Madame du Deffand .
كان مولدها ونشأتها في هذه السنين القاتمة التي ختمت حكم لويس الرابع عشر، وأدركها اليتم طفلة فأرسلت إلى دير من هذه الأديرة التي كان يرحل إليها بنات الأغنياء، وكانت أسرتها عريقة في الشرف والنبل، متقدمة في خدمة الدولة، محتفظة بمكانة رفيعة بين أشراف الأقاليم، وكانت هذه الأسرة من أشراف بورجوني
Bourgogne ، وأهل هذا الإقليم من فرنسا معروفون بالنشاط القوي وحدة الذهن، وذلاقة اللسان، وحب الحياة، وإيثار ما تقدمه إلى الناس من لذات، فلم يطل مقام هذه الصبية في ديرها الأرستقراطي حتى ظهر من حديثها وسيرتها ما أقلق الأسرة، وأقلق رئيسة الدير، ويجب أن يكون هذا الذي ظهر من سيرتها وحديثها خطيرا جدا، فلم تكن أسر الأشراف لتقلق من شيء يسير، ولم يكن أهل الأديرة ليضيقوا إلا بالشيء الذي لا يطاق؛ ذلك بأن حياة الناس في ذلك العصر كان قد أخذها الفساد الخلقي، من جميع نواحيها، حتى استهانوا بكل شيء، وتجافوا عما لم يكن يتجافى الناس عنه إلا في مشقة وعنف.
وحسبك أن تعلم أن الأديرة كانت قد استحالت في ذلك العصر إلى قصور فخمة، يلهو فيها من أبناء الأشراف وبناتهم من لم تسمح له ظروف الحياة بالعمل في السياسة أو في الجيش، ومن لم تتح لهن في ظروف الحياة أن يظفرن بالزوج، وكان بنات الأشراف خاصة يتخذن من هذه الأديرة دورا للعبث واللهو، يسترن ذلك بستار رقيق من اسم الدين، ولم يكن ليتحرجن من استقبال الزائرين والزائرات، ولا من إقامة الحفلات الراقصة، بل كان الرقص والموسيقى جزأين أساسيين من برنامج التعليم الذي كان يلقى إليهن فيها، فإذا استطاعت صبيتنا هذه أن تزعج أسرتها، ورئيسة الدير بما أظهرت في سيرتها وأحاديثها من خروج على التقليد، فيجب أن تكون قد أتت أمرا عظيما، وهي قد أتت أمرا عظيما حقا، فقد كانت تجادل في الدين ولما تبلغ الثانية عشرة، وكان جدالها هذا خطرا مخيفا؛ لأنها كانت تنكر أصول الدين إنكارا، وقد استعانت الأسرة ورئيسة الدير على جحود هذه الصبية بعظيم من عظماء الكنيسة وخطيب من أبرع الخطباء في عصره وهو ماسيون
Massillon
فدعي هذا الحبر للقاء هذه الطفلة ومحاورتها، فلما رآها سمع لها وتحدث إليها وانصرف عنها يائسا وهو يقول: إنها لظريفة، فلما سألته رئيسة الدير عما تصنع لردها إلى طريق الحق أطال الصمت ثم قال: ضعي في يدها كتابا من أرخص كتب الدين، ثم لم يزد على ذلك شيئا، وذكرت الصبية حين تقدمت بها السن حوارها مع هذا الحبر العظيم، فقالت: إن عقلي قد اضطرب أمام عقله، وقالت: إني لم أذعن لحجته وإنما أذعنت لجلاله!
ومعنى ذلك أن الخصمين التقيا فلم يقنع أحد منهما صاحبه، ولكن أكبر كل منهما صاحبه، فلما بلغت هذه الفتاة العشرين أو جاوزتها قليلا، زوجت من رجل شريف، عظيم الخطر، من حكام الإقليم، ولكنها لم تكد تقضي معه أشهرا حتى أنكرته وضاقت به وكرهت عشرته كرها شديدا، وكانت تقول عنه: إنه يبذل أقصى ما يستطيع ليسوءك ويصرفك عنه، على أنها قد أقنعته بالرحلة إلى باريس، ولم تكد تصل إلى هذه المدينة وتستقر فيها حتى اندفعت في حياة اللهو والعبث، اندفاعا لفت إليها الناس، وجعلها موضوع الأحاديث في هذه المدينة الباسمة اللاهية.
وكان لويس الرابع عشر قد مات، وكان أمر الدولة إلى الوصي الذي أقيم على الملك، الصبي لويس الخامس عشر، وكان هذا الوصي صاحب لهو لا حد له، وصاحب مجون وعبث لا حد لهما أيضا، وكان الناس قد ساروا سيرته كأنما أرادوا أن يعوضوا ما فاتهم في تلك الأيام الحزينة التي ختمت حكم الملك الشيخ، وما أسرع ما اتصلت صاحبتنا بقصر الوصي واشتركت فيما أقام فيه من حفلات، ثم اتصلت بالوصي نفسه، وأصبحت له خليلة، ولكن حبه لها لم يتجاوز خمسة عشر يوما، على أنها قد ربحت من هذا الحب القصير ستة آلاف من الجنيهات الفرنسية، تصرف لها في كل عام ما امتدت لها الحياة، وأسرفت صاحبتنا في اللهو حتى أنكرها أصحاب اللهو من أهل باريس، وحتى ساءت الصلة بينها وبين زوجها، فافترقا دهرا ثم كان بينهما صلح لم يطل، وعادا إلى الفرقة، ثم كان بينهما صلح آخر، قوامه أن يلتقيا على الغداء والعشاء، وألا يعيشا معا، ولكن هذا الصلح نفسه لم يتصل أيضا، ففرق بينهما، وعاد الرجل إلى قصره في الأقاليم وأقبلت هي على لهوها في باريس لا تدع فنا من فنون العبث إلا أخذت منه بحظ عظيم، على أنها لم تكد تجاوز الثلاثين حتى تبينت أن ما هي فيه من الأمر باطل كله، وحتى سئمت اللهو وعافته، وأخذت تحس انصراف الناس عنها، فأوت إلى أخ لها قسيس أقامت عنده دهرا، ثم انصرفت عنه إلى أخ آخر لها في الأقاليم، ثم عادت مرة أخرى إلى باريس، واتصلت بقصر من قصور الأشراف كان يئوي أكبر من تعرفهم فرنسا وأوروبا من الأدباء والفلاسفة، وأصحاب الفن، وفي هذا القصر ظهرت قيمتها الأدبية، واستكشفت براعتها في الحديث وتبين الذين عاشروها أنها امرأة ليست كغيرها من النساء، بل ليست ككثير من الرجال، وإنما تمتاز بقلب ذكي، وعقل قوي، ولسان فصيح عذب، ومهارة في تصريف الحديث لا تبلغ الإعجاب وحده، ولكنها تبلغ إعجاز المحدثين مهما تكن منزلتهم، ومن ذلك الوقت أخذ أمر هذه المرأة يعظم، وشأنها يرتفع، لا من حيث إنها امرأة جميلة خلابة، تحب اللهو وتسرف فيه، فقد كانت في ذلك الوقت قد بدأت تقصر عن اللهو وتعري أفراس الصبا ورواحله، كما يقول زهير، بل من حيث إنها امرأة أديبة أريبة يستطيع أن يستمتع بحديثها، وعشرتها، وبراعتها، ذوو العقول، وقد آثرتها صاحبة القصر إيثارا عظيما حتى لم تكن تصبر على فراقها، وأحبها ڤولتير، وكلف بها منتسكيو، وأطاف بها أعلام الأدب والفلسفة من الفرنسيين يستبقون إلى مودتها.
وما هي إلا أن تتخذ لنفسها دارا في باريس وتدعو إليها أصدقاءها هؤلاء من الأدباء والعلماء والفلاسفة يسمرون عندها يوم الأربعاء من كل أسبوع، ثم تضيق هذه الدار بمن يقصد إليها من رجال فرنسا وأوروبا على اختلافهم، فتتحول عنها إلى دار أخرى رحبة تستأجرها في دير من هذه الأديرة الأرستقراطية في باريس.
وفي هذه الدار التي استأجرتها كانت تقيم قبلها مدام دي منتسبان خليلة لويس الرابع عشر، تلك التي ملأت حياة الملك العظيم لذة وإثما، وكلفت رجال الدين من حوله مشقة وجهدا، والتي كانت تأوي إلى هذا الدير من حين إلى حين تستغفر الله من خطاياها، وتضرع إليه في الوقت نفسه أن يحفظ عليها هذه الخطايا.
ناپیژندل شوی مخ