ولم يكن بول ڤاليري كغيره من الأدباء ينظم الشعر ويكتب النثر في هذه الموضوعات التي يتكلفها الكتاب والشعراء قصصا وتمثيلا ودراسات، ولكنه كان صاحب تعمق لأشياء مختلفة، لا تكاد تتفق إلا في أنها كلها تتصل بالفن المترف الجميل من جهة، وبالعقل الناقد المستقيم من جهة أخرى.
فهو يكتب في العمارة، ويكتب في الرقص، ويكتب في النفس، ويكتب في العقل، ويكتب في التصوير والنحت والرسم والموسيقى والغناء، ثم هو يكتب في نقد الأدباء والفلاسفة والمثالين والمصورين، وما أعرف أن أحدا قرب إلى القراء ديكارت أو ليونارد دي ڤنسي أو ستندال أو مونتسكيو أو لافونتين كما يقربهم بول ڤاليري، وما أعرف أن أحدا حلل الفنون الرفيعة كما يحللها بول ڤاليري، وما أعرف أن أديبا أو فيلسوفا حلل عمل العقل الإنساني وهو يفكر ويلاحظ ويتأمل ويستمتع ويعكف على نفسه كما حلله بول ڤاليري.
وقد قلت في أول هذا الحديث إن بول ڤاليري قد تأثر أشد التأثر بحوار سقراط كما نقله أفلاطون، وما أشك في أن بول ڤاليري كان من أشد الناس إتقانا للغتين القديمتين، وعلما بأسرارهما وتذوقا لخصائصهما، وقد كان يقول في شيء من السخرية: إن الذين يزعمون أنهم يحسنون اللاتينية أو اليونانية في هذه الأيام يخدعون أنفسهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستعينوا على قطع الوقت في القطار بقراءة توسيديد أو تاسيت، ولن يحسن الإنسان لغة إلا إذا قرأها في غير مشقة وفهمها في غير جهد، وذاقها في غير عناء، ولكن بول ڤاليري لم يتأثر بقديم اليونان والرومان كما يتأثر به غيره من المثقفين الممتازين فحسب، وإنما تمثل الأدب اليوناني الرفيع والفلسفة اليونانية العليا تمثلا غريبا رائعا حقا حتى استطاع أن يحدث ألوانا من الحوار ينطق فيها سقراط وبعض تلاميذه بملاحظات في الفن وفي الجمال، منها ما يتصل بالعمارة، ومنها ما يتصل بالنفس، ومنها ما يتصل بالرقص، ما كانت لتخطر لسقراط وأصحابه على بال، وأحسب أنها لو نقلت إلى اليونانية الأتيكية التي كان يصطنعها سقراط وتلاميذه، لما كانت أقل روعة وجمالا من يونانية أفلاطون، ولما كانت أقل روعة وجمالا في تلك اليونانية منها في هذه اللغة الفرنسية الرصينة المتينة الرقيقة العذبة التي اصطنعها بول ڤاليري في القرن العشرين، ثم هي تزيد على ذلك أن فيها معاني وخواطر وآراء لم يكن سقراط وتلاميذه ليسيغوها؛ لأن بينهم وبينها خمسة وعشرين قرنا تطور فيها العقل الإنساني وزاد محصوله من العلم والمعرفة، وأتاح ذلك كله لبول ڤاليري ليرى ما لم تتحه الحضارة اليونانية لسقراط وأفلاطون.
ومهما تقرأ من شعر بول ڤاليري ونثره، ومهما يكن الموضوع الذي يمارسه الأديب شعرا أو نثرا، فسترى دائما أدب اليونان الرفيع وثقافتهم العليا شائعين فيما تقرأ يغذوانه بخير ما فيهما؛ لأن بول ڤاليري قد خالط اليونان القدماء مخالطة نادرة شديدة التنوع، خالطهم في أدبهم وفي فلسفتهم وفي فنهم وفي سياستهم، وخالطهم في دينهم بنوع خاص، ثم خالطهم بعد ذلك في حياتهم العاملة التي كانوا يحيونها في ساعات النهار والليل.
ثم هو قد أضاف إلى هذه الثقافة القديمة خير ما أنتجت ثقافة العصر الحديث فتمثل عصر النهضة في إيطاليا وفرنسا على اختلاف مظاهر النهضة فيه، ثم تمثل القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا كلها، لم يترك ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية إلا أتقنها علما وفهما وتأويلا وتحليلا، وعني بالعلم عناية خاصة، فتعمق العلوم التجريبية، وتعمق الرياضة حتى استطاع أن يتحدث عن هذه العلوم كأحسن ما يتحدث عنها أصحابها، وأن يجادل الأطباء والعلماء ويصحح لهم آراءهم حين كانوا يشاركون في وضع المصطلحات العلمية للمعجم الفرنسي الذي يصدره المجمع اللغوي.
ثم هو قد تعمق مذاهب الفلسفة منذ فلسف اليونان قبل سقراط إلى أن فرغ برجسون من إقامة مذهبه الفلسفي الأخير، وهو من أجل ذلك يحاور في الفلسفة كأحسن ما يحاور فيها الفلاسفة، ولعله يتمثلها خيرا مما تمثلها الفلاسفة؛ لأنه جمع إلى عقله الناقد الممتاز قلبا ذكيا وإحساسا مرهفا وشعورا رقيقا حادا وذوقا دقيقا لا يفوته شيء.
وقد انتهى إلى رأي في الفلسفة والشعر، أو قل: إنه ابتدأ برأي في الفلسفة والشعر لم يتحول عنه منذ الشباب حين كتب عن ليونارد دي فنسي في أواخر القرن الماضي إلى الشيخوخة حين تحدث عن ديكارت في السوربون سنة 1937.
وهذا الرأي يمكن اختصاره في هذه الجملة اليسيرة التي لا تؤديه إلا تأدية مقاربة، وهو أن الفلسفة والشعر إنما يصدران في حقيقة الأمر عن ملكة واحدة في أصلها، وهي هذه الملكة التي ترفع الإنسان عن الحقائق التفصيلية الواقعة إلى عالم آخر أرقى منها، يفسرها ويعرضها في شيء غير قليل من الروعة يسمو بها إلى هذا الكمال الذي يطمح إليه الإنسان الممتاز، فالفيلسوف شاعر يعرض شعره نثرا في أكثر الأحيان، والشاعر فيلسوف يعرض فلسفته شعرا دائما.
وقد كان بول ڤاليري نفسه هو الصورة الكاملة للفيلسوف الشاعر أو الشاعر الفيلسوف، ومن أجل ذلك لم يخطئ معاصروه حين سموه شاعر العقل، ولم أبعد أنا حين سميته عقل الشعر في أول هذا الحديث.
قلت إني عرفت بول ڤاليري من بعيد حين فجأ مجده الناس في أعقاب الحرب الماضية، وظلت معرفتي له تتقدم شيئا فشيئا حتى أصبح أحب المعاصرين من أدباء فرنسا إلي وآثرهم عندي، وحتى أصبح الوقت الذي أنفقه مع كتبه ودواوينه حين يسمح لي العمل بالفراغ لنفسي وإمتاعها باللذة الفنية العليا أعز الأوقات إلي وأكرمها علي، وحتى اتخذت لنفسي منه صورة غريبة رائعة فيها كثير جدا من التواضع وكثير جدا من الكبرياء، وفيها كثير جدا من السماحة وكثير جدا من الامتياز، وقد هممت أن أعرفه لقراء العربية فتحدثت عنه في الرسالة غير مرة، وتحدثت عنه إلى جمهور المثقفين في غير محاضرة، وترجمت في الرسالة شيئا من كتابه عن النفس والرقص، ولكني لم أجد لهذا كله في نفوس المثقفين الشرقيين إلا صدى ضئيلا فآثرت نفسي به، ثم أتيح لي أن ألقاه سنة 1937 فإذا الصورة التي رسمتها لنفسي منه صادقة كل الصدق لولا أنه في تلك السنة لم يكن من الصحة واعتدال المزاج بحيث كان يجب، وقد كان في فصل الصيف من تلك السنة يعالج أسنانه فيما يظهر فكان حديثه عسيرا أشد العسر، وكان الاستماع له شاقا والفهم عنه أشد مشقة، وأذكر أني ذهبت أستمع له حين تحدث عن ديكارت في السوربون، وبذلت جهدا غير قليل لأظفر بمكان في المدرج الذي كان يتحدث فيه، فظفرت بمكان واقف واستمعت لحديثه من أوله إلى آخره فلم أكد أفهم منه شيئا، وسألت بعض الذين استمعوا له معي من الأساتذة فإذا هم مثلي لم يكادوا يفهمون عنه شيئا، ولكنا جميعا كنا معجبين بهذا الصوت الهادئ القوي الحار الذي كان يملأ المدرج حنانا وحبا وإيمانا، ثم قرأنا الحديث بعد ذلك فإذا هو آية من آيات البيان.
ناپیژندل شوی مخ