وواضح جدا أن هذا القلب الذكي ذا الحس المرهف والشعور الدقيق، لم يصور الحياة كما رآها من حوله فحسب، وإنما صور هذه الحياة، وصور آثارها القريبة؛ فكان في أدبه هذا المظلم، شيء من التنبؤ المزعج، بما ستتعرض له الإنسانية من الكوارث والأخطار.
وكان من أجل هذا بغيضا إلى الذين كانوا يريدون أن يعيدوا الحرب جذعة، مثيرا للشوق وحب الاستطلاع عند الذين كانوا يخافون الحرب ويشفقون من أن يدفعوا إليها كارهين.
ومن أجل هذا كانت آثار فرانز كفكا في وقت واحد تترجم في باريس، وتحرق في برلين، والآثار الأدبية التي تركها فرانز كفكا كثيرة منوعة، لم تنشر كلها بعد، وإنما نشر أكثرها، وأظهر ما تمتاز به من الخصائص أنها تصور القلق الذي يوشك أن يبلغ اليأس، وتصور الغموض الذي يضطر القارئ إلى حيرة لا تنقضي، ويدفعه إلى كثير من المذاهب في فهم هذه الآثار وتأويلها، وحل ما تشتمل عليه من الألغاز والرموز، فقد كان فرانز كفكا أشد الناس صراحة وأعظمهم إخلاصا في حياته اليومية، وفيما كان ينشأ من الصلات بينه وبين أصدقائه وذوي معرفته، وفيما كان يسجل لنفسه من الخواطر والمذكرات في يومياته المتصلة، ولكنه بعد هذا كله كان أبعد الناس عن الصراحة وأنآهم عن الوضوح، فيما كان ينتج من القصص الطوال والقصار.
وليس المهم أن نلتمس العلل المختلفة لهذا الغموض؛ فالأدب الرمزي في نفسه ظاهرة سائغة طبيعية، ليست في حاجة إلى أن تلتمس لها العلل والمعاذير، وإنما هي أثر من آثار بعض الأمزجة، ولون من ألوان الفن، في كثير من الآداب القديمة والحديثة، على اختلاف البيئات والعصور.
فقل بعد ذلك إن فرانز كفكا قد أمعن في درس التلمود، وتعمق ما في آداب إسرائيل من الأسرار والألغاز، وتأثر بهذا كله في فنه؛ فهذا حق من غير شك، ولكنه ليس كل شيء، فما أكثر الأدباء الرمزيين الذين يستمدون رمزيتهم من مزاجهم الفني وحده، لا من دراسة التلمود، ولا من تعمق الأسرار والألغاز في أدب إسرائيل!
والغموض في أدب فرانز كفكا من نوع خاص؛ فالرجل المثقف حين يقرأ هذا الأثر أو ذاك من آثاره، لا يشعر بالغموض لأول وهلة، وإنما يخيل إليه أنه يقرأ شيئا يسيرا سائغا قريب الفهم، لا يتكلف في تذوقه جهدا ولا عناء، ولكنه لا يلبث أن يحس شيئا من الغرابة ، أو قل شيئا من الغرابة في هذا الذي يقرأ؛ لأنه يرى أشياء مسرفة في البساطة مألوفة أشد الإلف، ليس من شأنها أن ترتفع إلى حيث تكون أدبا ينتجه الفن الرفيع، وإنما هي من هذه الأشياء التي يراها الإنسان في كل يوم وفي كل مكان، وفي الطبقات الساذجة العادية من الناس؛ فيسأل القارئ نفسه، أو قل يقنع القارئ نفسه، بأن الكاتب لم يرد إلى هذه البسائط، وإنما اتخذها وسائل قريبة لغايات بعيدة.
وهنا يدفع القارئ إلى التماس هذه الغايات، فيذهب في التماسها كل مذهب، ويسلك إلى استكشافها كل سبيل، وقد يصل إلى شيء يحسبه الغاية التي قصد إليها الكاتب، ولكنه لا يكاد يفكر ويروي، حتى يشك فيما انتهى إليه، وحتى يسأل نفسه ألا يمكن أن يكون الكاتب قد أراد إلى غاية أخرى أو إلى غايات أخر، غير هذه التي انتهى هو إليها؟ وكذلك تستطيع أن تقول: إن قارئ فرانز كفكا، معلق دائما، يخيل إليه أنه يفهم ما يقرأ، وهو يفهم معانيه القريبة من غير شك، ولكنه يشعر شعورا قويا بأن هذا الذي يفهمه ليس هو الذي قصد الكاتب إليه.
وإلى جانب هذا الشعور بالتعليق المتصل يجد القارئ أثناء قراءته حرجا مرهقا وضيقا شديدا؛ لأنه يرى نفسه في بيئة مهما تكن قريبة في ظاهر الأمر فهي غريبة في حقائق الأشياء، وهو من أجل ذلك لا يحس يسرا ولا سهولة ولا سعة، وإنما هو يشعر بضيق الصدر وقلق النفس، وهذا الجهد العنيف الذي يفرض على العقل.
فقارئ فرانز كفكا في الدنيا وليس فيها، هو في عالم غريب، لا هو بالواقعي ولا هو بالوهمي، وإنما هو شيء بين الواقع والوهم يملأ النفس حيرة وشوقا وسأما وإلحاحا في وقت واحد.
تأخذ في قراءة القصة فيفجؤك قربها وتدهشك غرابتها، وأنت لا تكاد تطمئن إلى هذا القرب اليسير المألوف، ولو قد اطمأننت إليه لتركت القصة وأعرضت عن الكتاب، ورأيت أنك لست في حاجة إلى تكلف الجهد لتفهم ما لا يحتاج إلى فهم، وأنت لا تطمئن إلى هذه الغرابة، ولو قد اطمأننت إليها لتركت القصة وأعرضت عن الكتاب يائسا من القدرة على الفهم، ضنينا بوقتك وجهدك على إنفاقهما فيما ليس إلى فهمه سبيل. فأنت إذن معلق بين الوضوح الذي يملأ نفسك سأما، وبين الغموض الذي يملأ نفسك شوقا، وما تزال في هذه الحال المعلقة منذ تبدأ الكتاب أو القصة إلى أن تفرغ منهما.
ناپیژندل شوی مخ