فأدبنا العربي كغيره من الآداب الحية، بل كغيره من كل الظواهر الاجتماعية، مكون من هذين العنصرين اللذين كان «أوجست كونت» يسمي أحدهما ثباتا واستقرارا، ويسمي ثانيهما تحولا وانتقالا. والذي يمتاز به أدبنا العربي من الآداب الحية الأخرى هو أن التوازن لم ينقطع بين هذين العنصرين، ولم ينشأ عن انقطاعه جمود الأدب وموته بتغلب عنصر الثبات والاستقرار، أو فناء الأدب وتفرقه بتغلب عنصر التحول والتطور، وليس من شك في أن أحد هذين العنصرين قد تفوق على صاحبه بين حين وحين في القوة، فكان الأدب في بعض العصور مسرعا إلى التطور ممعنا فيه، وكان في بعضها الآخر مؤثرا للثبات حريصا عليه، فقد تفوق عنصر التطور بعد ظهور الإسلام بنحو نصف قرن، حين نشأ الجيل الجديد من العرب، واتصل بالأمم الأجنبية منتقلا إليها ومستقرا في أرضها غازيا أو مرابطا أو عاملا في مصالح الدولة أو مستعمرا وانتقلت هي إليه في عقر داره في الحجاز ونجد، سبيا وموالي، تعمل له وتقوم على خدمته وتعلمه من شئون الحضارة والثقافة ما لم يكن يعلم. في هذا الوقت دفع العرب إلى حياة جديدة في كل شيء، ولم يكن الأدب بطيئا في الاستجابة لهذا التجديد، فتطور الشعر في ألفاظه وأوزانه وأساليبه وفي معانيه وموضوعاته، ونشأت فيه فنون لم تكن من قبل، واستحدث النثر خطبا مطولة وقصصا مفصلة، ورسائل موجزة مجملة، ثم كثرت أحداث السياسة، فتطورت النفس العربية بدوافع جاءتها من داخل، واشتد الاتصال بين الأمم الإسلامية فتطورت النفس العربية ونفوس الأمم الأخرى المستعربة بدوافع جاءتها من خارج، ثم قوي الاتصال، فلم يقصر على المجاورة والمعاشرة والمعاملة والتعاون على شئون الحياة المادية، وإنما قرأ العرب ما كان عند غيرهم، وقرأ المستعربون ما كان عند العرب، ونشأ عن قراءة أولئك وهؤلاء هذا التطور الخطير الذي تمتاز به العصور العباسية في القرن الثاني والثالث والرابع.
ولست محتاجا إلى أن أفصل هذا التطور أو أطيل القول فيه فإن دقائقه معروفة تدرس للشباب في الجامعة وللتلاميذ في المدارس الثانوية، وإنما ألاحظ أن من أهم الأسباب التي دفعت إلى هذا التطور الاتصال الدقيق المستمر بين الثقافة العربية الموروثة من جهة وبين ثقافات الأمم المغلوبة المستعربة من جهة أخرى، فقد اتصلت ثقافة الهند والفرس واليونان والأمم السامية وبعض الأمم المتأثرة بالثقافة اللاتينية في إسبانيا، اتصلت كل هذه الثقافات اتصالا يختلف قوة وضعفا ويتفاوت سعة وضيقا ويتمايز سرعة وبطئا، ونتج عن هذا الاتصال هذا الأدب العربي المختلف المعقد الذي تجاوز الشعر والخطابة والرسائل إلى فنون من العلم والفلسفة وألوان من المعرفة تشبه ما كان العالم يعيش عليه في القارات الثلاث بين حروب الإسكندر وقيام الدولة العربية، فالدولة الإسلامية لم ترث سياسة اليونان والفرس وحدها، وإنما ورثت حضارتهم أيضا، وورثت معها ما كان عند هذه الأمم من ثقافات متباينة، نقلتها كلها إلى اللغة العربية، وصبتها كلها في القالب العربي، بحيث يمكن أن يقال: إن الحضارة الإنسانية التي كان يغلب عليها الطابع اليوناني قد غلب عليها الطابع العرفي في القرون الأربعة الأولى للهجرة، ثم حدثت الأحداث وتتابعت الخطوب، وأقبل المغيرون من الغرب يحملون الصليب، وأقبل المغيرون من الشرق يحملون الجهل والوحشية، وتأثر العقل العربي الإسلامي بهذه الأحداث، فلم يمت ولكنه اضطر إلى شيء من الوقوف، وتفوق عنصر الثبات والاستقرار على عنصر التحول والتطور، ومهما يكن من شيء فقد دفع الأدب العربي إلى التطور في القرون الأربعة الأولى بحكم الاتصال اليسير بين الأمم أولا ثم الاتصال الدقيق المنظم بينها ثانيا.
والآن وقد انتهى عصر الوقوف والركود واستؤنف الاتصال بين العالم العربي والعالم الأوروبي في أواخر القرن الثامن عشر، وقوي واشتد في القرن التاسع عشر، ثم دق ونظم في هذا القرن الذي نعيش فيه، ثم ألغيت المسافات الزمنية والمكانية فأصبح الاتصال في كل يوم بل في كل لحظة ظاهرة من الظواهر الطبيعية للحياة المألوفة، الآن وقد كان كل هذا، ماذا حدث للأدب العربي وماذا يمكن أن يحدث؟ أما الذي حدث فمعروف يقرؤه الناس في الكتب، ويدرسه التلاميذ في المدارس، وأظهره ما كان من الرجوع إلى الأدب القديم، وإحيائه بالنشر والإذاعة أولا، ثم بالتقليد والمحاكاة ثانيا، وما كان من تعلم بعض اللغات الأجنبية وقراءة ما ينتج فيها من الآثار، وترجمة بعض هذه الآثار إلى اللغة العربية في غير نظام ولا اطراد، وما كان آخر الأمر من الإعراض عن الحضارة المادية القديمة والإقبال على الحضارة المادية الحديثة، واستعارة النظم السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والقضائية من أوروبا، ثم العدول عن العلم الموروث ومناهج تعليمه، إلى العلم الحي الحديث ومناهج تعليمه الحية المستحدثة، وإقرار هذا كله في المدارس والمعاهد، التي أخذت تكثر وتنتشر في البلاد العربية كلها وفي مصر منها بنوع خاص.
كل هذا قد غير كثيرا من خصائص النفس العربية، واضطرها إلى أنحاء من التصور والتصوير لم تكن مألوفة من قبل، وأخذ عنصر التطور يعمل من جديد، ولكنه كان تطورا رائعا حقا. كان تطورا يسعى في طريقين متعاكستين أشد التعاكس وأقواه، وليس أدل من هذا التطور على قوة الأدب العربي وقدرته على المقاومة، واستعداده للتغلب على المصاعب والنفوذ من الخطوب، فقد كان إحياء الأدب القديم وما زال يدفع العقل العربي الحديث إلى وراء ويقوي فيه عنصر الثبات والاستقرار، كما كان الاتصال بالأدب الأوروبي الحديث يدفع الأدب العربي إلى أمام، ويقوي فيه عنصر التطور والانتقال.
والغريب أن العقل العربي الحديث قد ثبت لهذا التعاكس العنيف وانتفع به أشد انتفاع، وكان يخشى في أواسط القرن الماضي وفي أول هذا القرن، أن يتم التقاطع بين هذين الاتجاهين، فيذهب فريق من المتأدبين إلى وراء من غير رجعة، ويذهب فريق منهم إلى أمام في غير أناة، ويضيع الأدب العربي بين هاتين الطريقين المتعاكستين، ولكن الأدب ثبت لهذه المحنة واستفاد منها، كما ثبتت الشجرة العظيمة التي أشرت إليها آنفا للعواصف المتنافرة المتدابرة، وليس من شك في أن هذا التعاكس قد كان له صرعى، فجمد بعض المتأدبين وأسرفوا في الجمود، ولكنهم قضوا ولم يعدوا بجمودهم أحدا، وغلا بعض المجددين من الذين هاجروا إلى أمريكا من سوريا ولبنان، ولكن غلوهم لم يلبث أن رد إلى الاعتدال والقصد.
والشيء المهم أن الأدب العربي في الشرق الأدنى وفي مصر خاصة قد استقامت له طريقة تحقق فيها التوازن الصحيح بين القديم والجديد، على نحو ما تحقق في العراق والشام ومصر أيام التطور الذي حدث في القرون الأربعة الأولى، فاحتفظ بأصوله التقليدية الأساسية ولم يستعص على التطور، وإنما قبل من الثقافات الأجنبية الحديثة مثل ما قبل من الثقافات الأجنبية أيام العباسيين، واستحدث من الفنون ما يلائم العصر الحديث كما استحدث من الفنون ما كان يلائم عصر العباسيين.
وأول مظهر لهذا هو أن العلم الحديث نفسه قد اتخذ اللغة العربية له لسانا، وعرض كثيرا من فروعه نفسها في لغة عربية واضحة كما يعرض في اللغات الأجنبية المختلفة، ثم استقر في البلاد العربية، يدرس في معاهدها ومدارسها باللغة العربية حينا، وباللغات الأجنبية حينا آخر. يذهب العرب لطلبه في أوروبا وأمريكا، ويحمله الأوروبيون والأمريكيون إلى العرب في بلادهم.
وهنا يظهر الفرق الخطير بين الاتصال العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة، والاتصال العربي الحديث بالثقافات الأجنبية الحديثة، فقد كان الاتصال القديم ضيقا أشد الضيق، محدودا لا يكاد ينهض به إلا أفراد يمكن إحصاؤهم، وقد استطاعت كتب التاريخ أن تحفظ أسماء الذين نقلوا إلى العرب ثقافات الهند والفرس واليونان ، وأسماء الذين أساغوا هذه الثقافات وتمثلوها وأذاعوها في فنون الأدب العربي المختلفة، أما في العصر الحديث فليس من سبيل إلى إحصاء الذين يتعلمون اللغات الأجنبية ويعلمونها، وينقلون منها بالشفاه حينا وبالترجمة المكتوبة حينا آخر، فانتشار العناية بتعلم اللغات الأجنبية خصلة يمتاز بها العصر الحديث، وما نعرف أن العرب في بغداد أو غيرها من الأمصار الإسلامية أنشأوا مدارس لتعلم اليونانية والفارسية أو أرسلوا بعثات منظمة مستمرة إلى بلاد الهند والروم.
وخصلة أخرى يمتاز بها الاتصال الحديث من الاتصال القديم، وهي أن الاتصال القديم لم يكن مباشرا في أكثر الأحيان، وإنما كان يتم بالواسطة، فالذين كانوا ينقلون من اليونانية إلى العربية مباشرة كانوا أقل من القليل، وإنما كان النقل من اليونانية إلى السريانية، ثم من السريانية إلى العربية، ومن هنا وقع كثير من الخطأ والخلط والاضطراب في النقل، ومن هنا صرف بعض المذاهب الفلسفية اليونانية عن موضعه، وأضيف بعضها إلى غير أصحابه، وظهر شيء من الاضطراب في تاريخ الفلسفة الإسلامية وفي الصلة بينها وبين الفلسفة اليونانية، أما الاتصال في العصر الحديث فمباشر قلما يتم بالواسطة، فالذين يترجمون عن الإنجليزية والفرنسية يحسنون هاتين اللغتين ويحسنون اللغة العربية أيضا فينقلون عن فهم وبصيرة في كثير من الدقة والإتقان، وقد يوجد النقل بالواسطة بالقياس إلى بعض اللغات التي لم ينتشر درسها في الشرق العربي، فقد ينقل الأدب الفرنسي من طريق الفرنسية والإنجليزية، وقد ينقل الأدب الألماني كذلك من طريق هاتين اللغتين.
ولكن القراء ينظرون إلى هذا النقل في كثير من التحفظ والاحتياط ويقبلونه على أنه ضرورة موقوتة ستزول حين يشيع درس اللغات الكبرى على اختلافها، والنقل بالواسطة عندنا أدق وأصح وأدنى إلى الإتقان من النقل بالواسطة في العصر القديم، فالذين ينقلون كتابا ألمانيا من طريق الفرنسية مثلا يضاهون بين ترجمتهم وبين الترجمة الإنجليزية ليتحققوا من أن نقلهم مقارب يمكن أن يساغ، ولم يكن شيء من هذا ممكنا في العصر القديم، ولعلها أن تكون أجل خطرا من الخصال الأخرى، فقد كان القدماء يتصلون بثقافات أجنبية قليلة محدودة، وكان اتصالهم بها بطيئا ضيقا قليل الإتقان. كانوا يتصلون بثقافة الهند وهي ضئيلة، وكانوا يتصلون بثقافة الفرس وهي ضئيلة أيضا، وكانوا يتصلون بالثقافة اليونانية العظيمة الواسعة المختلفة، ولكن اتصالهم نفسه كان ضئيلا، فهم قد عرفوا الطب والعلم على اختلافه، وهم قد عرفوا الأخلاق وما بعد الطبيعة، ولكنهم لم يعرفوا الأدب ولم يعرفوا الفن، ولم يكادوا يعرفون من السياسة شيئا، أما الآن فنحن نتصل من طريق مباشرة وغير مباشرة بثقافات لا تكاد تحصى، وأيسر ما يمكن أن يقال هو أننا نتصل بالثقافة الإنجليزية والأمريكية والفرنسية والألمانية والروسية، وقد نتصل بالثقافة الإسبانية والإيطالية.
ناپیژندل شوی مخ