وفي ذات مساء يقبل عليه رجلان في زي رسمي دقيق، يدعوانه فيستجيب لهما، وهو لا يعرف لماذا أقبلا عليه وإلام يدعوانه، وقد خطر له - لا أدري لماذا - أنهما مغنيان، وهو يخرج معهما على كل حال، فيأخذه كل منهما من إحدى ذراعيه ويمضيان به لا يلويان على شيء.
حتى إذا تجاوزا المدينة دفعاه إلى مقطع من مقاطع الأحجار، ثم طرحاه على الأرض، ثم أقبلا عليه فذبحاه، وهو يرى ذلك لا يقاوم ولا يحاول المقاومة، حتى إذا أحس وقع الخنجر وعرف أنه الموت قال هذه الجملة التي تنتهي بها القصة: «كما يموت الكلب.»
ولم أعرض عليك شيئا من تفصيل القصة، وإنما عرضت عليك خلاصتها في كثير جدا من الإيجاز، ولو قد عرضت عليك تفصيلها لتنقلت بك من شيء سخيف إلى شيء سخيف، ولتنقلت بك في الوقت نفسه من لغز غامض إلى لغز غامض ومن رمز خفي إلى رمز أشد منه خفاء.
وبطل هذه القصة رجل لا نعرف من اسمه إلا حرفا واحدا هو «الكاف» التي هي الحرف الأول من اسم الكاتب نفسه؛ فإذا سألت عما أراد إليه الكاتب بقصته هذه الرائعة، فأكبر الظن أنه إنما أراد إلى أن يصور الإنسان الخاطئ الذي لا يشك في خطيئته، ولكنه لا يعرف طبيعة هذه الخطيئة، ولا يعرف كيف دفع إليها ولا كيف تورط فيها ، ولا يعرف كيف يخلص منها، ولا أمام من يستطيع أن يحاول الدفاع عن نفسه.
فهو موقن بأنه خاطئ، وموقن بأن هناك قاضيا يستطيع أن يعاقب على الخطيئة كما يستطيع أن يبرئ منها، وموقن أن هناك قانونا ينظم تبعة الخاطئين، وما يترتب عليها من عقاب، ولكنه يجهل طبيعة الخطيئة، ويجهل طبيعة القانون، ولا يعرف المكان الذي استقر فيه القاضي، ولا يجد الوسيلة التي توصله إليه، وبعبارة واضحة: إنما أراد الكاتب إلى أن يصور الإنسان البائس اليائس الذي أجبر على الحياة دون أن يريدها، وأجبر على الموت دون أن يريده، وخيل إليه أنه حر بين ذلك.
وانقطعت الصلة الدقيقة الأمينة بينه وبين الإله الذي يدخله في الحياة ويخرجه منها، ويحمله ما يحمله من الأوزار والتبعات، لا يؤامره في شيء من ذلك ولا يشاوره، ولا يتيح له حتى أن يلقاه ليستعفيه من التبعة، ويطلب إليه الصفح والمغفرة.
فكاتبنا إذن لا يجحد الإله، ولكنه لا يعرفه ولا يعرف السبيل إليه، وهو مشوق أشد الشوق إلى أن يعرفه ويعرف السبيل إليه، وهو يبذل في سبيل ذلك الجهد كل الجهد دون أن يظفر بشيء، أترى إلى أننا لسنا بعيدين من حيرة أبي العلاء على اختلاف ما بين الرجلين في الزمان والمكان والبيئة والثقافة والوراثة!
فإذا تركت هذه القصة، وعمدت إلى قصة أخرى - وهي القصر - انتهيت إلى نفس النتيجة الموئسة التي انتهيت إليها في القصة الأولى. ولكن الكاتب يسلك بك إلى اليأس طريقا أخرى؛ فبطل هذه القصة الثانية رجل لا نعرف من اسمه إلا حرفا واحدا هو «الكاف» التي هي الحرف الأول من اسم الكاتب، وهو قد أقبل من مكان مجهول إلى قرية مجهولة، يشرف عليها قصر ضخم فخم، وهو يعتقد ويقول للناس إنه قد دعي إلى هذه القرية بأمر من القصر ليشغل فيها منصب المساح، وهو يريد أن يتصل بالموظف المختص في القصر ليتسلم عمله، ولكنه لا يجد سبيلا إلى هذا الاتصال، يحاول أن يتصل من طريق التليفون فلا يسمع إلا أصواتا غامضة لا تدل على شيء، ويحاول أن يتصل بالعمدة، فلا يجد عنده علما بهذا المنصب ولا باختياره له.
ويحاول أن يسعى إلى القصر فلا يجد سبيلا إليه، ويحاول أن يتصل بالقصر بوساطة السعاة الذين يسعون بين سادة القصر وبين القرية، فلا يظفر بشيء، وإنما هو الخداع يتبعه الخداع، والحيرة تتبعها الحيرة، والعناء المتصل والشقاء المقيم.
وتنتهي القصة إلى غير غاية كما ترى؛ أنفق صاحبنا حياته في القرية، لا هو بالموظف فيتسلم عمله ويعيش مع أهل القرية كما يعيشون، ولا هو باليائس فيعود من حيث جاء، وإنما معلق بين اليأس والرجاء حتى يدركه الموت.
ناپیژندل شوی مخ