فليس هناك حب واحد إذن، وإنما هناك أنواع أربعة من الحب؛ أولها الحب الجامح الذي يملك على النفس أهواءها وعواطفها وحسها وشعورها، والذي يندفع كالسيل لا يلوي على شيء ولا يترك لصاحبه حظا من أناة أو روية أو تفكير، والثاني الحب المترف الذي ينشئه التكلف وما تقتضيه الحضارة الراقية المصفاة من إتراف في الذوق، وتأنق في فنون المتاع، والذي لا يكاد يتصل بالنفس ولا بالقلب، ولا يكاد يؤثر في العاطفة أو في الشعور، وإنما هو لون من ألوان الذوق، وفن من فنون الترف، قد وضعت له قواعده وأصوله، وأحاط الناس بأسراره ودقائقه، فهم يصعدون فيه عن علم وينتهون إلى غايته عن بصيرة، والثالث الحب الجسدي الذي تدفع إليه الغرائز والذي يشترك فيه الإنسان والحيوان، والرابع حب الغرور الذي ينشأ عن الكبرياء وإيثار النفس بهذه الظواهر الخداعة التي يكبر بها الإنسان أمام نفسه وإن لم يكبر بها في أنفس الناس، وقد مثل ستندال لأنواع الحب هذه بأمثلة تصورها تصويرا صادقا وتدل عليها دلالة واضحة، فأبطال الحب المعروفون الذين تحدث عنهم التاريخ يصورون النوع الأول، والمترفون من الفرنسيين أثناء القرن الثامن عشر يصورون النوع الثاني ، والصائد الذي يشتهي قروية رآها تهيم في الغابة فأعجبه شكلها يصور النوع الثالث، وكثرة الشعب الفرنسي في عصر ستندال تصور النوع الرابع. على أن ستندال لا يلبث أن يلاحظ أن هذا التقسيم ليس دقيقا ولا نهائيا، وأن من الممكن أن ينحل كل نوع من هذه الأنواع الأربعة إلى أنواع أخرى جزئية يدل عليها بألفاظ أخرى، فأمور الحب أشد دقة وأكثر اختلافا وأيسر تفاوتا من أن تستقصى على نحو قاطع محتوم، وليس المهم عند ستندال أن تحصى أنواع الحب أو تستقصى، وإنما المهم أن نتبين كيف ينشأ الحب وكيف ينمو وكيف يضعف وكيف يموت، وستندال يرى أن هذا كله إنما يجري طبقا لقوانين يعرضها في هذا الكتاب، والإعجاب هو أول درجة من درجات الحب ترقاها النفس حين تتجاوز نظرتها العادية البريئة من الاكتراث إلى الشخص الذي كتب لها أن تحبه، فهي تبدأ بالخروج عن عدم الاكتراث إلى التفات خاص لا يكاد يتم حتى ينشأ عنه إعجاب يقف النفس عند هذا الشخص الذي التفتت إليه، ولا يكاد هذا الإعجاب يتصل حتى ترقى النفس في هذا السلم إلى درجة أخرى، وهي درجة التوق والشوق أو الطموح إن شئت، وهي الدرجة التي يقول فيها الإنسان لنفسه: أحبب إلي بأن أقبل هذا الشخص أو بأن يقبلني؛ فهو طموح إلى الاتصال المادي بعد أن تم الاتصال النفسي.
ثم يرقى الإنسان إلى الدرجة الثالثة، فأنت تستطيع أن تتوق وأن تشتاق وأن تطمح، ولكن هذا كله شيء وانتظار الوصول إلى ما تطمح إليه شيء آخر، فإذا تجاوزت الطموح إلى الأمل فقد ارتقيت إلى الدرجة الثالثة في تصديك للحب، ثم لا يكاد يستقر الأمل في نفسك، أو لا تكاد نفسك تستقر في الأمل، حتى تبلغ الدرجة الرابعة، وهي الدرجة التي يتم فيها تكون الحب، فأنت قد أعجبت ثم اشتقت ثم أملت، ثم استحال هذا كله في نفسك إلى لذة قوية تحدث بمجرد أن ترى من تحب أو أن تسمعه أو أن تمسه أو أن تتصل بسبب من أسبابه، وأنت إذا وجدت هذه اللذة معرض لأن تجد الألم إذا انقطعت الأسباب بينك وبين من تحب، وكذلك لا تبلغ الدرجة الرابعة حتى تضطرب بين ما يحدث الحب من لذة وألم، ومن نعيم وجحيم، وإذا وجد الحب فلا بد له من أن ينمو، إلا أن يقتل يوم مولده ونموه. يبدأ حين تبلغ الدرجة الخامسة، وهي ما يسميه ستندال التبلور الأول، ومنشؤها اتصال تفكيرك فيمن تحب، فأنت لا تفكر فيه كما هو قبل أن تلتفت إليه، أو قل: إنك لا تفكر فيه كما يفكر فيه غيرك من الناس الذين لا يحفلون به ولا يأبهون له، وإنما تسبغ عليه شيئا من إعجابك به وشوقك إليه وأملك فيه، وإذا أنت تضيف إليه محاسن تزعم أنها لا توجد في غيره، وإذا أنت تقوي شعورك بالغبطة حين تتصل به بمقدار ما تضيف إليه من المحاسن، فهو وحده الذي يستطيع أن يرضي ما تطمح إليه نفسك من المثل العليا في اللذة والسعادة والنعيم، وغيره لا يقدر على أن يبلغك من هذا كله شيئا؛ لأن هذا كله موصول بما خلعت على محبوبك من المحاسن والخصال التي ميزته بها من الناس جميعا، وكذلك تتصل نفسك به اتصالا قويا متينا غير مقطوع، وإذا أنت حريص أشد الحرص على استبقاء هذا الاتصال والتزيد منه في كل لحظة ما وجدت إلى ذلك سبيلا، وإذا بلغت هذا الحرص فليس لك بد من أن ترقى إلى الدرجة السادسة؛ فالحرص مصدر الخوف والشك، ومتى انتهيت من الحرص إلى غايته فلا بد لك من أن تشك في أنك موفق أو غير موفق، وأنت في هذه الدرجة السادسة تسأل نفسك بين لحظة ولحظة، أيجد حبك صدى في نفس محبوبك أم لا يجد؟ ثم أنت لا تكتفي بهذا السؤال، ولا تطمئن إلى هذا الشك، ومتى اطمأن الإنسان إلى الشك؟! إنما أنت مضطر إلى أن تلتمس الدليل القاطع على أنك لم تخطئ فيما قدرت، ولم تخفق فيما طلبت، وعلى أن محبوبك يقارضك حبا بحب ويبادلك هياما بهيام، وأنت كذلك تسأل نفسك ثم تجيب نفسك، ثم تشك في الجواب فتستأنف السؤال، فإذا طال عليك هذا الأمر وظفرت بالإشارة الدالة أو اللمحة المطمعة أو الآية المقنعة فأنت راق على رغمك إلى الدرجة السابعة وهي التبلور الثاني كما يسميها ستندال، فأنت قانع بأنك محبوب، وأنت تزين لنفسك هذا الحب الذي تجده والذي تطمئن إلى أن له صدى في نفس من تحب، تخلع على هذا الحب من صفات القوة والسعة والعمق والجمال ما شئت وما لم تشأ، ثم يصبح هذا الحب حياتك التي تملك عليك كل شيء، وتصرفك عن كل شيء وتأخذ عليك طريقك، وقد انتهيت الآن إلى قمة الحب، فلم يبق إلا أن يتصل نعيمك به أو شقاؤك، بما يمكن أن يعرض له من الضعف والفتور.
كذلك يعرض ستندال مقدمات الحب ونشأته ونموه وبلوغه إلى أقصى غاياته، ثم هو يعود إلى هذه الدرجات بعد ذلك فيدرسها درسا مفصلا عميقا يضرب له الأمثال ويستدل عليه بالوقائع، فهو كما ترى بعيد كل البعد عما بعد الطبيعة، قريب كل القرب من الطبيعة نفسها، لا يلتمس للحب حدا ولا رسما ولا تعريفا، وإنما يميز أظهر أنواعه ثم يتبعه منذ تتهيأ النفس له إلى أن تفنى النفس فيه، وواضح جدا أن ستندال حين يسلك هذه الطريق إنما يذهب مذهب العلماء المعاصرين له الذين تأثروا بنشأة العلوم التجريبية وتطورها، فاعتمدوا على الملاحظة المباشرة أكثر مما اعتمدوا على أي شيء آخر.
وقد هم ابن حزم أن يسلك هذه الطريق نفسها، بل هو لم يسلك إلا هذه الطريق، طريق الملاحظة المباشرة؛ فهو لا يخترع أحاديثه عن الحب اختراعا ولا يبتكرها ابتكارا ولا يخلقها من عند نفسه، وهو لا يكاد يلم بالفلسفة إلا حين يحاول تعريف الحب، وهو لا يقرر أصلا من الأصول ولا فرعا من الفروع إلا مستمدا له مما رأى بنفسه، أو مما وجد في نفسه، أو مما سمع من الذين لا يعرض الشك له فيما يلقون من الأحاديث، فابن حزم معتمد على الملاحظة المباشرة كما يعتمد عليها ستندال، ولكن ابن حزم لا ينتفع من ملاحظته المباشرة كما ينتفع بها ستندال، فبين الرجلين دهر طويل تطور فيه العقل الإنساني، وتطورت فيه مذاهب البحث ومناهجه، ووسائل الملاحظة وأدواتها تطورا عظيما بعيد المدى، فملاحظة ابن حزم دقيقة كملاحظات ستندال، ولكنها قريبة لا تتعمق ولا تكاد تتجاوز نفسها إلا قليلا؛ لأن ابن حزم لم يظفر من أدوات البحث والاستقصاء والتعمق بمثل ما ظفر به الكاتب الفرنسي الحديث.
وبين الرجلين فرق آخر، وهو أن ابن حزم على شذوذه الذي لفت إليه المعاصرين جميعا في الشرق والغرب، بل لفت إليه الذين جاءوا بعده بوقت طويل، لم يستطع أن يخلص من العادة المألوفة في التفكير والاستنباط؛ فهو قد فكر كما كان الناس يفكرون من حوله، بل كما فكر الناس من قبله ومن بعده، واستنبط كما كانوا يستنبطون، لم يستطع أن يتجاوز ذلك؛ لأن وقت تجاوزه لم يكن قد آن، ولأن وسائل هذا التجاوز لم تكن قد استكشفت بعد.
وقد يكون من الغريب أن ابن حزم قد صرح أكثر مما صرح ستندال، فستندال يزعم صادقا أو غير صادق - ومن المحقق أنه غير صادق - أنه لم يتخذ نفسه موضوعا للملاحظة في أي فصل من فصول كتابه؛ فهو لم يتحدث عن نفسه ولا عن عواطفه وشعوره بحال من الأحوال، أما ابن حزم فيحدثنا عن نفسه في صراحة رائعة حقا، ولعل أحاديثه عن نفسه هي خير ما اشتمل عليه الكتاب، وليس عليه من ذلك بأس؛ لأنه يحدثنا صادقا من غير شك أنه لم يقترف في الحب إثما، ولم يورطه الحب في خطيئة كبيرة من الكبائر.
وهو من أجل ذلك يحدثنا عن نفسه في صراحة وإسماح، ويقص علينا من أنبائه ما يثير في نفوسنا كثيرا جدا من الرفق به، والرثاء له، والعطف عليه. فنحن نشهده في دار أبيه الوزير وقد تعلقت نفسه بجارية من جواري الدار رائعة الحسن، بارعة الجمال، قوية النفس، صادقة العزم، حازمة الجد، لا تحب العبث ولا تميل إلى الدعابة، وإنما تغرق في الجد إغراقا يكاد يدفعها إلى العبوس، وقد اجتمع أهل الدار في يوم من الأيام التي يجتمعون فيها لبعض الأمر، وقد ألم بهم ضيف فطعموا ونعموا، وأشرفوا من بعض أطناف الدار على البستان ينظرون إليه ثم إلى النهر، ثم يمدون أبصارهم إلى أبعد من البستان وأبعد من النهر، فيرون من قرطبة وضواحيها منظرا عجيبا، وقد وقفت هذه الجارية عند باب من أبواب الطنف تشرف منه على هذا المنظر الرائع الجميل، وابن حزم يحتال متنقلا ليدنو منها ويقف من مكانها غير بعيد، ولكنها لا تحس احتياله ولا تلاحظ قربه حتى تنأى وتنتقل إلى باب آخر، وابن حزم يتبعها رفيقا دائما محتالا دائما متهالكا دائما، وهي تبعد كلما قرب، وتنأى كلما دنا، ثم يقترح مقترح أن تهبط الجماعة إلى البستان وتجلس على عشبه الأخضر بين ما يزينه من شجر وزهر فيهبط القوم، ويحاول ابن حزم أن يدنو فتنأى صاحبته، ثم يقترح مقترح على الجارية أن تغني، وكانت بارعة في العزف متفوقة في الغناء، فتضرب وتغني، ويكون هذا كل ما استطاع ابن حزم أن يظفر به من هذه الجارية، ثم تمضي الأيام وتحدث الأحداث وتلم الخطوب ويبعد العهد، ويعود ابن حزم بعد أعوام إلى وطنه في قرطبة فيرى هذه الجارية وقد ابتذلتها حوادث الدهر، واضطرتها الخطوب إلى أن تتكلف ما لا يتكلف أمثالها من المترفات، وإذا الزهر قد ذوى، وإذا الحسن قد غاض، وإذا الضر قد بدا أو كاد يبدو، ونحن نرى ابن حزم يصور نفسه لنا وقد شغفت فتاة قلبه كما لم تشغفه فتاة قط، وقد اتصل الحب بينه وبينها، ثم اختطفها منه الموت، فانظر إلى الجزع الذي ليس بعده جزع، والوجد الذي ليس بعده وجد، والعذاب الذي لا يشبهه عذاب، وإذا هو يقضي أياما لا يضع ثيابه ولا ينعم بطعام أو شراب، وإذا هو يذكر حبيبته مستيقظا ويحلم بها نائما، ويقول في حبه لها الشعر أثناء اليقظة وأثناء النوم، وإذا الأيام تمضي حتى تصبح أعواما وأعواما، والسن تتقدم بالفتى قليلا قليلا حتى يصبح كهلا ثم يصير إلى الشيخوخة، وحبه لتلك الفتاة ما زال شابا في قلبه لم يؤثر فيه مر الزمن ولم يستطع السلوان أن يرقى إليه.
فابن حزم إذن يعتمد على الملاحظة المباشرة الحرة الصريحة، يلاحظ نفسه وخلطاءه، ويلاحظ الناس من حوله، ولكنه على هذا كله مقيد مقصوص الجناح، لا يكاد يتعمق ولا يكاد يرتفع؛ لأنه يفكر كما كان يفكر الناس في عصره؛ فأسبابه إلى التعمق والاستقصاء قصار لا تتجاوز به القواعد السطحية أو التي توشك أن تكون سطحية.
وقد رتب ابن حزم كتابه ترتيبا منطقيا مقاربا، ولكنه كره أن ينفذ كتابه على النحو المنطقي الذي رتبه قبل أن يبدأ في إنشائه، وآثر أن يخالف بين الخطة المرسومة وتنفيذ هذه الخطة فوضع فصول كتابه حيث اقتضت مناسباتها أن توضع، لا حيث اقتضى الترتيب المنطقي أن تكون، وهذا أيضا دليل على أن ابن حزم قد حاول أن يتخفف من أثقال عصره ويتحرر من قيود التفكير التي كانت تمنع معاصريه من الحركة الحرة، كما نفهمها نحن الآن، ولكنه لم يبلغ مما أراد إلا أقله وأيسره.
ودليل آخر على أن ابن حزم أراد أن يتحرر من هذه القيود فذهب إلى أبعد مما ذهب إليه ستندال، ولكنه مع ذلك لم يبلغ ما أراد، وهو أن ابن حزم كره أن يرجع بحديث الحب إلى ما امتلأت به كتب الأدب من أخبار العشاق والمحبين، فلم يحفل بكل ما كان من حديث الأعراب، ومن غزل الغزلين في نجد والحجاز، ومن تكلف الشعراء بعد ذلك لما تكلفوا من فنون الحب، وأبى إلا أن يقصر ملاحظته على نفسه وعلى ما رأى وما سمع من معاصريه، على حين لم يكتف ستندال بما رأى وما سمع، وإنما اعتمد على ما قرأ أيضا، وعلى ما قرأ من أخبار القدماء في جنوب فرنسا نفسها وفي إسبانيا المسيحية والمسلمة، بل على ما قرأ من كتب العرب أنفسهم؛ فهو قد عرف كتاب الأغاني ونقل عنه أطرافا من أخبار الغزلين، ومن أخبار جميل وبثينة بنوع خاص، والغريب أننا نعجب بابن حزم لأنه أعرض عما كان يعرف من أمر القدماء وأبى أن يعتمد على غير الملاحظة المباشرة، ونعجب في الوقت نفسه بستندال لأنه طلب ما لم يكن يعرف من حب القدماء، فاستقصى حب الغزلين في جنوب فرنسا وتأثرهم في هذا الحب بحضارة المسلمين في الأندلس، ثم مضى يستقصي أصل هذا الحب الإسباني حتى انتهى به «الأغاني» إلى صدر الإسلام ثم إلى العصر الجاهلي، وقد أخطأ فيما فهم من ذلك وأصاب، ولكنه حاول ما لم يتعود أمثاله أن يحاولوه، فنحن نعجب به من هذه الناحية، كما نعجب بابن حزم لأنه ترك ما لم يتعود أمثاله أن يتركوه.
ناپیژندل شوی مخ