فإذا قدرنا هذه المحن كلها، وقدرنا أنها لم تصب على رجل عادي، وإنما صبت على رجل ممتاز له من القلوب أذكاها، ومن العقول أصفاها، ومن الأذواق أرقها، ومن المشاعر أدقها، ومن الحس أشده إرهافا، وله بعد ذلك إرادة حازمة صارمة، وقدرة مدهشة على الملاحظة، وعلى ملاحظة نفسه أكثر من ملاحظة غيره من الناس، وبراعة خارقة للعادة في أن يجعل نفسه موضوعا للدرس والبحث والتحليل، وأن يكون هو الدارس الباحث المحلل، وأن يسجل ما ينتهي إليه درسه وبحثه وتحليله، في آثار مكتوبة طوال وقصار، أقول: إذا قدرنا هذا كله، لم نر غريبا أن يكون أديبنا هذا بهذه المنزلة التي شغلت الناس، ويظهر أنها ستشغلهم وقتا طويلا.
وربما كان أخص ما يمتاز به فرانز كفكا أشد الامتياز، أنه كان أصدق الناس لهجة، وأشدهم إخلاصا، وأبغضهم للتكلف، وأبعدهم عن التصنع، وأعظمهم حظا من التواضع الذي يأتي من معرفة الإنسان قدر نفسه بعد الدرس المتصل والاستقصاء العميق، وهو من أجل ذلك كان يكتب لنفسه أكثر مما كان يكتب للناس؛ فقد كان من أشد الناس زهدا في نشر آثاره وأعظمهم إخفاء لها وضنا، لا لأنه كان يكبرها أو يغالي بها، بل لأنه كان يزدريها كما كان يزدري نفسه.
وقد نشر قليل من آثاره أثناء حياته في المجلات، ولم ينشر في أكثر الأحيان إلا على كره منه، كان صديقه ماكس برود يختطف هذه الآثار اختطافا، ويدفعه إلى نشرها دفعا، فلما أدركه الموت وقرئت وصيته، تبين أنه قد اختار صديقه هذا - ماكس برود - وصيا، وأنه يطلب إليه أن يحرق آثاره كلها، وألا ينشر منها في الناس شيئا.
وقد وقف الوصي من هذه الوصية موقف الحيرة التي لم تتصل، فشك غير طويل ثم خالف عن أمر صديقه، وأخذ في نشر آثاره ملتمسا لذلك ما شاء من العلل والمعاذير.
وقد مات فرانز كفكا سنة 1924، ولم تمض على وفاته أعوام حتى كانت آثاره بعيدة الانتشار في ألمانيا، بل في أوروبا الوسطى كلها، ثم تجاوزت حدود أوروبا الوسطى إلى أوروبا الغربية، فتلقاها الفرنسيون لقاء غريبا.
وربما كان من طرائف الأشياء، أن آثار فرانز كفكا، كانت تستقبل أحسن استقبال في غرب أوروبا؛ وينكل بها أبشع تنكيل في أوروبا الوسطى؛ فكان الفرنسيون والإنجليز يترجمونها ويفسرونها، على حين كان الألمانيون الهتلريون يحرقونها جهرة في الميادين.
وقد يكون من الخير أن نلاحظ، قبل أن نتحدث عن آثار فرانز كفكا، أن ظروف الحياة الأوروبية كانت ملائمة كل الملاءمة لظهور هذه الآثار؛ فقد بدأ كفكا يشعر ويفكر قبيل الحرب العالمية الأولى، فكان كل شيء من حوله يؤذن بالكارثة، ويدفع إلى البؤس واليأس.
ثم مضى في تفكيره وإنتاجه أثناء الحرب العالمية الأولى، فكان في تلاحق الكوارث والفواجع من حوله ما يزيد إمعانه في البؤس واليأس، ثم نظر ذات يوم فإذا كل شيء من حوله ينهار؛ فإمبراطورية النمسا والمجر تتفرق أيدي سبا، والإمبراطورية الألمانية العظيمة تلقي السلاح وتركع متلقية شروط المنتصر، فلا يزيده هذا كله إلا إيغالا في البؤس واليأس، ثم يمضي في تفكيره وإنتاجه وقد تم الصلح.
ولم تلبث الإنسانية بعد إمضائه أن استشعرت خيبة الأمل وكذب الظن، فلم يتحقق العدل الذي قيل إن الحرب أثيرت لتحقيقه، وإنما عادت الإنسانية بعد الحرب، كما كانت قبل الحرب، بائسة يائسة، متخبطة لا تدري إلى أي وجه تتجه، ولا في أي طريق تسير.
حياة خاصة كلها نكر وشر، وحياة عامة كلها بؤس ويأس؛ فأي غرابة في أن يكون الأدب الذي ينتجه فرانز كفكا في هذه الظروف كلها هو الأدب الأسود بأدق معاني هذه الكلمة وأشدها سوادا وحلوكا؟!
ناپیژندل شوی مخ