أنه لو كانت الهمزة زائدة لكان الفاء والعين في موضع واحد، وهذا يعز في الكلام ويقل، وقال أبو عمرو الجرمي: الإمَّرة ضرب من الغنم، وعلى وزنه الإمَّعة، يريد أن إمَّعة فعَّلة أيضًا، وهو الذي يتبع غيره، قال: وسمعت أعرابيًا ويحدث عن يونس قال، قال أبي: إني لأبغض الإمَّعة من الرجال، قالوا: وما الإمَّعة، قال: الذي يقول من يذهب حتَّى أذهب معه، ولم يرد بهذا التفسير أن إمَّعة مشتق من لفظ مع.
مسألة
1 / 13
سأل بعضهم عن الأقحوانة والأسطوانة ما وزنهما، والجواب: أن الأقحوانة النون فيها زائدة، ووزنها افعلانة، ومثلها: الأرجوان والأثعبان، لأنه ليس في الكلام افعلال، ويدل على زيادتها أيضًا أن جمعها: الأقاحي، وتصغيرها: أُقْحية وأسطوانة، وحكي الجرميّ أن كل العرب يقول في جمعها: أساطين، قال: ومن العرب من يقول إذا بني الفعل منها: تسطَّن يتسطَّن، فعلى ما حكى يجوز أن يوزن بأنها أفعوالة، فيكون: أساطين أفاعيل، وتسطن شاهد على أن النون أصلية، ويجوز أن يوزن بأنها: فُعْلُوانة، ويكون أساطين: فعالين، مثل سراحين وضياعين، وقياس فعله حينئذ على أن يقال: تأسَّط، لأن النون تكون زائدة، وحكى أبو زيد، أن العرب تقول إذا صغرتها على طريق الترخيم: سُطَيَّة، وهذا يوجب أن يكون وزنها أُفْعُلانة، والفعل منه تسطَّى.
أنشد لأبي النجم يصف الفرس:
يحثي بجمرٍ خلفه وينجلُهْ ... يقبضُ ما بين المنارِ مِغولُهْ
لمعًا كخفقِ بارق مسلسلُهْ ... في جنبه الطائر ريثَ عجلهْ
قوله: يحثي بجمر: يريد أن الفرس لشدة وطئه للأرض ترى الحصى يتطاير من تحت حوافره، فكأنها الجمر، لأنه يقدح منها النار، والباء من قوله بجمر، مقحمة مفيدة للتأكيد، والمراد: يحثي جمرًا، وينجله: يرمي به إلى خلف، وقوله: يفيض ما بين المنار، يقول: كأنه يجمع ما بين المنار لسرعته، ومغولة: ما يغول به للطريق من عدوه، ومنه قيل للفرس: هو يغول الحزام، ويغتاله: يحوزه، إذا كان عظيم المحزم، وقوله: لمعا كخفق بارق، فيه قلب، يريد: كبرق خافق، يعني تشبيه الإسراع بلمع البرق إذا خفق، والمسلسل: المتصل، وقوله: في جنبه الطائر ريث عجله، يعني أنه إذا قرن به الطائر وقيس إليه كانت عجلة الطائر أبطأ عند هذا الفرس.
مسألة من الغريب
الجَرُّ: السَّحْب، والجرّ: سفح الجبل، والجرّ: جمع الجرة، وفي الحديث نهى عن نبيذ الجرّ، والجرَّة في قولهم: لا أفعل كذا ما خالفت جرَّة وجرة: ما يجتره البعير من كرشه، وما خالفت ما مع الفعل في تقدير مصدر حذف اسم الزمان معه، كأنه قيل: لا أفعله مدة مخالفتها، لأن الجرة تعلو والدرة تسفل، فهو في موضع الظرف.
فأما قولهم: هلمَّ جرَّا، فالمعنى تلوموا في سيركم ولا تجهدوا أنفسكم، أخذ من الجرّ في السَّوْق، وهو أن تترك الإبل ترعى في السير، وجرَّا، انتصب على أنه مصدر في موضع الحال، والمراد: هلم جارين، ومثله: جاء مشيًا، وأقبل ركضًا، والكوفيون يقولون: هو مصدر، لأن هلم معنى جروا، فكأنهم قالوا: جروا جرًا.
مسألة من الأبنية
ذكر الخليل أنه لم يوجد في كلامهم على وزن مفعولاء إلاّ ثلاثة أحرف: معْيوراء، وهي الأعيار، ومَشْيوخاء، للشيوخ، ومعْلوجاء للعلوج، وقد جاء: المعْبوداء، جمع العبد، والمَكْبوراء: جمع الكبير، والمغفوراء جمع الغفور، والمَصْغوراء جمع الصغير، والمَأتوناء جمع الأتان، والمَتْيوساء جمع التَّيْس، والمبغولاء جمع البغل، والمَشْيوحاء: الأرض التي تنبت الشيح، ويقال أيضًا: هم في مشيوحاء من أمرهم، أي في أمر يبتدرونه، وهم في مرموثاء من أمرهم، أي في اختلاط، ويقال: رمث أمرهم، وكذلك هم في مرْجوساء من أمرهم، بمعناه، والمَفْيولاء أولاد الفيل، وأرض مسلوماء، كثير السَّلَم.
مسألة
سأل بعضهم عن قول العرب: ما أُبالي بكذا من أي شيء أخذ، وما معناه؟ والجواب: أنه يجوز أن يكون أفاعل من البلاء، مثل: أضارب من الضرب، والمعنى أنه ليس من النِعَم التي يفاخر بها، ثم أُتُسِع فيه فقيل في كل موضع، وقد تتعدى اللفظة باستعمال ما وضعت له في الأصل إلى غيره، ألا ترى أن قولهم: تعالى، هو تفاعل من العلو، وأنه كان يقوله من كان في رابية أو على جبل لمن كان في حضيض، أو في قرارة أرض، فانتقل بكثرة التداول له واستمرار الاستعمال به حتَّى صار يقوله المُسْتَفِل، وحتى وضع موضع: صِرْ إليَّ، وأقبل نحوي، وعلى هذا يفسر قول الشاعر:
مالي أراكَ دائبا تُبالي ... وأنتَ قد متَّ من الهُزالِ
1 / 14
أي لم يغالب غيرك بتعداد ما كان منك من البلاء الحسن، وأنت من سوء الحال مشارف التلف، ويقوى هذه الطريقة أنه يقال في معناه: ما احتُفل بكذا، فاحتُفل من الحفل، كما أن أبالي من البلاء. وقال بعضهم: إن معنى قولهم لم أبالَ به: لم أخطره ببالي، والبال: الخَلَد، وجه هذا القول أن يكون بالي مقلوبًا، لأن البال عينه معتل، وزعم أنه يشهد له ما جاء في المثل: ما إباليه بالة، وما جاء في المأثور عن بعضهم في صفة قوم: لا يباليهم الله بالة، وقول سويد بن أبي كاهل:
عنا لكَ لا أبالي الناسَ بالًا ... أشتَّى بعدُ كانوا أو جميعًا
وهذا الوجه يضعف لأن سيبويه ذكر أن بالة وزنه بالية، وأنه مصدر كالعافية، والعاقبة، فحذفت لامه تخفيفًا، ومثله قولهم: الحانة، ألا ترى أنه يقال في جمعه الحواني، كما قيل في جارية: الجواري، وأن النسبة إليه حانوى، وأنشد:
وكيفَ لنا بالشُّربِ إن لم تكنْ لنا ... دوانيقُ عند الحانويّ ولا نقْدُ
وإذا كان الأمر في قولهم بالة، على ما ذكر سيبويه، فإن بالى جاء على أصله لا قلب فيه ولا تغيير، فأما قولهم: لا ألقي له بالًا، فهو كما يقال: ما ألقي له سمعًا، أي لا أستمع إليه، ويجب أن يكون أخذ من البال الخلد، قال الله تعالى:) إنَّ في ذلك لَذِكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد (. وقال الأصمعي في الأمثال: ما ألقي لذلك بالًا أي لا له ولا أتحفَّظ به، والبال: الحال ههنا، كما يقال: أصلح الله بالكم.
مسألة من التنزيل
قوله تعالى:) حتَّى يعطوا الجِزيةَ عن يد وهم صاغرون (، فيه وجوه، يجوز أن يكون اليد النعمة، فيكون المعنى: يؤدون الجزية عن نعمة عليهم وامتنان للمسلمين فيهم، وهو مقادتهم لهم على ما هم عليه، وتخليتهم بينهم وبين أسبابهم ومساكنهم، ويكون موضع عن يد نصبًا على الحال، كأنه قال: يعطون الجزية مقابلة لنعمكم عندهم، وعوضًا عنها، وقد حمل على مثل هذا اليد في قوله تعالى:) فرَدُّوا أيديَهمْ في أفواهِهم (، فقيل معناه: ردوا نعم الله عليهم بتكذيبهم وجحدهم وتخوفهم، ويقاربه قوله ﷿:) يريدونَ أن يُطفئوا نورَ الله بأفواههم (، ويجوز أن يكون المراد باليد القوة من قولهم: لا يدَ لي بكذا، أي لا قوة، فيكون المعنى: يؤدون الجزية متعقبةً لاستعلائكم، ويجوز أن يكون الجارحة، وقد توسّع فيها، فيكون المعنى: يعطون الجزية بعد اعتراف لكم بأن أيديكم فوق أيديهم، وإظهار للتذلل في مصارفهم، والجزية في كلامهم، الخراج الموضوع، وسمى جزية: لأنها قضاء لما عليه أخذ، يقال: جزى عني كذا، أي قضى، وفي القرآن:) واتقوا يومًا لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا (لا يقضي ولا يُغني، ومنه قيل للمتقاضي: المتجازي، وفي الحديث: كان رجلٌ يُداينُ الناسَ وله كاتبٌ ومُتجازٍ.
مسألة من الآثار
يشمل على ضروب من الفوائد
روي في الخبر أن النبي ﵇ والمسلمين ﵃ يوم أُحد، لما قال أبو سفيان وحزبه: أُعْلُ هُبَل، قالوا في جوابهم: الله أعلى وأجلّ. فسأل بعضهم، فقال: كيف جاز هذا الكلام؟ وأفعل من باب التفضيل موضوعة لأن يجيء لتفضيل واحد على جماعة هو منها، ولذلك يضاف إليها، أو إلى واحد منكور ينوب منابها، تقول: هذا أفضل القوم، وزيد أفضل الرجال، والمعنى أنه واحد منهم يزيد فضله على فضلهم، وكذلك إذا تممته بمن يوجب التشارك فيما يقع التفضيل فيه، تقول: زيد أفضل من عمرو، والمعنى: يزيد فضله على فضل عمرو، ولو قلت: الإنسان أصلب من الحجارة، لم يجز لاختلاف الجنسين، وإذا كان موضوع أفعل في التفضيل على هذا، فلا يجوز أن يكون كلام النبيّ ﵇ للتفضيل لما يحصل فيه من مشاركة هُبل لله تعالى في العلُوّ والجلالة، وإن كان الله ﷿ مفضلًا في الكلام عليه، ولا يجوز أيضًا أن يكون المراد بأعلى وأجل: الله عليٌّ وجليلٌ، كما قال عبيد:
فتلكَ سبيلٌ لستُ فيها بأوحدِ
1 / 15
أي بواحد، لخروج الكلام من أن يكون واقعًا في مقابلة كلام الكفار ومعارضًا، وإذا امتنع الوجهان فيه، فعلى ماذا يُحمل؟ والجواب: أن النبي ﷺ لما رأى الكفار يوازنونه إذا دعاهم إلى الله ﷿، وإلى الإيمان به، أو استنصر الله تعالى عليهم، واستنجز كريم وعده فيه بذكر هُبَل، ويدَّعون في مباراته ومحاكاته أن لهم إلهًا يرجعون في المسألة إليه، ويعتمدون في الإجابة عليه، وأنهم يرجون عُلوَّهُ وقهره وإظهاره، حتَّى قالوا له: تعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة، ثم نتعاقب على ذلك، فأنزل الله ﷻ:) قلْ يا أيُّها الكافرون لا أعبدُ ما تعبدون (السورة، ووجد أبا سفيان وصحبه ركبوا في مقابلته ومحاذاة أفعاله ذلك اليوم تلك الطريقة، قال على طريقة التنزيه والتعظيم والتبرئة والتفخيم: الله أعلى وأجل، أي: تعالى عن أن يذكر معه شيء، وجل عن أن يغالبه مذكور. وهذا كما يقال: فلان أوثق من أن يواقف، وأعدل من أن يحاكم، وإذا كان كذلك سقط مشاركة هبل له في المدح، وفي هذه الطريقة قول الله ﷿:) لا يُسئلُ عمّا يفعل وهم يُسألون (، أي أفعاله في الإتقان والإصابة والجري في سبيل الحكمة بحيث لا تتعقب بالسؤال عنها، والبحث عن مواقعها، وهم يسألون لجواز السهو عليهم، وتخلل الاختلال لأفعالهم، وهذا ظاهر، ويغلب في نفسي أن الفرزدق أراد بقوله:
بيتٌ دعائمُه أعزُّ وأطولُ
هذا المعنى، أي أعز من أن يغالب، وأطول من أن يفاضل، وأنه لم يقصد: أعز من غيره، لما في الأول من التَّعلي والفخامة، فاعلمه إن شاء الله تعالى.
مسألة
سأل بعضهم عن قول القائل: احمل المال أولَ أولَ. وإعرابه ومعناه.
والجواب: اعلم أن للعرب في تكرير مثل هذا مذهبين، منهم من يبنيهما معًا فيجريهما مجرى خمسة عشر، كما فعل ذلك بقولهم: هو جاري بيْتَ بيتَ، ولقيته كفَّةً كفَّةً، وصباحَ مساءَ، ويوم يوم، فيقول على ذلك: احمل المالَ أولَ أولَ، والمراد في الكل نية حرف الجر، وتضمين الاسمين معناه، وكان الأصل: هو جاري بيتٌ لبيتٍ، أو بيتٌ إلى بيتٍ، ولقيته كفَّةً لكفَّةٍ، وصباحًا لمساء، ويومًا ليوم، فلما حذف حرف الجر وتضمن الاسمان معناه، وجب البناء، كما أن خمسة عشرَ لما كان أصله خمسة وعشرة، ثم حذف حرف العطف وضمن معناه الاسمين وجعلا كالاسم الواحد، وجب بناؤه، وكذلك قولك: احمل المال أولَ أولَ، أي أولًا لأول، أو أولًا مضافًا إلى أول، كأنه لا ينتظر بكل أول أن يكون له ثان، بل يحمله معجَّلًا، حتَّى يصير كل محمول أولًا لأول، أو أولًا مضاف إلى أول، وعلى هذا: ألقى متاعه أخوَلَ أخْوَلَ، قال الشاعر:
يُساقطُ عنه روْقهُ ضارياتها ... سِقاطَ حديدِ القينِ أخوَلَ أخولا
وقال امرؤ القيس:
ورِثنا الغِنى والمجدَ أكْبرَ أكبرا
أي: أكبرٌ عن أكبرٍ، وأخول عن أخول، ومنهم من لا ينوي حرف الجر، ولا يجعل الاسمين اسمًا واحدًا، فيقول: صُمْتُ رمضان يومًا يومًا، وقبضت المال درهمًا درهمًا، وأحمل المال أولًا أولًا، والمعنى: أحمله شيئًا شيئًا، وجملة جملة، أي متتابعًا، وإن أدخلت الفاء حسن وجاد الكلام وصار جائيًا على أصله، تقول: احمل المال أولًا فأولًا.
وزعم سيبويه أن الغالب على هذا الكتاب كله أن يكون انتصابه من إحدى الجهتين: الحال أو الظرف، فإن أدخلت الألف واللام فقلت: أدخلوا الأول فالأول، فيجب أن لا تعتدَّ بهما، ويكون انتصابه على الحال أيضًا، والتقدير: ادخلوا واحدًا واحدًا، وشبهها سيبويه بقولهم: جاءوا الجمَّاءَ الغفير، وجاءوا قضّعم بقضيضهم: في أنه معرفة، وقد وقع موقع ما يكون نكرة، وهو الحال.
بيت معنى
أقولُ لعمرٍو والظّباءُ سوانحٌ ... وهنَّ لنا الأكتابُ والصَّيدُ مُخلقُ
ألا إنما التَّمرُ الذي أنتَ آكلٌ ... هو الإسبُ والمُسترخصُ المُمزَّقُ
فعنهنَّ أو فاسببْ فتلك رمايةٌ ... بها عندَ دبَّاغي تِهامةَ تنفقُ
1 / 16
هذا يعير رجلًا بأنه صائد، وأنه يشتري التمر بجلود الوحش فيأكله، فقوله: فعنهم، أي فأصب عيونهن، يقال: عنت الرجل، أصبته بعين، أو رميت عينه فأصبتها، قوله: فاسبب أي أصب سبَّاتهن بالسهام وعلى الأدبار، وهذا مما يوصف به حذق الرامي، لأنه إذا رمى عيونها وسباتها سلمت الجلود من الثقب فلم يكسد في البيع، وأنشد في بعضهم:
إذا ما تولُّوا سبَيْناهمُ ... وإن أقبلوا فهمُ من نسُرْ
نسر: نرمي سررهم فنصيبها، كذلك يقال من كل أعضاء البدن، يقال: وجهته وبطنته: أي أصبت بطنه ووجهه، وكذلك جميع الأعضاء، يقال: نِبتهُ، أي: أصبت نابه، لأنه من بنات الياء، كما يقال: بِعته، وسُقته، أي: أصبت ساقه، لأنه من بنات الواو، مثل: قُلته، ويقول: رأيته، أي: ضربت رئتيه، وفأدْتُه، أي: أصبت فؤاده، فهو مفؤود.
مسألة
سأل بعضهم عن قول القائل: عَذيري من فلان، ومن يعذرني من فلان، وعن موضعه في الكلام وفائدته.
اعلم أن هذه اللفظة، أعني من يعذرني من فلان، ينوب عنها: من عاذري من فلان، وعذيرك من فلان، ومن عذيري من فلان، فأما من يعذرني من فلان، فقال الخليل فيه: معناه من يلوم فلانًا ولا يلومني، ويقال: عذرته عذرًا وعذرا ومعذرة وعذرةً وعذرى وعذيرا، ويستعمل أعذرت في معنى عذرت، وتقول: من عذيرك من فلان، والمعنى: من يعذرك من فلان وأنشد بعضهم:
يا قومُ من عاذرى من الجَدَعةْ
وأنشد أيضًا قول عمرو بن معد يكرب:
أريدُ حِباءهُ ويريدُ قتلي ... عذيرُكَ من خليلكَ من مُرادِ
وينشد:
عذيرُ الحيِّ من عدوا ... نَ كانوا حيَّةَ الأرضِ
وذكر أبو سعيد السيرافي ﵀ في قول القائل: من يعذرني من فلان، أنه يفسر على وجهين، أحدهما أن يكون المعنى: من يعذرني في احتمالي إياه على ما أحتمله عليه، والثاني: أن يكون معناه: من يذكر عذر فلان لي، ثم ذكر أن المفضل بن سلمة اللغوي أنكر على سيبويه حين جعل العذير مصدرًا واستضعف طريقته فيه، وقال: إن المصادر على فعيل بابه الأصوات، كالصَّهيل، والنَّهيق، والشَّحيج، والهدير، وما أشبهه، وإنه في غير هذا الباب يقل، فعلى طريقته يجب أن يكون عذير صفة لا مصدرًا، لأن الأكثر عليه في غير الأصوات، فيكون عذير وعاذر، كشهيد وشاهد، وقدير وقادر، فكأن القائل إذا قال: عذيرك من فلان معناه: هات عذيرك، واحضر عاذرك، وهات من يعذرك، وكذلك إذا قال: من عذيري من فلان، فالمعنى: من عاذري.
واعلم أن أحد الوجهين اللذين حكاهما أبو سعيد في تفسير من يعذرني من فلان، وهو: من يذكر لي عذر فلان عندي، بعيد، إذ لم أجد في اللغة: اعذرني من زيد، بمعنى اذكر لي عذره، فأما الوجه الآخر مما حكاه، وهو: من يعذرني في احتمالي فلانًا فهو طريقه، إلاّ أنك تقول: عذرت فلانًا، إذا بسطت عذره، وأعذرته أيضًا، وما فسر به الخليل: من يعذرني من فلان، أي: من يلوم فلانًا ويدع لومي، هو المختار في تفسير ذا اللفظ، ألا ترى أن الخليل قال، إنهم يقولون: ألا تعذرني من فلان، قال: ومعناه أن يكون الرجل مطلوبًا من جهة فلان، فكأنه استعذر من مخاطبه متقدمًا في الشكوى من فلان، ومبينًا عذر نفسه فيما يكون من عقوبته، أن أختار معاقبته، وأنه جاء في الحديث المروي: لن يهلك الناسُ حتَّى يعذروا من أنفسهم، والمعنى: حتَّى من رجعوا باللَّوم على أنفسهم من كثرة ذنوبهم، ويعذروا مؤاخذهم ومخاصمهم على ما يكون منهم. وقد فسر بعض أهل اللغة هذا الحديث على أن معناه: حتَّى يكثّر عيوبهم وذنوبهم، وهذا الرجل لم يأت بتفسيره على حدة، ولا تحقيقه الكلمة، وإن كان لا بد من كثرة الذنوب منهم، فأما ما أنكره المفضل بن سلمة على سيبويه فغير منكر، لأن المصادر في غير باب الأصوات قد جاءت على فعيل كثيرًا، وذلك: كالنَّكير، واللَّهيب، والوجيب، والرَّسيم، والخبيب، والشَّميم، وما لا يتسع لذكره.
1 / 17
وقد قال أبو الحسن الأخفش في قول الله تعالى:) فالمُلقياتِ ذكرًا عذرًا أو نُذرا (، النُّذر والنَّذير، كالنُّكر والنَّكير، في أنها مصادر، فعلى هذا العذر والعذير، وإذا كان كذلك، فمعنى عذيرك من فلان: أقم معذرتك منه، وهات معذرتك، فإن قال قائل: كيف فسر الخليل: من يعذرني من فلان، على أن معناه: لُمْ فلانًا ولا تلمني، قلت: كان فلان الكذوب عامله بما استحق به لومًا، واقتضى مؤاخذة المتكلم إياه به ومحاسبته عليه، فخاطب الفتى فقال: من يعذرني من فلان، أي من يبسط عذري من أجل فلان الذي استحق اللوم فيما يعاملني به، كأن ذاك لا عذر له، وهذا إذا عاقبه كان معذورًا، وفي لوم المخاطب لذلك بيان عذر هذا، فقال: من يعذرني منه، وكذلك قوله: حتَّى يعذروا من أنفسهم، لأن في رجوعهم على أنفسهم باللوم بيان عذر الله ﷻ في مؤاخذتهم ومعاقبتهم، وعلى هذا قول عمرو:
أريدُ حِباءهُ ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مرادِ
لأنك إن جعلت عذيرك في معنى عذارك، أو جعلته في معنى معذرتك، فالطريقة واحدة في أن المعنى: اطلب من يعذر منه، أو هات المعذرة منه، ومعنى العاذر منه، من يبسط عذري ويلحق اللوم به لذلك تمثل أمير المؤمنين صلوات الله عليه بالبيت، لأنه أراد أني أختار الخير لمن يكايدني وهو يبغي الغوائل، فمن يعذرني منه، أي من يبسط عذري ويلحق اللوم به إذا تنكرت له، فإن قيل: ما الفصل بين ما اخترته في تفسير: من يعذرني من فلان، من يبسط عذري في احتمالي فلانًا على ما أحتمله عليه، فحقيقة الكلام وصوابه تضيق عذر نفسه، ويكون الاستفهام على وجه الإنكار، كأنه أراد: لا عذر لي فيما آتيه معه من الحلم والإغضاء مع إصراره على ما يسوؤني، وإذا فسِّر على أن المعنى: لُمْ فلانًا ولا تلمني، فحقيقته نفي المعذرة لفلان وإقامتها لنفسه فيما سيأخذ به وفيه من معاقبته بعد ذلك، وإذ تأملت الطريقتين، بان لك الفضل وصح.
مسألة إعراب
سأل بعضهم عن الفصل بين قول القائل: أنت أفْرَهُ عبدًا وعبيدًا، وبين قوله: أنت أفْرَهُ عبدٍ والعبيد، والجواب: أن معنى: أنت أفره عبدًا، أنت تزيد فراهة عبدك على غيرها، فالفراهة أفره عبيدًا، إذا كثر عبيده، وإن كان قولك عبدًا للجنس إزالة التوهم أن له عبدًا واحدًا، قال الله ﷿:) قلْ هل أنبئكمْ بالأخسرينَ أعمالًا (، تنبيهًا على أن زيادة خسرهم في أعمال مختلفة الأجناس لا في جنس واحد، فإن قلت: أنت أفرهُ عبدٍ، فالمخاطب من العبيد، والمعنى: أنت أفره من كل عبد، إذا أفردوا عبدًا عبدًا، وكذلك لو قلت: أنت أفرَهُ العبيد، لأن المعنى: أنت مقدم في العبيد، فإن نكَّرت العبيد لم يجز بوجه.
مسألة في التنزيل
قوله تعالى:) أصحابُ الجنَّةِ يومئذٍ خيرٌ مستقرًّا وأحسنُ مقيلا (، سأل بعضهم فقال: إذا كان أفعل في باب التفضيل موضوعة بأن جيء لتفضيل واحد على جماعة هو فيها، فكيف مورد الآية وأهل الجنة لا مشاركة بينهم وبين أهل النار في شيء يقع فيه التفضيل.
اعلم أن الفرَّاء قال في هذا: أهل الكلام إذا اجتمع لهم أحمق وعاقل، لم يستجيزوا أن يقولوا: هذا أحمق الرجلين، ولا أعقل الرجلين، ويقولون: لا نقول هذا أعقل الرجلين إلاّ لعاقلين، يفضل أحدهما على صاحبه، وقد سمعنا قول الله تعالى:) خيرٌ مستقرًّا (فجعل أهل الجنة خيرًا مستقرًا من أهل النار، وليس في مستقر أهل النار شيء من الخير، فأعرف ذلك من خطابهم، انتهى كلام الفراء، والطريقة في الآية أن المراد أصحاب الجنة أزيد استقرارًا في الخيرية من أن يوازنوا وأنفع مبادلة من أن يكايلوا، وهذا على التفخيم لأمرهم، والتعظيم لشأنهم، فأما تفضيل أحد الشيئين على الآخر، وادِّعاء الزيادة له في معنى لا يحصل في الآخر منه شيء البتة، فبعيد في العرف والعقل جميعًا، لارتفاع اللُّبس منه، وظهور الحال فيه، وسقوط الفائدة في الإخبار به، ألا ترى أن قائلًا لو قال: العسل أحلى من الصبر، أو الخل أحمض من السكر لاستُخفَّ خبره، إذ لم يكن في الصبر حلاوة بوجه من الوجوه، فيقال بفضلها حلاوة العسل، ولا في السكر حموضة فيدعي أن حموضة الخل أزيد منها، فاعلمه.
مسألة من الأبنية
1 / 18
قال سيبويه: ليس في الكلام فعلٌ وصفًا إلاّ في حرف من المعتل، وهو قولهم: قوم عدى، أي أعداء، وقد يكون العدى الغرباء وأن لم يكونوا أعداء، قال الشاعر:
إذا كنتَ في قومٍ عدًى لستَ منهمُ
وزيدَ عليه قراءة بعضهم: دينًا قيّمًا في معنى قيْمًا، ويمكن أن ينصر سيبويه بأن قَيِّمًا منقوص عن قيام مصدر قام، وقد وضع موضع الصفة، وزيد عليه: مكانٌ سوى، أي مستوٍ، ولحم زِيَمٌ أي متفرِّق، قال زهير:
على قوائمَ عوْجٍ لحمها زِيَمُ
وقال النابغة:
بذي المجازِ تراعي مُنزلا زيَما
أي متفرق النبات.
والثِّني: من دون السيد، قال:
يسودُ ثنانا من سوانا وبدْؤنا ... يسودُ معدًّا كلَّها ما تدافعهْ
وماء رِوى في معنى رواءٍ كثيرة. فهذه خمسة أحرف ذهبت عن سيبويه. قال الشيخ أبو علي أيده الله: والرِّوى من بينها، من الضَّوال التي أنا وجدتها.
بيت معنى
غرائرُ أبكارٌ حِسانٌ فنونها ... كأنَّ عيونَ المرشقاتِ عيونها
يزرنَ ابن أمٍّ لا يعزَّى بهالكٍ ... أبوهْ ولم يحملْ لنسلٍ جنينها
غرائر أشباه: يعني قصائد شبهها بالنساء الغرائر وهي المنعمات الغافلات، واحدتها غريرة، أشباه: أي كلها خيار يشبه بعضها بعضًا، والمرشقات: الظباء الناصبات الأعناق مشبه عيونها في جنسها بعيونها، وقوله: يزرن ابن أم لا يعزى بهالك، أي يسرن في طريق هذه صفتها، حتَّى يصرن إلى الممدوح، وابن أم: هو السبيل، لا يعزى بهالك: أي من هلك فيه لم يُعزَّ به، ولا جنينها حمل لنسل، لأنه إنما نسب إليها الأمومة والبنوَّة على المجاز.
مسألة من الغريب
حكى ابن الأعرابي: أن العرب تقول في أمثالهم عند تقليل الشيء والإزراء به: زَنْدان في مُرَقَّعة، ويقولون أيضًا: ليس في جفيره غير زندين، والجفير: الكنانة، والزندان: قِدْحان تُورَّى بهما النار، ويقال: وريتُ بك زنادى، في معنى شد الله بك ركني، ويقال للرجل البخيل: صلدتْ زناده، أي: قدح فلم يورِ، قال الشاعر:
صلدتْ زنادُكَ يا يزيدُ وطالما ... ثقبْتَ زنادُكَ للضَّريكِ المُرمل
الضريك: الفقير، والمرمل: الذي انقطع زاده، ويقال: قدح فأصلد أيضًا: إذا لم يغنِ شيئًا، وقول عمرو بن معد يكرب:
ما إن جزعْتُ ولا هلِعتُ ... وما يردُّ بُكايَ زَنْدا
يريد أن بكاءه لا يرد التَّافه الذي يقل خطره، وقيل للبخيل المبخوس الحظ من الخير المزنَّد، من هذا.
فأما قول الأعشى:
وزندكَ خيرُ زنادِ الملو ... كِ صادفَ منهنَّ مرخٌ عفارا
ولو بتَّ تقدحُ في ظلمةٍ ... صفاةً بنبعٍ لأوريتَ نارا
فقد كشف عن المعنى، والعرب تقول: في كلِّ شجرٍ نار واستمجد المرخ والعفار فلذلك ذكرهما، ومعنى استمجد استكثر من النار، ومنه أمجدت الدابة العلف، فهو يصف الممدوح بجزالة الرأي، وإدراك الفوز في المطالب والظفر، والبتم لا يثقب لصلابته، فقال: لو قدحت به لأوريت، أي ينجح سعيك فيما يخيب ويكدى فيه غيرك.
مسألة إعراب
يقول أصحابنا البصريون: شرط فعل التعجب أن يكون من الثلاثي لا غير، فإن زاد، تعجب منه بأشد وما أشبهه مما لا يخلو الأحداث منه، وكذلك الألوان والخلق، لأن الشرط في الفعل منهما أن يكون على أكثر من ثلاثة أحرف، وقال سيبويه: يبنى مما كان على أفعل أيضًا وليس لأحد أن يعترض على ما يقولونه بما أحسنه وما أقبحه وما أطوله وما أقصره، وذلك أن الحسن والقبح ليسا من الخلق في شيء بدلالة أن الوصف بهما إنما يثيره استحلاء الناظر أو اجتواؤه دون ما عليه الشيء نفسه، ألا ترى أن ما يقول فيه: زيد ما أحسنه، قد يقول فيه: عمرو ما أقبحه من غير تغير حدث فيه أو تبدل عرض له، وإذا كان الأمر كما قلنا بأن مفارقتهما للخلق، وكذلك الوصف بالطول والقصر يحصل عن مضامَّة الغير للموصوف بأحدهما، بدلالة أن نفس ما يقول فيه: ما أطوله قد يقول فيه: ما أقصره من غير أن يتحول عن الحالة التي كان عليها من قبل، وإذا كان ذلك كذلك فارق العرج، والصَّمم، والبكم، وما أشبهها من الخلق، لأن الموصوف بها أو ببعضها يوصف بها كيف دار الأمر، إلاّ أن يخرج عن الصفة بتغيير من قبل خالقه.
1 / 19
ولا يدخل عليه قولهم للفقير: ما أفقره، وللغني: ما أغناه، وللممكن والمتمكِّن: ما أمكنه، وللمقيم والمستقيم: ما أقومه، وإن كان الفعل الماضي منها افتقر واستغنى واستقام وأمكن وتمكَّن، لأنهم إنما أخرجوه على فقر وغني وقام، وإن كان بعض هذه لم يستعمل استغناء بغيره عنه، وقد قال سيبويه: هم يستغنون بالشيء عن الشيء، ألا تراهم قالوا: هو يذرُ ويدَعُ، ولم يقولوا: وذَرَ ولا ودعَ استغنوا عنهما بترك، وقال أيضًا في غير موضع: وقد يجري الشيء على ما لا يستعملونه في كلامهم نحو قولهم: ملامح ومذاكير ومحاسن، ونحو مصغَّرات لا مكبَّر لها نحو: كُميت وكُعَيت، إلى غير ذلك مما يكثر.
وقد جاء في هذا الباب ما ليس له أفعل، قالوا: ما أشغله، وهو مشغول، وما أجنَّه، وهو مجنون، وما أملاه، وهو مملوء، كأنهم أضافوا الفعل إلى هذه الأشياء، لأنهم يقولون: ما أفعله، فيما يكون الفعل منه، ألا ترى أنهم يقولون: ما أضربه، إذا كان مضروبًا، وإنما قالوا هذه لأنهم جعلوا المشغول صاحب شغل، والمجنون صاحب جنون، والمملوء صاحب ملء، فكأنهم جعلوا الشغل والجنون والملء لها وأجروها، كأنهم قالوا فيها: قد فعلت وإن لم يكونوا قالوه.
ومما يسهل هذا ويقرب أنهم ربما جاؤوا بالصفة على قياس الفعل، ولا يتكلمون بفعلها، قالوا: رجل أظفر، للطويل الأظفار، وأعين للكبير العين، وأعنق للطويل العنق، وكذلك رجل أشعر، وكبش أصوف، كأنهم قالوا فيها: كأنها قد فعل وإن لم يتكلموا به، ولا يدخل عليه قولهم: ما أنوكه، وما أحمقه، وأهوجه، وأرعنه، وما أعمى قلبه، لأن هذه الأشياء فارقت الخلق بدلالة أن الإنسان يعاتب عليها كلها ويوبَّخ.
فإن قيل: زعمت أن ما كان ثلاثيًا أو على أفعل خاصة على طريقة سيبويه، يتعجَّب منه ب: ما أفعله، وقد قالوا: ما أشد سكره، والفعل منه سَكِر، ولم يقولوا: ما أسكره، وكذلك يقولون: ما أشدَّ جوابه، ولا يقولون: ما أجوبه، والفعل منه أجاب، قلت: أول ما في هذا أن ما ادعيته علينا لم نقله، وذلك أنا قلنا: فعل التعجب لا يبنى إلاّ مما كان على ثلاثة أحرف أو من أفعل خاصة، ولم نقل: كل فعل ثلاثي، أو على زنة أفعل يبنى منه للتعجب البتة.
وإذا كان كذلك فقد سقط ما أردت إلزامه، على أنا قد قدمنا أنهم يستغنون بالشيء عن الشيء فلا يستعملونه وإن كان القياس يقتضيه. وإذا ثبت ذلك وكان قولهم: ما أسكره، لو قيل: وما أشد سكره، وما أجوبه، لو قيل: ما أشد جوابه، في أنهما عبارتان عن معنى واحد ك: ما أضربه، وما أكثر ضربه، وما أحسنه، وما أتم حسنه، لم يمتنع أن يستغني بأحدهما عن الآخر، كما كان ذلك في: تركَ، ووذرَ، ونظرائهما، فإن قيل: كيف يصحُّ لكم ما أسَّستم الكلام عليه وقد قالوا: ما ألسنه، بمعنى: ما أبينه وأنطقه، كما يقال: رجل لسن، وقد لسنَ يلسنُ لسنًا، وكذلك أرادوا بطول اللسان الطلاقة والفصاحة، ولا يريدون اللسان وطوله.
وإذا كان الأمر كما قلناه بأن سقوط هذا الكلام وظهر أنه غلط من السائل أو مغالطة وهذا ظاهر.
مسألة من التنزيل
قوله تعالى:) وإذا قيلَ لهم ماذا أنزلَ ربَّكمْ قالوا أساطيرُ الأولين (، حكى أبو عمر الجرمي في هذا أنه سمع أبا زيد الأنصاري يقول فيه: لم يعترفوا، ومعنى هذا أنهم لما قيل لهم:) ماذا أنزل ربكم (لم يعترفوا بالإنزال فيه، ولكن أعرضوا عن الجواب وقالوا: هو) أساطيرُ الأولين (وليس بمنزل، فلا يكون على هذا محمولًا على أنه خبر المبتدأ الذي هو الذي، كأنه قال: الذي أنزل أساطير الأولين، ولكنهم تركوا البناء على هذا ولأضمروا هو معرضين عن السؤال، وقائلين: هو أساطير الأولين، لأنهم دفعوا أن يكون منزلًا.
ويجوز أن يحمل على وجه آخر، وهو: أن يكون أساطير مبتدأ، وخبره مضمر، كأنه قال: أساطير الأولين أنزله عندكم وفي اعتقادكم، فأخرج الكلام مخرج الحكاية عنهم، كما قال في موضع آخر: يا أيُّها الساحر ادعُ لنا ربَّك على حكاية كلامهم.
ومثل الرفع في أساطير قولك للرجل: ماذا رأيت؟ فيقول: خيرٌ، وفي جواب: كيف أصبحت؟ صالحٌ. وقول لبيد بن ربيعة على هذا:
ألا تسألانِ المرء ماذا يحاولُ ... أنحبٌ فيقضى أم ضلالٌ وباطلُ
1 / 20