وأغرب من هذا كله أن الناس لا يعلمون من أمر هذا الحب شيئا، وأن دالمبير الذي يعيش معها في دار واحدة لا يعلم من أمر هذا الحب شيئا، وإنما يحس فتورها عنه ولا يجد لهذا الفتور تعليلا.
وقد قضت ظروف الحياة على الكونت دي جيبير أن يتزوج، فتألمت مدموازيل دي لسبيناس وثارت وغضبت، ثم أذعنت لأنها لم تكن تملك إلا الإذعان، وقد عاهدت نفسها وعاهدت صاحبها على أن تحترم هذا الزواج وتحترم الفضيلة التي ينبغي أن تظله وتسيطر عليه، وقد وفت بالعهد واحتملت في هذا الوفاء أهوالا ثقالا، وهم صاحبها ذات ليلة أن يخرج عن هذا الوفاء النقي، كان يقرأ معها بعض رسائلها إليه، فصبا قلبه وثارت نفسه وجمحت عواطفه، وطغت غرائزه، ولكنها ردته ردا منكرا عنيفا، فعاد إلى داره متهالكا متخاذلا، وكتب إليها من ساعته معتذرا نادما، ووصل إليها كتابه فإذا هي غارقة في دموعها؛ لأنها كلفت نفسها من الجهد فوق ما تطيق، والفتى محب لزوجه، مستبق صلته مع خليلته الأولى في غير إثم كما يقال، ولكن مدموازيل دي لسبيناس تكتب إليه: «ضعني حيث شئت من حبك القديم ومن حبك الجديد؛ فلن أقول شيئا، ولكن اجتهد في ألا تنزلني منزلة مخزية فإني لا أستحق هذا الخزي.»
وقد أخذت العلة تسعى إلى مدموازيل دي لسبيناس، وأخذت هي تستبطئ الموت، حتى إذا تقدمت العلة فغيرت من شكلها ومن جسمها أوت إلى غرفتها ثم إلى سريرها، ثم أبت أن تلقى صاحبها لأنها لم ترد أن يراها وقد تغير شكلها على غير ما يهوى.
أبت أن تلقاه، ولكنها مضت في الكتابة إليه إلى آخر لحظة. كان يعودها مرات في كل يوم فتعلم بمكانه في دارها، وتسعى الكتب بينها وبينه، حتى كان آخر شيء كتبته وهي في آخر لحظة من لحظات الدنيا وأول لحظة من لحظات الآخرة كتاب حمل إليه، ولم يكد يبلغه حتى كانت محتضرة تعالج سكرات الموت.
وقد ماتت مدموازيل دي لسبيناس ومضت على موتها أعوام وأعوام، ومات الكونت دي جيبير أيضا، ثم عرف الناس في أول القرن الماضي وعرف من بقي من أصدقائها أمر ذلك الحب حين نشرت رسائلها إلى الكونت دي جيبير.
وكم كنت أحب أن أتحدث عن هذه الرسائل، ولكني لم أكتب هذا الفصل إلا لأغري القراء بقراءتها في أصلها الفرنسي وبترجمتها إلى اللغة العربية، فما أعرف أن أدبا من الآداب الحية أو القديمة قد صور الحب والندم والألم والغيرة كما صورتها مدموازيل دي لسبيناس.
الأمل اليائس
ولدت في آخر القرن السابع عشر سنة 1697، وماتت في آخر القرن الثامن عشر سنة 1780، وجمعت لنفسها من مزايا هذين العصرين، ما جعلها أبرع الناس أدبا، وأشد الناس شكا، وأوسع الناس أملا، وأقتم الناس يأسا، وأظهر الناس فرحا، وأعمق الناس حزنا، ولكني أنسيت أن أسميها، وقد كان يجب أن أبدأ هذا الحديث بتسميتها، فهي ماري دي فيشي شمبرند
Marie de Vichy Champrond
التي يعرفها تاريخ الآداب الفرنسية باسم مدام دي ديفان
ناپیژندل شوی مخ