والأدب الذي كان ينشأ في البصرة، والكوفة، وبغداد، إنما كان ينشأ للذين يستطيعون فهمه وذوقه من هذه الطبقة التي أتيح لها الامتياز، وهذه الطبقة ضئيلة جدا بالقياس إلى سكان العراق.
والأدب الذي كان ينشأ في باريس، وفرساي في القرن السابع عشر مثلا إنما كان ينشأ لهذه الطبقة القليلة التي كانت تستأثر بالحياة العامة في القصر وخارج القصر، وهي قلة ضئيلة بالقياس إلى سكان فرنسا.
وما ينبغي أن تطلب إلى الأدب أن يتصل بالذين لا يستطيعون فهمه ولا ذوقه، وإنما ينبغي أن تطلب إلى الدولة أن تهيئ الشعب للمشاركة في الحياة العامة أولا، ولفهم الأدب وذوقه ثانيا، ثم تلوم الأدب بعد ذلك إن اعتزل الحياة العامة، وترفع عن الاتصال بالشعوب.
وقد طلب الأدب نفسه إلى أوروبا في القرن الثامن عشر تهيئة الشعب للمشاركة في الحياة العامة، والارتفاع به عن الغفلة والجهل والبؤس، وجاهد في ذلك حتى بلغت الشعوب منه ما أرادت في القرن الماضي وفي هذا القرن، واتصل الأدب بالشعب ما وجد إلى الاتصال به سبيلا.
وبقيت هنا وهناك قلة ضئيلة جدا من الأدباء لم تفطن لما حدث حولها من التطور، أو لم ترد أن تفطن لهذا التطور، فظلت محافظة معتزلة متجافية عن الحياة الشعبية، ولكنها لم تستطع أن تحتفظ بعزلتها وتجافيها، أبت أن تهبط إلى الشعب فارتقى الشعب إليها؛ لأن الشعب إذا أخذ في الثقافة لم يقنع منها بالقليل.
وهذه المشكلة التي عرضت لأوروبا وأثارت فيها هذا الخلاف، قد عرضت لنا نحن وأثارت عندنا هذا الخلاف في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن؛ فقد أدركتنا الحياة الحديثة ونحن على ما كان عليه الناس قبل الثورة الفرنسية : طبقة ضئيلة تستأثر بالحياة العامة؛ فتنعم بالسلطان والثقافة وما يلائمها من الأدب، وشعب مسخر لخدمة هذه الطبقة الضئيلة، لا حظ له من سلطان، ولا من ثقافة، ولا من أدب، في ذلك الوقت كانت الصلة منقطعة أو كالمنقطعة بين الأدب والشعب.
ولكن التطور الحديث لم يلبث أن نبه الشعب إلى حقه، وأن يتخذ الأدباء أنفسهم وسيلة لهذا التنبيه، وإذا هم يتجاوزون الطبقة الممتازة إلى الطبقات المسخرة، وإذا هم يخرجون من تلك العزلة أو قل: يوسعون الميدان الذي كانوا يعيشون فيه؛ ليستطيع أن يتلقى أفواجا من الشعب تستمع لهذا الأدب الذي كان يلقى من وراء ستار؛ فأصبح يلقى في الهواء الطلق تسمع له الجماهير وتنشره الصحف ويسعى إلى القادرين على فهمه وذوقه في الأقطار البعيدة من الأرض.
وربما كان شوقي وحافظ - رحمهما الله - آية بينة على هذا التطور؛ فقد كان شعر شوقي ينشد في القصور، وكان شعر حافظ ينشد في دور الأغنياء وأصحاب الجاه، ثم لم يكد القرن يتقدم حتى أصبح شعر شوقي وحافظ ينشد في الملاعب وينشر في الصحف، وحتى ذاعت دواوين شوقي وحافظ، فتجاوزت طبقة السادة، ووصلت إلى أيدي قوم لم يكن لهم من أمور الحكم والسلطان شيء.
ثم كانت الحرب العالمية الأولى والثورة المصرية، وإذا الحواجز تلغى بين الطبقات، وإذا الشعب يقتحم هذه الحواجز اقتحاما، وإذا الأدباء الذين كانوا يترفعون عن الشعب قد أصبحوا ألسنة لهذا الشعب يعبرون عن نفسه أكثر مما يعبرون عن أنفسهم، ويصورون حياته أكثر مما يصورون حياة أنفسهم.
وقد عرفنا حياة الأحزاب السياسية، وانقسم المصريون بين هذه الأحزاب؛ فعدنا إلى حياة العرب في القرن الأول من جهة: أحزاب سياسية لها أدباؤها وشعراؤها، ووثبنا إلى الحياة الأوروبية الحديثة من جهة أخرى: أحزاب سياسية لها أدباؤها وشعراؤها كذلك.
ناپیژندل شوی مخ