ثم يتقدم القرن الثالث، وإذا أمور المسلمين تزداد تعقدا، ويشتد فيها الحرج، وينتشر فيها الاضطراب؛ ثقافة ممتازة تتغلغل إلى بعض طبقات الشعب، وثراء ضخم يزداد انحصاره في أيدي قلة ضئيلة مستأثرة بالحكم، وضعف للسلطان السياسي، وتعمق لمشكلات الفلسفة، وشعور واسع عميق بهذا التفاوت المنكر بين الطبقات، ثم تبرم بهذا التفاوت، ثم إنكار له، ثم ثورة عليه، وإذا ثورة الزنج توشك أن تثل عرش الخلافة، وأصحاب الأقاليم ينتهزون هذا الضعف فيستقلون بأقاليمهم، والأدباء يرون هذا كله ويفكرون فيه ويتأثرون به، ومنهم من شارك في بعضه، وإذا هم يصورون هذا فيما يقولون من شعر وما يكتبون من نثر.
وقد يكون ابن الرومي مضطرب الأعصاب، فاسد المزاج، قد خلق مهيأ للتشاؤم، ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن الحياة من حوله لم تكن تصده عن التشاؤم وتغريه بالتفاؤل، وآية ذلك أنه أنفق حياته متشائما، وأن حياته هذه المظلمة قد انتهت به إلى أن يموت مسموما.
وقد يكون ابن المعتز قوي الأعصاب، معتدل المزاج، قد خلق مهيأ للتفاؤل، وحاول أن يتفاءل، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أنه لم يجد في الحياة من حوله ما يغريه بالتفاؤل العميق، وإنما وجد ما يسليه عن هموم الحياة وأحزانها، فتسلى بالشعر والعلم والأدب وشيء من الترف، ثم بدا له ذات يوم أن يواجه الحياة كما تعود بنو أبيه أن يواجهوها؛ فلم يكد يفعل حتى أدركته حرفة الأدب، وقتل قبل أن تتم له البيعة بالخلافة.
ولا يكاد القرن الرابع يظل العالم الإسلامي الشرقي، حتى يكون الكتاب قد بلغ أجله، وحتى تصبح حياة المسلمين في الشرق شرا كلها، لا يتفاءل فيها إلا خفاف العقول، أو الذين انتهى بهم الشك الفلسفي إلى أقصاه؛ فأما الذين لهم حظ من عقل راجح وبصيرة نافذة فمتشائمون؛ لأن كل شيء يضطرهم إلى أن يتشاءموا.
لم تكد ثورة الزنج تخمد حتى ثارت في أعقابها ثورة القرامطة، وإذا اللهب ينتشر في الشرق العربي كله، وفي الوقت نفسه تنشأ دولة الشيعة في شمال إفريقية، ويكاد الشرق الأعجمي ينفصل عن الخلافة انفصالا.
وما ينبغي أن نطيل فيما لا يحتاج إلى الإطالة، فقد كان كل شيء في ذلك العصر يمهد لنشأة الشاعر المتشائم العظيم أبي الطيب المتنبي الذي لم يتشاءم بعقله ولسانه فحسب، وإنما هم أن يتشاءم بسيفه فلم يفلح، وهو على كل حال مؤسس التشاؤم الفلسفي المنظم في الشعر العربي، أسسه قبل أن يبلغ العشرين، وأتم بناءه قبل أن يدركه الموت؛ نظر إلى الحياة اليومية فضاق بما كان يملؤها من فساد، وضاق بالنظام السياسي والاجتماعي الذي كان يعرض الناس لهذا الفساد، ثم احتقر الناس لأنهم قبلوا هذا النظام أو أذعنوا له، ثم سمت همته المتشائمة إلى ما هو فوق الناس وفوق نظمهم السياسية والاجتماعية، وإذا هو يسأل عن الموت، ويسأل عن الحياة، ويسأل عن الحرية، ويسأل عن الجبر، وإذا هو ينكر الحياة إنكارا ويراها شرا قد أكره الإنسان عليه إكراها.
فلم يكن أبو العلاء إذن تلميذا للمتنبي في فنه الشعري وحده، وإنما كان تلميذا له في تشاؤمه الفلسفي قبل كل شيء، وقد بينت في غير هذا الحديث أن أكثر أصول الفلسفة العلائية المظلمة قد سبق إليه المتنبي، فألم به إلمامات قصيرة دون أن يحاول تفصيله أو تنفيذه.
وجاء أبو العلاء بعد موت المتنبي بعشر سنين، فلم يكد يفقه الشعر حتى قرأ المتنبي وتأثر به، وجعل يلقي على نفسه الأسئلة التي كان يلقيها المتنبي على نفسه، وقد أحاطت بأبي العلاء ظروفه المعروفة، فقاوم التشاؤم ما وجد إلى مقاومته سبيلا، ولكنه لم يبلغ الثلاثين حتى خطا الخطوات العقلية والعملية التي لم يتح للمتنبي أن يخطوها.
وإذا هو يتخذ من التشاؤم عقيدة وسيرة في وقت واحد، وإذا هو يذهب في تشاؤمه نفس المذهب الذي يذهبه كفكا المتشائم الأوروبي الحديث فيما كتب بين الحربين العالميتين؛ فيرى أن نفسه سجينة في جسمه، وأن جسمه سجين في الأرض، أو قل في العالم.
فأبو العلاء يحدثنا بأن الإنسان لا يستطيع أن يأبق من ملك الله، فيخرج من أرضه وسمائه، فنفسه سجينة في جسمه إذن، وجسمه سجين في هذا العالم المحدود مهما تتسع أرجاؤه وتبعد آفاقه؛ فما يمنع أن يجعل هذا السجن الفلسفي حقيقة عملية واقعة، وأن يلزم نفسه سجنا ضيقا لا يعدوه، وأن يعيش في هذا السجن هذه العيشة الغليظة التي يضطر إليها السجناء.
ناپیژندل شوی مخ