وليس غريبا أن يصمم الفتى على بلوغ ما أراد، وأن تثار حرب عنيفة منكرة خفية بينه وبين أبويه، ولو أتيحت الصحة للفتى وواتته الظروف لكان من الممكن أن ينتصر آخر الأمر، فقد كان حازما عازما شديد المضاء، ولكن الأيام والحوادث كانت أشد منه حزما وعزما وأبعد منه مضاء. أغرت به الأسرة وأغرى به المرض أيضا؛ فقاوم الأسرة ما وسعته المقاومة وكاد ينتصر عليها، وقاوم المرض ما وسعته المقاومة، ولكن المرض انتصر عليه وهو في طريقه إلى باريس عائدا إليها من وطنه، ليتم ما صمم عليه من الزواج.
ولم تصل إلينا الرسائل التي تبادلها العاشقان، وقد كانت كثيرة ما في ذلك شك؛ فقد كتب الفتى إلى صاحبته اثنتين وعشرين رسالة في عشرة أيام، ولم يكن بعيدا عنها، وإنما كان قريبا منها في ضاحية من ضواحي باريس، وإنما عرفنا أخبار هذا العشق وخطوبه من رسائل أخرى لمدموازيل دي لسبيناس ومن رسائل تبودلت بين دالمبير وأسرة الفتى في مدريد.
على أن أمور مدموازيل دي لسبيناس تعقدت فجأة تعقدا غريبا هو الذي أظهر الأدب على شخصيتها هذه الفذة وأورثه فنها هذا الرفيع. كان عاشقها في مدريد يقاوم أسرته ويقاوم علته، ويتخذ من حبه القوي أداة ناجعة لهذه المقاومة، وكانت هي في باريس تنتظر، سعيدة بالانتظار شقية به أيضا، مشفقة أشد الإشفاق على حبيبها من هذه العلة المرهقة، ولكنها أجابت ذات يوم مع دالمبير دعوة إلى وليمة من الولائم في ضاحية من ضواحي باريس، في قصر فخم تحيط به طبيعة رائعة قد نسقتها الحضارة والفن أحسن تنسيق، فجمعت فيها بين ترف المدينة وسذاجة الريف، في هذا القصر لقيت مدموازيل دي لسبيناس فتى فرنسيا نبيلا كان الناس قد أخذوا يكبرونه ويعظمون شأنه لأنه أظهر تفوقا وامتيازا.
كان ضابطا في الجيش، وكان قد أصدر كتابا في فن الحرب أعجب به المختصون وفتن به المثقفون عامة، وقيل: إن بونابرت كان يصحب هذا الكتاب بعد ذلك في جميع مواقعه الحربية الكبرى، وكان هذا الفتى حلو الحديث راجح العقل حسن المحضر لطيف المدخل، قد جمع إلى براعته في فنه العسكري ظرفا فاتنا وثقافة واسعة وأدبا رفيعا، حتى إن كثيرا من الأدباء والفلاسفة الفرنسيين كانوا ينوطون به آمالا عراضا، ويعتقدون أن مسيو دي جيبير سيكون البطل الذي ينقذ فرنسا في يوم من الأيام.
لقيت مدموازيل دي لسبيناس هذا الفتى في ذلك القصر، فتحدثت إليه وسمعت منه، وأكبر الظن أنها سايرته غير متكلفة في بعض هذه الحدائق الرائعة ، فوقع من نفسها وأعجبها حديثه وظرفه وثقافته، فلما عادت إلى باريس قرأت كتابه فازداد إعجابها به وإكبارها له، ولم تملك نفسها فكتبت إليه تثني على هذا الكتاب، وأقبل هو يزورها ليشكر لها هذا الثناء، ولم ينصرف من هذه الزيارة حتى ترك في قلب مدموازيل دي لسبيناس جذوة لا سبيل إلى إطفائها، وأصحاب علم النفس والمتعمقون لدقائق الحب وما يثير في القلوب من العواطف والأهواء يستطيعون أن يجيبوا عن هذا السؤال: كيف اجتمع السيفان في غمد؟ وكيف ائتلف الحبان في قلب؟ وكيف قامت الجذوة القديمة التي أوقدها الفتى الإسباني منذ سنين إلى جانب الجذوة الحديثة التي أوقدها الفتى الفرنسي منذ أيام؟ وقد أجاب جوت عن هذا السؤال حين قال في بعض كتبه: «إن القلب الإنساني كبير يسع كل شيء وضعيف يحطمه أيسر شيء.» وقد اختلف الكتاب اختلافا شديدا جدا في حل هذه المشكلة، وما يعنيني من اختلافهم شيء؛ فأنا لا أكتب حديثا في الحب، وإنما أقص قصة امرأة جمعت في قلبها بين حبين.
فهي لم تسل عن فتاها الإسباني، وإنما ازدادت به تعلقا وبحبه استمساكا، ومن الحق أنها دافعت الحب الجديد عن نفسها فلم تستطع، ثم خادعت نفسها عن هذا الحب فصورته على أنه مودة فلم يغن الخداع عنها شيئا، ثم وقفت حائرة ممزقة بين هذين الحبين: نصف قلبها في إسبانيا، ونصف قلبها الآخر في باريس. أستغفر الله! بل غرب نصف قلبها إلى إسبانيا وشرق نصفه الآخر إلى ألمانيا؛ فقد سافر الكونت دي جيبير إلى ألمانيا والنمسا وكاد يسافر إلى روسيا، فتبعه قلب مدموازيل دي لسبيناس أو قل: نصف قلبها، أو قل إن شئت: إنها جعلت ترسل إليه قلبها أقساطا منجمة في هذه الكتب التي كانت تكتبها إليه.
وقد علمت مدموازيل دي لسبيناس أن قلب صاحبها الفرنسي لم يكن خالصا وأنه كان يحب سيدة نبيلة أخرى، وأنه لم يكن يبخل على نفسه باجتناء زهرات الحب واقتطاف ثمرته، حين كان ذلك يتاح له بين حين وحين. علمت ذلك فذاقت مرارة الغيرة واصطلت بنارها المحرقة، وعذبت نفسها وعذبت صاحبها في ذلك عذابا شديدا، واستيقنت منذ أحست هذه الغيرة أن قلبها لا ينعم بالمودة الهادئة وإنما يشقى بالحب العنيف.
وما زالت تعذب نفسها وتعذب الفتى حتى استخلصته أو ظنت أنها استخلصته لنفسها من دون النساء، وقد عاد الفتى الفرنسي إلى باريس، وأخر المرض عودة الفتى الإسباني إليها، فكانت تلقى صاحبها الفرنسي في كل يوم، تقول له ويقول لها، والأمر بينهما مستقيم لا يتجاوز النقاء الأفلاطوني البريء، والناس يعلمون أنها تكبره وتؤثره بالود، وأنه يكبرها ويؤثرها بالإجلال، والناس يعرفون ذلك ولا ينكرونه، حتى كان يوم من أيام فبراير سنة 1772 ذهب الصديقان فيه إلى الملعب وسمعا فيه الموسيقى، وكان للموسيقى في نفسهما أثر أي أثر، فلم يتفرقا حتى شربا من تلك الكأس التي لا يعرف الناس أتقدم لشاربيها رحيقا أم حريقا، كما يقول ابن الرومي، أتقدم إليهم شرابا صفوا أم سما زعافا. مهما يكن من شيء فقد كان قلب مدموازيل دي لسبيناس ينقسم نصفين: نصف لحب الفتى الإسباني ونصف لحب الفتى الفرنسي، فقد أصبح منذ ذلك اليوم ينقسم أثلاثا، ولا يخلص للحب وحده وإنما يقوم الندم فيه بين هذين الحبين مقاما غريبا، يشتد ويقسو حتى يخيل إليها أنها آثمة مجرمة قد خانت الرجل الذي تحبه وحده وتؤثره بحبها من دون الناس، ثم يضعف ويتضاءل حتى ينسيها نفسها وينسيها كل شيء ويقدمها ضحية متهالكة متضائلة إلى هذا الحب الآخر الجامح الذي لا يعرف قصدا ولا اعتدالا، وقد أرادت الحياة أن تمعن في القسوة حتى تبلغ بها أقصى غاياتها، وأن تجعل كل شيء من أمر هذه المرأة غريبا حقا.
ففي نفس اليوم الذي أثمت فيه اشتدت العلة على صاحبها الإسباني حتى بلغت حد الأزمة المهلكة، وصلت إليها الأنباء بذلك بعد أيام، فسجلته وسجلت معه ندما ما أعرف أنه صور في أدب من الآداب كما صور في رسائل مدموازيل دي لسبيناس، ثم جاءتها الأنباء بأن صاحبها الإسباني قد مات في طريقه إلى باريس؛ فلم تشك في أن خيانتها له قد قتلته، وإن لم يعلم من أمر هذه الخيانة شيئا، وقد همت أن تقتل نفسها، ولكن صاحبها الفرنسي ردها عن الموت أو رد عنها الموت، فعاشت بعد ذلك عيشة رائعة مروعة حقا: تحب كما لم يحب أحد قط، وتندم كما لم يندم أحد قط، وتصور ذلك في رسائل لم يكتب أحد مثلها قط. بعض هذه الرسائل تكتب إلى عاشقها الحي، وبعض هذه الرسائل تكتب إلى عاشقها الذي مات، وهي في أثناء ذلك تعيش عيشتها المألوفة، تستقبل الفلاسفة والأدباء والساسة وتزورهم، وتغشى الصالونات وتختلف إلى ملاعب التمثيل والموسيقى، وتسعى في أن ينتخب فلان أو فلان عضوا في المجمع اللغوي الفرنسي، وتسعى في أن يحقق هذا الوزير أو ذاك لهذا الصديق أو ذاك هذا الأمل أو ذاك، وتشارك في النقد الأدبي وفي النقد السياسي وفي كل ما يشارك فيه الأدباء والساسة والفلاسفة، وتكتب إلى أخيها من أختها وأبيها، وتعنى بأمره عند السلطان وتظهره مع امرأته على باريس.
وتكتب في أثناء هذا كله إلى عاشقها الفرنسي، أو قل ترسل إلى هذا العاشق قطعا من النار المدمرة التي لا تبقي ولا تذر، وقطعا من النسيم الحلو الذي يملأ القلوب أمنا وسلاما وغبطة وابتهاجا، ترسل إليه هذا الكتاب القصير الذي أعجب به سانت بوف والذي لا تؤرخه بيوم كذا من شهر كذا من عام كذا، وإنما تؤرخه بكل لحظة من لحظات حياتها: «أيها الصديق إني آلم، إني أحبك، إني أنتظرك.»
ناپیژندل شوی مخ